أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-9-2016
1029
التاريخ: 6-9-2016
1024
التاريخ: 10-10-2019
1328
التاريخ: 5-9-2016
1091
|
...إنّ نتيجة دليل الانسداد إمّا حجيّة كلّ ظنّ، وإمّا حجيّة الظنّ بمقدار العدد المتيقّن من التكاليف المعلومة بالإجمال، وإمّا حجيّة الظنون الاطمئنانيّة النافية للتكليف، وعرفت أنّ الأقوى هو الأخير، فهل الظنّ الذي يثبت حجيّته بمقدّمات الانسداد أيّا من هذه الثلاثة؟ كان هو خصوص الظنون المتعلّقة بالواقع، أو خصوص الظنون المتعلّقة بالطريق- كما اختاره صاحب الفصول والحاشية- أو الأعمّ من القسمين، كما اختاره شيخنا المرتضى قدّس سرّه؟ وجوه.
وحاصل ما أفاده شيخنا في تقريب مدّعاه هو أنّ العلم الإجمالي بالتكليف مقتضاه هو العلم بالمبرئ والمؤمّن دون تحصيل الواقع، وكما أنّ المكلّف في حال الانفتاح لو علم بالواقع وأتى به حصل له العلم بالمبرئ، كذلك لو علم بالطريق المنصوب إلى الواقع وأتى على طبقه أيضا يحصل له العلم بالمبرئ.
فنقول: في حال الانسداد يتنزّل من العلم إلى الظّن في كلّ مقام وجب العلم حال الانفتاح، فعند تعذّر العلم بالواقع والعلم بالطرق المجعولة إليه يرجع إلى الظنّ بهما، فكما أنّ العلم بالواقع موجب للعلم بالمبرئ، كذلك الظنّ بالواقع أيضا موجب إلى الظنّ بالمبرئ، وكما أنّ العلم بالطرق المجعولة إلى الواقع أيضا يورث العلم بالمبرئ فكذا الظنّ بها أيضا ظنّ بالمبرئ، فينتقل في حال الانسداد من كلّ من العلمين إلى الظنّ، فينتقل من العلم بالواقع إلى الظنّ به، ومن العلم بالطريق إلى الظّن به، هذا.
وفيه نظر واضح، ووجهه أنّه لو كان الحجيّة الواقعيّة بنفسها مع قطع النظر عن تعلّق العلم بها مبرئ كان ما ذكره حقّا، حيث إنّ الظنّ بالحجيّة الواقعيّة كان ملازما مع الظنّ بالمبرئ، كما هو الحال في الظنّ بنفس الواقع؛ إذ لا إشكال في كون نفس صدور الواقع عن المكلّف مبرئ، ولو كان بغير التفاته فلا محالة يكون الظنّ به ملازما للظنّ بمبرئيّة، ولكن كون نفس الحجيّة بوجودها الواقعي مبرئ ممنوع.
ألا ترى أنّه لو علم إجمالا بوجوب واحد من الظهر والجمعة في يوم الجمعة، فأتى بالجمعة دون الظهر وكان في الواقع الظهر واجبا وكان أيضا في الواقع طريق معتبر قائما على وجوب الجمعة، ولكنّ المكلّف لم يستشعر به فهل يجدي مجرّد مصادفة عمله اتّفاقا مع الحجّة الواقعيّة في رفع العقاب عنه على مخالفة الواقع الذي صار منجّزا عليه بسبب العلم الإجمالى؟ من الواضح عدمه وكونه مستحقّا للعقوبة.
وبعبارة اخرى: الموجب للعذر والمبرئ للذمّة هو استناد العمل إلى الحجّة والطريق المعتبر، والاستناد إليها في العمل إنّما يتحقّق مع العلم بالحجيّة، فالمؤمّن والسبب للمعذوريّة إنّما هو العلم بالحجيّة دون نفسها، فإذا تحقّق العلم بها فلكون العلم طريقا معتبرا في ذاته يحصل علم ثانوي بالمبرئ أعني الطريق المعلوم الحجيّة، فالعلم الأوّل مأخوذ في موضوع المبرئ.
