أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-12-2019
2042
التاريخ: 16-11-2018
2569
التاريخ: 29-7-2019
3206
التاريخ: 4-12-2016
3263
|
الفتوحات في ثقافة المسلمين
نسمع من طفولتنا عن بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وسيرته ، وإنشائه الأمة والدولة ، ثم عن فتح المسلمين للبلاد وتوسيعهم دولة الإسلام ، فنفرح ، لأنا نعتقد أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين لهم الحق في حكم البلاد .
ثم نقرأ الفتوحات الإسلامية ، فنجد أنها تختلف عما كتبه التأريخ الحكومي ورسمته القصص الشعبية ، فقد صورت قوات أمبراطورتيْ الفرس والروم وأهل البلاد المفتوحة ، كأنهم شرٌّ محض ، وصورتهم أحياناً أبطالاً أشداء لا مثيل لهم ، لكنهم كالأواني تتداعى في الانهيار ، أو كالفراش يتهافت في النار ! وصورت الفاتحين المسلمين كأنهم ملائكة ربانيون يتحلَّوْن بالقيم الإسلامية ، ومناقبة الشجاعة والفروسية ، مع أن فيهم من قتل بدون رحمة ، أو سرق مالاً بجشع ، أو غصب امرأةً أعجبته من زوجها !
لقد أخفى الرواة كثيراً من المظالم التي ارتكبها القادة والمقاتلون في عمليات الفتح ، أو ارتكبها حكام الخليفة في إدارة البلاد ، فصارت مدخلاً للطعن في الإسلام ، بأنه دين توسعي كغيره من مشاريع الإمبراطوريات .
كما نسبوا بطولات الفتح إلى القادة الحكوميين ، كخالد بن الوليد ، وسعد بن أبي وقاص ، وعمرو بن العاص ، وأبي موسى الأشعري ، مع أنهم لم يبرزوا إلى فارس أو راجل ، ولم يشاركوا في حملة أبداً ، ومنهم من هرب عند اشتداد الحرب فتقدم قادةٌ ميدانيون أنقذوا الموقف وحققوا النصر ! فأخفى رواة السلطة أدوارهم ، وأعطوا إنجازهم إلى القادة الحكوميين !
بل إن رواة السلطة أحيوا أشخاصاً ماتوا من سنين ، وأعطوهم بطولات في الفتوحات ، كضرار بن الأزور ، وضرار بن الخطاب ، فقد قُتلا في معركة اليمامة قبل الفتوحات ، لكنهم نسبوا إليهما بطولات في معارك فتح العراق والشام !
وأكثر ما يكون تحريفهم للأحداث ، بغضاً لعلي ( عليه السلام ) والقادة الأبطال من شيعته !
قواعد للبحث في حروب الفتوحات
الفتوحات مجموعة حروب وقعت بين المسلمين والفرس أو الروم ، نتج عنها فتح العراق وفارس وما وراءها ، وفلسطين والشام وما حولها ، ومصر وامتدادها في إفريقيا .
والباحث فيها يواجه كّماً كبيراً من أحداث حروبها وشؤونها ، دونتها مصادر رسمية وشبه رسمية ، بصيغ متفاوتة ، ونسبتها إلى أشخاص وجماعات .
ونذكر فيما يلي قواعد تؤثر على استخلاص الباحث للصورة الصحيحة للفتوحات ، أو الأقرب إلى الصحة .
الأولى : يتوقف فهم الفتوحات على ثقافة الباحث العامة ، ودقة ذهنه في الانتباه والإلتقاط والربط ، وعلى نوعية محرك تفكيره كيف يعمل ، وجهاز عقله كيف يفقه ، ويحاكم النص ويستخلص النتيجة .
الثانية : رجوع الباحث إلى المصادر المهمة ، ولعل أهم مصادر المغازي والفتوحات مؤلفات محمد بن إسحاق بن يسار ، المتوفى سنة 151 هجرية ، فهو مؤسس المغازي ، والمؤرخون بعده عيالٌ عليه . وهو صاحب السيرة النبوية التي اختصرها عبد الملك بن هشام ، المتوفي سنة 218 ، فعُرفت باسم سيرة ابن هشام . وقد اعترف بأنه غيَّرَ فيها ، أي إرضاءً للعباسيين .
