أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-3-2018
1367
التاريخ: 23-3-2018
2163
التاريخ: 22-3-2018
2752
التاريخ: 4-6-2017
42226
|
إن ما انتهى إليه المرزوقي في عمود الشعر، لا يمثل الشعر العربي كله؛ وإنما هو صورة لما اتفّق عليه النقاد حتى القرن الرابع الهجري.
فامرؤ القيس، وهو أقدم شاعر عرفته العربية، كان يعدّ إمام المبتكرين، فلا يقال إنه كان خارجاً على " عمود الشعر القديم " (1) هذا، برغم أنه في شعره لم يلتزم القوانين المحدّدة في عمود الشعر.
لقد أعجب النقاد بالشعر الجاهلي، فتشبّثوا به ودعوا الشعراء للكتابة على مثاله.. ثم نظروا فيه، وحاولوا تقعيد أصوله، فكان عمود الشعر، الذي كان "عندهم يشبه عمود الدين، الحياد عنه بدعة من البدع، أو ضلال يجب أن يتناول بالكراهة التي تبلغ أحياناً حدّ التحريم "(2).
هذا التشبّث بعمود الشعر وبطريقة القدماء، كان سبباً رئيساً في جمود الشعر العربي وتأخره. ويمكننا إجمال هذه العوامل التي أدّت إلى جمود الشعر في الأمور التالية:
1 -إهمال الخيال:
لقد كان لإهمال العرب دور الخيال، واعتمادهم التنظيم في قواعدهم النقدية، أثر كبيرٌ في جمود الشعر العربي، وتحوله إلى صنعة لا تحتاج إلى كثير من الخيال والابتكار (3). فالخيال عندهم ضرب من الوهم (4)، والتخييل قياس شعري خادع (5) لهذا، كان الربط بين الخيال والصورة في النقد القديم عبثاً، " فكلاهما ذو مفهوم مستقلّ عن الآخر " (6).
إنّ ضعف ملكة الخيال الشعري عند العرب هو أثر من آثار خطابية الروح العربية المشتعلة، التي " لا تعرف الأناة في الفكر، فضلاً عن الاستغراق فيه " (7). وهو أيضاً أثر من آثار ماديتها المحضة، التي " لا تستطيع الإلمام بغير الظواهر؛ مما يدعو إلى الاسترسال مع الخيال إلى أبعد شوط وأقصى مدى "(7). لقد كان لهاتين النزعتين (الخطابية والمادية)، أثر كبير في النظر إلى الشاعر على أنه خطيب، وظيفته حماية ذمار القبيلة والنضال عن أعراضها بلسانه، واستفزاز نخوة الحميّة في أبنائها حين تأزف الآزفة ؛" حتى إنهم لمّا جعلوا لشعرائهم أرواحاً تملي عليهم الشعر، لم يجعلوا تلك الأرواح ملائكة أو آلهة... وإنما جعلوها شياطين تصقل لسان الشاعر وتجعله أدنى إلى بلاغة القول وجزالة الخطاب، وما ذلك إلاّ لأنّهم لا يرون في الشاعر إلاّ خطيباً ينظم ما يقول. وقد تأثر الشعر العربي بهذا الفهم الذي كان يفهمه العرب من الشاعر، فكان فيه شيء كثير من الخطابة المنظومة "(8).
وإن تشبيه الشاعر بالخطيب جعلهم يشبّهون الشعر بالنثر - فيما عدا ضرورتي الوزن والقافية " فالشعر كلام موزون مقفّى" - ولمّا كان النثر يقوم على وضوح الدلالة، فقد أصبح الوضوح بالتالي قيمة يجب تحقّقها في الشعر. وبما أن " التشبيه، بما فيه من قيم عقلية، يتناسب مع الأداء النثري " (9) فقد عدّ وسيلة تصويرية في الشعر لتحقيق الوضوح النثري فيه. ولعلّ المرزوقي قصد إلى ذلك، بطلبه المقاربة في التشبيه.
إلى هذا الوضوح النثري في التجربة الشعرية الجاهلية، يشير أيليا حاوي، فيقول: لقد كانت " التجربة في الشعر القديم.. شبيهة بالأفكار النثرية، لوضوحها واستقامة حدودها " (10). وللطبيعة الجاهلية دورها في هذا المقام، فهي ذات أثر كبير في هذه النثرية الخطابية (11)، وفي ضعف الفكر والخيال في الشعر الجاهلي (12). غير أنّ هذه الطبيعة إذا كانت قد تغيّرت فيما بعد، فإن أسلوب التعبير الشعري لم يتغيرّ، واستمرّ على النهج الخطابي النثري الجاهلي. وذلك لأن العرب لما اعتبروا الشعر الجاهلي مثالاً أعلى يُحتذى، واستمدّوا منه مقاييسهم النقدية، أرسخوا مفاهيمه وحافظوا على أصوله، وجمّدوا بالتالي الشعر العربي في قوالبه (13).
لقد أجمع النقاد على أن الأدب لا يقصد لذاته، من حيث كونه فناً جادّاً من فنون الحياة، له روحه وأطواره ونزعاته. فقد كان هذا الأدب عندهم وسيلة من وسائل الدين، مما جعلهم لا يفهمون منه إلاّ أنه ألفاظ وتراكيب وجمل وأساليب، ليس وراءها روح ولا فكر. وقد جعلهم هذا الأمر أيضاً يعتقدون أن الأدب الجاهلي هو خير المنتجات العقلية التي عرفها العالم (14). يقول الشابي: " وقد لجّ بهم هذا الفكر حتى تعصبوا للأدب الجاهلي، وازدروا ما أنتجه الذهن الإسلامي" (14). فهم لم يعترفوا بالتطور العقلي والانفعالي للشعراء والناس، الذي يتطلب وسائل أسلوبية جديدة تتناسب مع تطور الحياة (15).
هذا، وقد كان لإخفاق الشعراء، في استخدام الفكر في الشعر، أثره أيضاً في إعلاء قيمة التقاليد الموروثة، والغضّ من دور ثقافة الشاعر وخياله (16).
