أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-4-2020
3768
التاريخ: 1-5-2020
5538
التاريخ: 27-4-2020
4459
التاريخ: 1-5-2020
12864
|
قال تعالى : {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَو كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر : 25 - 31]
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1)
أخبر سبحانه عن أمثال هؤلاء الكفار من الأمم الماضية فقال {كذب الذين من قبلهم} ب آيات الله وجحدوا رسله {فأتاهم العذاب} عاجلا {من حيث لا يشعرون} أي وهم آمنون غافلون .
ثم أخبر سبحانه عما فعله بالأمم المكذبة بأن قال {فأذاقهم الله الخزي} أي الذل والهوان {في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر} أي أعظم وأشد {لو كانوا يعلمون ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} سمي ذكر الأمم الماضية مثلا كما قال ونبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال والمعنى إنا وصفنا وبينا للناس في هذا القرآن كلما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم {لعلهم يتذكرون} أي لكي يتذكروا ويتدبروا فيعتبروا {قرآنا عربيا غير ذي عوج} أي غير ذي ميل عن الحق بل هو مستقيم موصل إلى الحق {لعلهم يتقون} أي لكي يتقوا معاصي الله .
ثم ضرب سبحانه مثلا للكافر وعبادته الأصنام فقال{ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون} أي مختلفون سيئو الأخلاق متنازعون وإنما ضرب هذا المثل لسائر المشركين ولكنه ذكر رجلا واحدا وصفه بصفة موجودة في سائر المشركين فيكون المثل المضروب له مضروبا لهم جميعا ويعني بقوله {رجلا فيه شركاء} أي يعبد آلهة مختلفة وأصناما كثيرة وهم متشاجرون متعاسرون هذا يأمره وهذا ينهاه ويريد كل واحد منهم أن يفرده بالخدمة ثم يكل كل منهم أمره إلى الآخر ويكل الآخر إلى الآخر فيبقى هو خاليا عن المنافع وهذا حال من يخدم جماعة مختلفة الآراء والأهواء هذا مثل الكافر .
ثم ضرب سبحانه مثل المؤمن الموحد فقال {ورجلا سلما لرجل} أي خالصا يعبد مالكا واحدا لا يشوب بخدمته خدمة غيره ولا يأمل سواه ومن كان بهذه الصفة نال ثمرة خدمته لا سيما إذا كان المخدوم حكيما قادرا كريما وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن علي (عليه السلام) أنه قال أنا ذاك الرجل السلم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وروى العياشي بإسناده عن أبي خالد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال الرجل السلم للرجل حقا علي وشيعته .
{هل يستويان مثلا} أي هل يستوي هذان الرجلان صفة وشبها في حسن العاقبة وحصول المنفعة أي لا يستويان فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وحياطته ما لا يستحقه صاحب الشركاء المختلفين في أمره وتم الكلام .
ثم قال {الحمد لله} أي أحمد والله المستحق للثناء والشكر على هذا المثل الذي علمكموه فأزال به للمؤمنين الشبه وأوضح الدلالة وقيل معناه احمدوا الله حيث لطف بكم حتى عبدتموه وحده وأخلصتم الإيمان له والتوحيد فهي النعمة السابغة {بل أكثرهم لا يعلمون} حقيقة ذلك .
ثم بين سبحانه المقام الذي يتبين فيه المحق والمبطل فقال {إنك ميت وإنهم ميتون} أي عاقبتك الموت وكذا عاقبة هؤلاء {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} يعني المحق والمبطل والظالم والمظلوم عن ابن عباس وكان أبو العالية يقول الاختصام يكون بين أهل القبلة قال ابن عمر كنا نرى أن هذه الآية فينا وفي أهل الكتابين وقلنا كيف نختصم نحن ونبينا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعلمت أنها فينا نزلت وقال أبوسعيد الخدري في هذه الآية كنا نقول ربنا واحد ونبينا واحد وديننا واحد فما هذه الخصومة فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا وقال ابن عباس الاختصام يكون بين المهتدين والضالين والصادقين والكاذبين .
