المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24



رحلات إلى عالم الموت والآخرة  
  
2989   03:19 مساءاً   التاريخ: 24-03-2015
المؤلف : محمد الصالح السليمان
الكتاب أو المصدر : الرحلات الخيالية في الشعر العربي الحديث
الجزء والصفحة : ص54-71
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الحديث /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-03-2015 1655
التاريخ: 1-10-2019 1036
التاريخ: 15-12-2019 832
التاريخ: 24-03-2015 1897

لقد اتجهت بعض الرحلات الخياليّة إلى عالم الموت والبرزخ تحمل إليه أرواحها المتعبة عساها تجد في هذا العالم الرهيب خلاصاً لها، وربّما دفع حبّ الاكتشاف بهم لولوج هذه الظلمات التي لا يمكن رسم ملامحها إلاّ من خلال الرؤى المجنّحة، أمّا عالم الآخرة فيراد به الصورة المتخيّلة للقيامة، ولكنّ هذه الرؤى لابدّ أن تتلوّن بأفكار الشاعر وموقفه نحو المجتمع والحياة والإنسان. وهذه الرحلات، ((ثورة في الجحيم)) للزّهاوي، و((على شاطئ الأعراف))، لمحمد عبد المعطي الهمشري، و((جحيم النفس)) لمحمد حسن فقّي، و((ملحمة القيامة)) لعبد الفتاح رواس القلعجي.

على شاطئ الأعراف: محمد عبد المعطي الهمشري (1908-1938).

جاءت قصيدة ((على شاطئ الأعراف)) لمحمد الهمشري في ثلاثمائة وسبعة أبيات منظومة على البحر الخفيف، المنوّع الرويّ، وموزّعة على ستة عشر نشيداً تتفاوت في الطول. وقد نشر مقتطفات منها في مجلّة السياسة الأسبوعيّة، ثمّ نشرها في مجلّة أبولو، المجلّد الأول شباط 1933 الصفحة 627 وقد أثبتها عبد العزيز شرف كاملة في كتابه الهمشري شاعر أبولو. (1)

تبدأ الرحلة بانتقال الشاعر إلى عالم الفناء على جناح الشعر وخياله ليطوف في رحاب شاطئ الأعراف يعلو فيها الشاعر فلك الروح السابحة في بحران الحزن والألم ليرى سفن الموت وقد لفّها سواد الليالي ويناجي الشاعر الليل والوقت والسكون، ثمّ يستفيق على نور الآلهة التي تحاول تخليصه ممّا به فتأخذه إلى الجنّة، ثمّ يعود ليستمع إلى غناء قيثار الموت يردّد ألحان الصِّبا والمشيب والأسى ليصل بعدها إلى شاطئ الأعراف حيث يبثّ هناك شكاته إلى العدم بعد أن فقد أذن المصيخ في دنيا الناس.

القصيدة رحلة تأمّلية إلى عالم ترك أثره عميقاً في نفس الشاعر هو عالم الموت، والشاعر إنسان مرهف الإحساس كان قد انتقل بحسّه ليعالج هذا العالم، إن لم نقل يتنبأ بوساطة روحه بمصيره القريب لأنّ روحه صورة من نفسه الحزينة وتجاربه العاطفيّة التي باءت بالفشل، فجاءت انعكاساً لشحوب الأمل الذي لفّ الشاعر أثناء إقامته في المنصورة.

وشاطئ الأعراف شاطئ خياليّ بخلاف الأعراف، المكان المذكور في القرآن الكريم الذي هو بين الجنّة والنار. (2)

يبدأ الشاعر بنشيد الذكريات إذ يشرب كأس الفناء الذي يبعث فيه روح الشعر ويوقظ سبات الفكر فتبحر به سفينة الذكريات تطوي ضفاف الحياة، غير أنّ رياح الأسى ما تلبث تداعب الشراع وسط دجى اليأس وصورة الموت يهمس في أذن الشاعر في ذهول وثّاب يتخطّى كلّ الأعاصير والأهوال يقول:

إنّهُ الحبُّ مَا يَزالُ يُعَاني ... كلَّ هَولٍ وَيمتطي كلَّ صَعْبِ(3)

 

غير أن الشاعر يخاف على الحبّ ممّا تعاني النفس في الموت ويخشى أن يلفظ أنفاسه ويردى كما أرديت النفس، ولكنّ الحبّ صنو الحياة وارثة الموت وهو نور الإله يرفّ على الكون، ثمّ يتنبّه الشاعر فجأة على ضجيج سفن الموت تعبر شاطئ الأعراف فيخاطب الوقت لأنه وقود الحياة، قائلاً:

وَيَكَ يَا وقتُ إِتَئِدْ! أينَ أَمْضِي ... تائِهَاً فوقَ هاتِهِ الأمْواجِ(4)

 

وسفن الموت عليها من المنايا شحوب ترفع راية الشاطئ ويحوّم الفناء حولها بهزيمه، ثمّ يمضي بفلكه الكسير، وقد أحاطت به الويلات، يتهادى خلف سفن الموت. والليالي تمرّ مسرعات مثل الظلال وكأنّ نور الحياة في احتضار أبديّ والليل مقبرة الأحقاب.