2 -تقديم العقل:
يقابل إهمال الخيال عند النقاد الإعلاء من شأن العقل في الإبداع الشعري. فالمرزوقي يطلب في عيار المعنى أن " يُعْرض على العقل الصحيح والفهم الثاقب " (17). وعبد القاهر يجعل غرضه في الكلام على الاستعارة أن يبيّن " أحوالها في كرم منصبها من العقل وتمكنها في نصابه، وقرب رحمها منه أو بعدها، حين تنسب، عنه (118)"
لقد نظر النقاد العرب إلى الشعر نظرة " عقلية تعتمد على المنطق.... (لا) نفسية تعتمد على الشعور "، كما يذهب النقد الحديث."(19).
ولهذه النظرة العقلية تجلياتها، فهي واضحة في:
أ-طلب " القصد في الصور، ومسايرتها للمستقر الثابت من النظم والعادات " كما يقول محمد غنيمي هلال. وهم، في ذلك يلتقون بالكلاسيكيين. (20).
ب-طلب الصدق (الواقعي النموذجي): " فأغلب الظنّ أن مسألة عرض المعنى على العقل، من خلال المنطق حيناً، والعرف حيناً آخر، كان لها أثر بالغ في الحدّ من جنوح الخيال إلى أفق غير أفق الظاهر والعرف التقليدي، فكان الشعر تقليداً محضاً لظاهر الطبيعة من جهة، وطريقة القدماء من جهة أخرى " (21). هذا ما يفهم من الصدق الذي أرادوه: إنه صدق واقعي نموذجي عقلي، لا صدق شعوري نفسي.
جـ ـ الميل إلى الوضوح: فالشاعر غالباً ما يؤثر التعبير المجرّد القليل الصور، الذي يقصد إلى إمتاع العقل أكثر مما إلى إمتاع الخيال " (22)
دـ -إيثار الصورة المصنوعة على الصورة العفوية. وسبب ذلك أنّ " تحقيق عناصر الجمال في العمل المصنوع أمر يحكم فيه العقل، والحواس هي التي تتّخذ معبراً تنتقل عليه، لكي تتمثل للعقل " (23).
هـ ـ حسّية إدراك الجمال، وتعليل ذلك أن " الأساس الحسّي، وإن اعتمد على الحواسّ، فإنه يرجع آخر الأمر إلى العقل. فما تدركه الحواس لا يفسّر بانفعال نفسي، ولكنه يفسّر في العقل "(24).
و ـ النظرة الجزئية التفكيكية إلى الشعر، إذ ينظر الناقد إلى القصيدة، من حيث كونها مجموعة أجزاء، لا كلاً موحّداً. فالجمال، عند العرب هو جمال المركبات لا المفردات، وهو في المركبّات، حين تكون العلاقات بينها حسب مقتضيات العقل (25).
ز -تقديم التشبيه على الاستعارة، وذلك بتأثير النزعة العقلية الاتباعية عند النقاد.. فقد " أهمل معظم النقاد العرب القدامى الاستعارة، لأنهم كانوا اتباعيين، ينصاعون للعقل وأحكامه، والمنطق وقوانينه؛ فعظم عندهم التشبيه "(26).
ح ـ طلب الإصابة، والمقاربة في التشبيه، مما ينسجم مع النزعة المنطقية العقلية من جهة، ويرتبط بالتوافق الشكلي من جهة ثانية. يقول جابر عصفور:" " والإصابة والمقاربة ..... مصطلحان يمكن أن يندرجا تحت ما نسميه بالتناسب المنطقي بين أطراف التشبيه، لأنهما يرتبطان ـ في النهاية ـ بمدى التوافق الشكلي بين الأطراف " (27).
ط ـ ربط الشعر بالنثر. فإذا كان النثر مرتبطاً بالمنطق (28)، والشعر مشبّهاً بالنثر، فإن العلاقة في الشعر أيضاً منطقية ...
ي ـ والبحث عن وجه شبه بين المركبات، والإلحاح على مضمون الألوان البيانية " (29)، على حدّ قول نعيم اليافي... فهو يرى أن بناء الأشكال البلاغية التقليدية يميل إلى الاتكاء على العقل والمنطق. فالفنان، إذ كان ينشئ أبنيته الفنية، إنما كان يحكم بناء أجزائها إحكاماً عقلياً، قائماً على التعليل المنطقي الموضوعي، لا على التعليل الحدسي الشعوري (30).
ويعلّق نعيم اليافي على هذا الموقف التقليدي، مؤكّداً قيمة العلاقات الحدسية في الأشكال البلاغية، فيقول: والحق " أن العلاقات بين المركّبات في الأشكال البلاغية، ليست علاقات منطقية تقوم على الضرورة، وإنما هي علاقات حدسية أو شعورية، تقوم على الاحتمال، وعلى الإسقاط الروحي. إنها علاقات لا تقوم على المشابهة أي لا تحمل انعكاسات مقيّدة، وإنما هي علاقات تقوم على الحدس. ولذلك، فهي انعكاسات حرة لايقيّدها سوى منطق الفن وحدّه "(31).
إلى هذا الجانب الحدسي يشير كلّ من استوفر والقاضي الجرجاني، (32). فيقول هذا الأخير: إن "الشعر لايحُبّب إلى النفوس بالنظر والمحاجّة، ولايحلّى في الصدور بالجدال والمقايسة، وإنما يعطفها عليه القبول والطلاوة، ويقرّبه منها الرونق والحلاوة " (32).
والتناقض واضح بين موقف الجرجاني هذا، وما ذكرناه من موقف النقاد العرب العام. وتعليل ذلك أن هذه النظرة عند الجرجاني فردية لا عامة. فالنقاد، كما رأينا، كانوا على خلافه يريدون من الشعر أن يثير علاقات عقلية منطقية واضحة. (32).
3 -الشعر صناعة:
إنّ تاريخ النقد الأدبي عند العرب، لايتحدّث عن الشعر من حيث كونه خلقاً أو رؤية (33) شعرية، وإنما من حيث هو صناعة. لهذا احتفل النقاد بالصياغة الخارجية الشكلية، فلم يروا ضيراً في تكرار المعاني ما دامت الصياغة مبتكرة (34). مما أدى إلى تكرار الصور نفسها وتشابهها (35)، والاعتماد بالتالي على الصور الجاهزة والثابتة والمكررة (36)، التي حظيت بإجماع عام من النقاد والناس.
