أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-6-2020
4114
التاريخ: 7-6-2020
5316
التاريخ: 2-5-2020
4375
التاريخ: 16-5-2020
4951
|
قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [هود: 120، 123]
{وَكُلًّا} أي: وكل القصص { نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} أي:من أخبارهم {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: ما نقوي به قلبك ونطيب به نفسك ونزيدك به ثباتا على ما أنت عليه من الإنذار والصبر على أذى قومك الكفار { وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} أي: :في هذه السورة عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقيل: في هذه الدنيا عن قتادة وقيل: في هذا الأنباء عن الجبائي والحق الصدق من الأنباء والوعد والوعيد وقيل:معناه وجاءك في ذكر هذه الآيات التي ذكرت قبل هذا الموضع الحق في أن الخلق يجازون بانصبائهم في قوله وإنا لموفوهم نصيبهم وإن كلا لما ليوفينهم وقد جاء في القرآن كله الحق ولكنه ذكرها هنا توكيدا وليس إذا قيل قد جاءك في هذا الحق وجب أن يكون لم يأتك الحق إلا فيه ولكن بعض الحق أوكد من بعض عن الزجاج { وموعظة } أي: وجاءك موعظة تعظ الجاهلين بالله وتزجر الناس عن المعاصي { وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} تذكرهم الآخرة { وقل } يا محمد { للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم } هذا مثل قوله اعملوا ما شئتم { إنا عاملون } على ما أمرنا الله تعالى به وقد مر تفسير هذه الآية فيما مضى { وانتظروا } أي: توقعوا ما يعدكم ربكم على الكفر من العقاب { إنا منتظرون } ما يعدنا على الإيمان من الثواب وقيل انتظروا ما يعدكم الشيطان من الغرور إنا منتظرون ما يعدنا ربنا من النصر والعلوعن ابن جريج.
{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} معناه: ولله علم ما غاب في السماوات والأرض لا يخفى عليه شيء منه عن الضحاك وقيل: معناه والله مالك ما غاب في السماوات والأرض وقيل: معناه ولله خزائن السماوات والأرض عن ابن عباس ووجدت بعض المشايخ ممن يتسم بالعدوان والتشنيع قد ظلم الشيعة الإمامية في هذا الموضع من تفسيره فقال: هذا يدل على أن الله سبحانه يختص بعلم الغيب خلافا لما تقول الرافضة أن الأئمة يعلمون الغيب ولا شك أنه عنى بذلك من يقول بإمامة الاثني عشر ويدين بأنهم أفضل الأنام بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإن هذا دأبه وديدنه فيهم يشنع في مواضع كثيرة من كتابه عليهم وينسب الفضائح والقبائح إليهم ولا نعلم أحدا منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق فإنما يستحق الوصف بذلك من يعلم جميع المعلومات لا بعلم مستفاد وهذه صفة القديم سبحانه العالم لذاته لا يشركه فيها أحد من المخلوقين ومن اعتقد أن غير الله سبحانه يشركه في هذه الصفة فهو خارج عن ملة الإسلام.
فأما ما نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ورواه عنه الخاص والعام من الإخبار بالغائبات في خطب الملاحم وغيرها مثل قوله يومىء به إلى صاحب الزنج :كأني به يا أحنف وقد سار بالجيش الذي ليس له غبار ولا لجب ولا قعقعة لجم ولا صهيل خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام وقوله يشير إلى مروان أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه وهو أبوالأكبش الأربعة وستلقى الأمة منه ومن ولده موتا أحمر وما نقل من هذا الفن عن أئمة الهدى (عليهم السلام) من أولاده مثل ما قاله أبوعبد الله (عليه السلام) لعبد الله بن الحسن وقد اجتمع هو وجماعة من العلوية والعباسية ليبايعوا ابنه محمدا والله ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنها لهم وأشار إلى العباسية وإن ابنيك لمقتولان ثم نهض وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال: له أ رأيت صاحب الرداء الأصفر يعني أبا جعفر المنصور قال نعم فقال إنا والله نجده يقتله فكان كما قال ومثل قول الرضا (عليه السلام) بورك قبر بطوس وقبران ببغداد فقيل له قد عرفنا واحدا فما الآخر فقال ستعرفونه ثم قال قبري وقبر هارون هكذا وضم إصبعيه وقوله في القصة المشهورة لأبي حبيب النباحي وقد ناوله قبضة من التمر لوزادك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لزدناك! وقوله في حديث علي بن أحمد الوشاء حين قدم (مرو)من (الكوفة) معك حلة في السفط الفلاني دفعتها إليك ابنتك وقالت اشتر لي بثمنها فيروز. والحديث مشهور إلى غير ذلك مما روي عنهم (عليهم السلام) فإن جميع ذلك متلقى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مما أطلعه الله عليه فلا معنى لنسبة من روي عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنه يعتقد كونهم عالمين للغيب وهل هذا إلا سبب قبيح وتضليل لهم بل تكفير لا يرتضيه من هو بالمذاهب خبير والله يحكم بينه وبينهم وإليه المصير.
{ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} أي: إلى حكمه يرجع في المعاد كل الأمور لأن في الدنيا قد يملك غيره بعض الأمر والنهي والنفع والضر { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} يريد أن من له ملك السماوات والأرض وإليه يرجع جميع الأمور فحقيق أن يعبد ويتذلل له ويتوكل عليه ويوثق به { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ} أي: بساه { عما تعملون } أي: عن أعمال عباده بل هو عالم بها ومجاز كلا منهم عليها ما يستحقه من ثواب وعقاب فلا يحزنك يا محمد إعراضهم عنك وتركهم القبول منك وروي عن كعب الأحبار أنه قال خاتمة التوراة خاتمة هود .
___________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي ،ج5،ص351-353.
{ وكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ ومَوْعِظَةٌ وذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ } . هذه إشارة إلى السورة ، والذكرى التذكرة والاعتبار والمراد بتثبيت فؤاد الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) أن يصبر ويتحمل الأذى في سبيل رسالته وتبليغها إلى الناس ، والمعنى ان الذي قصصناه عليك من أنباء الرسل مع أقوامهم هو حق لا ريب فيه ، وان الغرض منه أن نخفف عنك ما تلاقيه من الأذى ، فإن من رأى مصيبة غيره خفّت مصيبته ، وأيضا في هذه القصص عظة وعبرة لمن يتعظ ويعتبر .
وتجدر الإشارة إلى أن المؤرخين القدامى كانوا يهتمون بالأحداث السياسية والدولية ، ثم اهتم الجدد بالاقتصاد والعلم والفن والأدب وغيره من نشاط الإنسان ، أما القرآن الكريم فإنه يستخلص من الأحداث العبر والعظات التي تهدي الإنسان إلى سواء السبيل ، وقوله تعالى : « ومَوْعِظَةٌ وذِكْرى » صريح في ذلك ، ومثله « إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى » .
{ وقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ } مر نظيره في الآية 135 من سورة الأنعام ج 3 ص 267 . { وانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ } أيضا مر في الآية 158 من سورة الأنعام ج 3 ص 289 .
{ ولِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ والأَرْضِ } فكل سر عنده علانية ، وكل غيب عنده شهادة . وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : « وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ويَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ وما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ولا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الأَرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ - 59 الأنعام » ج 3 ص 199 .
{ وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ } ولا شيء يستطيع الهرب من سلطانه { فَاعْبُدْهُ وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } الفاء للتفريع على ما قبلها أي إذا كان هذا شأنه جل وعلا فهو جدير بالعبادة والاعتماد عليه دون غيره ، وأمر الركوع والسجود سهل يسير ، أما الثقة باللَّه ، والإعراض عمن سواه فصعب وعسير الا على المتقين { وما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } فيجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى . وفي نهج البلاغة : فلا تغفل فلست بمغفول عنك . . فيا حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة . واللَّه سبحانه المسؤول أن يعصمنا عما تعقبه الندامة والكآبة .
_____________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، ص 280-281.
الآيات تلخص للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القول في غرض السورة المسرودة له آياتها، وتنبئه أن السورة تبين له حق القول في المبدأ والمعاد وسنة الله الجارية في عباده فهي بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تعليم للحق، وبالنسبة إلى المؤمنين موعظة وذكرى، وبالنسبة إلى الكافرين المستنكفين عن الإيمان قطع خصام، فقل لهم آخر ما تحاجهم: اعملوا بما ترون ونحن عاملون بما نراه، وننتظر جميعا صدق ما قص الله علينا من سنته الجارية في خلقه من إسعاد المصلحين وإشقاء المفسدين، وتختم بأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بعبادته والتوكل عليه لأن الأمر كله إليه.
قوله تعالى:{ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ2} إلى آخر الآية أي وكل القصص نقص عليك تفصيلا أو إجمالا، وقوله:{من أنباء الرسل} بيان لما أضيف إليه كل، وقوله:{ما نثبت به فؤادك} عطف بيان للأنباء أشير به إلى فائدة القصص بالنسبة إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو تثبيت فؤاده وحسم مادة القلق والاضطراب منه.
والمعنى نقص عليك أنباء الرسل لنثبت به فؤادك ونربط جأشك في ما أنت عليه من سلوك سبيل الدعوة إلى الحق، والنهضة على قطع منابت الفساد، والمحنة من أذى قومك.