_________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص396-398 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1)
{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ولَعَذابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَو كانُوا يَعْلَمُونَ} . ضمير قبلهم يعود إلى مشركي مكة الذين كذبوا رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) ، وتقول لهم الآية :
أتكذّبون نبيكم محمدا ، ولا تعتبرون بما أصاب الأمم الماضية من الهلاك لأنهم كذبوا أنبياءهم ؟ وتكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية 148 من سورة الأنعام ج 3 ص 278 {ولَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . حوى القرآن من التعاليم ما يكفل للناس حياة طيبة آمنة في كل عصر وقطر ، فقد بيّن لهم ما فيه الخير والصلاح وأمرهم به ، وما فيه الشر والفساد ونهاهم عنه بأساليب متنوعة ، وأمثال واضحة ليتعظوا ويستقيموا . وتقدم مثله في الآية 54 من سورة الكهف ج 5 ص 139 والآية 58 من سورة الروم .
ترجمة القرآن :
{قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . القرآن عربي لغة ، وإنساني دينا ومبدأ لا يحده زمان ومكان ، ولا قومية وعنصرية : وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً ونَذِيراً - 28 سبأ ، وهو مستقيم في مبناه ومحتواه ، لا لبس فيه ولا انحراف لأنه من لدن عليم حكيم يهدف إلى هداية الناس وإرشادهم إلى جادة الحق وصراطه القويم . وتقدم مثله في الآية 2 من سورة يوسف ج 4 ص 286 والآية 37 من سورة الرعد والآية 20 من سورة طه .
وتسأل : هل تجوز ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية ؟ ومع الجواز هل تجري احكام القرآن على ترجمته فلا يمسها إلا المطهرون ؟
الجواب : لا شبهة ولا ريب في جواز ترجمة القرآن إلى كل اللغات ، بل ورجحانها أيضا لأن القرآن هو رسالة اللَّه والإسلام إلى الإنسانية كلها ، والترجمة عامل أساسي على بث هذه الرسالة الإلهية المحمدية وانتشارها . . وقد أسلم جماعة أو عرفوا حقيقة الإسلام عن طريق ترجمة القران ، وبالأمس القريب أسلمت فتاة انكليزية مثقفة بعد أن قرأت ترجمة معاني القرآن إلى لغتها . انظر فقرة (الإسلام وفتاة انكليزية) عند تفسير الآية 68 من سورة ص .
وتجدر الإشارة إلى أن القرآن مترجم إلى 27 لغة ، وأول ترجمة له كانت سنة 1143 ميلادية ( مجلة اللسان العربي . (الرباط) عدد كانون الثاني 1969 ) .
وأيضا لا شك ان ترجمة القرآن لا تجري عليها أحكام القرآن . أولا لأن العربية من خصائص القرآن ومقوماته : {إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} - 2 يوسف .
فإذا زالت عنه هذه الصفة تبعتها الصفة القرآنية حتما . ثانيا ان الترجمة في واقعها انما هي لمعاني القرآن ، لا للقرآن بالذات . وبكلام أوضح ان القرآن عبارة عن الفصاحة العربية ومعانيه الحقيقية ، وكل منهما جزء متمم للآخر بالنسبة إلى القرآن ، فإذا زال أحد الجزئين ذهبت جنسية القرآن ، وأصبح الجزء الباقي شيئا غير القرآن . .
وعليه يكون حكم ترجمته تماما كحكم تفسيره . . أجل ، ان حكم اسم اللَّه تعالى وصفاته هو حكم القرآن بالذات يحرم مسه ومسها على غير المطهرين مهما كانت اللغة .
