أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-5-2020
3546
التاريخ: 3-5-2020
4770
التاريخ: 27-4-2020
4204
التاريخ: 27-4-2020
3381
|
قال تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَو تَقُولَ لَو أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَو تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَو أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [الزمر : 53 - 59]
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1)
{قل} يا محمد {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} بارتكاب الذنوب {لا تقنطوا من رحمة الله} أي لا تيأسوا من مغفرة الله {إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} وعن ثوبان مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال ما في القرآن آية أوسع من {يا عبادي الذين أسرفوا} الآية وفي مصحف عبد الله إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء وقيل إن الآية نزلت في وحشي قاتل حمزة حين أراد أن يسلم وخاف أن لا تقبل توبته فلما نزلت الآية أسلم فقيل يا رسول الله هذه له خاصة أم للمسلمين عامة فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) بل للمسلمين عامة وهذا لا يصح لأن الآية نزلت بمكة ووحشي أسلم بعدها بسنين كثيرة ولكن يمكن أن يكون قرئت عليه الآية فكانت سبب إسلامه فالآية محمولة على عمومها فالله سبحانه يغفر جميع الذنوب للتائب لا محالة فإن مات الموحد من غير توبة فهو في مشيئة الله إن شاء عذبه بعدله وإن شاء غفر له بفضله كما قال {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} .
ثم دعا سبحانه عباده إلى التوبة وأمرهم بالإنابة إليه فقال {وأنيبوا إلى ربكم} أي ارجعوا من الشرك والذنوب إلى الله فوحدوه {وأسلموا له} أي انقادوا له بالطاعة فيما أمركم به وقيل معناه اجعلوا أنفسكم خالصة له قد حث سبحانه بهذه الآية على التوبة كيلا يرتكب الإنسان المعصية ويدع التوبة اتكالا على الآية المتقدمة {من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون} عند نزول العذاب بكم .
{واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} أي من الحلال والحرام والأمر والنهي والوعد والوعيد فمن أتى بالمأمور به وترك المنهي عنه فقد اتبع الأحسن عن ابن عباس وقيل إنما قال أحسن ما أنزل لأنه أراد بذلك الواجبات والنوافل التي هي الطاعات دون المباحات وقيل أراد بالأحسن الناسخ دون المنسوخ عن الجبائي قال علي بن عيسى وهذا خطأ لأن المنسوخ يجوز أن يكون حسنا إلا أن العمل بالناسخ يكون أصلح وأحسن {من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة} أي : فجأة في وقت لا تتوقعونه {وأنتم لا تشعرون} أي لا تعرفون وقت نزوله بكم .
ولما أمر الله سبحانه باتباع الطاعات واجتناب المقبحات تحذيرا من نزول العقوبات بين الغرض في ذلك بقوله {أن تقول نفس} أي خوف أن تقول أو حذرا من أن تقول والمعنى كراهة أن تصيروا إلى حال تقولون فيها {يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله} أي يا ندامتي على ما ضيعت من ثواب الله عن ابن عباس وقيل قصرت في أمر الله عن مجاهد والسدي وقيل في طاعة الله عن الحسن قال الفراء الجنب القرب أي في قرب الله وجواره يقال فلان يعيش في جنب فلان أي في قربه وجواره ومنه قوله تعالى والصاحب بالجنب فيكون المعنى على هذا القول على ما فرطت في طلب جنب الله أي في طلب جواره وقربه وهو الجنة وقال الزجاج أي فرطت في الطريق الذي هو طريق الله فيكون الجنب بمعنى الجانب أي قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله وروى العياشي بالإسناد عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال نحن جنب الله .
{وإن كنت لمن الساخرين} أي وإني كنت لمن المستهزءين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والقرآن وبالمؤمنين في دار الدنيا عن قتادة والسدي وقيل من الساخرين ممن يدعوني إلى الإيمان {أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين} أي فعلنا ذلك كراهة أن تقول لو أراد الله هدايتي لكنت ممن يتقي معاصيه خوفا من عقابه وقيل إنهم لما لم ينظروا في الأدلة وأعرضوا عن القرآن واشتغلوا بالدنيا والأباطيل توهموا أن الله تعالى لم يهدهم فقالوا ذلك بالظن ولهذا رد الله عليهم بقوله {بلى قد جاءتك آياتي} الآية وقيل معناه لوأن الله هداني إلى النجاة بأن يردني إلى حال التكليف لكنت ممن يتقي المعاصي عن الجبائي قال لأنهم يضطرون يوم القيامة إلى العلم بأن الله قد هداهم .
{أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين} أي لوأن لي رجعة إلى الدنيا فأكون من الموحدين المطيعين ثم قال سبحانه منكرا على هذا القائل {بلى} أي ليس كما قلت {قد جاءتك آياتي} أي حججي ودلالاتي {فكذبت بها} وأنفت من اتباعها وذلك قوله {واستكبرت وكنت من الكافرين} بها وإنما قال جاءتك وإن كانت النفس مؤنثة لأن المراد بالنفس هنا الإنسان وروي في الشواذ عن عاصم والجحدري ويحيى بن يعمر بكسر الكاف والتاءات {بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} .