وأمّا لو حصل الظنّ بالحجيّة فنفس الظنّ ليس كالعلم حجّة ذاتيّة، وإلّا لحصل العلم بالمبرئ في الرتبة الثانية كما في العلم، وإثبات الحجيّة بالمقدّمات أيضا دور، فإنّه يتوقّف شمولها لهذا الظنّ على كونه ظنّا بالمبرئ، والمفروض توقّف وصف الإبراء على شمولها أيضا، والحاصل لا يمكن أن يحقّق الحكم موضوعه.
وأمّا ما افيد في تقريب المدّعى الثاني وهو حجيّة خصوص الظنّ المتعلّق بالطريق فوجهان، الأوّل: ما ذكره صاحب الفصول قدّس سرّه وحاصله أنّه لا إشكال في أنّه كما أنّا نقطع إجمالا بوجود تكاليف في الواقع متوجّهة إلينا، وقد انسدّ باب العلم التفصيلي بنفس هذه الأحكام وبالطرق المجعولة إليها، كذلك نقطع إجمالا بأنّ الشارع نصب إلى معرفة هذه الأحكام طرقا مخصوصة، وكلّفنا بالرجوع إلى هذه الطرق المخصوصة لمعرفة الواقعيات، وقد انسدّ علينا باب العلم التفصيلي بنفس هذه الطرق المخصوصة وبالطرق المجعولة إليها، ومرجع هذين العلمين إلى علم واحد، فإنّ المتحصّل من العلمين أنّا نعلم بكوننا مكلّفين بالأحكام الواقعيّة التي اشتملت عليها هذه الطرق المخصوصة.
وإذن فنحن ندور مدار هذه الطرق، فإن كان العلم بها ممكنا تعيّن، وإلّا فالمتّبع هو الظنّ بها، ولو حصل الظنّ بالواقع الذي ليس مشمولا لهذه الطرق فهو غير معتنى به، لخروج المحتملات التكليف الواقعي المعلوم عدم إيصال طريق إليها عن الأطراف العلم الإجمالي، والتنجيز ولحوقها بالشبهة البدويّة.
وفيه أوّلا: أنّ ما ذكره قدّس سرّه من أنّ مرجع العلمين الإجماليين إلى علم إجمالي واحد وإن كان حقّا، وذلك لأنّا إذا علمنا بثبوت تكاليف واقعيّة، وعلمنا أيضا بثبوت طرق جعلها الشارع طريقا إلى تلك الواقعيّات فقد انحلّ العلم الأوّل بواسطة الثاني وتضيّق دائرته لتعيّن أطرافه في محتملات ثبوت الطريق وبقي محتملات التكليف الخارجة عن دائرة محتملات ثبوت الطريق شبهة بدوية خارجة عن أطراف التنجيز.
مثلا لو علمنا إجمالا بوجوب واحد من الظهر أو الجمعة، أو الدعاء عند الرؤية وقام طريق على وجوب الجمعة وآخر على وجوب الظهر، وعلمنا إجمالا بكون أحد هذين الطريقين حجة، فعند العلم الثاني يتضيّق دائرة العلم الإجمالي الأوّل ويتعيّن في الظهر والجمعة، ويصير الدعاء خارجا عن أطرافه، فيصير العلمان علما واحدا.
إلّا أنّ ما ذكره من الرجوع ابتداء إلى الظنّ بالطريق مع هذا العلم الإجمالي الثاني لا يتمّ إلّا على تقدير عدم القدر المتيقّن في ما بين الطرق والأمارات، وأمّا معه كما هو الواقع، فإنّ الخبر الصحيح مثلا لا يحتمل عدم مجعوليّته ومجعوليّة الخبر الضعيف، فاللازم الاقتصار على القدر المتيقّن لو كان وافيا بالقدر المتيقّن من العلم الإجمالي، وإلّا فيؤخذ بالقدر المتيقّن بالإضافة إلى الباقي، وهكذا إلى أن يحصل المقدار الوافي، فيرجع في ما عدا ذلك إلى مقتضى الاصول وإن كان مخالفا للظنّ، لكونها من الشبهة البدويّة.