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ورَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا} ؟ هذا المثل ضربه سبحانه للمشركين المكذبين برسالة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ، وتوضيحه ان المشرك الذي يعبد أكثر من واحد هو أشبه بعبد مملوك لجماعة مختلفين في الرأي والأخلاق ، ولا يتفقون على شيء ، وكل واحد منهم يطلب من العبد ما يناقض طلب الآخر ، ولا يستطيع العبد تلبية الجميع وارضاءهم ، وفي الوقت نفسه لا يريد أن يغضب واحدا منهم ، فهو معهم أبدا ودائما تائه في فكره وحائر في أمره لا يدري ما ذا يصنع ؟
أما المؤمن الموحد فهو أشبه بعبد يمتلكه رجل واحد ولا يطلب منه إرضاء أحد سوى مولاه الحكيم فيما يأمر وينهى ، وقد استراح كل منهما للآخر ، فالسيد لا يكلف العبد ما لا يطيق ، والعبد يسمع ويطيع ، وهو طيب النفس لأنه على يقين من مرضاة مولاه . . فهل هذا الرجل الذي هو سلم لمولاه الواحد الحكيم ولا يخضع إلا له وحده ، وذاك الرجل الذي يطلب منه أن يخضع ويطيع الرعناء المتشاكسين هل هما سواء ؟ كلا : {أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} - 39 يوسف .
{الحمد للَّه} الذي عزز دينه ورسوله بالحجج الدامغة والبينات الواضحة ، وخذل أعداءه المبطلين وردهم على أعقابهم خاسئين {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ان المشرك كالعبد المملوك الرعناء متشاكسين ( انك ميت - يا محمد – وانهم ميتون ) لأن الموت نهاية كل حي نبيا كان أو غير نبي ، ولا يبقى إلا وجهه الكريم ، جلت عظمته ، ولكن أعداء محمد (صلى الله عليه واله وسلم) يموتون موت الكفر والجهل ، ولا يبقى لهم من أثر إلا الذم واللعن ، أما رسالة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) فخالدة مدى الحياة ، ويبقى اسمه مقرونا بالصلوات والتحيات إلى آخر يوم {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} . المراد بالخصومة هنا ان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) يشهد عليهم أمام اللَّه يوم القيامة بأنه قد بلغهم رسالات ربهم : {وجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ} - 89 النحل .
__________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص408-411 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)
قوله تعالى : {كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} أي من الجهة التي لا يحتسبون ففوجئوا وأخذوا على غفلة وهو أشد الأخذ ، وفي الآية وما بعدها بيان لما أصاب بعض الكفار من عذاب الخزي ليكون عبرة لغيرهم .
قوله تعالى : {فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} الخزي هو الذل والصغار ، وقد أذاقهم الله ذلك في ألوان من العذاب أنزلنا عليهم كالغرق والخسف والصيحة والرجفة والمسخ والقتل .
قوله تعالى : {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون} أي ضربنا لهم من كل نوع من الأمثال شيئا لعلهم يتنبهون ويعتبرون ويتعظون بتذكر ما تتضمنه .
قوله تعالى : {قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} العوج الانحراف والانعطاف ، {قرآنا عربيا} منصوب على المدح بتقدير أمدح أو أخص ونحوه أوحال معتمد على الوصف .
قوله تعالى : {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان} إلخ ، قال الراغب : الشكس - بالفتح فالكسر - سيىء الخلق ، وقوله : {شركاء متشاكسون} أي متشاجرون لشكاسة خلقهم .
انتهى وفسروا السلم بالخالص الذي لا يشترك فيه كثيرون .
مثل ضربه الله للمشرك الذي يعبد أربابا وآلهة مختلفين فيشتركون فيه وهم متنازعون فيأمره هذا بما ينهاه عنه الآخر وكل يريد أن يتفرد فيه ويخصه بخدمة نفسه ، وللموحد الذي هو خالص لمخدوم واحد لا يشاركه فيه غيره فيخدمه فيما يريد منه من غير تنازع يؤدي إلى الحيرة فالمشرك هو الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون والموحد هو الرجل الذي هو سلم لرجل .