_________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص407-411 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1)
{قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهً يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . هذه دعوة صريحة من اللَّه للذين جاروا على أنفسهم بارتكاب الذنوب والمعاصي ، دعوة منه تعالى إلى التوبة ، ووعد بالعفو والصفح عن كل ذنب مهما كبر وعظم ، وبهذا ترك سبحانه الباب مفتوحا أمام من يريد أن يكفّر عن سيئاته ، ويصلح ما أفسد من نفسه ، وفي الحديث : ان اللَّه لا يمل حتى تملوا ، فإذا تركتم ترك ، أي إذا تركتم التوبة ترك المغفرة . وفيه أيضا ان رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) قال : ما أحب ان لي الدنيا بما فيها بهذه الآية .
واشتهر انها أرجى آية في القرآن ، ومن الذنوب الكبار أن ييأس الإنسان من رحمة اللَّه ومَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ - 56 الحجر . وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية 48 من سورة النساء ج 2 ص 342 ، وأيضا عقدنا فصلا خاصا للتوبة في المجلد المذكور ص 275 .
{وأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} .
اغتنموا الفرصة ولا تضيعوها أيها المذنبون ، توبوا إليه تعالى وأخلصوا له في الأقوال والأفعال {واتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} . لا شيء مما أنزل اللَّه أحسن من شيء بالنسبة إليه تعالى ، فكل ما قال حسن وعظيم ، أما بالنسبة إلى المذنبين فأحسن ما نزل في حقهم هو دعوتهم إلى التوبة ، وقبولها منهم وان عظم الذنب ، وما عدا ذلك وعيد وتهديد .
ثم بيّن سبحانه ان عاقبة من أهمل التوبة من العصاة هي :
1 - {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} أي في طاعته ، والحسرة من أشد العذاب على النفس ، وبالخصوص مع عدم المهرب والمخرج .
2 - {وإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} . غدا يقول المذنب ندامة وأسفا : لم أكتف بمعصية اللَّه وإهمال التوبة حتى سخرت من أهل طاعته والخائفين من عذابه ونقمته .
3 - {أَو تَقُولَ لَو أَنَّ اللَّهً هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} . ونحوه قوله تعالى :
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوشاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا - 148 الأنعام ج 3 ص 278 .
4 - {أَو تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَو أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .
ومثله الآية 100 من سورة المؤمنون : قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ج 5 ص 388 .
(بلى) ليس الأمر كما زعمت وقلت : {لو أن اللَّه هداني} . {قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها واسْتَكْبَرْتَ وكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ} . جاءته آيات اللَّه فأنكرها ، وقال ما هي من عند اللَّه ، واستكبر عن الايمان ، وكفر باللَّه والرسول ، ثم كذب وقال : ما جاءني من اللَّه شيء على لسان نبيه ، فجمع بين مساوئ الكفر والكذب والاستكبار ، ولو بادر الفرصة إلى التوبة لكان في غنى عن ذلك وراحة من عذاب الخزي والهون .
________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص426-427 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)
في الآيات أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعوهم إلى الإسلام واتباع ما أنزل الله ويحذرهم عما يستعقبه إسرافهم على أنفسهم من الحسرة والندامة يوم لا ينفعهم ذلك مع استكبارهم في الدنيا على الحق والفوز والنجاة يومئذ للمتقين والنار والخسران للكافرين ، وفي لسان الآيات من الرأفة والرحمة ما لا يخفى .
قوله تعالى : {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} إلخ أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعوهم من قبله ويناديهم بلفظة يا عبادي وفيه تذكير بحجة الله سبحانه على دعوتهم إلى عبادتهم وترغيب لهم إلى استجابة الدعوة أما التذكير بالحجة فلأنه يشير إلى أنهم عباده وهو مولاهم ومن حق المولى على عبده أن يطيعه ويعبده فله أن يدعوه إلى طاعته وعبادته ، وأما ترغيبهم إلى استجابة الدعوة فلما فيه من الإضافة إليه تعالى الباعث لهم إلى التمسك بذيل رحمته ومغفرته .
وقوله : {الذين أسرفوا على أنفسهم} الإسراف - على ما ذكره الراغب - تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر ، وكان الفعل مضمن معنى الجناية أو ما يقرب منها ولذا عدي بعلى والإسراف على النفس هو التعدي عليها باقتراف الذنب أعم من الشرك وسائر الذنوب الكبيرة والصغيرة على ما يعطيه السياق .
وقال جمع : إن المراد بالعباد المؤمنون وقد غلب استعماله فيهم مضافا إليه تعالى في القرآن فمعنى يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم أيها المؤمنون المذنبون .