لقد كان للصياغة الشكلية في الشعر أثر بارز في إغفال دور الخيال والصورة. وقد كانت النزعة الخطابية سبباً رئيساً لهذا الاهتمام بالصياغة، فالشاعر يقوم عند العرب مقام الخطيب، لهذا عليه أن يعنى بتجويد شعره ليحقّق التأثير المنشود في الجماعة. يقول مصطفى ناصف: كان الشاعر: يعنّي نفسه -غالباً -ليكون خطيباً مفصحاً، يتحدث إلى سامعين، ويحفل بمطالب المتعة الجماعية ": (37).
غير أن سبباً آخر أدّى أيضاً إلى تحويل الاهتمام إلى الشكل والصياغة في إبداع الشعر، وهو ارتباطه بالفنون التصويرية النفعية، في أذهان النقاد والشعراء والناس.
4 -التحسين والتعجيب:
لقد كان لهاتين الوظيفتين اللتين اعتد بهما الشعر والنقد -وهما من وظائف الصناعة الشعرية -أثرهما في جمود الشعر العربي، إذ كان مقياس الجودة عند النقاد ما يحقّقه الشعر من متعة ولذة. يقول أدونيس: إن الناقد العربي " لم يكن ينظر أو يهمه أن ينظر في ما أضافه الشعر أو يضيفه من عناصر الجديد، وفي أهمية هذه العناصر بالنسبة إلى الحياة العربية، الثقافية والروحية، وإنما كان يكتفي بأن يبحث فيه عن المتعة واللذة "..(38).
لقد كانت غاية الشعر في النقد العربي جمالية تعليمية، الأمر الذي جعل الشعراء والنقاد يهتمون بالصياغة دون المضمون. هذا ما عبّر عنه قدامة بن جعفر بقوله: " وعلى الشاعر، إذا شرع في أي معنى كان.... أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة ". ويعلّق عز الدين إسماعيل على هذا الكلام بقوله: " ففي هذا يصوّر لنا قدامة عدم الاهتمام بقيمة المعنى أو استجادة الشعر لأن معناه حميد، ولكنه يهتم بالصورة. وليكن المعنى حميداً أو ذميماً، فهذا لا يعني، فليس للشعر غاية أخلاقية أو تعليمية، وإنما هو ينظر فقط إلى جانب الجمال الذي يسميه تجويد الصورة " (39).
إن رغبة العرب في التحسين والتعجيب جعلتهم يولعون بالجمال أينما كان. لهذا، " لم تكن (العرب) تشبه -غالباً -بغية غرض معيّن، وإنما لإرضاء الحس الجمالي، أو لمجرّد الإعجاب بالتشبيه ذاته " (40) لكنّ هذا الإعجاب بالجمال لم يكن مطلقاً، وإنما كان " بالجمال الذي يتمثّل للحسّ " فقط (41).
هذه النظرة الجمالية إلى الشعر، التي تدخل في صلب نظرية الفن للفن، كان لها أثر كبير، فيما بعد، في جمود الشعر العربي. وذلك، اعتباراً من القرن الرابع للهجرة، إذ بدأت " فكرة التحسين والزينة... تطغى على التعبير والبيان في القرن الثالث "(42) أما عبد القاهر الجرجاني فيتحدّث عن تصاوير الشعراء، فيرى" أنها تفعل فعلاً شبيهاً بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير، التي يشكلها الحذاق بالتخطيط والنقش أو بالنحت والنقر؛ إذ تعجب وتخلب وتفتن فتنة لا ينكر مكانها ولا يخفى تأثيرها " (43).
وفي هذا الكلام إشارة صريحة إلى ارتباط الشعر بالفنون النفعية، وهو أوضح دليل أيضاً على ما آلت إليه وظيفة الشعر في القرن الخامس، من سعي إلى إثارة المتعة الجمالية. بل إن ما يلفت انتباهنا فيه، هذا التركيز على التعجيب والفتنة، فكأنه لا وظيفة للشعر سوى ذلك.
5 -الشكلية:
ص102
يؤكد المرزوقي، في حديثه عن عمود الشعر، هذه الشكلية في تذوق الشعر وإنتاجه؛ وذلك من حيث كونه تعبيراً عن معنى محسوس يأنس إليه العقل... فإن " جوهر الشعر -كما يبدو في هذا العمود -يتعلّق بالشكل، أو المظهر، في اللفظ، والوصف، والتشبيه، والاستعارة، والمشاكلة، واقتضاء القافية، فضلاً عمّا في معيار كل باب من قيود فرعية أخرى. وربما كان لنا أن نستنبط، إذن، قيام الذوق العربي على العناية بالشكل، لا من حيث تعبيره عن معنى مجرّد، وإنما من حيث تعبيره عن معنى محسوس يأنس إليه العقل. فإذا ما قبل العقل المعنى، لم يبق للشاعر إلاّ أن يتجرّد لوضعه في قمقم الشكل. من خلال اللفظ، والإصابة، والمقاربة، والمناسبة، والمشاركة، فيبعد بذلك عن عالم الفكر الإنساني، وعن محاكاة المشاعر الباطنة الغامضة، التي قد تتأبّى على العقل الصحيح "(44).
لقد كان لنظرة العرب الحسّية في إدراك الجمال، إذاً، أثرها العميق في انصراف " الأغلبية إلى الاهتمام بالجمال الشكلي الذي يتأدّى إلى الحواس، فيلذّها أو يؤذيها.. وقد أمكن (فيما بعد) ضبط القواعد التي تتحكم في الشكل، (لتصبح) هي قواعد الصنعة " (45) وهكذا، سيطرت الصنعة على الفكر النقدي الجمالي العربي (46).
ولابدّ هنا من التمييز بين نوعين من الحسّية: الحسية النفسية والحسية العقلية. " فالأساس الحسي النفسي يضع في الأشياء مشاعر من خلال المدركات الحسية، والأساس الحسي العقلي. يكشف في الأشياء قوانين تتفق معه من خلال هذه المدركات الحسية. هذا يعتمد على الإثارات الوجدانية، وذاك يكشف عن القوانين الطبيعية " (47). ولمّا كان النقاد العرب قد قدّموا العقل على الخيال والحسّ على الحواس، فإنهم نظروا إلى الحسية من الأساس العقلي لا النفسي. هذا، وإن كان الشعراء في كثير من الأحيان قد انطلقوا من الحسية النفسية. لقد كان النقاد " يقدّرون التشبيهات والاستعارات بمقدار ما يتضح فيها من شبه بالأشياء الطبيعية "(47). أي بمقدار " المطابقة الشكلية، أو الظاهرية بين الأصل، والصورة، في التشبيه والاستعارة وسائر الصور البيانية "(48).