وثانيا: سلّمنا عدم القدر المتيقّن، لكن ما ذكره من الرجوع ابتداء إلى العمل بالظنّ مخالف لقاعدة العلم الإجمالي، فإنّ مقتضاه هو الاحتياط، فيلزم هنا الاحتياط بجميع محتملات التكليف من محتملات الطريق، ولا وجه للاقتصار على التكاليف المحتملة في خصوص مظنونات الطريق وترك الاحتياط في الباقي، واستلزام هذا الاحتياط للعسر ممنوع، لوضوح أنّ من بنى على العمل بجميع التكاليف المثبتة في الأخبار المذكورة في الوسائل- مثلا- لا يلزم عليه حرج أصلا.
وثالثا: أنّ لنا منع العلم الإجمالي المذكور رأسا، بمعنى أنّا لا نقطع بأنّ للشارع في حال الانسداد طرقا خاصة مجعولة، بل من المحتمل أن يكون قد أحال العباد إلى القواعد والطرق المعمولة عند العقلاء حال انسداد باب العلم عليهم في أوامر مواليهم الظاهريّة وهو العمل بالظنّ عند تعذّر العلم.
فتحصّل أنّ العلم الإجمالي بالطرق أوّلا ممنوع، والعلم الإجمالي منحصر بما يتعلّق بنفس التكاليف، ومعه قد عرفت عدم إمكان القول بحجيّة الظن بالطريق بمقدّمات الانسداد، وعلى تقدير تسليم العلم الإجمالي بالطرق فالنتيجة وهو حجيّة الظنّ بها ممنوعة، بل اللازم أوّلا هو الرجوع إلى القدر المتيقّن ومع تسليم عدمه الاحتياط.
وكيفيّته أن يعمل على طبق الطرق المثبتة للتكليف بجميعها، والاصول النافية الجارية في مواردها ساقطة؛ إذ لو عمل بجميع هذه الاصول لزم المخالفة القطعيّة في الطرق، ولو عمل ببعضها دون بعض كان ترجيحا بلا مرجّح، فيلزم سقوط الجميع.
وأمّا الاصول المثبتة للتكليف على خلاف الطرق فلو عمل بها لزم المخالفة القطعيّة في الطرق، ولو عمل بالطرق لزم المخالفة القطعيّة في الاصول، فاللازم هو التخيير كما مرّ تفصيل ذلك في ما تقدّم.
مثال ذلك في العلم الإجمالي الصغير ما لو علم المكلّف إجمالا بأنّه يجب عليه إمّا الظهر أو الجمعة أو الدعاء عند رؤية الهلال، فقام طريق على وجوب الجمعة وآخر على وجوب الظهر، وكان الأصل في كليهما هو الحرمة وعلم إجمالا بحجيّة أحد الطريقين، فإنّ العمل بالأصل في كليهما طرح للطريق المعلوم الحجيّة إجمالا، وبالطريق في كليهما طرح للأصل المعلوم الحجيّة إجمالا، فيعمل في أحدهما بالأصل وفي الآخر بالطريق.
هذا هو الكلام في الاصول التي في قبال الطرق المثبتة، وأمّا الكلام في ما بقبالها من الطرق النافية فنقول: لو تعارض طريقان فأثبت أحدهما التكليف ونفاه الآخر فإمّا أن يكونا مختلفي السنخ كأن يكون أحدهما شهرة والآخر إجمالا منقولا، وإمّا أن يكونا متحدي السنخ، وحينئذ إمّا أن يكون السنخ الواحد هو الخبر كأن يقوم خبر ثقة على التكليف، وخبر ثقة آخر على عدمه، وإمّا أن يكون غير الخبر كأن يكون شهرة على التكليف وشهرة اخرى على عدمه.
ومحصّل الكلام في هذه الأقسام الثلاثة أمّا في القسم الأوّل- وهو ما إذا كان الطريق المثبت والطريق النافي مختلفين سنخا- فاللازم هو العمل على الطريق المثبت، لكونه من أطراف العلم الإجمالي بثبوت الطرق؛ إذ المحتملات في الواقع ثلاثة:
الأوّل: أن لا يكون شيء منهما بحسب الواقع حجّة ويكون المرجع هو الأصل
والثاني: أن يكون كلاهما حجّة ويكونان متساقطين للتعارض، فيكون المرجع أيضا هو الأصل.