لا يستويان بل الذي هو سلم لرجل أحسن حالا من صاحبه .
وهذا مثل ساذج ممكن الفهم لعامة الناس لكنه عند المداقة يرجع إلى قوله تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء : 22] وعاد برهانا على نفي تعدد الأرباب والآلهة .
وقوله : {الحمد لله} ثناء لله بما أن عبوديته خير من عبودية من سواه .
وقوله : {بل أكثرهم لا يعلمون} مزية عبادته على عبادة غيره على ما له من الظهور التام لمن له أدنى بصيرة .
قوله تعالى : {إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} الآية الأولى تمهيد لما يذكر في الثانية من اختصامهم يوم القيامة عند ربهم والخطاب في {إنكم} للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمته أو المشركين منهم خاصة والاختصام - كما في المجمع ، - رد كل واحد من الاثنين ما أتى به الآخر على وجه الإنكار عليه .
والمعنى : إن عاقبتك وعاقبتهم الموت ثم إنكم جميعا يوم القيامة بعد ما حضرتم عند ربكم تختصمون وقد حكى مما يلقيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } [الفرقان : 30] .
والآيتان عامتان بحسب لفظهما لكن الآيات الأربع التالية تؤيد أن المراد بالاختصام ما يقع بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين الكافرين من أمته يوم القيامة .
__________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص210-211 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)
الآية الاولى تتحدّث عن العذاب الدنيوي لهؤلاء ، كي لا يتصور أحد أنّه يعيش في أمان بهذه الدنيا ، قال تعالى : {كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} .
فالإنسان لا يتألم كثيراً إن أُصيب بضربة كان يتوقعها ، إلاّ أنّه يتألم كثيراً إن وجهت إليه ضربة من طرف لم يتوقع أن تصدر منه ، كأن تصدر عن أقرب أصدقائه ، أو يلحق به أذى من أُمور حيوية جداً ومحبوبة له كالماء الذي هو مصدر حياة الإنسان ، أومن نفحة النسيم التي هي مصدر نشاطه ، أومن الأرض الهادئة التي هي مقر استراحته وأمنه .
نعم ، إنّ نزول العذاب الإلهي بواسطة هذه الطرق يعدّ أمراً مؤلماً جدّاً ، كالذي أصاب قوم نوح وعاد وثمود ولوط وفرعون وقارون وأمثالهم ، إذ لم يكن أي أحد منهم يتوقع أن يصيبه العذاب بواسطة إحدى الطرق المذكورة أعلاه .
الآية الأخيرة في بحثنا هذا تبيّن أنّ عذاب هؤلاء الدنيوي لا يقتصر على العذاب الجسدي ، وإنّما يشتمل أيضاً على عقوبات نفسية : {فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا} (2) .
نعم ، فإن أُصيب الإنسان بمصيبة في هذه الدنيا ، ثمّ خرج منها مرفوع الرأس حافظاً لماء وجهه ، فهذه الحالة ليست بعار وخزي على الإنسان ، إنّما العار والخزي للإنسان الذي يخرج من هذه الدنيا رذيلا وذليلا ، ومبتلىً بعذاب فاضح يريق ماء وجهه ، (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) .
كلمة (أكبر) كناية عن شدّة العذاب وقسوته .
وقوله تعالى : {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر : 27 - 31]
قرآن لا عوج فيه :
الآيات ـ هناـ تبحث خصائص القرآن المجيد أيضاً ، وتكمل البحوث السابقة في هذا المجال .
ففي البداية تتحدّث عن مسألة شمولية القرآن ، إذ تقول الآية الكريمة : {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كلّ مثل} .