ويدفعه أن قوله : {يا عبادي الذين أسرفوا} إلى تمام سبع آيات ذو سياق واحد متصل يفصح عن دعوتهم وقوله في ذيل الآيات : {بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت} إلخ كالصريح أو هو صريح في شمول العباد للمشركين .
وما ورد في كلامه تعالى من لفظ {عبادي} والمراد به المؤمنون بضعة عشر موردا جميعها محفوفة بالقرينة وليس بحيث ينصرف عند الإطلاق إلى المؤمنين كما أن الموارد التي أطلق فيها وأريد به الأعم من المشرك والمؤمن في كلامه كذلك .
وبالجملة شمول {عبادي} في الآية للمشركين لا ينبغي أن يرتاب فيه ، والقول بأن المراد به المشركون خاصة نظرا إلى سياق الآيات كما نقل عن ابن عباس أقرب إلى القبول من تخصيصه بالمؤمنين .
وقوله : {لا تقنطوا من رحمة الله} القنوط اليأس ، والمراد بالرحمة بقرينة خطاب المذنبين ودعوتهم هو الرحمة المتعلقة بالآخرة دون ما هي أعم الشاملة للدنيا والآخرة ومن المعلوم أن الذي يفتقر إليه المذنبون من شئون رحمة الآخرة بلا واسطة هو المغفرة فالمراد بالرحمة المغفرة ولذا علل النهي عن القنوط من الرحمة بقوله : {إن الله يغفر الذنوب جميعا} .
وفي الآية التفات من التكلم إلى الغيبة حيث قيل : {إن الله يغفر} ولم يقل : إني أغفر وذلك للإشارة إلى أنه الله الذي له الأسماء الحسنى ومنها أنه غفور رحيم كأنه يقول لا تقنطوا من رحمتي فإني أنا الله أغفر الذنوب جميعا لأن الله هو الغفور الرحيم .
وقوله : {إن الله يغفر الذنوب جميعا تعليل للنهي عن القنوط وإعلام بأن جميع الذنوب قابلة للمغفرة فالمغفرة عامة لكنها تحتاج إلى سبب مخصص ولا تكون جزافا ، والذي عده القرآن سببا للمغفرة أمران : الشفاعة 1 والتوبة لكن ليس المراد في قوله : {إن الله يغفر الذنوب جميعا} المغفرة الحاصلة بالشفاعة لأن الشفاعة لا تنال الشرك بنص القرآن في آيات كثيرة وقد مر أيضا أن قوله : {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء : 48] ناظر إلى الشفاعة والآية أعني قوله : {إن الله يغفر الذنوب جميعا} موردها الشرك وسائر الذنوب .
فلا يبقى إلا أن يكون المراد المغفرة الحاصلة بالتوبة وكلامه تعالى صريح في مغفرة الذنوب جميعا حتى الشرك بالتوبة .
على أن الآيات السبع - كما عرفت - كلام واحد ذو سياق واحد متصل ينهى عن القنوط – وهو تمهيد لما يتلوه - ويأمر بالتوبة والإسلام والعمل الصالح وليست الآية الأولى كلاما مستقلا منقطعا عما يتلوه حتى يحتمل عدم تقييد عموم المغفرة فيها بالتوبة وأي سبب آخر مفروض للمغفرة .
والآية أعني قوله : {إن الله يغفر الذنوب جميعا} من معارك الآراء بينهم فقد ذهب قوم إلى تقييد عموم المغفرة فيها بالشرك وسائر الكبائر التي وعد الله عليها النار مع عدم تقييد العموم بالتوبة فالمغفرة لا تنال إلا الصغائر من الذنوب .
وذهب آخرون إلى إطلاق المغفرة وعدم تقيدها بالتوبة ولا بسبب آخر من أسباب المغفرة غير أنهم قيدوها بالشرك لصراحة قوله : {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} الآية فاستنتجوا عموم المغفرة وإن لم يكن هناك سبب مخصص يرجح المذنب المغفور له على غيره في مغفرته كالتوبة والشفاعة وهي المغفرة الجزافية وقد استدلوا على (2) ذلك بوجوه غير سديدة .
وأنت خبير بأن مورد الآية هو الشرك وسائر الذنوب ، ومن المعلوم من كلامه تعالى أن الشرك لا يغفر إلا بالتوبة فتقيد إطلاق المغفرة في الآية بالتوبة مما لا مفر منه .
قوله تعالى : {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون} عطف على قوله : {لا تقنطوا} ، والإنابة إلى الله الرجوع إليه وهو التوبة ، وقوله : {إلى ربكم} من وضع الظاهر موضع المضمر وكان مقتضى الظاهر أن يقال : وأنيبوا إليه والوجه فيه الإشارة إلى التعليل فإن الملاك في عبادة الله سبحانه صفة ربوبية .
والمراد بالإسلام التسليم لله والانقياد له فيما يريد ، وإنما قال : {وأسلموا له} ولم يقل : وآمنوا به لأن المذكور قبل الآية وبعدها استكبارهم على الحق والمقابل له الإسلام .