ولا غرابة في هذا الموقف النقدي، وقد كان الاتجاه السائد " أن الجمال في الأشياء، ونحن نستكشفه " (47). وهذا يعني أن الجمال عند هؤلاء النقاد موضوعي، ينصرف الاهتمام على أساسه " إلى الموطن الذي يمكن أن تنضبط فيه العناصر الموضوعية للشيء الجميل "(47).
لقد جعلت هذه النظرة الموضوعية إلى الجمال النقاد ينظرون إلى الشعر نظرة شكلية سطحية، تعتمد على الدلالات الحرفية والقوانين المنطقية، لا على الرؤى العاطفية والمواقف الفكرية النابعة من داخل الشعر. ( 49).
ولعل هذا هو سبب إعجابهم ببيت ابن المعتز:
وانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
يقول عز الدين إسماعيل في تعليقه على هذا البيت:" كان يعدّ قمّة في التشبيهات التامة، وإن كان لا يدلّ على إحساس صادق بالهلال، ولا يمكن أن يكون الزورق الفضي سوى نتيجة لعملية عقلية باحتة، فكل عنصر من عناصر هذا الشكل يتساوى مع ما يوازيه من ذاك، ولكن! هل يثير الهلال في النفس نفس الشعور الذي يثيره الزورق الفضّي المحمّل بالعنبر؟ كل شخص له خبرة نفسية يستطيع أن يجيب بالسلب، ومن ثم يكون التشبيه فاشلاً، لأن ما يثيره المشبه لا يثيره المشبه به " (50).
هذا ما يدفع الناقد نفسه لأن يستخلص أن " الشاعر (القديم) كثيراً ما كان يندفع وراء الصور الحسية، التي تبدو له غاية في الجمال، ويتغافل عمّا يمكن أن يكون بين الشعور الذي تثيره، والشعور أو المعنى الذي كان ينبغي عليها أن تنقله إلى القارئ من علاقة "( 51).
وشاهد ذلك عنده بيت قديم " أراد الشاعر فيه أن يصور فتاة باكية حزينة نادمة، فقال:
فأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت ... ورداً وعضّت على العناب بالبرد
فجعل اللؤلؤ موازياً للدموع، والنرجس مقابلاً للعين، والورد للخدود، أمّا العنّاب، فلأطراف الأصابع، وأما البرد، فللأسنان. وأعتقد أن كل ذوّاقة يحسّ ما يمكن أن تثيره هذه الصورة في النفس من ألوان المشاعر، لا يمكن بحال من الأحوال أن يحسّ بإحساس تلك الفتاة المسكينة الحزينة الباكية النادمة " (52).
هذا هو موقف العربي من الصورة الشعرية، ينظر إليها بجمودها المكاني وكأنه أمام تمثال أصمّ لا صورة حيّة. لقد كان يقف عند حدود الشكل الظاهر، ولا يغوص إلى أبعاد الصورة وعلاقتها بنفس قائلها (53). وهذا أدى بالتالي إلى جمود الصورة " فلم يكن فيها أي خاصة عضوية أو حركية، بل كانت عناصر جامدة "(54).
ومن مظاهر هذه الشكلية في نقد الشعر، أيضاً، محاولتهم " تقويم العمل الأدبي على أساس من القيم الجزئية، التي تقف في الأعمّ الأغلب عند الحكم على صحة المعاني وخطئها، ورداءة الأفكار وجودتها، ثم عند حدود الاستعارة والتشبيه والمجاز والكناية، وغير ذلك مما يتناول الشكل الخارجي للعمل الأدبي، دون النظر إليه نظرة كلية تقوم على نوع من التفسير النفسي والاجتماعي والجمالي، ولا تعنى بفلسفة المضمون ...! " (55).
وقد أدّى اهتمام النقاد بالمظهر الخارجي للصورة إلى المبالغة في استخدام وسائل التعبير، بحدودها الشكلية السطحية، غير مهتمين بما كان لها من قيمة معنوية انفعالية في الشعر القديم. يقول محمد زغلول سلاّم: إن اهتمام النقاد بالمظهر الخارجي للصورة " أدّى إلى الإغراق، بعد، في استخدام هذه الفنون التعبيرية، في حدود المشاكلات الظاهرية، ولم يتقصّوا حقيقة استخدام التشبيه والاستعارة لدى القدماء الذين لم يقفوا عند حدود تلك المشاكلات؛ بل كان دورها لديهم أعمق. فهي تحمل إلى جانب المظهر الشكلي لمحات من المشاعر والأحاسيس، ممّا جعلهم يشبهون المعنى، ويصورونه في مجموعة من الصور متباينة تباين الأحاسيس والمواقف " (56).
كما أدى اهتمام النقاد بالمظهر الخارجي للصورة، وبالتطابق الشكلي بين طرفيها إلى نشوء مشكلة الرؤية الثنائية. " فالنظرة البلاغية للأشكال الفنية توصف بالثنائية، لأنها ترجع العلاقة إلى مركبيها، فتقابل أحدهما بالآخر، أو تجعله يقوم بدوره أمامه. هذه النظرة الثنائية الانفصالية التي تشطر (الصورة) إلى مركبيها، نظرة ضيقة ومحطمة للشكل البلاغي ولوحدته، لأن الذهن في حالتي إبداعه وإدراكه، لا يرى المركبين وهما يعملان بمعزل عن بعضهما البعض (كذا) في حالة انفصال وتعارض، وإنما يراهما في حالة عضوية متصلة، وفي وضع متوافق يعمل أحدهما في الآخر "(57).
لهذا نرى أنّ جمال الأشكال البلاغية وقيمة الصور الفنية في وحدتها، وفي مقدرتها على الإيحاء المعنوي والانفعالي.. إن نطاقها " يقع خلف هذا العالم المنفصل، ويقع بالتالي خلف الأثنينية وتعارضها. إن نطاقها فقط هو الوحدة، وحدة الأشياء، وحدة الذهن بالموضوع، وحدة العربة وما تحمل (الفكرة والوسيلة). وعن طريق هذه الوحدة وفيها يتولد الكائن الجديد (58). وتتخلّق الرؤية المبدعة والفريدة في نفس (كذا) الوقت " (59).