حيث تمّ فيه شرح قصص الطغاة والمتمردين الرهيبة ، وعواقب الذنوب الوخيمة ، ونصائح ومواعظ ، وأسرار الخلق ونظامه ، وأحكام وقوانين متينة .
وبكلمة أنّه وضح فيه كلّ ما هو ضروري لهداية الإنسان على شكل أمثال ، لعلهم يتذكرون ويعودون من طريق الضلال إلى الصراط المستقيم {لعلهم يتذكرون} .
وممّا يذكر أنّ «المثل» في اللغة العربية هو الكلام الذي يجسّم الحقيقة ، أو يصف الشيء ، أو يشبه الشيء بشيء آخر ، وهذه العبارة شملت كلّ حقائق ومواضيع القرآن ، وبيّنت شموليته .
ثم تتطرق الآية إلى وصف آخر للقرآن ، إذ تقول : {قرآناً عربياً غير ذي عوج}(3) .
في الحقيقة ، تمّ هنا ذكر ثلاث صفات للقرآن :
الأُولى كلمة (قرآناً) التي هي إشارة إلى حقيقة أنّ الآيات الكريمة ستبقى تتلى دائماً ، في الصلاة وفي غير أوقات الصلاة ، في الخلوات وفي أوساط الناس ، وعلى طول التاريخ الإسلامي حتى قيام الساعة ، وبهذا الترتيب فإن آيات القرآن ستبقى نور الهداية المضيء على الدوام .
الصفة الثانية هي فصاحة وحلاوة وجاذبية هذا الكلام الإلهي ، الذي عبّر عنه بـ (عربياً) لأنّ إحدى معاني العربي هي الفصاحة ، والمقصود منه هنا هذا المعنى .
الصفة الثّالثة ، ليس فيه أي إعوجاج ، فآياته منسجمة ، وعباراته ظاهرة ويفسّر بعضها البعض(4) .
الكثير من اللغويين وأصحاب التّفسير قالوا : إنّ (عوج) (بكسر العين) تعني الإنحرافات المعنوية ، في حين أنّ (عوج) بفتح العين ، تعني الإعوجاج الظاهر . ومن النادر استعمال العبارة الأولى في الإعوجاج الظاهري ، ما في الآية (107) من سورة طه : (لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً) لهذا فإنّ بعض اللغويين يعتبرونها أكثر عمومية(5) .
وعلى أية حال ، فإنّ الهدف من نزول القرآن الكريم ـ بكل هذه الصفات التي ذكرناهاـ هو{لعلهم يتقون} .
وممّا يلفت النظر أنّ الآية السابقة انتهت بعبارة : {لعلهم يتذكرون} وهنا انتهت بعبارة : {لعلهم يتقون} لأنّ التذكّر يكون دائماً مقدّمة للتقوى و«التقوى» هي ثمرة شجرة «التذكر» .
ثمّ يستعرض القرآن المجيد أحد الأمثال التي ضربت ليرسم من خلاله مصير الموحّد والمشرك ، وذلك ضمن إطار مثل ناطق وجميل ، إذ يقول : {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون} (6) .
أي إنّ هناك عبداً يمتلكه عدّة أشخاص ، كلّ واحد منهم يأمره بتنفيذ أمر معين ، فهذا يقول له : نفذ العمل الفلاني ، والآخر ينهاه عن تنفيذ ذلك العمل ، وهو في وسطهم كالتائه الحيران ، لا يدري أي أمر ينفّذ ، فالأمران متناقضان ومتضادان ، ولا يدري أيّاً منهما يرضيه؟
والأدهى من كلّ ذلك أنّه عندما يطلب من أحدهم توفير مستلزمات حياته ، يرميه على الآخر ، والآخر يرميه على الأوّل ، وهكذا يبقى محروماً محتاجاً عاجزاً تائهاً . وفي مقابله هناك رجل سلم لرجل واحد {ورجلا سلماً لرجل} .