ثم ذكر تعالى من فائدة السورة ما يعمه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقومه مؤمنين وكافرين فقال فيما يرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من فائدة نزول السورة:{ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} والإشارة إلى السورة أو إلى الآيات النازلة فيها أو الإنباء على وجه، ومجيء الحق فيها هو ما بين الله تعالى في ضمن القصص وقبلها وبعدها من حقائق المعارف في المبدأ والمعاد وسنته تعالى الجارية في خلقه بإرسال الرسل ونشر الدعوة ثم إسعاد المؤمنين في الدنيا بالنجاة، وفي الآخرة بالجنة، وإشقاء الظالمين بالأخذ في الدنيا والعذاب الخالد في الآخرة.
وقال فيما يرجع إلى المؤمنين:{ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} فإن فيما ذكر فيها من حقائق المعارف تذكرة للمؤمنين يذكرون بها ما نسبوه من علوم الفطرة في المبدأ والمعاد وما يرتبط بهما، وفيما ذكر فيها من القصص والعبر موعظة يتعظون بها.
قوله تعالى:{ وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} وهذا فيما يرجع إلى غير المؤمنين يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يختم الحجاج معهم ويقطع خصامهم بعد ما تلا القصص عليهم بهذه الجمل فيقول لهم: أما إذا لم تؤمنوا ولم تنقطعوا عن الشرك والفساد بما ألقيت إليكم من التذكرة والعبر ولم تصدقوا بما قصه الله من أنباء الأمم وأخبر به من سنته الجارية فيهم فاعملوا على ما أنتم عليه من المكانة والمنزلة، وبما تحسبونه خيرا لكم إنا عاملون، وانتظروا ما سيستقبلكم من عاقبة عملكم إنا منتظرون فسوف تعرفون صدق النبإ الإلهي وكذبه.
وهذا قطع للخصام ونوع تهديد أورده الله في القصص الماضية قصة نوح وهود وصالح (عليهما السلام)، وفي قصة شعيب (عليه السلام) حاكيا عنه:{ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب}: آية 93 من السورة.
قوله تعالى:{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} لما كان أمره تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمرهم بالعمل بما تهوى أنفسهم والانتظار، وإخبارهم بأنه ومن آمن معه عاملون ومنتظرون، في معنى أمره ومن تبعه بالعمل والانتظار عقبه بهاتين الجملتين ليكون على طيب من النفس وثبات من القلب من أن الدائرة ستكون له عليهم.
والمعنى فاعمل وانتظر أنت ومن تبعك فغيب السماوات والأرض الذي يتضمن عاقبة أمرك وأمرهم إنما يملكه ربك الذي هو الله سبحانه دون آلهتهم التي يشركون بها ودون الأسباب التي يتوكلون عليها حتى يديروا الدائرة لأنفسهم ويحولوا العاقبة إلى ما ينفعهم، وإلى ربك الذي هو الله يرجع الأمر كله فيظهر من غيبه عاقبة الأمر على ما شاءه وأخبر به، فالدائرة لك عليهم، وهذا من عجيب البيان.
ومن هنا يظهر وجه تبديل قوله:{ربك} المكرر في هذه الآيات بلفظ الجلالة{الله} لأن فيه من الإشعار بالإحاطة بكل ما دق وجل ما ليس في غيره، والمقام يقتضي الاعتماد والالتجاء إلى ملجإ لا يقهره قاهر ولا يغلب عليه غالب، وهو الله سبحانه ولذلك ترى أنه يعود بعد انقضاء هذه الجمل إلى ما كان يكرره من صفة الرب، وهو قوله:{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
قوله تعالى:{ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} الظاهر أنه تفريع لقوله:{وإليه يرجع الأمر كله} أي إذا كان الأمر كله مرجوعا إليه تعالى فلا يملك غيره شيئا ولا يستقل بشيء فاعبده سبحانه واتخذه وكيلا في جميع الأمور ولا تتوكل على شيء من الأسباب دونه لأنها أسباب بتسبيبه غير مستقلة دونه، فمن الجهل الاعتماد على شيء منها.
وما ربك بغافل عما تعملون فلا يجوز التساهل في عبادته والتوكل عليه.
_______________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج11،ص60-62.
أربع معطيات لقصص الماضين:
بانتهاء هذه الآيات تنتهي سورة هود، وفي هذه الآيات استنتاج كلي لمجموع بحوث هذه السورة، وبما أنّ القسم الأهمّ من هذه السورة يتناول القصص التي تحمل العبر من سيره الأنبياء والأُمم السابقة، فإنّ هذه القصص تعطي نتائج قيّمة ملخّصة في أربعة مواضيع.