ثمّ في نشيد ((الشاعر والآلهة))، يتنبّه الشاعر مبغوتاً إلى نور يشقّ الدجى ويملأ جنبات الأفق فيسأل الشاعر الآلهة عن ذلك فتخبره إنّه ركابها قد تخطّى كلّ العواصف والظلمات ليقلّه إلى الفردوس حيث عذارى الينبوع وموسيقا الحياة ليلقى التعويض عمّا لاقاه من آلام في هذه الحياة، وعندما تحاول الآلهة تركه في فردوسها يأبى إلاّ مرافقتها لأنه اعتاد ملازمتها في الحياة فهي السلوى والنجوى يقول:

كُنْتِ سَلْوَايَ في الحياةِ وفي الموْ ... تِ أرَاكِ عَلى دُجَاهُ خُذيني(5)

 

فتصحبه آلهة الشعر على فلك الدّجى يسير حثيثاً بين الأهوال.

ثمّ يسمع إلى أرغن يردّد ألحاناً كثيرة تمثّل أدوار الحياة المختلفة كلحن الصِّبا والجمال والمشيب والأسى. وفي غمرة هذه الألحان يتنبّه الشاعر على نور باهت يملأ الأفق شعاعه فتنبّهه الآلهة إلى مطلع شاطئ الأعراف، فيقول:

هُوَ مَثْوَى الأَلْحانِ بَعْدَ شتاتٍ ... وَمقرُّ الأَرْواحِ بَعْدَ طَوافِ

تَرْقُبُ المَوْتَ والحَيَاةَ تَسيرا ... نِ عَلى الوَقْتِ وهو كالرّجَافِ(6)

 

وهناك في مكان قصيّ عن العالم حيث يخيّم الصمت، ويلوّن الفضاء شحوب الموت ويقطع الصمت نعيب الموت يستقرّ شاطئ الأعراف، فلا ملامح واضحة هنا تحيي الأمل في النفس غير منظر بياض الثلج فوق الصخر، يقول:

لَهْفِي كلُّ مَا أرى فَهْوَ مَوتٌ ... يُنْذِرُ الأَرْضَ مَوْعِداً بالثَّبورِ

هُوَ وادٍ للموتِ يَنْشُر فيهِ ... شِبْهَ دُنيا تَفْنَى وشِبْهَ حَيَاةِ(7)

ويصف الشاعر ما في الشاطئ من خيالات ودياجير وموج متعال على موج وظلمات بعضها فوق بعض، وكذلك سفائن العمر وهي تمضي والوقت يقطع منها حبائل الآمال، وعزيف وادي الموت حتّى يكاد الشاعر يقطّع النفس من شدّة الهول فتنجده الآلهة وتقوده إلى بقايا الشاطئ ليرى قبر الليالي وقبر الحياة الذي راح يرشّه الزمان بدموع الرحمة والشفقة وتبدو ركائب الحياة تسير متهاديّة إلى مثوى الأحقاب حتّى تغيب في الضريح فلا يبقى منها غير طيف الخيال.

وفي نشيد ((السكون الحاكم)) حيث تنتهي الحياة ويسود الصمت ويخيّم الفناء، يصرخ الشاعر في العدم مستجدياً أن يسمع شكواه، ويبدو أنّ الشاعر فقد أذن المصيخ له في عالم الحياة، فاستعان بروح الشعر ليصل إلى هذا العالم العجيب ليبثّه شكواه فتراه يقول:

قِفْ وَدَعْنِي أَبْثُثْ إليكَ شُكَاتِي ... والتياعي مُهَمْهِماً في أُذْنِكْ

لَمْ أَجِدْ في الحياةِ لي أُذُناً تَسْـ ... ـمَعُ شَكْوَايَ أو فؤاداً حَنُوناً

وَلِذا قَدْ أَتيْتُ أَشْكُوكَ مَا بِي ... فَلَقَدْ تَرْحَمُ الكَئيبَ الحَزِينا(8)

 

وفي النشيد الأخير وعنوانه ((ساحر الوادي المغني)) يتخيّل الشاعر مغنيّاً يعبث بقيثاره في وادي الموت يغنّي أهل الفناء كما كان يغنّي ألحان الحياة، غير أنّ قيثاره قد تعطّل وطال صمته فيطلب منه الشاعر النهوض وبعث لحن الحياة في صمت الوادي ووحشته يقول:

سَاحِرَ الموتِ طَالَ صَمْتُكَ هيَّا ... رَجِّعْ اللَّحنَ أيُّهذا الشّادِي

قُمْ أيَا عازِفَ المنونِ وَغَنِّ ... وابْعَثِ النَّغْمَ فوقَ صمتِ الوادِي(9)

 

ثمّ يهتف به أخيراً لبعث الألحان، داعياً على تلك اليد التي عطّلت قيثاره عن بعث نسغ الحياة في وادي الموت، يقول:

لَهْفِي مَا أَرَاكَ تَبْعَثُ لَحْناً ... فاخْبِرْ الشّعْرَ ما دهى قِيثَارَكْ

سوءَةٌ لليدِ الّتي عَطّلَتها ... وَعَفْتْ في غِنائِها أَوْ تَارُكْ(10)

وهكذا طاف الهمّشري في عالم الخيال الذي أبدعته مخيّلته وروحه الشعريّة ليطرح في هذا العالم بقايا حزنه الكئيب الذي رسمته الحياة الحزينة وخلعت عليه مسحة من الرهبة والتشاؤم، وكان لابدّ لهذه الروح من التطهّر منها فكانت الرحلة وسيلة للخلاص ولارتقاء الروح في عالم الطهر. إنّ رحلة الهمشري هي تعبير عن نزوع رومانتيكي يسمو من خلاله الشاعر فوق الواقع ويبوح بمشاعره ونزعاته وأهوائه، بما فيها من شجن وألم، ويسعى بهذا البوح إلى تحقيق شيء من الخلاص أو التوازن.

ثورة في الجحيم: جميل صدقي الزهاوي (1863-1936).