والثالث: أن يكون أحدهما حجّة والآخر غيرها، فلا يكون مجرى للأصل، ولازم هذا هو العمل بالطريق المثبت دون الطريق النافي كالأصل النافي، وأمّا الأصل المثبت فقد عرفت التخيير بينه وبين الطريق المثبت.
وأمّا في ما إذا كان الطريق المثبت والنافي من سنخ واحد غير الخبر فالمتعيّن حينئذ هو الرجوع إلى الأصل، إذ المحتمل بحسب الواقع أمران، الأوّل: أن يكون كلاهما حجّة، والآخر: أن يكون كلاهما غير حجّة، وعلى أيّ حال يكون المرجع هو الأصل، أمّا على الثاني فواضح، وأمّا على الأوّل فلتساقط الطريقين الحجّتين بالتعارض.
وأمّا في ما إذا كان الطريقان من سنخ الخبر فالمتعيّن هو العمل بالأرجح (1) إن كان، والتخيير إن لم يكن؛ إذ المحتمل على تقدير وجود الأرجح عدم حجيّتهما وحجيّتهما، فعلى الأوّل المرجع هو الأصل، وعلى الثاني المرجع هو الأرجح، وعلى تقدير عدم الأرجح والتساوي يحتمل أيضا الحجيّة فيهما وعدم الحجيّة كذلك، فعلى الثاني المرجع هو الأصل، وعلى الأوّل هو التخيير، فالاحتياط في المسألة الاصوليّة هو العمل بالأرجح أو التخيير، فلا مجرى للأصل النافي، لكون الخبرين من أطراف العلم الإجمالي، وأمّا الأصل المثبت فالمكلّف مخيّر بين العمل عليه والعمل بالأرجح أو التخيير.
ثمّ على تقدير كون الأرجح هو الخبر النافي أو عدم الأرجح وكون المكلّف مخيّرا بين العمل بالخبر المثبت أو النافي، فلا يجب الاحتياط في المسألة الفرعيّة بالعمل بالخبر المثبت على تقدير كون الأصل نافيا، فإنّ هذا الاحتياط معلوم العدم، فإنّه إمّا لا يكون الخبران حجتين فالمرجع هو الأصل النافي، وإمّا يكونان حجتين فالمرجع هو الخبر النافي الذي هو الأرجح، أو التخيير بينه وبين المثبت، فتعيّن العمل بالمثبت منفي قطعا على كلّ تقدير.
وأمّا إذا كان ما بقبال الطريق المثبت طريقا مثبتا للتكليف المضاد، فالعمل على الأصل في غير صورة كونهما فردين من الخبر، وفيهما على التخيير إن لم يكن مرجّح، وتعيين أحدهما مع المرجّح.
ورابعا: سلّمنا العلم الإجمالي بثبوت الطرق المجعولة لامتثال الواقعيّات وأنّ القدر المتيقّن بينها غير موجود وأنّ الاحتياط بالعمل بأطراف الطرق حرج، وبعبارة اخرى سلّمنا تماميّة مقدّمات الانسداد بالنسبة إلى الطرق، فهل تكون النتيجة هي حجيّة الظنّ بالطريق متعيّنا أو حجيّة الظن مطلقا، سواء كان بالطريق أم بالواقع؟
هذا مبنيّ على تحقيق مطلب وهو أنّه لو علمنا إجمالا بالواقع بين أطراف، ثمّ قام طريق معتبر معلوم الحجيّة تفصيلا على هذا الواقع في واحد من الأطراف، مثلا لو علمنا إجمالا بوجوب واحد من الظهر والجمعة وقام طريق احرز حجيّته على التفصيل على وجوب الظهر، فهل العلم الإجمالي الثابت قبل قيام الطريق يصير بعد قيامه منحلا حقيقة ومعدوما صرفا ويكون الطرف الآخر شبهة بدويّة في الحقيقة؟
كما لو حصل بعد العلم الإجمالي المذكور علم تفصيلي وجداني بوجوب الظهر، فإنّه موجب للانحلال الحقيقي وانعدام العلم الإجمالي موضوعا، فالطريق المعتبر أيضا حاله حال العلم الوجدانى.