وقد شهد الأئمة من المذاهب بمكانته فقال عنه شعبة : « محمد بن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث » . ( تاريخ بغداد : 1 / 243 ( .
وقال أبو معاوية : « كان أحفظ الناس ، وكان إذا كان عند الرجل خمسة أحاديث أو أكثر جاء واستودعها ابن إسحاق ، يقول : إحفظها عني ، فإن نسيتها كنت قد حفظتَها عليَّ » ! ( سير الذهبي : 7 / 51 ) .
لكن ذلك لم ينفعه عند المنصور ، فلم يتبنَّ محمد بن إسحاق ، وتبنى مالك بن أنس وجعله إماماً ، وادعى مالك أنه عربي من قبيلة أصبح اليمنية ، فرد ابن إسحاق ادعاءه ، فغضب عليه مالك ووالي المدينة ، وأخرجاه منها !
قال الذهبي في سيره : 8 / 48 : « مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي . . كان طوالاً جسيماً عظيم الهامة أشقر ، عظيم اللحية ، أصلع ، وكان لا يُحْفي شاربه ويراه مُثْلَة . . أزرق العينين تبلغ لحيته صدره ، ويلبس الثياب الرفيعة البياض » .
وقال ابن حبان في الثقات : 7 / 382 : « لم يكن بالحجاز أحد أعلم بأنساب الناس وأيامهم من محمد بن إسحاق ، وكان يزعم أن مالكاً من موالي ذي أصبح ، وكان مالك يزعم أنه من أنفسهم ، فوقع بينهما لهذا مفاوضة . فلما صنف مالك الموطأ قال بن إسحاق : إئتوني به فإني بيطاره ! فنقل ذلك إلى مالك فقال : هذا دجال من الدجاجلة يروي عن اليهود ! وكان بينهم ما يكون بين الناس ، حتى عزم محمد بن إسحاق على الخروج إلى العراق ، فتصالحا حينئذ فأعطاه مالك عند الوداع خمسين ديناراً نصف ثمرته تلك السنة ، ولم يكن يقدح فيه مالك من أجل الحديث ، إنما كان ينكر عليه تتبعه غزوات النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن أولاد اليهود
الذين أسلموا وحفظوا قصة خيبر وقريظة والنضير وما أشبهها من الغزوات عن أسلافهم ، وكان ابن إسحاق يتتبع هذا عنهم ، ليعلم من غير أن يحتج بهم » .
ومن كبار المؤلفين في المغازي الواقدي ، وهو محمد بن عمر بن واقد ، مولى بني سهم ، وهو مؤرخ مشهور ، نشأ في المدينة وسكن بغداد ، واتصل بالبرامكة ، وبالرشيد والمنصور والمهدي ، وتوفي سنة 207 . والغالب على أسلوبه السرد القصصي ، والإشادة العاطفية بشخصيات الفاتحين والمسلمين .
وقد اشتهرت كتبه عبر العصور ، وتداولها عوام المسلمين ، لذلك يتطرق الشك إلى نسختها الرائجة أن يكون فيها تغيير عن نسخة المؤلف الأصلية .
ومنهم محمد بن سعد ، صاحب الطبقات ، وهو كاتب الواقدي ، ومولى بني العباس ، وقد عاش في بغداد وتوفي فيها سنة 230 ، ومنهجه أدق من منهج أستاذه ، لأنه يستعمل أسلوب الرواية ولا يستعمل أسلوب القصصي الخطابي .