تعدّ قصيدة ((ثورة في الجحيم)) من أطول قصائد الزهاوي التي نشرها أوّل مرة في مجلّة الدهور اللبنانية سنة 1931، ثمّ ضمّنها ديوانه الأوشال وبلغ عدد أبياتها ثلاثة وثلاثين وأربعمائة بيت، وهي منظومة على البحر الخفيف الموحّد القافية والرويّ ((الرّاء)) (11) وقسّمها إلى ثلاثين مقطوعة هي:

1-منكر ونكير في قبر الميّت ووصف دقيق لهما.

2-حوار بين الملكين والميّت فيه أسئلة عن أمور عديدة يجامل الميّت في الإجابة عنها.

3-مصارحة الميّت.

4-وصف الصراط.

5-السؤال عن الملائكة والشياطين والجنّ، وأجوبة الميّت.

6-السفور والحجاب، وجواب الميّت.

7-السؤال عن الله، وجواب الميّت.

8-إلقاء الحجّة.

9-الله هو الأثير والاختلاف في الاسم.

10-امتناع الميّت عن الإفاضة في الجواب.

11-اتركاني ولا تزعجاني.

12-تقريع الميّت.

13-الإلحاف في السؤال.

14-الحوار الأخير.

15-عذاب القبر.

16-أخذ الميّت إلى الجنّة ليرى ما حُرمه من الثواب، ثمّ وصفها بدقّة.

17-قذف الميّت في الجحيم ووصف عذابها.

18-حوار بين الشاعر وليلى في جهنّم.

19-الشعراء في الجحيم.

20-عمر الخيام يتغنّى بالخمرة في الجحيم.

21-سقراط يلقي محاضرة في الحكماء في الجحيم.

22-منصور الحلاّج في الجحيم يعاتب الله.

23-اختراع أحد أهل الجحيم آلة تطفئ النار.

24-خطبةأحد شباب الجحيم يحدث بها ثورة عارمة.

25-المعرّي ينشد نشيد الثورة، ويردّد له الجمهور.

26-الحرب بين الزبانية وأهل الجحيم.

27-إنجاد الشياطين بقيادة إبليس لأهل الجحيم وانتصار الملائكة بقيادة عزرائيل للزبانية.

28-نشوب حرب مهولة بين الطرفين تنجلي عن انهزام الملائكة وإطفاء نار الجحيم، واحتلال أهل الجحيم للجنّة، طائرين على ظهور الشياطين.

29-طرد أهل الجنة من البله بعد احتلالها.

30-الخاتمة.

تدور أحداث الرحلة بعد انتقال الزهاوي إلى عالم الموت وهناك في القبر يلتقي ملكيّ السؤال منكراً ونكيراً بمنظرهما المهول، ويدور بينهم حوار طويل حول قضايا الدين والاعتقاد في الدنيا يظهر الشاعر فيه السخرية والتهكّم من هذه المعتقدات، ممّا يدفع الملكين إلى نقله إلى الجحيم ليقاسي العذاب الأليم وهنا يبدأ قسم آخر يلتقي فيه الشاعر رجال علم وأدب وفنّ وفكر وسياسية في الجحيم يحاورهم ويتحدّث إليهم ويساهم في التحريض على الثورة التي تنشب نارها بين سكان الجحيم وملائكة العذاب لتنتهي بانتصار لقوى الجحيم على الملائكة وينتهي معها الحلم.

يبدأ الزهاوي رحلته بالانتقال المفاجئ من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، وهناك في القبر (أوّل منازل الآخرة) (12)، يلتقي الشاعر الملكين منكراً ونكيراً، فيصف منظرهما بشيء من المبالغة والتهويل لإظهار هول الموقف فالقبر ليس فيه ما يؤنس، وكانا فظين غليظين معه في المعاملة ثمّ يبدآن بسؤاله عن بعض القضايا التي كان يؤمن بها عندما كان حيّاً، كالإسلام والتسيير والتخيير والشعر والفنّ. غير أنّ الشاعر ينحرف بالسؤال، إذ يظهر تبرّمه من أسئلة الملائكة المتعلّقة بالدين، وعندما يلحفان عليه بالسؤال يتبرّم بهما ويشكو ويئنّ ثمّ يفصح عن مذهبه الذي عاش عليه ويتلخّص في قوله:

 

غَيرَ أنّي أُجلُّ ربِّيَ منْ إتْ ... ـيانِ مَا يأبَاهُ الحَجا والضّميرُ(13)

 

ثمّ يسأله الملكان عن الملائكة والجنّ والشياطين، وهي أمور يعدّ التصديق بها من صلب العقيدة وإنكارها يقود إلى الكفر والتجديف، ويبدي الشاعر كعادته شكّه في كلّ ما لا يقبله العقل يقول:

 

غَيرَ أنِّي أرتابُ في كلِّ ما قَدْ ... عَجزَ العقلُ عَنْهُ والتّفكيرُ(14)

 

ثمّ يتابع الملكان الأسئلة والشاعر يسخر مرّة ويرتاب أخرى ويراوغ ثالثة حتّى يظهر فلسفته الماديّة بكلّ وضوح في ردّه على الملكين لمّا سألاه عن الله:

 

ليسَ بين الأثيرِ واللهِ فرقٌ ... في سِوى اللّفظِ إنْ هداكَ الشّعورُ(15)

 