ولازم هذا أنّه لو خالف المكلّف في هذا المثال ولم يعمل بالطريق وترك الظهر والجمعة معا ثمّ تبيّن أنّ الواجب واقعا كان هو الجمعة، لم يكن المكلّف مستحقّا لعقوبة إلّا عقوبة التّجري؛ فإنّ الظهر الذي قام الطريق على وجوبه تبيّن عدم كون الواقع متحقّقا فيه، وقد تقرّر في محلّه أنّ الأحكام الظاهرية ليس في مخالفتها من حيث نفسها استحقاق عقاب، وإنّما هو من جهة مخالفة الواقع، والمفروض أنّه لو صادف مع خلاف الواقع لم يكن في مخالفتها عقاب أصلا إلّا عقاب التّجري.
وأمّا عدم الاستحقاق على ترك الجمعة فهي وإن كان الواقع في ضمنها، ولكن كان للمكلّف فيها أصالة البراءة، فيلزم ارتفاع العقوبة عن ترك الجمعة وعن ترك الظهر معا، نظير ما لو علم جهلا مركّبا بوجوب الظهر بعد العلم إجمالا بوجوب واحد منه ومن الجمعة، ثمّ خالف وترك كليهما، ثمّ ظهر أنّ الواجب هو الجمعة، فإنّه لا إشكال حينئذ في عدم استحقاقه عقابا على ترك شيء منهما.
أو أنّ قيام الطريق المعتبر ليس بمنزلة العلم الوجداني موجبا للانحلال الحقيقي وانعدام العلم الإجمالي موضوعا، بل مع ذلك يكون موضوعه موجودا ويكون أثره بالنسبة إلى تنجيز الواقع على المكلّف باقيا، ففي المثال يكون له استحقاق العقوبة على ترك الواقع، وغاية ما هناك بعد قيام الطريق أنّه لو أتى المكلّف بالطرف الذي قام عليه طريق ولم يأت بالطرف الآخر فظهر وجود الواقع في الآخر كان العقاب مرتفعا؛ إذ ليس للمولى مطالبة الواقع المعلوم بالإجمال منه وعدم اكتفائه بمؤدّى الطريق، فإنّ هذا مناف لتنزيله المؤدّى منزلة الواقع وجعله إيّاه نفس الواقع، فإنّ مقتضى ذلك أنّه متى سلّم العبد هذا المؤدّى عند طلب المولى للواقع تسلّمه المولى عوضا لمطلوبه.
والحاصل أنّ قضيّة العلم الإجمالي الموجود بالوجدان بعد قيام الطريق المعتبر هو تنجيز الواقع على المكلّف بمعنى أنّه يوجب على المكلّف ويلزم عليه بحكم العقل أن يمتثل الواقع ويأتي به إمّا بنفسه وإمّا ببدله، وأمّا في ما ذكر من المثال فالمكلّف قد ترك الواقع ولم يمتثله بشيء من نحوي امتثاله، فللمولى أن يؤاخذ منه ويطالب الواقع الذي علم به.
الذي يحكم به الوجدان هو الثاني، فيقضي بوقوع المكلّف تحت قيد التكليف بسبب العلم الإجمالي بالنسبة إلى الواقع أو بدله بحيث لا يستريح ولا يخلّي سبيله لو رفع اليد عن الواقع وبدله لو خالف طريقه الواقع، ولا يصير كمن لم يتوجّه إليه تكليف ولم يحصل له علم إلّا في خصوص التّجري.
وعلى هذا فنلتزم بأنّ أصالة البراءة في الطرف المقابل المتحقّق في ضمنه الواقع إنّما هي جارية معلّقا على الإتيان بمؤدّي الطريق حتى يكون قد حصل الامتثال بالبدل، وإلّا فلا مجرى فيه للبراءة.