ومنهم البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر، ونسبته إلى نبات البلاذر الهندي، وثمره كنوى التمر، وهو بغدادي توفي سنة 279، يروي كثيراً عن ابن سعد والواقدي ، لكن قد يتكلم بدون إسناد ، أو يقول قالوا ، ويقصد علماء المغازي والسير . وهو أقدم من الطبري وأجلُّ منه، والعجب أن الطبري لا يروي عنه! ومنهم ابن واضح اليعقوبي، أحمد بن إسحاق. . بن واضح، وهو بغدادي من موالي المنصور العباسي، يميل إلى التشيع، وهو مؤرخ جغرافي كثير الأسفار، توفي سنة 282، وكتابه تاريخ الأمم السالفة، المعروف بتاريخ اليعقوبي ، صغير يمتاز بالتركيز والدقة غالباً .
ومنهم الطبري ، محمد بن جرير الآملي ، من طبرستان في شمال إيران ، توفي في بغداد سنة 310 هجرية ، ويعتمد منهج الرواية ، بقطع النظر عن توثيق الراوي أو عدمه ، ويتدخل في انتقاء الرواية أو تركها ، وقد يعلق عليها ويعطي رأيه فيها وقد يروي المتشابهات ، أو المتضادات ، في الأمر الواحد ، ولا يعلق عليها .
وقد اعترف أكثر من مرة بأنه لا يستطيع أن يذكر كثيراً من الحقائق !
ومنهم المسعودي، علي بن الحسين بن علي، من ذرية عبد الله بن مسعود ، نشأ في بغداد ، وعاش في مصر وتوفي فيها سنة 346 ، وهو يميل إلى التشيع ويمتاز بالدقة فيما يهتم به ، وبالخبرة بتاريخ الروم والفرس . وأشهر كتبه مروج الذهب وهو يُسند روايته ، لكنه أكثر ما يتكلم من إنشائه .
ومنهم ابن الأعثم ، أحمد بن محمد بن علي بن أعثم الكوفي ، مؤرخ من أهل الكوفة توفي 314 ، وقد وصلنا من كتبه : الفتوح ، وأسلوبه أقرب إلى أسلوب الواقدي في الوصف والخطابة ، ويتميز عنه بنفحة عراقية شيعية .
ومنهم الكلاعي الأندلسي ، سليمان بن موسى ، وهو من ذرية ذي الكلاع الحميري ، عاش في الأندلس وتوفي فيها سنة 634 ، وله كتاب الاكتفاء بسيرة المصطفى ، ومنهجه الإنتقاء من المصادر المعروفة ، وغيرها ، وفيه نفحة يمانية .
هذه مجموعة من المصادر، وطبيعي أن لا يقتصر الباحث عليها ، خاصة إذا رأى أن مفردته مروية في مصادر أخرى ، بأفضل مما رواه هؤلاء .
الثالثة : لا بد من معرفة الباحث بالدولة الفارسية والرومية آنذاك ، لأن روايات الفتوح تنسب إليها والى أمبراطورها وقادتها ، أقوالاً وأحداثاً ، ينبغي التأكد منها ، فهي تؤيد رواية كتب المغازي ، أو تعارضها !
مثلاً : تقرأ في الطبري ( 2 / 557 ) عن وقعات لخالد بن الوليد ومعارك في فتح العراق : وقعة المذار ، وقعة الولجة ، وقعة ألِّيس ، وقعة أمغيشيا ، وقعة يوم المقر . . وقعة الأنبار ، وقعة كلواذى ، وقعة حصيد ، وقعة الخنافس ، وقعة بني البرشاء ، وقعة الثنى والزميل ، وقعة الفرائض ، وقعة عين التمر ، وقعة دومة الجندل . .
وتقرأ خوف الفرس منه وإرسالهم الجيوش لحربه، وأن أحد قادتهم الكبار قارن طلب مبارزته فبرز إليه خالد ، لكن سبقه إليه شخص وقتله !
ثم تقرأ عن الفرس فتجد أنهم كانوا في فترة وجود خالد في العراق، وهي السنة الثالثة عشرة للهجرة، مشغولين بصراعهم الداخلي، وكان همهم الدفاع عن المدائن فقط، ولم يكن في شرقي دجلة أي قوات فارسية، وإنما أرسلوا جيشاً لمعركة بابل بعد ذهاب خالد من العراق بمدة.