ويطلب بعد ذلك من الملكين أن يسألاه عن الشعر والفنّ وماذا قدّم من أعمال نصر بها الحقّ والوفاء والعمل في سبيل رفعة الوطن وبنائه غير أنّ الملكين يوضحان له أنّ الدار للحساب وأنّه ليس للشعر والفن مقام لدى أهل القبور، ويصل الحوار بعد ذلك إلى ذروة الجدل ويغدو مركّزاً سريعاً ينتهي إلى ضرب الشاعر وتقريعه من قبل الملكين وإعلانهما انضمامه إلى أهل الجحيم، يقول:

لا يُفيدُ الإيمانُ من بعدَ كُفْرٍ ... وكذَا جدُّ الطّائِشين عَثُورُ(16)

 

ثمّ يطير به الملكان إلى الجنّة ليرياه ما حرم من النعيم فيزداد حسرة وحرقة وغصّة، فيصف الجنّة متكئاً على وصف القرآن لها، ثمّ يخرجان به منها إلى الجحيم حيث يبدأ القسم الثاني من هذه الرحلة.

أوّل من يلتقيه في الجحيم فتاة اسمها ليلى فرّق بينها وبين حبيبها سمير فراحت تبكيه بحرقة وغصّة، فيحاورها الشاعر ويعرف ما أوجب عليها الجحيم.

ثم يلتقي الشعراء في الجحيم أمثال الفرزدق والمتنبي والمعرّي وبشار وأبي نواس والخيام ودانته وشكسبير وامرئ القيس، فيقول:

 

قُلْتُ مَاذا بكُمْ فقالُوا لقيِنا ... مِنْ جَزاء مالا يُطيقُ ثَبيرُ

إنَّنا كُنَّا نَسْتَخِفُ بأمرِ الدِّ ... م ... ينِِ في شِعرِنَا فَسَاءَ المَصيرُ(17)

 

ويستمع بعد ذلك إلى الخيّام يتغنّى بالخمرة ويتمنّى لو أنّه ما فارقها أبداً حتّى ولو كان بقاء الودّ بينهما في الجحيم، فهي تبرّد النار وتصمد في وجه الزمهرير، وكذلك يستمع إلى سقراط الذي وقف خطيباً بين الحكماء والعلماء أمثال: أرسطا طاليس، وكوبر نيك وداروين وغيرهم. حتّى الحلاّج لم يسلم من العذاب في النار وهو يعاتب الله لأنّه زجّ به في الجحيم.

ثمّ يلوح التذمّر والضجر بين أهل الجحيم من سوء المعاملة وسوء المقدور الذي كتب عليهم فيخطب أحد شباب الجحيم خطبة تثير روح الثورة بين أهلها فتضجّ الجحيم بالأصوات تتعالى في جوانبها وقد ماج أهلها وهاجوا حتّى كادت السماوات تقع لثورتهم وانطلقوا من كلّ حدب وصوب يرفعون الأصوات بأناشيد الثورة حتّى كان المعرّي موجّههم السياسيّ ومثير الحماس في صفوفهم يقول:

 

المعرّي: غصَبوا حقّكُمْ فيا قَومُ ثُوروا ... إنَّ غَصبَ الحُقوقِ ظُلْمٌ كَبيرُ

الجمهور: غَصَبُوا حقَّنا ولَمْ يُنصِفُونَا ... إنَّما نحنُ للحقوقِ نثورُ

المعرّي: لكُمُ الأكْواخُ المُشيدَةُ بالنَّا ... رِ وللبُلهِ في الجنانِ القُصورُ(18)

 

فتهبّ زبانية العذاب مذعورة إلى الجحيم لصدّ السيل الجارف الذي تحرّك في النار وراحت الأذرع تتطاير والرؤوس تتهاوى والبطون تفرى، وتتدخل الشياطين لإنجاد أهل الجحيم والملائكة لإنجاد ملائكة العذاب وتدور حرب طاحنة بين الفريقين يغدو الجبل فيها حصاة تتطاير بين الفريقين والشهب والصواعق سياطاً يترامى بها الطرفان إلى أن يسفر دجى الحرب عن انتصار جيش الشياطين واندحار جيش الملائكة بقيادة عزرائيل ثمّ يطير الثائرون على ظهور الشياطين يريدون احتلال الجنّة ولا يجدون هناك مقاومة تذكر فيتمّون بذلك إحراز نصرهم المبين ويطردون من الجنة من فيها من البله والسذج ويتركون الصالح من أهلها. عندها يستفيق الشاعر على حرّ شمس الضحى، وإذا به كان في حلم أثاره الجرجير يقول:

 

وتَنَبَّهتُ مِنْ مَنَامِيَ صُبْحاً ... وإذا الشَمس في السَّماءِ تُنيرُ

وإذَا الأمْرُ ليسَ في الحقِّ إلاّ ... حُلُمَاً قَدْ أثَارَهُ الجَرْجِيْرُ(19)

وبهذا تنتهي أمنية كانت تعيش في خلد الزّهاوي، يعرّض فيها بكلّ من يريد من رموز تدّعي الدين والتقوى ذاهباً في رؤيته إلى أبعد أشكال الرمز الشعريّ حين يدفع بثورة البؤساء في دنيا الخيال إلى تحطيم كلّ أشكال القهر والحرمان في الأرض، وهو الذي يقول عنها في ردّه على الأمير عليّ بن الحسين شقيق الملك فيصل حين سأله عنها: ((يا سيّدي وماذا تخشى من شاعر بلغ من السنين عتياً، وحاربته الأيام وتكاثرت حوله الأعداء، فانفعل انفعال الشعراء ولكنّه أعجز من أن يضرم الثورة في الأرض فأضرمها في السماء))(20) كما تكشف الرحلة عن طبيعة تفكير الزّهاوي الذي بدا مقلّداً للفلسفة الغربية ذات النزعة الماديّة الغالبة، ونفسيّته المترددة الخائفة التي لا تستطيع الصمود أمام سطوة السلطان، كما تلمس موقفه من الحياة الاجتماعيّة في عصره، ولا سيما، قضايا المرأة والتزام النضال في حياة الفرد الكريمة وغيرها من القيم الاجتماعيّة التي بدأت المجتمعات تفقدها في ظلّ الحكومات الرازحة تحت الاستعمار.