وقوله : {من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون} متعلق بقوله : {أنيبوا وأسلموا} والمراد بالعذاب عذاب الآخرة بقرينة الآيات التالية ، ويمكن على بعد أن يراد مطلق العذاب الذي لا تقبل معه التوبة ومنه عذاب الاستئصال قال تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر : 85] .
والمراد بقوله : {ثم لا تنصرون} أن المغفرة لا تدرككم بوجه لعدم تحقق سببها فالتوبة مفروضة العدم والشفاعة لا تشمل الشرك .
قوله تعالى : {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون} الخطاب عام للمؤمن والكافر كالخطابات السابقة والقرآن قد أنزل إلى الفريقين جميعا .
وفي الآية أمر باتباع أحسن ما أنزل من الله قيل : المراد به اتباع الأحكام من الحلال والحرام دون القصص ، وقيل : اتباع ما أمر به ونهي عنه كإتيان الواجب والمستحب واجتناب الحرام والمكروه دون المباح ، وقيل : الاتباع في العزائم وهي الواجبات والمحرمات ، وقيل : اتباع الناسخ دون المنسوخ ، وقيل : ما أنزل هو جنس الكتب السماوية وأحسنها القرآن فاتباع أحسن ما أنزل وهو اتباع القرآن .
والإنصاف أن قوله في الآية السابقة : {وأسلموا له} يشمل مضمون كل من هذه الأقوال فحمل قوله : {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم} على شيء منها لا يخلو عن تكرار من غير موجب .
ولعل المراد من أحسن ما أنزل الخطابات التي تشير إلى طريق استعمال حق العبودية في امتثال الخطابات الإلهية الاعتقادية والعملية وذلك كالخطابات الداعية إلى ذكر الله تعالى بالاستغراق وإلى حبه وإلى تقواه حق تقاته وإلى إخلاص الدين له فإن اتباع هذه الخطابات يحيي الإنسان حياة طيبة وينفخ فيه روح الإيمان ويصلح أعماله ويدخله في ولاية الله تعالى وهي الكرامة ليست فوقها كرامة .
وقوله : {من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون} أنسب لهذا المعنى فإن الدعوة إلى عمل بالتخويف من مفاجأة الحرمان ومباغتة المانع إنما تكون غالبا فيما يساهل المدعو في أمره ويطيب نفسه بسوف ولعل ، وهذا المعنى أمس بإصلاح الباطن منه بإصلاح الظاهر والإتيان بأجساد الأعمال ، ويقرب منه قوله تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال : 24] .
قوله تعالى : {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} إلخ قال في المجمع ، : التفريط إهمال ما يجب أن يتقدم فيه حتى يفوت وقته ، وقال : التحسر الاغتمام مما فات وقته لانحساره عنه بما لا يمكن استدراكه .
انتهى .
وقال الراغب : الجنب الجارحة .
قال : ثم يستعار في الناحية التي تليها لعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال .
انتهى .
فجنب الله جانبه وناحيته وهي ما يرجع إليه تعالى مما يجب على العبد أن يعامله ومصداق ذلك أن يعبده وحده ولا يعصيه والتفريط في جنب الله التقصير في ذلك .
وقوله : {وإن كنت لمن الساخرين} {إن} مخففة من الثقيلة ، والساخرين اسم فاعل من سخر بمعنى استهزأ .
ومعنى الآية إنما نخاطبكم بهذا الخطاب حذر أن تقول أولئلا تقول نفس منكم يا حسرتا على ما قصرت في جانب الله وإني كنت من المستهزءين ، وموطن القول يوم القيامة .
قوله تعالى : {أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين} ضمير تقول للنفس ، والمراد بالهداية الإرشاد وإراءة الطريق ، والمعنى ظاهر وهو قطع للعذر .
قوله تعالى : {أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين} لو للتمني والكرة الرجعة ، والمعنى أو تقول نفس متمنية حين ترى العذاب يوم القيامة : ليت لي رجعة إلى الدنيا فأكون من المحسنين .
قوله تعالى : {بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} رد لها وجواب لخصوص قولها ثانيا : {لو أن الله هداني لكنت من المتقين} ومواطن الجواب يوم القيامة كما أن موطن القول ذلك ولسياق الجواب شهادة عليه .
وقد فصل بين قولها وجوابه بقوله : {أو تقول حين ترى} إلخ ولم يجب إلا عن قولها : {لو أن الله هداني} إلخ .
والوجه في الفصل أن الأقوال الثلاثة المنقولة عنها مرتبة على ترتيب صدورها عن المجرمين يوم القيامة فإذا قامت القيامة ورأى المجرمون أن اليوم يوم الجزاء بالأعمال وقد فرطوا فيها وفاتهم وقتها تحسروا على ما فرطوا ونادوا بالحسرة على تفريطهم {يا حسرتا على ما فرطت} قال تعالى : {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } [الأنعام : 31] .