فهذا الشخص خطه ومنهجه واضح ، وولي أمره معلوم فلا تردد ولا حيرة ولا تضاد ولا تناقض ، يعيش بروح هادئة ويخطو خطوات مطمئنة ، ويعمل تحت رعاية فرد يدعمه في كلّ شيء وفي كلّ أمر وفي كلّ مكان . فهل أنّ هذين الرجلين متساويان {هل يستويان مثلا} .
هذا المثال ينطبق على (المشرك) و(الموحد) فالمشرك يعيش في وسط المتضادات والمتناقضات ، وكل يوم يتعلق قلبه بمعبود جديد ، فلا استقرار في حياته ولا اطمئنان ولا مسير واضح يسلكه . أما الموحّدون فإنّهم يعشقون الله وحده ، وفي كلّ الأحوال يلجؤون إلى ظلّ لطفه ، ولا تنظر عيونهم إلى سواه ، فطريقهم ونهجهم واضح ، ومصيرهم ونهايتهم واضحة أيضاً .
وجاء في حديث لأمير المؤمنين عليه السلام «أنا ذاك الرجل السلم لرسول الله» (7) .
وورد في حديث آخر عنه أيضاً «الرجل السلم للرجل حقاً علىّ وشيعته» (8) .
وفي نهاية الآية يقول تعالى : (الحمد للّه) فاللّه سبحانه وتعالى بذكره لتلك الأمثال يرشدكم إلى أفضل السبل ، ويضع تحت تصرفكم أوضح الدلائل لتشخيص الحقّ عن الباطل ، فالبايء عزّوجلّ يدعو الجميع إلى الإخلاص وفي ظل الاخلاص تكون السكينة والراحة ، فهل هناك نعمة أفضل من هذه ، وهل هناك أمر آخر يستحق الحمد والشكر أكثر من هذه النعمة؟!
ولكن أكثرهم لا يعلمون رغم وجود هذه الدلائل الساطعة ، إذ أنّ حبّ الدنيا والشهوات الطاغية عليهم يجعلهم يضلون عن طريق الحقيقة : {بل أكثرهم لا يعلمون} .
وتتمّة لبحث الآيات السابقة بشأن التوحيد والشرك ، تتحدث الآية التالية عن نتائج الشرك والتوحيد في موقف القيامة .
إذ تبدأ بمسألة الموت الذي هو بوابة القيامة ، وتبيّن لكلّ البشرية أنّ قانون الموت عامّ وشامل للجميع : {إنّك ميت وإنّهم ميتون}(9) .
نعم ، فالموت من الأمور التي تشمل جميع الناس ، ولا يستثنى منه أحد ، فهو طريق يجب أن يمرّ به الجميع في نهاية المطاف .
قال بعض المفسّرين : إنّ أعداء رسول الله كانوا ينتظرون وفاته ، وكانوا في نفس الوقت فرحين مسرورين لكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يموت في نهاية الأمر ، فالقرآن ـ هناـ أجابهم بالقول : إن مات رسول الله فهل تبقون أنتم خالدين ، هذا ما نصت عليه الآية (34) من سورة الأنبياء : {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء : 34] .
ثم ينتقل البحث إلى محكمة يوم القيامة ، ليجسم المجادلة بين العباد في ساحة المحشر ، {ثم إنّكم يوم القيامة عند ربّكم تختصمون} .
«تختصمون» : مشتقّة من (اختصام) وتعني النزاع والجدال بين شخصين أو مجموعتين تحاول كل ، منهما تفنيد كلام الأخر ، فأحياناً يكون أحدهم على حقّ والآخر على باطل ، وأحياناً يكون الاثنان على باطل ، كما في مجادلة ومخاصمة أهل النّار فيما بينهم ، وقد اختلف المفسّرون في كون هذا الحكم عاماً أم لا .
قال البعض : إنّ المخاصمة تقع بين المسلمين والكفار .