جحيم النّفس ... ... محمد حسن فقّي 1912

كتب الفقّي قصيدة جحيم النفس سنة 1952م وهي في المجلّد الأول من مجموعته الكاملة في الصفحات 222-223-224-225. وتتألف من واحد وستين بيتاً على البحر الخفيف الموحّد القافية والرويّ الذي هو ((الميم)) (21).

يتخيّل الشاعر أنّ محبوبته التي هي (نفسه) ماتت قبله فيطلب إليها أن تسبقه إلى الجحيم وتخبر هناك إبليس وأتباعه من الإنس والجنّ بقدومه، وفي الجحيم يخاطب الشاعر هذه النفس التي ساقته إلى هذه المملكة ويحاول أن يطهّرها بالعذاب والاكتواء بالنار لترقى إلى مستوى الطهر الروحي الذي تستحقْ معه أن تسكن النعيم.

في عرض مفاجئ يُسمَع صوت الشاعر يخاطب نفسه بأن تسبقه إلى الجحيم، وفي عتوّ جارف وصلف لا تحدّه حدود يطلب إليها بأن تحثّ سكّان النار على انتظار هذا الزعيم القادم الذي لا يأبه لنار ولا لشواظ ولا لعذاب، فيقول:

 

اسبقيني إلى الجحيمِ فإنِّي ... سأوافِيْكِ في غَدي للجحيمِ

واطْلبي مِن سُراتِهِ أنْ يكونُوا ... عِنْدَ أبوابِهِ قُبيلَ قُدومي

أخبرِيهمْ أنَّ الزّعيمَ سَيأتِيـ ... ـكُمْ فَهُبُّوا إلى لقاءِ الزّعيمِ(22)

 

وهناك يلقاه شيطانه، وماذا يفعل الشيطان أمام من يدّعي أنّه زعيم على الشياطين وقد فاقهم في الإثم والشرّ، حتّى إنّ الأرض لتشكو من مباذله! وليس أمام الشيطان إلاّ أن يرفع له راية الإثمّ وعرفان الحمد على الشرّ الذي فاقه فيه ويجعل هذا الوافد الجديد يتقدّمه إلى النار يقول:

 

قالَ فيه شَيْطَانُهُ وَهْوَ يُطْريْ ... ـهِ لأَنْتَ الرّجيمُ مَوْلى الرَجيمِ

لستُ أدْرِي فأنْتَ في الشّرِّ مَوهُو ... بٌ وفي الإِثْمِ ضَاربٌ في الصّميمِ(23)

 

ولكن مَنْ هذه المخاطبة التي يخاطبها الشاعر؟ أهي نفسه الآثمة التي سبقته إلى الجحيم أم فتنته وضلالته في هذه الحياة، أم تراها محبوبته ملهمة الفجور والآثام؟ والأرجح أنّ المخاطبة هنا هي نفسه لأنّه يدعوها في نهاية القصيدة إلى التطهّر من الآثام بالنار لكي تحظى بالنعيم.

أخذ الشاعر في الجحيم يتحسّس من نفسه وهي تعاني عذاب الحريق، ويحمّلها أسباب شقائه، فقد ساقته إلى الآثام، وكانت دليله إلى المهالك والمهاوي فكم زيّنت له سوء عمله فرآه سروراً وسعادة، في حين كانت تسوقه إلى الجحيم يقول:

 

أَنَا لَولاكِ لَمْ أكُنْ عَارِمَ الصبَّـ ... ـوةِ أعْنُو لِخَمرتي ونَديمي

ولِمَا تَنْصبينَ مِنْ شَرَكٍ اللّهـ ... ـوِ ومَا تشتَهينَ مِنْ تأثيمِ

قُدتني كالبعيرِ يَلهو بهِ الطّفْـ ... ـلُ خَطيماً حيناً وغَيرَ خَطيمِ

ربَّما قادَهُ لسكِّينِ جزَّا ... رٍ فيغدُو مِنْ بعدِهَا كالرَّميم(24)

 

وفي لجّة جهنّم يحاول الشاعر أن يتلمس مسالك النجاة ولكنّه لا يكاد يتخلّص من هاوية إلاّ ليقع في أخرى، ويطّوف معها في النار معانياً شتّى أنواع العذاب، ويلتقي الشاعر إبليس في النار فيحاول الأخير ثنيه عن السعي إلى النعيم لأنّها والنار -في رأيه-وجهان لنقد واحد فيقول:

 

قَالَ إنَّ الفِردوسَ قَدْ أَجْدبَ اليو ... مَ فما فيهِ من وليٍّ حَميمِ

ولقَدْ جَاءَني رسولٌ منَ الجنَّـ ... ـةِ يشكُو إليَّ شكْوَى العديمِ

قالَ هذا وصدَّ عَنْ وجههِ الدَّا ... مي شُواظاً أهدتهُ ريحُ السَّمومِ

فتعجَّبْتُ من الرّاوي وقَهْقَهْـ ... ـتُ فَوْلّى وَقَالَ: أَنْتَ خَصيمي(25)

 