6 -الجزئية:
كانت النظرة التجزيئية سمة من سمات العقلية العربية التقليدية، التي ما كانت تنظر " إلى القصيدة ككل وكوحدة، بل تنظر إليها كأجزاء منفصلة مستقلة "(60). ويرجع شوقي ضيف هذه النظرة إلى اللغويين، " فقد جعلتهم عنايتهم بالشاهد والمثل في أبحاثهم، يقفون أكثر مما ينبغي عند المعاني الجزئية، بل كانوا يفاضلون أحياناً بينهم على أساس هذه الجزئيات.. ولا نبالغ إذا قلنا: إن كل بحث جزئي في النقد العربي، مرجعه هذه النظرة من اللغويين، فهم الذين جعلوا البيت وحدة النقد، واتخذوا المعنى المحدود أصلاً للتقدير، وقاعدة للتقويم "(61).
ويمكننا أن نرى في سيطرة النزعة الخطابية على التفكير العربي، (التي كان من آثارها كثرة المترادفات، والميل إلى الإيجاز ووحدة البيت) سبباً آخر في نشأة هذه النظرة التجزيئية (62).
لقد كانت نظرة القدماء " إلى الألفاظ والجمل والعبارات على أنها جزئيات مستقلة، يقاس حسنها في ذاتها "(63). ولكن، إذا كان جمال الصورة عند القدماء يقاس بفرديتها، فإن هذا لا يعني أنهم أغفلوا النظر إليها مع جاراتها؛ وإنما كانت نظرتهم إلى هذه الصور مجتمعة نظرة جمع لا توحيد، أي أن هذه النظرة كانت تجمع بين هذه الصور مع المحافظة على فردية كل صورة واستقلاليتها. ولايخفى ما في هذه النظرة من جمود، ومالها من أثر في إعجاب النقاد بالصور المكثّفة، على غرار إعجابهم ببيت الشاعر: وأسبلت لؤلؤاً.. لأنه جمع فيه خمس صور، وإن كانت الصورة الحسية متنافرة مع الصورة النفسية، ولا رابط يجمع بين هذه الصور بعضها إلى بعض... وإنما هي عملية رصف لإثارة الإعجاب، وإظهار البراعة........
لقد ظهرت التجزيئية، إذاً، في استقلالية الصورة وفي وحدة البيت. وقد كان لهذا الأمر أثر كبير في ميل الشعر إلى الصنعة، وفي تجريده من تأثيره المطلوب. لقد حرمت هذه النظرة الشاعر من تحقيق التأثير في الجمهور، ومن إمكانية التعبير عن نفسه بحرية، فبات كلّ همه أن يأتي بالصور الفردة المستقلة المعجبة، وأن يحاول أن ينهي المعنى بنهاية البيت.
وقد كان لهذه العناية بالصورة الفردة أثرها في عدّ الشعر صنعة، وفي فصل الصورة عن المعنى. ولعل هذه الأمور هي التي أفضت إلى العناية بالصورة الفردة.
أما النظرة الحديثة إلى الشعر، فلا تنظر إليه على أنه جزئيات مستقلة، يقاس حسنها في ذاتها، بل تفهمها وتقيس حسنها، وتقف على أخص خصائصها، في وظيفتها العامة في بنية القصيدة (63). إنها " تدرس الصورة في نطاق النص لا خارجه " (64) وبهذا، تحقّق الصورة وظيفتها في تصوير تجربة الشاعر، وتتمكن من التأثير في النفوس.
7-الذوق العام:
يقول مصطفى ناصف: " إن استعمال شيء ما استعمالاً مجازياً لا يبلغ غايته، إلا إذا كان مألوفاً، محبوباً، داخلاً في حدود الخبرة المعتادة ذات الجذور العميقة في النفس. ولابدّ أن تكون الارتباطات حول الشيء الجديد مستقرة في اللاشعور العام "(65) من هذا المنطلق أكّد المرزوقي أهمية الاستعمال والرواية وطول الدربة ودوام المدارسة، حتى يكون الكلام مطابقاً للذوق العام، أو لما يُسمّى " طريقة العرب".
إن ارتباط الشعر بالمتلقي هو الذي فرض هذه المناسبة بين كلام الشاعر والذوق العام. وقد ترتّب على ذاك الارتباط وهذه المناسبة أمور عديدة:
أ-تحول الشاعر إلى خطيب. فقد صار الشاعر " خطيباً مفصحاً، يتحدث إلى سامعين، ويحفل بمطالب المتعة الجماعية، (65).
ب ـ عناية الشاعر بالصياغة والشكل ليحقق هذه المتعة.
جـ ـ تقرير المعاني الحقيقية المألوفة في صياغة خلابة (66) لا العناية بفنية الصورة
د -تحييد الشاعر، إذ فصلوا "بين الوسيلة الفنية وبين مستعملها... وما يحاول أن يضمنها من محتوى فكره وانفعاله وتجربته الحيّة "(67).
هـ -تجميد أساليب التعبير، فصار ينظر إلى الوسائل الفنية " كأنها قوالب محايدة جامدة باردة يستعملها الأديب كما يستعمل صانع الطوب قوالبه " (68).
و ـ أن يكون الشاعر واعياً في صناعة شعره، فيأتي بالكلمة المعيّنة دون غيرها، وبالصورة هذه دون تلك، مستبعداً بذلك التجربة الشعرية، وما تفرضه عليه من ألفاظ وتراكيب وصور خاصة، ساعياً إلى أن يكون كلامه مألوفاً لا يتنافى مع الذوق العام.
ز -قتل الاستعارة، وهو عند إحسان عباس " أخطر ما في هذا الاحتكام إلى طريقة العرب... لأن تعقّب الاستعارة يعني التدخّل في التشخيص والقدرة الخيالية لدى الشاعر "(69).
لقد كان الذوق العام أو ما يسمى " طريقة العرب " هو معيار الحكم على جودة الشعر وتقدّم الشاعر. فالآمدي في موازنته يهاجم أبا تمام لأنه خالف في صوره الذوق العام. يقول معلّقاً على قول الشاعر: " بيوم كطول الدهر في عرض مثله... ": " هذه الألفاظ صيغتها صيغة الحقائق، وهي بعيدة عن المجاز، لأن المجاز في هذا له صورة معروفة، وألفاظ مألوفة معتادة، لا يتجاوز في النطق بها إلى ما سواها، وهي قول الناس... "(70). فالمجاز له طريق خاصة، لا يمكن للشاعر تجاوزها ولكن متى كانت للمجاز قاعدة وطرق؟ إنهم بذلك ينفون ذاتية الفنان، ويسيرون بالشعر قدماً نحو الجمود.