وقال البعض الآخر : إنّها تقع بين المسلمين أنفسهم ، وفي رواية عن أبي سعيد الخدري قال : لم يكن أحد فينا يفكر في أن يقع خصام فيما بين المسلمين ، وكنّا نقول : كيف نختصم نحن وربّنا واحد ، ونبيّنا واحد وديننا واحد؟ فلما كان يوم صفين وشدّ الفريقان الذين كانا مسلمين (حيث كان أحدهما مسلماً حقيقياً والآخر يدعي الإسلام) بالسيوف على بعضهما البعض ، قلنا : نعم ، الآية تشملنا نحن أيضاً (10) .
ولكن الآيات التالية تبيّن أنّ المخاصمة تقع بين الأنبياء والمؤمنين من جهة ، والمشركين المكذبين من جهة اُخرى .
لمّا توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قام عمر بن الخطاب ; فقال : إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله قد توفّي والله رسول اللّه ما مات ، ولكنّه ذهب الى ربّه كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثمّ رجع إليهم بعد أن قيل قد مات; ووالله ليرجعنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كما رجع موسى ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مات ؟ .
وقال الرّاوي : وأقبل أبوبكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ، وعمر يكلّم الناس ، فلم يلفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت عائشة ، ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مسجّى في ناحية البيت ، عليه بُرد حبرة؟ ، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ قال الراوي : قال أبوبكر : على رسلك يا عمر أنصت فأبى إلاّ أن يتكلم ثمّ تلا أبوبكر هذه الآية : (وما محمد إلاّ رسول) .
قال الرّاوي : فو الله لكأنّ الناس يعلموا أنّ هذه الآية ما نزلت حتى تلا أبوبكر ثمّ قال عمر : والله ما هو إلاّ أن سمعت أبابكر تلاها فعفرت (11) حتى وقعت إلى الارض ما تحملني رجلاي (12) .
_______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج11 ، ص500-507 .
2 ـ كلمة (خزي) تعني الذلّ والهوان كما تعني الفضيحة (يراجع لسان العرب) .
3 ـ الموقع الإعرابي لقوله تعالى : (قرآناً عربياً) حال لـ (القرآن) التي ذكرت من قبل ، ولكون كلمة (قرآناً) لا تحمل طابع الوصف فقد قال البعض : إنّها توطئة للحال الذي هو(عربياً) وذهب البعض الى آنها بمعنى (مقرؤاً) وتعطي معنى الوصف ، والبعض قال : إنّها منصوبة على المدح بتقدير فعل .
4 ـ كلمة (عوج) جاءت بصورة نكرة في سياق النفي ، وتعطي معنى النفي العام لعدم لوجود أي انحراف وانعطاف في القرآن .
5 ـ يراجع (مفردات الراغب) و(لسان العرب) وغيرها من التفاسير .
6 ـ «متشاكسون» : أصلها من (شكاسة) وتعني سوء الخلق والتنازع والاختصام ، ولهذا يقال «متشاكس» لمن يتخاصم ويتنازع بعصبية وسوء خلق .
7 ـ نقله (الحاكم أبو القاسم الحسكاني) في شواهد التنزيل .
8 ـ نقله العياشي في تفسيره مجمع البيان ، ذيل آيات البحث .
9 ـ عبارة (إنّك ميت وإنّهم ميتون) على الظاهر تعطي معنى موت الجميع في الوقت الحاضر ، وهي من قبيل (المضارع المتحقق الوقوع) الذي يأتي أحياناً بصورة حال وأحياناً اُخرى بصورة الماضي .
10 ـ مجمع البيان ، المجلد8 ، الصفحة 497 .
11 ـ عقرت : دهشت .
12 ـ سيرة ابن هشام ، المجلد الرابع ، الصفحات 305 و306 ، نقلا عن الكامل لابن الأثير ، المجلد الثّاني ، الصفحة 323 و324 ، مع شيء من التلخيص .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|