وفي النهاية يلتفت إلى حسنائه المغوية، وقد تغيّرت ملامحها حتّى صارت كأنّها هشيم الحطيم، وقد لفّها الحزن والندم والأسى على ما فوتّت إلى أن صارت قابلة للخلاص من الجحيم فيخرجان إلى الجنّة يقول:

 

واتّجهنا إلى السّموِّ كِلانا ... سَائرٌ في طريقِهِ المستقيمِ

ربَّما طّهَّرَ الجحيمُ نفوساً ... شَقِيَتْ قَبْلَ طَهْرِها بالنَّعيم

أيّها النَّفْسُ بَيْنَ جنبَيكِ نَارٌ ... تَتَلظّى تفُوقُ نَارَ الجحيمِ

فارحَميني مِنْ الضّريمِ فإنِّي ... لَمْ أَذُقْ في اللّظى كهذا الضّريم(26)

 

وهكذا يطوف الفقي برحلته الخياليّة التطهيريّة في أهوال الجحيم آملاً أن يتخلّص ممّا دنّس نفسه من أوضار الماديّة وشوائبها الفاسدة، فلم يجد سوى النار وسيلة للخلاص منها، فساقها إلى حتفها لتتطهّر وتصبح جاهزة للتمتع بنعيم الراحة والطمأنينة قبل نعيم الجنّة.

إنّ رحلة الفقّي تعبير عن اليقين بفطرة النفس، ونقائها الأوّل، وقدرتها على التوبة، وعودتها إلى فطرتها، وهي تأكيد لقبول التوبة، فالخير أصيل في الإنسان والشرّ عارض، ولابدّ من زوال العرض وبقاء الجوهر.

ملحمة القيامة: عبد الفتاح القلعجي (1938)

ملحمة شعرية جاءت في كتاب متوسط الحجم بلغ نيفاً ومائتي صفحة، وقد صدرت طبعته الأولى عن دار النفائس في بيروت سنة 1980. وقد اعتمد فيها بنيتها الإيقاعيّة على التفعيلة التي تختلف من نشيد لآخر، وقسّمها مبدعها إلى:

1-الصيحة الأولى.

2-الصيحة الثانية.

3-الصيحة الثالثة.

4-الحساب.

5-المطهر.

6-الشفاعة.

7-الجنّة.

8-النار.

9-ذبح الموت.

يسوق الشاعر -وفق الرؤية الدينية- العالم لنهايته الحتمية كنتيجة لطغيان الماديّة الراسفة في الإلحاد والشرور والأوهام والحروب والدمار والفوضى والفساد فتكون الصيحة الأولى التي يعلنها بوق إسرافيل، وتتالى الصيحات إلى أن تقوم الساعة على شرار الخلق عندها يكون الحشر والأحداث المتلاحقة لوقوف الناس فريقين أمام الله فئة مثّلت الخير والنقاء والصفاء وأخرى مثّلت الجبابرة والطغاة والوضعيين واليهود والطغام من الشذّاذ والأفاقين، ومن المطهر تشخص الأبصار وتظمأ القلوب إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيفصل بين أهل الجنة والنار، ويضرب بينهم بسور من نار، لينعم أهل النعيم بنعيمهم ويشقى أهل النار بعذابهم، وفي انشغال كلّ بنفسه ينادي منادي الرحمن بذبح الموت وخلود الفريقين كلّ في محلّه فيتأبّد حزن الإنسان ويتأبّد فرح الإنسان. ويتردّد صوت الحقّ ((لا ظلم اليوم.. لا ظلم اليوم)).

يلهب الشاعر خيال القارئ بما يوحي باقتراب النهاية، فيلفت انتباهه إلى سرّ التحوّل الخطير الذي طرأ على الكون، حيث سار سيراً حثيثاً مفعماً بالأسى إلى نهايته، فالهرج والمرج قد عمّا، والكون قد لبس سديم الدخان والفوضى التي ما تلبث أن تتقشع عن شخصيّة حواريّة تدير حواراً مع شخصيّة أخرى إنّهما الشيخ والفتاة.

يبدآن الحوار فيرسمان ملامح الصورة الأخيرة من سفر الكون الذي سار به بنوه إلى حتفه الأخير، بعد أن سمّروا نعشه بالفساد والاضطراب والماديّة إلى أن يشقّ السكون الكوني صيحة إسرافيل يقول:

بوقُ إسرافيلَ يُنهي العالمَ المسجورَ فينا

وتهاوى النّاسُ أوراقَ خريفْ

كلُّ ما في الأرضِ ماتْ(27)

ثمّ يسود الصمت ما يشاء الله ليعلن الحقّ جلّ وعلا بدء الصيحة الثانية وينساب صوت الحقّ في خيمة الصمت فتعجّ الحركة في جسد الكون، ولكنّه نشاط مقيّد بإذن الإرادة الإلهيّة، فتنصت إلى همسة الأرواح التي تحوّم في رحلة العودة فوق الأجساد، ثمّ ينطلق اللحن العلويّ إيذاناً ببدء الحياة، فتظهر شخصيتا الشيخ والفتاة، لترويا مجريات الأمور، وربّما كانت الشخصيتان تمثّلان الضمير الإنساني لذلك نجد الشاعر يصرّ على بقائهما أولاً في الرحلة، ثمّ تبدأ الشخصيات بالظهور على ساحة الأحداث لترسم لنا واقعيّة الحدث، فمن كلّ الجهات، هذا رجل وتلك امرأة، وهنا صوت سماويّ، ملك وملكة، كلّ الشرائح الإنسيّة والجنيّة والغرائبيّة كالدجّال والجسّاسة وإبليس.. إلخ. وكلٌّ أصابه الذهول حيث عنت الوجوه للحيّ القيوم.