قال الطبري : 2 / 573 : « أقام خالد في عمله سنة ومنزله الحيرة ، يُصَعِّد ويُصَوِّب قبل خروجه إلى الشام ، وأهل فارس يخلعون ويُمَلِّكُون ، ليس إلا الدفع عن بهرسير ( المدائن ) وذلك أن شيري بن كسرى قتل كل من كان يناسبه إلى كسرى بن قباذ ، ووثب أهل فارس بعده وبعد أردشير ابنه فقتلوا كل من بين كسرى بن قباذ وبين بهرام جوار ، فبقوا لا يقدرون على من يملكونه ممن يجتمعون عليه » .
فتعرف بذلك أن الحروب المدعاة لخالد لم تكن مع جيش فارسي ، ولا حاميات فارسية ، بل كانت غارات على قرى ودساكر لسكان عرب كبني تغلب ، أو على مزارعين من أعراق متعددة كعين التمر ، كان المثنى لا يغير عليهم .
وكذلك الأمر في فهم وضع الروم ، فعندما تقرأ في الطبري ( 3 / 100 ) أن هرقل بعد معركة اليرموك قرر الانسحاب من سوريا ، وهي تشمل الأردن وفلسطين ولبنان ، وقال : « فعليك السلام يا سورية تسليم المفارق ، ولا يعود إليك رومي أبداً إلا خائفاً » ! ( تاريخ الطبري : 3 / 100 ) .
فلا يمكنك أن تقبل الرواية التي تدعي وجود معارك بعد هذا التاريخ !
وعندما تقرأ أن الروم انسحبوا من مصر ، وقال أهلها الأقباط لملكهم المقوقس : « ما تريد إلى قوم فلُّوا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم ، صالحِ القومَ واعتقد منهم ( أبرمْ معهم عقداً ) ولا تَعْرُض لهم ، ولا تُعَرِّضْنا لهم » . ( الطبري : 3 / 199 ) .
فلا يمكنك أن تقبل ادعاء عمرو بن العاص بأنه خاض معارك مع الروم والأقباط لفتح مصر ، وفتحها عنوة ، فله أن يضع الخراج الذي يراه على أهلها !
فلا بد أن تشطب على عشرين معركة وأكثر ادعاها عمرو العاص ورواته ، فهي إما غارات قتل وسبي على أهل البلاد الأقباط ، أو مكذوبةٌ من أساسها .
الرابعة : التدقيق في المعركة التي كانت العامل الأساسي في الفتح ، وخاضها المسلمون مع الفرس أو الروم أو القوى المحلية ، ومعرفة من قاتل فيها وحقق النصر ، ومن خاف وانهزم ، ثم ادعى البطولة لنفسه !
فقد اخترع الرواة معارك لا وجود لها ، من أجل إثبات بطولة لزيد أو عمرو ، أو ضخموا معركة صغيرة ، أو اخترعوا بطولة في معركة موجودة ، أو جعلوا عملاً صغيراً بطولةً خارقة . . إلى آخر القائمة !
والمعارك المهمة مع الفرس في فتح العراق وإيران هي : معركة جسر الكوفة ، ومعركة البويب ، والقادسية ، والمدائن ، وجلولاء ، وخانقين ، وتستر ، ونهاوند ، ثم معارك فتح مدن إيران ، وخاصة خراسان .
أما المعارك المهمة مع الروم في فتح فلسطين وسوريا فهي : معركة أجنادين ، ومرْج الصُّفَّر ، وفِحل ، واليرموك . وما بقي فهو معارك صغيرة ، أو مزعومة .
أما مصر فقد فتحت صلحاً بدون قتال ، لأن الروم انسحبوا منها أثناء معاركهم مع المسلمين في بلاد الشام ، وكان المقوقس ملك مصر عاقلاً حكيماً ، فاتفق مع الأقباط وصالحوا المسلمين على جزية قدرها ديناران عن كل بالغ ، ما عدا العُجَّز والنساء والأطفال ، وقد طلب أهل مصر منه ذلك .