ثم إذا حوسبوا وأمر المتقون بدخول الجنة وقيل : {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [يس : 59] تعللوا بقولهم : {لو أن الله هداني لكنت من المتقين} .
ثم إذا أمروا بدخول النار فأوقفوا عليها ثم أدخلوا فيها تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليحسنوا فيها فيسعدوا {أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة} قال تعالى : {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام : 27] ، وقال حاكيا عنهم : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون : 107] .
ثم لما نقل الأقوال على ما بينها من الترتيب أخذ في الجواب ولو أخر القول المجاب عنه حتى يتصل بالجواب أو قدم الجواب حتى يتصل به اختل النظم (3) .
وقد خص قولهم الثاني : {لو أن الله هداني} إلخ بالجواب وأمسك عن جواب قولهم الأول والثالث لأن في الأول حديث استهزائهم بالحق وأهله وفي الثالث تمنيهم للرجوع إلى الدنيا والله سبحانه يزجر هؤلاء يوم القيامة ويمنعهم أن يكلموه ولا يجيب عن كلامهم كما يشير إلى ذلك قوله : {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون : 106 - 111] .
______________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص226-231 .
2- وقد استدل الالوسي في روح المعاني على عدم تقيد اطلاق المغفرة في الآية بالتوبة بسبعة عشر وجهاً لا تغني طائلا وناقش في كون المغفرة عن سبب مرجح من التوبة وغيرها منافيا للحكمة ثم قيد الآية بتقدير (لمن يشاء) لوقوعه في بعض القراءات غير المشهورة فراجعه ان شئت .
3- واصل الوجه مأخوذ من تفسير ابي السعود بإصلاح منا .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)
إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً (عليهم السلام)
بعد التهديدات المتكررة التي وردت في الآيات السابقة بشأن المشركين والظالمين ، فإنّ آيات بحثنا فتحت الأبواب أمام المذنبين وأعطتهم الأمل ، لأنّ الهدف الرئيسي من كلّ هذه الأمور هو التربية والهداية وليس الإنتقام والعنف ، فبلهجة مملوءة باللطف والمحبة يفتح الباريء أبواب رحمته أمام الجميع ويصدر أوامر العفو عنهم ، عندما يقول : {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً} .
التدقيق في عبارات هذه الآية يبيّن أنّها من أكثر آيات القرآن الكريم التي تعطي الأمل للمذنبين ، فشموليتها وسعتها وصلت إلى درجة قال بشأنّها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) : «ما في القرآن آية أوسع من يا عبادي الذين أسرفوا . . .» (2) .
والدليل على ذلك واضح من وجوه :
1 ـ التعبير بـ (يا عبادي) هي بداية لطف الباريء عزّوجلّ .
2 ـ التعبير بـ (إسراف)بدلا من (الظلم والذنب والجريمة) هو لطف آخر .
3 ـ التعبير بـ (على أنفسهم) يبيّن أنّ ذنوب الإنسان تعود كلّها عليه ، وهذا التعبير هو علامة اُخرى من علامات محبّة الله لعباده ، وهو يشبه خطاب الأب الحريص لولده ، عندما يقول : لا تظلم نفسك أكثر من هذا!
4 ـ التعبير بـ (لا تقنطوا)مع الأخذ بنظر الاعتبار أن «القنوط» يعني ـ في الأصل ـ اليأس من الخير ، فإنّها لوحدها دليل على أن المذنبين يجب أن لا يقنطوا من اللطف الإلهي .
5 ـ عبارة (من رحمة الله) التي وردت بعد عبارة (لا تقنطوا) تأكيد آخر على هذا الخير والمحبّة .
6 ـ عندما نصل إلى عبارة (إنّ الله يغفر الذنوب) التي بدأت بتأكيد ، وكلمة «الذنوب» التي جمعت بالألف واللام تشمل كلّ الذنوب من دون أيّ استثناء ، فإنّ الكلام يصل إلى أوجه ، وعندها تتلاطم أمواج بحر الرحمة الالهية .
7 ـ إنّ ورود كلمة (جميعاً) كتأكيد آخر للتأكيد السابق يوصل الإنسان إلى أقصى درجات الأمل .
8 و9 ـ وصف الباريء عزّوجلّ بالغفور والرحيم في آخر الآية ، وهما وصفان من أوصاف الله الباعثة على الأمل ، فلا يبقى عند الإنسان أدنى شعور باليأس أو فقدان الأمل .
نعم ، لهذا السبب فإنّ الآية المذكورة أعلاه من أوسع وأشمل آيات القرآن المجيد ، حيث تعطي الأمل بغفران كلّ أنواع الذنوب ، ولهذا السبب فإنّها تبعث الأمل في النفوس أكثر من بقية الآيات القرآنية . وحقّاً ، فإنّ الذي لانهاية لبحر لطفه ، وشعاع فيضه غير محدود ، لا يتوقع منه أقل من ذلك .