وفي الصيحة الثالثة تتجدّد الحياة في كلّ شيء ولكنه تجدّد الخوف والرهبة. فكلّ شيء يعود بعد طول اغتراب، إنّها مسرحيّة الحياة التي ينهي الرحمن فصلها الأخير فتتوالى الكرب ويمتدّ يوم المحشر أحقاباً ويقيّد الوقت في صفد اللحظة إلى أن يأذن الله بقوله عزّ وجلّ: (إلى ربِّكَ يومئذٍ المسَاقْ) (28).

تخرج نار تسوق الناس في أرض تيه لا معلم فيها ولا دليل وفي صورة إيحائية تحت عنوان ((فرار)) (29) يبدو طفل يتضرّع إلى أمّه كيما تضمّه تحت جناح الأمن والرحمة، لكنّ الذهول يتحوّل نحيباً فهذه هي الصاخّة، وتتكرّر الصور لتعكس بوضوح ثنائيات ضدّية كالخوف والرجاء، والسعادة والشقاء، والذلّ والجبروت، وفي هذا التصوير يضرب الشاعر غوصاً في أعماق النفس البشرية، يكشف عنها الأقنعة التي تراكمت عليها، فتظهر شخصيات الناس أشبه بأشباح لا ملامح لها.

حتّى عندما يستخدم الشاعر صورة الرقص فهي لا توحي بالسعادة في الحركة والنفس، بل هو رقص مهول يحمل في اهتزازاته البؤس والشقاء.

ثمّ تنصب الموازين على أجساد تتلوّى من الظمأ القاتل وقد نهش أكبادها طول الانتظار، تتدافع جماعات إلى مكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ترجوه أن يدعو الله ليبدأ الحساب، فيدعو النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويُجاب. وتظهر شخصيتا الملحمة لتصفا الحركات والأصوات والصور المتشابهة حتّى ليخال المتلقّي أنّ الشخصيّات جمعت كلّها على صعيد واحد، ثمّ بالتفاتة جميلة يوحّد الشاعر التاريخ على صعيد القيامة في كلّ لحظاته الماضية والحاضرة والمستقبليّة التي لابدّ من وقوعها حسب المعتقد الديني، ثمّ تنصب الموازين والصراط وتظهر الأعراف التي تتميّز عن أعراف الهمشري.

وفي صورة المطهر ترسم صورة راعبة للعذاب، صورة تتداخل فيها الألوان والأصوات ليس للدلالة على الحياة، بل للدلالة على الموت البطيء خوفاً وألماً وقهراً يقول:

ورؤوسٌ رُضِختْ بالصّخرِ، عادَتْ مثلما كانتْ

ولا تفترُّ عنهمْ

فلقدْ كانُوا إذا نادى: الصّلاةَ

اثّاقلوا حتَّى الفَواتْ(30)

وفي فصل الشفاعة تتوافد الخلائق إلى آدم ثمّ إلى نوح فإبراهيم فموسى فعيسى تطلب إلى هؤلاء الأنبياء دعاء الله، وكلّهم يدفع الناس إلى لاحقه إلى أن تصل الخلائق إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم صاحب راية الحمد والشفاعة الكبرى فيقوم فيدعو الله، فتنصب الموزاين للحساب.

وفي النار يصوّر أبواب جهنّم وألوان العذاب المصفّدة خلف أبوابها، ثمّ يصف حوارها مع أهلها الذين تصلبهم على أعواد الجوع والظمأ حتّى يغاثوا بماء المهل وطعام الضريع إلى قوله:

وتبثّرَ في جسدِ الصمّتِ حسيسُ النّارِ

والوقّادونَ يَغُذُّونَ اللّهبَ المجنونْ

أجساداً وحجارهْ(31)

 

أمّا صورة الجنّة فهي على النقيض ممّا عليه صورة النار، فهي زاهية الألوان وارفة الظلال تموج ألواناً وتنوّعاً وجمالاً. فالحبّ يحلّ كلّ حناياها والوسن الناعس يداعب أجفان ساكنيها. وهناك يُسمع صوت الرحمن:

(اُدخُلُوها بسلامٍ آمنين) (32)

وتبدو أبوابها السبعة وكلّ باب يمتاز عن لاحقه فهذا (باب العُتبة) وذاك (باب الرحمة) وذلك (باب الريّان.... إلخ. عندها يخلع الإنسان أوزار الدنيا وأثقال النقص ليرتدي الحبرة الربانيّة ويحظى بعين العناية الرحمانيّة وتفنى روحه في فغمة الصمدية. يقول:

أحبيبَ التّوقِ انْحَرْ عَطَشي

فإليَّ... إليْ

أفغمني.. أفغمنْي

أواهُ

حبيبي

إنّي أفنى، أفنى، أفنى، أفـ.. ـنـ.. ـى(33)

ولعلّ أجمل ما في هذا الفصل المجالس التي يعقدها الشاعر في الجنّة على غرار مجالس المعرّي، ولكنّ هذه المجالس ثوريّة واجتماعيّة تذكر تاريخ العمّال والفلاّحين والكادحين والمناضلين ضد قوى الشرّ والطغيان.