أما معركة ذات الصواري البحرية مع الروم فكانت بعد فتح مصر ببضع عشرة سنة ، عندما حاول الروم الرجوع إلى مصر .
الخامسة : دراسة الأبطال الشجعان المؤثرين في المعركة ، أي المقاتلين المقتحمين والمقاومين ، الذين يكونون في مقدمة صفوف الجيش لا في آخرها ولا وسطها ، ويهاجمون العدو ولا يهربون . فهؤلاء هم رحى المعركة الذين يوقعون القتلى في صفوف العدو، ويُرَجِّحُون كفَّة المسلمين ، ويَقْطُفُون لهم النصر . وهم الذين يُرَجِّحُون كفَّة الحرب لمصلحة المسلمين، إذا وقعت فيهم هزيمة .
وقد يكونون قادةً أو أفراداً عاديين ، ويُسَمِّوْنَ أهل البلاء ، وأهل النكاية في العدو ، ولهم احترامٌ عند المسلمين وهدايا من الغنائم ، وتفضيل على غيرهم . وكان عدد أهل البلاء في معركة القادسية خمساً وعشرين .
السادسة : دراسة الأشخاص الذين ادعت لهم السلطة أدواراً بطولية ، ونسبت إليهم الفتوحات ، وستجد أنهم في الغالب ليسوا بالحجم الذي أعطي لهم ، وأن السلطة كبرتهم لأنهم معها ، وتعمدت تنقيص آخرين لأنهم ليسوا معها !
من باب المثال : تسمع وتقرأ عن الصحابي عتبة بن غزوان ، وأنه فاتح البصرة والأبلة ومنطقة الفرات وبيسان ، وأنه الذي مَصَّر البصرة وأسسها ، فتقول ما شاء الله ! ثم تقرأ أنه جاء من المدينة بثلاث مئة رجل وامرأة ، قال الطبري في تاريخه : 3 / 92 : « قدم عتبة بن غزوان البصرة في ثلاث مائة » .
ثم تقرأ أن كل مدة ولايته كان ستة أشهر ، قال الحافظ في تاريخ بغداد : 1 / 168 : « وهو الذي افتتح الأبِلَّة ، وكانت ولايته البصرة ستة أشهر » .
ثم تقرأ أنه لم يكن مقابله جندي واحد من الفرس ، لا في البصرة ولا في محيطها لا من جيشهم ولا من حاميات حدودهم ! فمن الذين قاتلهم إذن ؟
تجد الحقيقة في رواية المؤرخ والجغرافي ياقوت الحموي في معجم البلدان: 4 / 242: «لما فتح عتبة بن غزوان الأبِلة عنوةً، عبر الفرات، فخرج لهم أهل الفرات بمساحيهم، فظفر بهم المسلمون، وفتحوا الفرات، وقيل إن ما بين الفهرج والفرات فتح صلحاً، وسائر الأبلة عنوة»!
إذن ، كانت البصرة خالية من الفرس ، وكانت قرى أو شبه قرى ، ثم اتجه القائد الفاتح نحو ميسان ، فاستولى على أراضي فلاحين مساكين ، لا يملكون سلاحاً ، وبعضهم دافع عن أرضه وأمواله بالمسحاة !
قال البلاذري : 2 / 419 : « وكانت بالبصرة سبع دساكر : اثنتان بالخريبة ، واثنتان بالزابوقة ، وثلاث في موضع دار الأزد اليوم . ففرق عتبة أصحابه فيها ، ننزل هو بالخريبة ، وكانت مسلحة للأعاجم » .
فلماذا لا يقول الرواة لم يكن في البصرة ومحيطها معركة أصلاً ، لأن الفرس أخْلَوْهَا حتى من حاميتهم ، فصالح المسلمون أهلها وسكنوها .
ولماذا يقول الرواة فتحت هذه القرى عُنْوةً بالقوة ، ما دام يمكن الصلح معها كغيرها ، بأن يؤخذ من أهلها بدل سنوي لحمايتهم ؟ !