وقد شغلت أذهان المفسّرين مسألتان ، رغم أن حلهما كامنة في هذه الآية والآية التي تليها :
الأولى : هل أنّ عمومية الآية تشمل كّل الذنوب حتّى الشرك والذنوب الكبيرة الأُخرى ، فإذا كان كذلك فلم تقول الآية (48) من سورة النساء : إنّ الشرك من الذنوب التي لا تغتفر {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء : 48] .
والثّانية : هل أنّ الوعد الذي أعطاه الله بغفران الذنوب مطلق أم مشروط بالتوبة ونظير ذلك؟
وبالطبع فإنّ السؤال الأوّل مرتبط بالسؤال الثّاني ، والجواب عليهما سيتّضح خلال الآيات التالية بصورة جيدة ، لأنّ هناك ثلاثة أوامر وردت في الآيات التالية وضحت كلّ شيء {انيبوا إلى ربّكم} والثّانية {وأسلموا له} والثّالثة {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم} .
هذه الأوامر الثّلاثة تقول : إنّ أبواب المغفرة والرحمة مفتوحة للجميع من دون أي استثناء ، ولكن شريطة أن يعودوا إلى أنفسهم بعد ارتكاب الذنب ، ويتوجهوا في مسيرهم نحو الباريء عزّوجلّ ، ويستسلموا لأوامره ، ويظهروا صدق توبتهم وأنابتهم بالعمل ، وبهذا الشكل فلا الشرك مستثنى من المغفرة ولا غيره ، وكما قلنا فإنّ هذا العفو العام والرحمة الواسعة مشروطان بشروط لا يمكن تجاهلها .
وإذا كانت الآية (48) من سورة النساء تستثني المشركين من هذا العفو والرحمة ، فإنّها تقصد المشركين الذين ماتوا على شركهم ، وليس أُولئك الذين صحوا من غفلتهم واتبعوا سبيل الله ، لأنّ أكثر مسلمي صدر الإسلام كانوا كذلك ، أي أنّهم تركوا عبادة الأصنام والشرك بالله ، وآمنوا بالله الواحد القهار بعد دخولهم الدين الإسلامي .
اذا طالعنا الحالة النفسية عند الكثير من المجرمين بعد ارتكابهم للذنب الكبير ، نرى أن حالة من الألم والندم تصيبهم بحيث لا يتصورون بقاء طريق العودة مفتوحاً أمامهم ، ويعتبرون أنفسهم ملوثين بشكل لا يمكن تطهيره ، ويتسألون : هل من الممكن أن تغفر ذنوبنا؟ وهل أن الطريق إلى الله مفتوح أمامنا؟ وهل بقي خلفنا جسر غير مدمّر؟
إنّهم يدركون معنى الآية جيداً ، ومستعدون للتوبة ، ولكنّهم يتصورون استحالة غفران ذنوبهم ، خاصّة إذا كانوا قد تابوا مرات عديدة من قبل ثمّ عادوا إلى إرتكاب الذنب مرّة اُخرى .
هذه الآية تعطي الأمل للجميع في أنّ طريق العودة والتوبة مفتوح أمامهم . لذا فإنّ (وحشي) المجرم المعروف في التأريخ الإسلامي والذي قتل حمزة سيد الشهداء (عليه السلام) ، كان خائفاً من عدم قبول توبته ، لأنّ ذنبه كان عظيماً ، مجموعة من المفسّرين قالوا : إن هذه الآية عندما نزلت على الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) فتحت أبواب الرحمة الإلهية أمام وحشي التائب وأمثاله!
ولكن لا يمكن أن تكون هذه الحادثة سبب نزول هذه الآية ، لأن هذه السورة من السور المكّية ، ولم تكن معركة أحد قد وقعت يوم نزول هذه الآيات ، ولم تكن أيضاً قصة شهادة حمزة ولا توبة وحشي ، وإنّما هي من قبيل تطبيق قانون عام على أحد المصاديق ، وعلى أية حال فإنّ شمول معنى الآية يمكن أن يشخص هذا المعنى .
يتضح ممّا تقدم أنّ إصرار بعض المفسّرين كالآلوسي في تفسيره (روح المعاني) على أنّ الوعد بالمغفرة الذي ورد في الآية المذكورة أعلاه ليس مشروطاً بشيء غير صحيح ، حتّى أنّ الأدلّة السبعة عشر التي ذكرها بشأن هذا الموضوع غير مقبولة ، لأنّ فيها تعارضاً واضحاً مع الآيات التالية ، والكثير من هذه الأدلة السبعة عشر يمكن ادغامها في بعضها البعض ، ولا يفهم منها سوى أنّ رحمة الله واسعة تشمل حتّى المذنبين ، وهذا لا يتعارض مع كون الوعد الإلهي مشروطاً ، بقرائن الآيات التالية ، وسيأتي مزيد بحث في نهاية هذا البحث . ترشد المجرمين والمذنبين على أبواب الدخول إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع إذ تقول : (وانيبوا إلى ربّكم) واصلحوا أُموركم ومسير حياتكم (واسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثمّ لا تنصرون) .