تقول هذه الآيات أوّلا:{ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}. وكلمة «كُلاًَّ» إِشارة الى تنوع هذه القصص، وكل نوع منها يشير الى اتّخاذ جبهة «قبال الأنبياء» ونوع من الإِنحرافات ونوع من العقاب، وهذا التنوّع يلقي أشعة نيرة على أبعاد حياة الناس.
«تثبيت قلب النّبي»(صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية إِرادته ـ التي يشار إِليها في هذه الآية ـ أمر طبيعي، لأنّ معارضة الأعداء اللجوجين الشديدة والقاسية ـ رضينا أم أبينا ـ تؤثر على قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه إِنسان وبشر أيضاً. ولكن من أجل ان لا ينفذ اليأس الى قلب النّبي المطهّر وتضعف إِرادته الفولاذية من هذه المعارضة والمخالفات والمثبطات، فإنّ الله يقص عليه قصص الأنبياء وما واجهوه، ومقاومتهم قبال أممهم المعاندين، وانتصارهم الواحد تلو الآخر ليقوي قلب النّبي والمؤمنين الذي يلتّفون حوله يوماً بعد يوم.(2).
ثمّ تشير الآية الى النتيجة الكبرى الثّانية فتقول الآيات: { وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ}.
أمّا ثالث الآثار ورابعها اللذان يستلفتان النظر هما { مَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} .
الطريف هنا أنّ صاحب المنار يقول في تفسير الآية معقباً: إِنّ الإِيجاز والإِختصار في هذه الآية المعجزة في غاية ما يُتصور، حتى كأنّ جميع المعاجز السالفة قد جُمعت في الآية نفسها وبيّنت فوائدها جميعاً بعدّة جمل قصيرة.
وعلى أية حال، فإنّ هذه الآية تؤكّد مرّة أُخرى أنّه لا ينبغي أن نعدّ قصص القرآن ملهاة أو يستفاد منها لإِشغال السامعين، بل هي مجموعة من أحسن الدروس الحياتية في جميع المجالات، وطريق رحب لجميع الناس في الحاضر والمستقبل.
ثمّ تخاطب الآيات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يواجه أعداءه الذين يؤذونه ويظهرون اللجاجة والعناد إِن واصل الطريق { وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}.
فستعلمون من الذي سينتصر، انتظروا هزيمتنا كما تزعمون انتظاراً غير مُجد، ونحن ننتظر العذاب من الله عليكم، وهو ما ستذقونه من قِبَلنا أو من قِبَل الله مباشرةً.
وهذه التهديدات التي تذكر بصيغة الأمر تلاحظ في أماكن أُخرى من القرآن كقوله تعالى: { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(فصلت،40).
ونقرأ في شأن الشيطان أيضاً { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}(الاسراء،64).
وبديهي أنّه لا يراد بأيّة صيغة من صيغ الأمر هنا طلب الفعل، بل جميعها جاءت للتهديد والتنديد.
وآخر الآيات من هذه السورة تتحدث عن التوحيد «التوحيد المعرفي والتوحيد الأفعالي، وتوحيد العبادة» كما تحدثت الآيات الأُولى من هذه السورة عن التوحيد أيضاً.
هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تشير الى ثلاث شعب من التوحيد، توحيد علم الله أوّلا، فغيب السّماوات والأرض خاص بالله وهو المطّلع عليها جميعاً { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
أمّا سواه فعلمه محدود، وفي الوقت ذاته فإنّ هذا العلم ناشيء من التعليم الإِلهي، فعلى هذا فإنّ العلم غير المحدود، والعلم الذاتي بالنسبة لجميع ما في السموات والأرض مخصوص بذات الله المقدسة.
ومن جهة ثانية فإنّ أزمّة جميع الأفعال مرهونة بقدرته { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} ... وهذه مرحلة توحيد الأفعال.
ثمّ تستنتج الآية أنّه إِذا علمت أنّ الإِحاطة والعلم غير المحدود والقدرة التي لا تنتهي ... جميعها مخصوص بذات الله المقدّسة { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وهذه مرحلة توحيد العبادة.
فينبغي اجتناب العصيان والعناد والطغيان { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
___________________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي،ج6،ص202-204.
2 ـ ممّا ذكر في المتن يتّضح أنّ مرجع الضمير في «هذه» يعود على «أنباء الرسل» وعودة الضمير على هذه الكلمة لقربها وتناسبها مع البحوث الواردة في هذه الآية واضح جدّاً، لكنّ الإِحتمالات الأُخرى بأنّ المشار إِليه هو «الدنيا» أو «خصوص الآيات السابقة» فبعيد، كما يبدو، وما قاله كثير من المفسّرين من أنّ المشار إليه هو «السورة» فقابل للمطابقة مع ما ذكرنا، لأنّ القسم الأهمّ من السورة يتناول قصص الأنبياء السابقين.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|