ويذهب الآمدي إلى أبعد من ذلك، فيرى " أن الشعر لا يتأثر كثيراً إذا أخطأ الشاعر، فجعل ذيل فرسه طويلاً، أو استعمل السوط في حثه على الجري، أو خيّل إليه أن الفستق من البقول، أو ظنّ أن صاحب الفيل لابدّ أن يكون قوياً كالفيل، فمن السهل أن تحاكم المبالغة لديه إلى مقياسك الفني... كل هذه أخطاء جزئية، ولكن الشعر يصاب في الصميم إذا قلنا للشاعر: إنك لا تستطيع أن تقول: " وضربت الشتاء في أخدعيه "، لأن العرب لا تستعمل مثل هذه الاستعارة"(71).
ويعلّق أخيراً إحسان عباس على هذه القضية (الذوق العام) بقوله: " إن هذا القانون متعسّف، لأنه يفترض اللجوء إلى قاعدة لا يمكن تحديدها. فمن هو الذي يستطيع أن يزعم لنفسه وللناس أنه قد أحاط بما يسمّى " طريقة العرب " في الاستعمالات اللغوية والتصويرية. ولماذا يعمد الآمدي نفسه كلما رأى أثراً قديماً مشبهاً لطريقة أبي تمام، إلى الاعتذار عنه وعدّه من النادر أو الشاذ؟ أليس هذا النادر صادراً عن عربي، تقبّله ذوقه وأقرّه خياله -وهو خيال عربي -، ولم نسمع أنه طواه استهجاناً أو قابله الناس حينئذ بالاستغراب " (72).
حقاً! إن عمود الذوق -كما فهمه العرب -متعسّف لأن فيه تقييداً لحرية الفنان وفرديته. ولكن هذا لا يعني أن ثمّة تناقضاً بين حرية الفنان والذوق العام... فإنْ يعبّر الفنان عن ذاته، لا يلغي التزامه بالذوق العام، كما إن هذا الالتزام لا يلغي فرديته وخصوصيته كفنان. فالعمل الأدبي لقاء بين الخصوصية الذاتية والعمومية الذوقية... فإن التزم الشاعر العمومية فقط بقي شعره في إطار التقليد، وبقي الأصل هو الأفضل، مهما كان إبداعه عظيماً. وإن التزم الخصوصية فقط خرج إلى التعقيد والغموض أحياناً. ونترك كلمة الفصل في هذا الموضوع للدكتور محمد غنيمي هلال، إذ يقول: " لا يصح رجوع الشاعر أو الكاتب إلى صنوف الخيال التقليدي إلاّ إذا كان له أساس من مشاعره الخاصة وتجاربه، إذْ لا ينبغي أن يصور شعوره بما لا علم له به ولاشعور، لأن ذلك ينال من صدقه وأصالته الفنية " (73).
8 -النموذجية السلفية:
لمّا دعا النقادُ الأدباء إلى التزام الذوق العام، كان لابدّ لهم أن يحدّدوا أيضاً وسيلة تحقّق هذه العمومية... إنها في الصياغة النموذجية السلفية.
أما النموذجية، فتعني " أن الكمال الشعري من وجهة نظر العقلية السائدة، كائن سابقاً في التراث الشعري العربي (وعلى الأخص الجاهلي). وعلى الشعراء في المستقبل أن ينسجوا على منواله، فليس لمتأخر الشعراء، كما يقول ابن قتيبة، أن يخرج على مذهب المتقدّمين "(74).
وأما السلفية، فتلك هي سمة " العقلية السائدة في المجتمع العربي... (التي) ينبع مثلها الأعلى من الماضي لا من المستقبل " (74).
إن التزام الشاعر بالذوق العام، إذا، لا يكون إلاّ عن طريق التزامه الصياغة الشعرية القديمة، التي تتمثّل بشكل نموذجي في الأدب الجاهلي.
وقد كان لهذه النظرة السلفية النموذجية أثرها الكبير في جمود الشعر العربي ونقده، وذلك من خلال:
أ-تقيد الشاعر، " فبدلاً من أن ينطلق الناقد العربي الإسلامي من لانهائية الحرية التي مارسها الجاهلي الشاعر في الإبداع، رسم لنفسه سلسلة من القيود قد أحكم نسجها واستحكم إغلاقها، وكانت الصرامة في تقليد الشاعر الجاهلي "(75).
ب -حرمان الشاعر من التعبير الذاتي، إذ فرض عليه النموذج القديم فرضاً، مما أدّى إلى ابتعاده عن الصدق. يقول عصام قصبجي: " لا مراء في أن محاكاة النموذج الأدبي القديم ليست بدعاً من الأمر، بل لعلها تحمد عندما تتعلق بالنماذج المثلى، وهو ما انتهى إليه مفهوم المحاكاة في النقد الأوروبي. ولكن المشكلة هي أن يفرض النموذج القديم فرضاً يحرم الشاعر من التعبير عن مشاعره الخاصة، بحيث يحاكي الآخرين، ولا يتاح له أن يحاكي ذاته، فيبتعد عن الصدق، ويضطر إلى أن ينهج نهج القدماء في معانيهم وأخيلتهم، كي يظفر برضا النقاد ". (76).
جـ ـ غلبة الشكلية، إذ أدّى التعلّق بالنموذج إلى التعلّق بالشكل. فالشعر، من وجهة نظر العقلية السائدة، لم يكن رؤيا بل صناعة ألفاظ. إنه، من هذه الناحية، لا ينبع من كيفية رؤيا العالم وخلقه، بل من كيفية رؤيته وصنعه (77). ها هو عبد القاهر الجرجاني مثلاً " يرى أن ما يقوم به الشاعر من أيجاد الائتلاف بين المختلفات، يمكن أن يكون كشفاً، ولكنه لا يمكن أن يكون اختراعاً أو خلقاً بالمعنى المعاصر للكلمة "(78).