بعد طي هاتين المرحلتين «الإنابة» و«التسليم» ، تتحدث الآية عن المرحلة الثّالثة وهي مرحلة (العمل) ، إذ تقول : {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون} .
وبهذا الشكل فإنّ مسيرة الوصول إلى الرحمة الإلهية لا تتعدى هذه الخطوات الثلاث :
الخطوة الأُولى : التوبة والندم على الذنب والتوجه إلى الله تعالى .
الخطوة الثّانية : الإيمان بالله والإستسلام له .
الخطوة الثّالثة : العمل الصالح .
فبعد طي هذه المراحل الثلاث يكون الإنسان قد دخل إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع طبقا لوعد الله المؤكد مهما كان ذلك الإنسان مثقلا بالذنوب .
أمّا بشأن المراد من {اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم} فقد ذكر المفسّرون تفسيرات متعددة . والتّفسير الذي هو أفضل من البقية هو أنّ أوامر متعددة ومختلفة نزلت من عند الباريء عزّوجلّ ، البعض منها واجب والآخر مستحبّ ، والبعض الآخر مباح ، والمراد من (أحسن) هو انتخاب الواجبات والمستحبات ، مع الإنتباه إلى تدرّجها .
وقال البعض : إنّه إشارة إلى كون القرآن هو أحسن الكتب السماوية النازلة ، بدليل ما ورد في الآية (23) من هذه السورة الزمر {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } [الزمر : 23] . وبالطبع فإنّه لا يوجد هناك أي تعارض بين التّفسيرين .
وقوله تعالى : { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَو تَقُولَ لَو أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَو تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَو أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}
الندم لا ينفع في ذلك اليوم :
الآيات السابقة أكّدت على التوبة وإصلاح الذات وإصلاح الأعمال السابقة ، وآيات بحثنا الحالي تواصل التطرق لذلك الموضوع ، ففي البداية تقول : (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين)(3) .
«يا حسرتا» : هي في الأصل (يا حسرتي) ، (حسرة أضيفت إليها ياء المتكلم) ، والتحسر معناه الحزن ممّا فات وقته لا نحساره ممّا لا يمكن استدراكه .
ويرى الراغب في مفرداته (يا حسرتا) من مادة (حسر) على وزن (حبس) وتعني التعري والتجرد من الملابس ، وبما أن الندم والحزن على ما مضى بمنزلة زوال حجب الجهل ، فلا اطلاق على هذه الموارد .
نعم ، فعندما يرد الانسان إلى ساحة المحشر ، ويرى بأُمّ عينيه نتائج إفراطه وإسرافه ومخالفته واتخاذه الأمور الجدية هزواً ولعباً ، يصرخ فجأة (واحسرتاه) إذ يمتلىء قلبه في تلك اللحظات بغمّ كبير مصحوب بندم عميق ، وهذه الحالة النفسية التي وردت في الآيات المذكورة .
أما فيما يخصّ معنى (جنب الله) هنا؟ فإنّ المفسّرين ذكروا تفاسير ومعاني كثيرة لها . وكلمة (جنب) تعني في اللغة «الخاصرة» ، كما تطلق على كلّ شيء يستقر إلى جانب شيء آخر ، مثلما أن اليمين واليسار يعنيان الطرف الأيمن والأيسر للجسم ، ثمّ يقال لكل شيء في يسار أو يمين الجسم ، وهنا (جنب الله)تعني أن الأُمور ترجع إلى جانب الله ، فأوامره وإطاعته والتقرب إليه ، والكتب السماوية كلها نزلت من جانبه ، وكلها مجموعة في هذا المعنى .
وبهذا الترتيب فإنّ المذنبين يكشفون في ذلك اليوم عن ندامتهم وحسرتهم وأسفهم على تقصيرهم وتفريطهم تجاه الله سبحانه وتعالى ، خاصة فيما يتعلق بسخريتهم واستهزائهم بآيات الله ورسله ، لأنّ السبب الرئيسي لتفريطهم هو العبث والسخرية من هذه الحقائق الكبيرة بدافع الجهل والغرور والتعصب .
ثمّ تضيف الآية {أو تقول لو أنّ الله هداني لكنت من المتقين} .
يبدو أنّ هذا الكلام يقوله الكافر عندما يوقف أمام ميزان الحساب ، حيث يرى البعض يقادون إلى الجنّة وهم محملون بأعمالهم الحسنة ، وهنا يتمنى الكافر لو أنّه كان أحد هؤلاء المتوجهين إلى جنّة الخلد .
وتضيف الآية مرّة اُخرى {أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين} .
وهذا ما يقوله الكافر ـ أيضاًـ حينما تقوده الملائكة الموكلة بالنّار نحو جهنم ، وترى عيناه نار جهنم ومنظر العذاب الأليم فيها ، وهنا يتأوه من أعماق قلبه ويتوسل لكي يسمح له بالعودة مرّة اُخرى إلى الحياة الدنيا ليطهر نفسه من الأعمال السيئة والقبيحة بأعمال صالحة تهيئه وتعده للوقوف في صفوف المحسنين والصالحين .