فكأن الرواة مضطرون لافتراض معركة خاضها « القائد الفاتح البطل » عتبة بن غزوان بثلاث مئة رجل ، ولو مع فلاحين مساكين لا سلاح لهم !
ومثال آخر : تقرأ في عامة كتب المحدثين وكتب المغازي ، حديثاً لصحابي بدوي هو خريم بن أوس ، صححه أئمة علماء السلطة وأشبعوه صحة ! وقد ادعى فيه خريم بطولة لخالد بن الوليد عندما جاء إلى العراق من جهة البصرة ، فلقيهم الفرس بجمع عظيم بقيادة هرمز عند كاظمة قرب الكويت ، فاصطفوا للقتال وبرز هرمز ، فبرز إليه خالد فتضاربا ، ثم احتضنه خالد وحمله بين يديه فأحاط به الفرس لكنه قتله وانهزم الفرس ، وأخذ سلبه وكانت قلنسوته بمئة ألف درهم .
وقال خُريم في هذا الحديث أنه وفد على النبي ( صلى الله عليه وآله ) في آخر سنة من حياته ( صلى الله عليه وآله ) فسمعه يقول : لقد رُفعت إليَّ مدينة الحيرة فأنا أراها الآن ، وهذه الشيماء أخت بطرقها عبد المسيح بن بقيلة الغساني ، أراها الآن خارجة من قصرها لابسة خماراً أسود ، راكبة على بغلة شهباء فقال له خريم : يا رسول الله إذا ذهبنا إلى الحيرة وكان الأمر كما تقول ، فهب لي هذه الشيماء جاريةً ، فوهبها له .
وزعم خريم أنه دخل مع خالد إلى الحيرة ، وإذا بالشيماء المحترمة بخمارها وبغلتها ، فسباها خالد ، فقال له خريم هي لي بوعد من النبي ( صلى الله عليه وآله ) وشهد له محمد بن مسلمة وعبد الله بن عمر ، فأعطاه إياها خالد ! فجاء أخوها البطرق عبد المسيح : « فقال لي : بعنيها . فقلت : لا أنقصها من عشر مئات شيئاً ، فأعطاني ألف درهم ، فقيل لي : لو قلت مائة ألف لدفعها إليك ، فقلت : ما كنت أحسب أن عدداً أكثر من عشر مئات » ! ( مجمع الزوائد : 6 / 223 ، وتاريخ دمشق : 37 / 364 ) .
وبلغ من افتضاح القصة التي أعطاها المحدثون درجة الصحة على شرط البخاري والشيوخ ، أن المؤرخين كذَّبوها ، كالواقدي والبلاذري : 2 / 295 ، قال : « والذي عليه أصحابنا من أهل الحجاز ، أن خالداً قدم المدينة من اليمامة ، ثم خرج منها إلى العراق ، على فيد والثعلبية ، ثم أتى الحيرة » .
أي لم يأت خالد عن طريق البصرة وكاظمة أصلاً ، بل جاء عن طريق حائل !
وقال الطبري : 2 / 556 : « وهذه القصة في أمر الأبلة وفتحها خلاف ما يعرفه أهل السير ، وخلاف ما جاءت به الآثار الصحاح » !
ومثال آخر : أراد أتباع السلطة تغطية هروب خالد بن الوليد بالمسلمين من مؤتة ، وكان جيشهم ثلاثة آلاف فاشتبكوا مع جيش كبير للروم ، وتقدم القادة الثلاثة ، وقاتلوا قتال الأبطال خاصة جعفر بن أبي طالب ، حتى استشهدوا رضوان الله عليهم . وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) على منبره في المدينة يصف معركتهم .