إذا عرفت ذلك فنقول: العلم الإجمالي بثبوت الطرق إن قلنا بأنّه لا يوجب ارتفاع العلم الإجمالي بالواقعيات، بل هو مع ذلك باق بحاله موضوعا وباق على اقتضائه من تنجيز الواقع على المكلّف فحينئذ لو احتاط المكلّف، بالإتيان بمقتضى كلّ ما احتمل طريقيّته فقد علم بالمبرئ؛ فإنّه يعلم بالخروج عن عهدة الواقع بتسليم نفسه أو بدله.
وأمّا لو كان الاحتياط حرجا وصار الأمر متعيّنا في العمل بالظن فحينئذ الظن بالطريق والظن بالواقع في عرض واحد، فإنّ الظنّ بالواقع ظن بالأصل، وبالطريق ظنّ بالبدل، والأوّل لو لم يكن بأقوى من الثاني ليس بأقصر قطعا، فلا وجه لحجيّة الظنّ بالطريق متعيّنا.
نعم لو قلنا بانحلال العلم الإجمالي بالواقعيات حقيقة (2) بسبب العلم الإجمالي بثبوت الطرق المجعولة بقدر الوفاء بالمعلومات الإجماليّة من التكاليف في ما وصل إلينا من الطرق والأمارات كان الأمر منحصرا في الطرق ويكون الخارج منها محلا للبراءة، فلا همّ للمكلّف إلّا تحصيل الظنّ بالطريق، ولا همّ له بتحصيل الظن بالواقع؛ إذ ذلك قضيّة انحصار تكليفه في مؤدّى الطريق وتعيّن محلّ ابتلائه فيه.
ثمّ لا يخفى أنّ الإشكال الذي أوردناه على شيخنا المرتضى لا يرد على صاحب الفصول قدّس سرّهما، فإنّه مدّع للعلم الإجمالي بثبوت الطرق، والطريق إذا تعلّق العلم به يصير مبرئ، وبالجملة، موضوع المبرئ أعني الطريق المعلوم الحجيّة متحقّق على هذا، فيكون الظنّ بالطريق ظنّا بالمبرئ أعني الحجّة المعلوم الحجيّة.
والوجه الثاني: ما ذكره الشيخ محمّد تقي صاحب الحاشية وهو مركب من مقدّمات:
الاولى: إنّا نقطع ببقاء التكليف بالنسبة إلينا بالواقعيات وأنّ مجرّد الجهل بالتعيين لا يوجب سقوطها عنّا.
والثانية: أنّ كلّ ما يجب حال انفتاح باب العلم تحصيل العلم به ففي حال الانسداد يلزم الظنّ بهذا الشيء، ويقوم الظنّ به في هذا الحال مقام العلم في تلك الحال.
والثالثة: أنّ الواجب في حال الانفتاح هو تحصيل العلم بالمبرئ في حكم المكلّف والآمر وفي نظره، فيكون الواجب في حال الانسداد أيضا تحصيل الظنّ بالمبرئ، وذكر في بعض مقدّمات مطلبه في مقام الاستشهاد على هذه الدعوى- أعني كون الواجب في حال الانفتاح هو العلم بالمبرئ في نظر الآمر- ما حاصله أنّه يتّضح ذلك بملاحظة سيرة السلف وأصحاب النبي والأئمّة عليهم السلام، فإنّ المعلوم من حالهم عدم بذل الجهد في تحصيل الواقع، بل همّهم كان بتحصيل العلم بالمبرئ، وإلّا لوجب أن يقتصروا فى طريق تحصيل الأحكام وتعليمها على السماع من المعصوم أو بالتواتر أو بالخبر المحفوف بالقرينة القطعيّة، ومن المعلوم عدم كون ذلك من سيرتهم، فنعلم من هذا أنّ الواجب في حال الانفتاح لم يكن تحصيل الواقع علما، بل كان هو العلم بالمبرئ.