... ... ولابدّ من التنويه هنا بدور علماء اللغة، في سيطرة هذه النزعة الشكلية... فقد كان هؤلاء يجلّون الشعر الجاهلي إجلالاً عظيماً، لأنه مصدر علومهم الوحيد تقريباً، فلم يأبهوا للمعاني الإنسانية فيه. (79). فقد كان بإمكان تلك المعاني أن تخرج الشعر من صومعة الجمود إلى ميدان التطور.
وممّا أدّى إلى هذه الشكلية أيضاً وضع النقاد نماذج من الصور النموذجية السلفية، رغبة منهم في محاكاة الشعراء لها، حتى يعترف لهم بالتقدم والبراعة والإجادة.
د ـ جفاف النقد وجموده: فقد كانت هذه النظرة الشكلية الحسية الجزئية. " وراء جفاف النقد وجموده على طريقة واحدة هي الطريقة الجاهلية في فهم الشعر " (80). لهذا، لم يكن لهذا النقد " من القوة ما يمكنه من تغيير سير الأفكار، ولا من تقويم حركة العقول " (81).
لقد تغيّرت مهمة النقد، فلم يعد الغرض منه " تقويم حركة العقول والأفكار، بل شرح الشعر العربي، وتقرير طريقة الشعر الجاهلي لتكون نموذجاً ومنهجاً للشعراء..... فتمكنت الطريقة العربية القديمة وطريقة الخيال والتصور عند العرب من الاستيلاء على أفكار الشعراء والكتّاب "(82).
إن موقف النقد والنقاد هذا كان سبباً رئيساً في الحيلولة دون تطور الشعر العربي. فقد فرض هذا الموقف على النقاد أن يقتصروا " على الملاحظة العابرة، فلم يخطر ببالهم أن يضعوا للشعر مذهباً شاملاً يسهم في تخليصه من أغلال الشكل، ويوجهه إلى ما في الشعر من غاية إنسانية، ومظهر فكري " (83). وسبب هذا الموقف أن " الشعر هو الذي صاغَ مبادئ النقد، في حين إن النقد هو الذي كان ينبغي أن يصوغ مبادئ الشعر " (83).
لقد كان النقاد، إذاً هم السبب في تدهور النظرة إلى الشعر. وهم في موقفهم هذا إنما يلتقون مع من يسميهم حامد عبد القادر بأفراد الطائفة الموضوعية في النقد، أولئك الذين " يرجعون سبب سرورهم الجمالي إلى صفات يتصف بها الجميل، فيعلّلون سرورهم من الصورة مثلاً بصفاء ألوانها أو وضوحها، أو إشراقها، أو تشبّعها، ويميلون إلى مقارنة اللون الذي يرونه بلون آخر يعدّونه مثلاً أعلى. ولا يعدّون الشيء جميلاً إلاّ إذا كان مطابقاً لنموذج أو مقياس معيّن قد حددوه وبيّنوا أوصافه. ولذا يقال عنهم إنهم يتأثّرون في تقدير الجمال بإدراكهم وتعقّلهم، أكثر مما يتأثرون بوجداناتهم وعواطفهم. وهم أدق في النقد، ولكنهم أضعف في التقدير وتذوق الجمال " (84).
إن الأسلوب النقدي الذي يتبعه أفراد هذه الجماعة في تقديرهم للجميل، كثيراً ما يقف في سبيل الخيال الطليق الفياض، ويحول بينه وبين التعبير عن نفسه بملء حريته، ويدعو الفنان إلى محاكاة نموذج مثاليّ معيّن.
نتيجة لذلك، راح هؤلاء النقاد ينظرون إلى الشعر من الناحية الشكلية اللغوية، بعيداً عن معانيه وأغراضه الأساسية، وعن تأثرّه بالحقيقة والواقع، أو الخيال والوهم، وعن مدى تأثيره في نفس المتلقي وإثارته لشعوره الوجداني أو العاطفي (85).
ولعلّ أحداً يتساءل هنا عن سبب تقصير القدماء في نظرتهم إلى الشعر، وعن سبب عدم تماسك تصوّرهم لطبيعة الفن الشعري (86). فيجيب محمد النويهي عن هذا التساؤل بقوله: إن البلاغيين والنقاد والقدامى لم يقصّروا تقصيرهم ذاك، ويقعوا في أخطائهم تلك، إلاّ لأنهم - أصلاً - لم يفهموا ما الأدب، ما كنهه، ما دوافعه، ما منشؤه من النفس الإنسانية، ما وظيفته، ماذا يحاول، لماذا تحتاج إليه الإنسانية، لماذا يهتم الأدباء بإنتاجه، بل يساقون سوقاً لا يستطيعون له دفعاً، ويكلفهم الكثير من الجهد، ويفرض عليهم الكثير من التضحيات، كيف نتلقى إنتاجهم، وماذا يجب علينا أن نحاول التقاطه منه، وما طبيعة التجربة الفنية، وما علاقتها بالتجربة الواقعة، فيم تزيد عليها، فيم تتفق التجربتان وفيم تختلفان ؟" (87).
هذا هو السبب في قصور نظرة القدماء إلى الشعر، وفي عدم تماسك تصوّرهم لطبيعة الفن الشعري، الأمر الذي أدّى إلى التناقض في الكثير من آرائهم النقدية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إحسان عباس: تاريخ النقد 160
(2) انظر: نظرية المحاكاة لعصام قصبجي 80
(3) انظر إحسان عباس: فن الشعر 144، ط3 دار الثقافة، بيروت، د. ت
(4) محمد غنيمي هلال: النقد الأدبي الحديث 410، دار الثقافة ودار العودة، بيروت، 1973
(5) انظر أرسطو طاليس: في الشعر 258 وما بعد، وهذا رأي عبد القاهر الجرجاني أيضاً.
6) هلال: النقد الأدبي الحديث 162
(7) الشابي: الخيال الشعري عند العرب 119-120.
(8) المصدر نفسه 120-121.
(9) عدنان حسين قاسم: التصوير الشعري 100
(10) ايليا حاوي: فن الوصف 2/98، ط1 دار الشرق الجديد، بيروت 1960
(11) انظر الشابي: الخيال الشعري 128
(12) انظر المرجع نفسه 130
(13) يرجع الشابي ثبات الشعر العربي على نظام التعبير الجاهلي إلى عوامل: الوراثة، والنقاد، وعدم الاطلاع على آداب الأمم الأخرى - (انظر الخيال الشعري عند العرب 131).