فزادوا في حديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه وصف أخذ خالد للراية وقتاله ، وسماه سيف الله المسلول ! مع أن الذي أخذ الراية عن الأرض أبو اليسر الأنصاري ثم أخذها منه شخص ثم أخذها منه خالد ، وانهزم بالمسلمين ! « أنا دفعت الراية إلى ثابت بن أقرم ، لما أصيب عبد الله بن رواحة ، فدفعها إلى خالد بن الوليد » . ( فتح الباري : 7 / 393 ) . أي لم يكن خالد في الصف الأول ليأخذ الراية !
وفي تاريخ دمشق : 68 / 87 : « لما قتل ابن رواحة نظرت إلى اللواء قد سقط ، واختلط المسلمون والمشركون ، فنظرت إلى اللواء في يد خالد منهزماً ، واتبعناه فكانت الهزيمة » !
ومعناه أنه أخذه وهو منهزم أو أخذه وانهزم بالمسلمين، وكان ذلك مشهوراً! ففي سيرة ابن هشام: 3 / 836: «لما دنوا حول المدينة. . جعل الناس يَحْثُونَ على الجيش التراب ويقولون: يا فُرَّار فررتم في سبيل الله ! قال : فيقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ليسوا بالفرار ولكنهم الكُرار إن شاء الله تعالى . . . قالت أم سلمة لامرأة سلمة بن هشام بن العاص : مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومع المسلمين ؟ قالت : والله ما يستطيع أن يخرج ، وكلما خرج صاح به الناس يا فُرار فررتم في سبيل الله ! حتى قعد في بيته فما يخرج » .
وفي إمتاع الأسماع للمقريزي : 1 / 341 : « إن خالداً انهزم بالناس فعُيِّروا بالفرار ، وتشاءم الناس به » !
فهزيمة خالد حقيقة في عامة المصادر ، لكن رواة الخلافة أنكروها بعين يابسة ، وكذبوا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : « ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه . . ثم رفع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إصبعه ثم قال : اللهم إنه سيف من سيوفك فانصره ! فمن يومئذ سمي خالد بن الوليد سيف الله » !
قال الصالحي في سبل الهدى : 6 / 150 : « رواه الإمام أحمد برجال ثقات ، ويزيده قوة ويشهد له بالصحة ما رواه الإمام أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والبرقاني » .
ثم صحح البخاري كذبة خالد بأنه قاتل في مؤتة قتال الأبطال ، حتى كسَّر تسعة سيوف على رؤوس الروم ، قال : « لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف ، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية » . ( صحيح البخاري : 5 / 87 ) .
ومثال آخر : أنهم نسبوا فتح فلسطين إلى عمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد ، وأبي عبيدة ، مع أنهم لم يقاتلوا في معركة أجنادين ، التي كانت سبب فتح فلسطين ، فقد بدأت المعركة بمبارزات بطولية ، تقدم لها حفيدان لعبد المطلب ، ثأراً لجعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب ، رضي الله عنهم .
ثم كانت بطولة المعركة لخالد بن سعيد بن العاص الذي كان قائد الخيل ، وهاشم المرقال قائد الميسرة ، وكانا من تلاميذ علي ( عليه السلام ) وشيعته الخاصين .
أما خالد وأبو عبيدة فقد نصوا على أنهما كانا خلف الناس ولم يقاتلا !
ففي تاريخ دمشق : 16 / 84 : « عبأ خالد الناس فسيروا الأثقال والنساء ، ثم جعل يزيد بن أبي سفيان أمامهم بينهم وبين العدو ، وصار خالد وأبو عبيدة من وراء الناس . . فعبأ أصحابه تعبئة القتال على تعبئة أجنادين، ثم زحف إليهم فوقف خالد بن سعيد في مقدمة الناس يحرض الناس على القتال ، ويرغبهم في الشهادة فحملت عليه طائفة من العدو فقاتلهم . . . » .
فكيف يقاتل العدو الذي كان في آخر الناس، وبينه وبين العدو جيش من خمسين ألفاً كما ذكروا!
وأمثلةٌ كثيرة، تُقنعك بأن المحدثين أكثر إعمالاً لهواهم من المؤرخين ، وأن الفتوح تحتاج إلى قراءة جديدة ، لمعرفة واقعها .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|