ثمّ ما تلبث شخصيّتا المسرحيّة اللتان ظهرتا في بداية الرحلة أن تختفيا بعد أن تكشفا عن ثنويّة الضدّ التي تجمعها ورمزيّة الروح التي آلفتهما، يقول:

الدائرةُ الطّينيّةْ

الزَمنُ الإنسانيُّ

الجنسُ المنشطِرُ

الثنويةُ. نحنُ

ن.. حـ .. ن ... ... ... ن.. ن.. ن(34)

 

وتختم رحلة القيامة في المرحلة الأخيرة بما يندمج مع المعتقد الدينيّ الإسلاميّ بذبح الموت، هذا الكأس العلقم الذي طالما سقى المخلوقات من مراره سيسقى أخيراً من الكأس نفسه، عندما يصدع جبريل بأمر السماء وينادي أهل الجنّة وأهل النار وتتقطّع النفوس بين الرجاء والخوف، أهل النار راجون وأهل الجنّة خائفون. ليموت الموت ويخلد كلٌّ في محلّه الخلود البعيد عن مغالطات الأساطير وتناقضاتها، خلود لا ظلم معه أبداً، وليدوّي صوت الرحمن في نهاية الملحمة:

لا ظلمَ اليومْ

لا ظلمَ اليومْ

لا ظلمَ اليومْ(35)

وهكذا تنتهي رحلة القيامة. هذا الغفران الجديد الذي لبس ثوب الذرة والإلكترون وواكب عصر الطائرة والفضاء، بما يجدّد روح الأمل والإيمان في النفس ويشدّ من إصرها على مواكبة الحياة والعمل من أجل خير الإنسان وبقاء الإنسان.

*

وهكذا بدت الرحلات الخياليّة، في هذه الدراسة الوصفية، في انطلاقها بعيداً عن عالمها زفرات أنين أطلقتها أرواح متعبة أضناها الواقع السياسيّ والاجتماعيّ، هي توّاقة إلى الحرية والخلاص فانطلقت تروم خلاصها ونقاءها في عالم من السحر والخيال. بعد أن تشرّبت من مناهل الثقافة والمعرفة.

ولقد تعدّدت الأماكن والجهات التي انطلق إليها الشعراء كلّ حسب قناعته، فبعض الشعراء وجد ضالته في الأساطير يجلو عنها غبار السنين يستخلص جوهرها النفيس الذي غدا رمزاً شفافاً يحمل التجربة الشعريّة والمعاناة الإنسانيّة، وقد وجد شعراءٌ غايتهم في مدن السحر والخيال التي صارت لديهم شعلة للعلم والمعرفة التي تضيء جوانب حياتهم المظلمة، وبقي الشيطان لدى أغلب الشعراء رمزاً للثورة والشرّ والتمرّد وإن غدا قناعاً يغلّف وجه الشاعر ويخفي رغباته، وفي اتجاه آخر وجد بعض الشعراء غايتهم في عالم الفضاء حيث عالم الروح المخمليّ الذي تشتاق إليه أرواحهم المتعبة، وربّما وجد بعض هؤلاء غايته في الانتقال إلى عالم الموت والآخرة. ويبقى الهدف الأسمى لهؤلاء هو الخلاص الذي تعدّدت لأجله الأماكن، كما كان كشف جوانب الحياة الاجتماعيّة ومعاناة الإنسان غاية سامية تحملها رسالة الشعر من أجل الحياة. وقد وظّف الشعراء كلّ ما لديهم من ثقافة دينيّة وعلميّة وفلسفيّة تحدوهم بذلك رغبة في التجديد في الشعر العربي المعاصر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)        ينظر: شرف عبد العزيز، الهمشري شاعر أبولو، دار الجيل، بيروت، 1991، حيث نقل الباحث حديثاً مطولاً للشاعر ذكر فيه خواطره حول كتابة القصيدة، ص: 117.

(2) قال المفسرون: أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فليسوا من أهل الجنة ولا من أهل النار)). ينظر: الصابوني، محمد علي، صفوة التفاسير، دار القلم العربي، حلب، سورية، ط أولى، 1994، ج1، ص: 447.

(3) المصدر السابق، ص: 119.

(4) المصدر نفسه، ص:120.

(5) المصدر السابق، ص: 126.

(6) المصدر نفسه، ص:136.

(7) المصدر نفسه، ص: 137-138.

(8) المصدر السابق، ص 144.

(9) المصدر نفسه، ص: 145.

(10) المصدر نفسه، ص: 146.

(11) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، تقدم عبد الرزاق الهلالي، دار العودة، بيروت، 1975.

(12) الترمذي، سنن الترمذي، دار الفكر، دمشق، 1983، حديث رقم 2230.

(13) المصدر السابق، ص: 719.

(14) المصدر نفسه، ص: 720.

(15) المصدر نفسه، ص: 772.

(16) المصدر نفسه، ص: 726.

(17) المصدر نفسه، ص: 733.

(18) المصدر نفسه، ص:736.

(19) المصدر نفسه، ص:739.

(20) المصدر نفسه، ص: ب المقدمة.

(21) فقي، محمد حسن، الأعمال الكاملة، مج1، ص: 222-225.

(22) المصدر نفسه، ص: 222

(23) المصدر نفسه، ص: 222.

(24) المصدر نفسه، ص: 223.

(25) المصدر نفسه، ص: 223-224.

(26) المصدر نفسه، ص: 225.

(27) القلعجي، عبد الفتاح رواس، القيامة، دار النفائس، بيروت، ط أولى، 1980، ص: 21.

(28) سورة القيامة، الآية، 30.

(29) المصدر نفسه، ص: 42.

(30) المصدر نفسه، ص:120.

(31) المصدر نفسه، ص: 161.

(32) سورة الحجر، الآية: 46.

(33) المصدر نفسه، ص: 178.

(34) المصدر نفسه، ص:215.

(35) المصدر نفسه، ص: 223.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.