والرابعة: أنّ الظنّ بالواقع ليس مستلزما للظنّ بالمبرئ، بخلاف الظنّ بالطريق، فإنّه مستلزم له، أمّا عدم استلزام الظنّ بالواقع للظنّ بالمبرئ فلأنّه يجتمع مع القطع بعدم الإبراء كما في الظنّ الحاصل من القياس، فإنّه ظن بالواقع ومع ذلك نقطع بعدم الإبراء، ولو كان الظن بالواقع ملازما للظنّ بالابراء لامتنع هذا.
وأمّا استلزام الظنّ بالطريق للظنّ بالمبرئ فلأنّ معنى الحجيّة والطريقيّة هو أنّ المولى متقبّل لو سلّم إليه العمل على وفق الطريق ولو لم يكن مطابقا للواقع، ولازم هذا سقوط الواقع وفراغ ذمّة المكلّف عنه، فيكون الظنّ بالطريق ملازما للظنّ بالإبراء، هذا حاصل ما مهّده لاستنتاج المطلب المذكور.
أقول: ويرد عليه.
أوّلا: النقض بما إذا حصل الظنّ بالطريق أيضا من طريق القياس، فإنّه ظن بالطريق وقد اجتمع مع القطع بعدم الإبراء، فعدم الملازمة على فرض تسليمه مشترك الورود بين الظنّين ولا وجه لتخصيصه بالظنّ بالواقع.
وثانيا بالحل، وهو أنّا لا نتعقّل معنى لقوله: إنّ الواجب في حال الانفتاح هو تحصيل العلم بالمبرئ في حكم المكلّف والآمر؛ فإنّ البراءة وفراغ الذّمة عقيب الامتثال لا يرتبط بحكم الآمر، وإنّما الحاكم بها العقل دون الآمر، ووظيفة الآمر إنّما هو جعل نفس الحكم أو نفس الطريق، وأمّا حصول البراءة والفراغ عقيب عمل المكلّف على طبق ما جعله الآمر من الحكم أو الطريق فليس إلّا بحكم العقل.
وإذن فليس العلم بالواقع أو بالطريق في حال الانفتاح علما بالمبرئ، وإنّما يحصل العلم بالمبرئ بعد العمل الخارجي على طبق الحكم أو الطريق المعلومين.
هذا حال الانفتاح، وأمّا في زمان الانسداد فلا فرق أيضا بين الظنّ بالواقع والعمل على وفقه، والظن بالطريق والعمل به في أنّ العمل على وفق كلّ منهما يوجب الظنّ بالبراءة، كاستلزام العلم بهما مع العمل للعلم بالبراءة في حال الانفتاح بلا فرق أصلا، فهل ترى المكلّف لو ظنّ بوجوب الدعاء عند الرؤية عليه فأتى به لا يظن بسقوط هذا الوجوب المظنون عنه؛ إذ لا يعقل بقاء التكليف بالواقع مع إتيان المكلّف به.
وأمّا ما ذكر من القطع بعدم الإبراء في الظنّ القياسي، فإنّما المقصود بهذا القطع أنّه على تقدير خطاء هذا الظنّ وظهور كون التكليف على خلافه، كما لو كان ما ظنّ بوجوبه بهذا الظنّ محرّما واقعا لا يكون المكلّف معذورا في ترك الواقع؛ إذ معنى هذا في ما إذا كان الظنّ بعدم التكليف والوهم بثبوته وكان المقطوع الحرمة الطريقيّة جعل إيجاب الاحتياط الطريقي بمراعاة جانب الوهم، وأمّا مع الحرمة النفسيّة فمعذوريّة الظنّ بحالها، غاية الأمر ارتكب معصية بالركون إليه، كما أنّ معناه في الظنّ بالثبوت هو عدم فعليّة الواقع المظنون من حيث هذه الجهة سواء كانت الحرمة طريقيّة أم نفسيّة.