والملاحظ أنّ كلّ عبارة من هذه العبارات الثلاث يقولها المجرمون عند مشاهدة مشهد معين من عذاب يوم القيامة الرهيب .
حيث أنّهم يتحسرون على ما فرطوا في جنب الله فور دخولهم ساحة المحشر .
ويتمنون لو أنّهم فازوا بما فاز به المتقين ، عندما يرون الثواب الجزيل الذي أغدقه الباريء عزّوجلّ على عباده المتقين .
ويتوسلون إلى الباريء عزّوجلّ ليعيدهم إلى الحياة الدنيا ليصلحوا ماضيهم الفاسد ، عندما يرون العذاب الإلهي الأليم .
القرآن المجيد يردّ على القول الثّاني من بين الأقوال الثلاثة إذ يقول : {بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} (4) .
إنّ قولك : لو كانت الهداية قد شملتني لأصبحت من المتقين ، فما هي الهداية الإلهية؟ هل هي غير الكتب السماوية ورسل الله ، وآياته وعلاماته الصادقة في الآفاق والأنفس؟! إنّك سمعت بأذنيك وشاهدت بعينيك كلّ هذه الآيات ، فما كان ردّ فعلك إزاءها غير التكذيب والتكبر والكفر!
فهل يمكن أن يعاقب الباريء عزّوجلّ أحداً من دون أن يتمّ حجّته عليه ؟ وهل كان هناك فرق بينك وبين الذين اهتدوا إلى طريق الحق من حيث المناهج التربوية الإلهية التي أُعدّت لكم ولهم ؟ لهذا فأنت المقصر الرئيسي ، وأنت بنفسك جلبت اللعنة إليك!
فمن بين تلك الأعمال الثلاثة يعد (الاستكبار) الجذر الرئيسي ، ومن بعد يأتي التكذيب بآيات الله ، وحصيلة الاثنين هو الكفر وعدم الإيمان .
ولكن لماذا لم يجيب القرآن على القول الأول ؟
الجواب : لأنّ هناك حقيقة لا مناص منها ، وهي أنّهم يجب أن يتحسروا ويغرقوا في الغم والهم .
وأما بشأن قولهم الثّالث الذي يتوسلون فيه إلى الباريء عزّوجلّ كي يسمح لهم بالعودة إلى الحياة الدنيا ، فإنّ القرآن الكريم يجيبهم في عدّة آيات منها الآية (28) من سورة الأنعام : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام : 28] والآية (100) من سورة المؤمنون ، ولا حاجة لتكرار تلك الأجوبة .
والملاحظ هنا أنّ الرد على قولهم الثّاني ، يمكن أن يكون في الوقت نفسه إجابة على السؤال الثّالث أيضاً ، لأنّهم ماذا يهدفون من عودتهم إلى الحياة الدنيا؟ هل أنّه أمر آخر غير إتمام الحجة ، في حين أنّ الباريء عزّوجلّ أتمّ الحجة عليهم بصورة كاملة لا نقص فيها ، فانتباه المجرمين من غفلتهم فور مشاهدتهم للعذاب ، إنّما هو نوع من اليقظة الاضطرارية التي لا يبقى لها أي أثر عندما يعودون إلى حالتهم الطبيعية . حقاً إنّه نفس الموضوع الذي يشير إليه القرآن الكريم بشأن الكافرين والمشركين الذين يدعون الله مخلصين له الدين عندما يبتلون بخطر ما في وسط البحر المتلاطم الأمواج ، ثمّ ينسون الله بمجرّد أن ينجيهم ويوصلهم بسلام إلى ساحل النجاة { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت : 65] .
_________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج11 ، ص539-550 .
2 ـ مجمع البيان وتفسير القرطبي وتفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث .
3 ـ في بداية الآية عبارة تتعلق بالآيات السابقة ، ويكون التقدير (لئلا تقول نفس) أو(حذراً أن تقول نفس) وفي الحالة الثانية تكون مفعولا له لعبارة (أنيبوا واسلموا واتبعوا) . (إن) في عبارة (وإن كنت لمن الساخرين) مخففة من الثقيلة إذ أنّها كانت في الأصل ، (إنّي كنت من الساخرين) .
4 ـ رغم أنّ المتحدّث هي النفس وهي مؤنث ، وأنّ القرآن أورد أوصافها وأفعالها بصيغة المؤنث في آياته ، ولكن في هذه الآية ورد ضمير (كذبت) وما بعدها بصيغة المذكر ، وذلك لأنّ المقصود هنا هو الإنسان ، وقد قال البعض : إنّ (النفس) يمكن أن تأتي بصيغتي المذكر والمؤنث .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
العتبة الحسينية تطلق فعاليات المخيم القرآني الثالث في جامعة البصرة
|
|
|