(14) انظر المرجع نفسه 136
(15) انظر الصورة في النقد الأوربي للرباعي 62-63 ونعيم اليافي: البلاغة العربية 239
(16) انظر ناصف: الصورة الأدبية 93
(17) المروزقي شرح ديوان الحماسة 1/9
(18) البلاغة تطور وتاريخ لضيف 192-193
(19) الصور البيانية لحفني شرف 161.
(20) انظر هلال: دراسات ونماذج 62-63-65.
(21) نظرية المحاكاة لعصام قصبجي 170
(22) الصورة الأدبية لناصف 186.
(23) الأسس الجمالية لعز الدين إسماعيل 222-223
(24) المرجع نفسه 213
(25) المرجع نفسه241
(26) التصوير الشعري لعدنان قاسم 107
(27) الصورة الفنية 214
(28) انظر اليافي: البلاغة العربية 237
(29) المرجع نفسه 236
(30) انظر المرجع نفسه 236، وشرف: الصور البيانية 159
(31) البلاغة العربية 238
(32) إسماعيل: الاسس الجمالية 373
(33) للمزيد من الاطلاع حول مفهوم الرؤية، انظر إسماعيل دندي: الرؤية والشعر العربي الحديث، ص 144 -157، مجلة المعرفة، وزارة الثقافة السورية، دمشق العدد 339، كانون الأول 1991
(34) انظر أدونيس: زمن الشعر 42، 39.
(35) انظر د. نصرت عبد الرحمن: الصورة الفنية في الشعر الجاهلي 175، مكتبة الأقصى، عمان، 1976
(36) انظر اليافي: البلاغة العربية 276، وانظر أيضاً ظاهرة التكرار في الثقافة العربية التقليدية في: زمن الشعر لأدونيس 22
(37) الصورة الأدبية لناصف 191
38) زمن الشعر لأدونيس 42 -43. ويقول عز الدين إسماعيل: " وكان قصارى العمل الأدبي الناضج أن يحدث اللذة "_ الأسس الجمالية 171.
(39) الأسس الجمالية لعز الدين إسماعيل 373.
(40) انظر نظرية المحاكاة، لعصام قصبجي 44، وهذا الرأي لابن سينا.
(41) الأدب وفنونه لعز الدين إسماعيل 143.
(42) الصورة الأدبية لناصف 122.
(43) البلاغة تطور وتاريخ لضيف 212.
(44) نظرية المحاكاة لعصام قصبجي 169
(45) الأسس الجمالية لعز الدين إسماعيل 171
(46) والصنعة هنا بالمعنى الفني المطبوع. ولكنها تحوّلت فيما بعد بتأثير الشكلية إلى صنعة رديئة، إذ انصبّ اهتمام الشاعر على الصورة دون المعنى. (انظر الأسس الجمالية 215، وكلام قدامة المذكور في حديثنا عن التحسين والتعجيب)
(47) الأسس الجمالية لعز الدين إسماعيل 214.
(48) سلام: تاريخ النقد من القرن الخامس إلى العاشر 104
(49) انظر الصورة في النقد الأوربي للرباعي 62
(50) الأسس الجمالية 214، وانظر الأدب وفنونه لعز الدين إسماعيل 141-142
(51) الأدب وفنونه لعز الدين إسماعيل 142
(52) المرجع نفسه 142-143.
(53) انظر ايليا حاوي: نماذج في النقد الأدبي 67 ط3، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1969. ويقول عز الدين إسماعيل مستنتجاً من كلامه على بيت ابن المعتز السابق:" كل هذا يخلص بنا إلى أن الصورة لم تكن لتتجاوز الشكل الخارجي للأشياء، دون تعمق لها من جهة، ودون استغلالها في نقل مشاعر محدّدة في نفس الشاعر من جهة أخرى " (الأدب وفنونه 142).
(54) الأدب وفنونه لعز الدين إسماعيل 143.
(55) الصور البيانية لحفني شرف 444
(56) تاريخ النقد العربي من القرن الخامس إلى العاشر 104، وسلمى الخضراء الجيوسي: الشعر العربي المعاصر ص 49، مجلة عالم الفكر، المجلد 4، ع2، 1973.
(57) اليافي: البلاغة العربية 233 -235.
58) هذا الكائن الجديد هو المعبّر عنه بمعنى المعنى عند الفارابي وريتشاردز (انظر: نظرية الشعر عند الفارابي 174 لزكي نجيب محمود، في " مهرجان الشعر الأول " المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، دمشق 1959)، أو بالتصور (انظر نصرت عبد الرحمن: الصورة الفنية في الشعر الجاهلي 9).
(59) اليافي: البلاغة العربية 236.
(60) زمن الشعر لأدونيس22.
(61) النقد 40-41
(62) انظر الشابي: الخيال الشعري 125-126
(63) هلال: دراسات ونماذج 21
(64) اليافي: البلاغة العربية 230
(65) الصورة الأدبية لناصف 191.
(66) انظر المرجع نفسه 190
(67) النويهي: الشعر الجاهلي 1/15
(68) المرجع نفسه 1/15 -16
(69) تاريخ النقد 168
(70) الموازنة 1/197
(71) عباس: تاريخ النقد 167-168
(72) المرجع نفسه 167
(73) دراسات ونماذج 16
(74) زمن الشعر لأدونيس 22.
(75) خالد محي الدين البرادعي: النظرية النقدية عند القرطاجني، ص 125، مجلة المعرفة، دمشق ع 233، 1981
(76) نظرية المحاكاة 160
(77) انظر زمن الشعر لأدونيس 22
(78) جابر عصفور: الصورة الفنية 236.
(79) انظر نظرية المحاكاة لعصام قصبجي 79.
(80) المرجع نفسه 81
(81) أحمد ضيف: مقدمة لدراسة بلاغة العرب 161، ط1، القاهرة 1921
(82) المرجع نفسه 158
(83) نظرية المحاكاة 82، وانظر ص 159 من المرجع نفسه، حول أثر الشعر الجاهلي في مبادئ النقد العربي.
(84) حامد عبد القادر: دراسات في علم النفس الأدبي 107
(85) انظر المرجع نفسه 108-109
(86) انظر جابر عصفور: الصورة الفنية 139
(87) الشعر الجاهلي 1/21.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
وفد كلية الزراعة في جامعة كربلاء يشيد بمشروع الحزام الأخضر
|
|
|