وأمّا على تقدير الإصابة كما هي المظنون فلا يعقل تفكيك الظنّ بالواقع مع الظنّ بالإبراء ولو في الظنّ القياسي، فإنّ العمل بالقياس إمّا نقول بحرمته موضوعا وبالحرمة النفسيّة كشرب الخمر، وحينئذ لا منافاة بين حصول البراءة عن التكليف الواقعي واستحقاق العقوبة على ارتكاب هذا المحرّم النفسي، وإمّا أن نقول بأنّ معنى حرمته هو مجرّد عدم حجيّته، وحينئذ فمن الواضح حصول البراءة على تقدير الإصابة، وبالجملة، فالظنّ بالواقع من أيّ طريق حصل ولو كان من طريق مقطوع عدم حجيّته يكون ملازما للظنّ بالإبراء عقيب العمل على طبقه، هذا.
مضافا إلى أنّه يرد عليه قدّس سرّه ما أوردناه على شيخنا المرتضى، فإنّه قدّس سرّه غير مدّع للعلم الإجمالي بثبوت الطرق المجعولة، فيرد عليه أنّ الظنّ بالطريق ليس ظنّا بالمبرئ، فإنّ نفس الحجيّة الواقعيّة ليست بمبرئ ما لم يعلم بها المكلّف ويستند عمله إليه، فلم يكن الظنّ بنفس الحجّة ظنّا بالمبرئ.
________________
(1) ) ولا يلزم ثبوت الأخبار العلاجيّة بالدليل القاطع، فإنّه على فرض احتمال حجيّة الخبر فهي أيضا من هذا السنخ، وبالجملة، الخبر إن كان حجة فهي أيضا حجّة. منه قدّس سرّه الشريف.
(2) والتحقيق هو الانحلال الحقيقي بتقريب أن يقال: إنّه لا شكّ في أنّ العلم الإجمالي بالتكليف مع كون التكليف الواقعي واحدا يكون منجّزا لشخص هذا التكليف الواحد و-- حجّة عليه، كما إذا علم بنجاسة أحد الإنائين إجمالا وكان أحدهما واقعا نجسا والآخر طاهرا، فإنّ العلم الإجمالي ينجّز تكليف« اجتنب» في شخص هذا الإناء، ومع كون التكليف الواقعي متعدّدا يكون حجّة على المبهم، كما إذا كان النجس في المثال كلا الإنائين، فإنّه حجّة على الأحد المبهم، لا على خصوص هذا ولا خصوص ذاك.
وحينئذ فنقول: إذا قام طريق على وجوب الجمعة مثلا وعلمنا إجمالا بوجوب واحد من الظهر والجمعة فهنا ثلاثة احتمالات، أحدها: أن يكون كلّ من الظهر والجمعة في الواقع واجبا، والثاني: أن يكون أحدهما واجبا دون الآخر، وهذا أيضا ذو احتمالين أحدهما أن يكون هذا الواحد هو ذا الطريق، والثاني أن يكون غيره.
فعلى التقدير الأوّل أي كون الواجب كلّا من الطرفين فالعلم حجّة على المبهم، والطريق حجّة على الشخص، فيكون المبهم متعيّنا في الشخص، كما في العلم التفصيلي بعد العلم الإجمالي بعينه، فكما أنّ العلم التفصيلي يعيّن مورد الإجمالي في الشخص فكذلك هنا الحجّة التفصيليّة وهو الطريق يعيّن موارد الحجّة الإجماليّة وهو العلم في الشخص، فيصير الطرف الآخر مشكوكا بدويّا بلا حجّة.
وعلى التقدير الثاني أي كون الواجب هو ذا الطريق فالأمر واضح.
وعلى التقدير الثالث أي كون الواجب غير ذي الطريق فلا شبهة أنّ تنجيز العلم لذاك الواقع الموجود في غير ذي الطريق مبنيّ على خطاء الطريق؛ إذ لو كان مصيبا فلا تنجيز كما عرفت، فمعاملة تنجيز العلم لذاك الواقع معاملة الخطاء مع الطريق، وهذا مناف مع دليل حجيّة هذا الطريق، فإنّه قد تكفّل هذا الدليل خطاء هذا الطريق وجعله في حكم العدم، فمقابلة الخطاء مع هذا لا يجوز للشارع الذي هو قد ألغى خطاء الطريق وجعله بمنزلة العدم، فتدبّر جيّدا. منه قدّس سرّه الشريف.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|