المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
مرحلـة خلـق الرغبـة علـى الشـراء فـي سلـوك المـستهـلك 2
2024-11-22
مراحل سلوك المستهلك كمحدد لقرار الشراء (مرحلة خلق الرغبة على الشراء1)
2024-11-22
عمليات خدمة الثوم بعد الزراعة
2024-11-22
زراعة الثوم
2024-11-22
تكاثر وطرق زراعة الثوم
2024-11-22
تخزين الثوم
2024-11-22

علم رسول الله بالمغيّبات
2-7-2017
عمرُ النصفِ الفعّالُ effective half life
22-10-2018
التَّعْيِيرِ - بحث روائي
29-9-2016
القيادة والتنظيم الاجتماعي في الحيوانات Leadership and Social Organization
11-8-2021
ري بساتين الجوز
5-4-2020
جواز إخراج القيمة‌ في الفطرة
26-11-2015


عبد الله نديم  
  
7504   03:55 مساءً   التاريخ: 30-9-2019
المؤلف : عمر الدسوقي
الكتاب أو المصدر : في الأدب الحديث
الجزء والصفحة : ص:308-339ج1
القسم : الأدب الــعربــي / تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-06-2015 2997
التاريخ: 10-04-2015 2381
التاريخ: 28-06-2015 2449
التاريخ: 11-3-2016 3214

 

عبد الله نديم:
أعجوبة من أعاجيب عصره، يقف وحده في كل ما تميز به من سجايا، لا يدانيه فيها امرؤ من أهل زمانه؛ ويخيل إليك وأنت تقرأ سيرته أنك أمام رجل من رجال الأساطير, يروعك بذكائه الخارق، وقوة عارضته، ومتين حجته، وشجاعته الفائقة، وبحياته المليئة بالأحداث، وبما بلغ من شهرة، وبما حارب من أبطال، وبما أفزع من دول, ولم يكن في حسب جمال الدين وعلمه، ولم يدرس ما درس محمد عبده, وإنما نشأ في بيئة فقيرة(1) فعانى البؤس وشظف العيش؛ ولكن الله الذي يهب العبقرية لمن يشاء أودع حظًّا كبيرًا منها في رأس عبد الله النديم، وزوَّدَه بنفس شجاعة، ويد سخية، وكانت هذه الخلال رأس ماله الذي واجه به الحياة, وقد استطاع أن يسجِّلَ اسمه لامعًا في سجل الخلود.
دراسته وتجاربه:
لم يرق لعبد الله العلم الذي وجده بمسجد الشيخ إبراهيم باشا، وهو عِلْمٌ شيبه بما كان يدرس في الأزهر حينذاك، ووجد في جفاف العلوم، وعقم الطريقة، ورداءة الكتب وركاكة عبارتها, ما نفره من الأزهر المصغر، وحُبِّبَ إليه نوعٌ آخر من الدارسة تهواه نفسه، وينسجم مع ما أودع فيها من مواهب؛ فغشي مجالس الأدباء يسمع شعرًا وزجلًا، ونوادر وقصصًا, فتهتز نفسه طربًا، ويتمنى أن يكون أحد هؤلاء الشعراء أو الزجالين؛ وكانت له ذاكرةٌ حادةٌ تلتقط كل ما تسمع فوعى كثيرًا.
وقد كان لهذا أثرٌ كبيرٌ في حياته الأدبية، ولا سيما وقد خالط أبناء الطبقة الفقيرة, وجمهرة الشعب, ووقف على عاداتهم وأمثالهم ونوادرهم وظروفهم وسرعة بديهتهم، فتأثرت بذلك نفسه الحساسة وذوقه المرهف.
(1/308)

ولكن هيهات أن يرضى أبوه بهذه الدراسة غير المنتظمة وهو رجل يكد ويتعب لينال الكفاف, وكان يؤمل أن يرى ابنه عالمًا كبيرًا كهؤلاء الذين يرى الناس يقبلون أيديهم, أو على الأقل يساعده بما تعلَّم من حساب ولغة، فلما بدت هذه النزعة نفض منه يده، وأخذ عبد الله يعول نفسه، وتعلم في الإشارات "التلغرافية"، وأتيح له بعد أن أتقن هذا الفن أن يشغل وظيفة بقصر والدة الخديو إسماعيل بالقاهرة، فشاهد الغنى والجاه، وألوانًا من الحياة والعيش لم يرها من قبل؛ شاهد العز في أوجه، كما عرف الفقر في أبشع صوره من قبل.
وعاوده بالقاهرة حنينه إلى مجلس الأدباء والشعراء, فصار يَجِدُّ في البحث عنهم، فتارةً يذهب إلى الأزهر ويطَّلِعُ على ما أخذ رفقاءه(2), وأحيانًا يغشى منازل الأدباء ويتعرف عليهم ويستفيد منهم، فتوثقت صلته بالبارودي، وعلي أبي النصر، وعبد الله فكري، ومحمود صفوت الساعاتي، والشيخ أحمد الزرقاني، وحمد بك سعيد بن جعفر مظهر باشا الشاعر الناثر، وعبد العزيز بك حافظ(3), وغيرهم من الأدباء أو محبي الأدب، فاتسعت ثقافته الأدبية بهذا الاختلاط، وعرف مزايا كلٍّ منهم، ووقف على فنه، وشاركهم في مجلس أنسهم وطريقتهم ومطارحتهم, فأضاف إلى خزينة أدبه ما وعاه في هذه المجالس من طرفٍ وملحٍ وروايةٍ.
ولكن مقامه بالقاهرة لم يطل؛ إذ زَلَّ قلمه وهو في الوظيفة, فأغضب خليل أغا(4) المشرف على القصر، وناهيك به في ذاك الوقت جبارًا، لا يرد له أمر، وبذلك فقد عبد الله وظيفته، وضاقت عليه القاهرة بما رحبت، فضرب في البلاد هائمًا على وجهه حتى وصل إلى "بدواي" بمديرية الدقهلية، وأخذ يعلم أبناء عمدتها القراءة، لكن هذا العمدة ضَنَّ عليه بالأجر، فثارت ثائرة عبد الله نديم، وأخذ يصوغ في هجاء هذا العمدة ألوانًا مقذعةً من الهجاء, كانت أول ما عرف من أدبه، واكتشف نفسه أديبًا ذا سطوةٍ في القول، حادَّ اللسان, عنيف الخصام, حاضر البديهة.
(1/309)

ثم نراه في المنصورة يتجر في "العصائب" ويجمع حوله الأدباء والشعراء, فأكل الربح رأس المال الذي جاد به عليه أحد الكرماء، ووجد نفسه بعد مدةٍ في دكانٍ مملوء بالشعراء, خلو من السلع، فهام على وجهه مرة أخرى بالبلاد حتى وصل إلى طنطا إبان مولد السيد البدويّ, واتصل بشاهين باشا كنج(5)، وكان رجلًا ذا جاه يجتمع حوله الأدباء والظرفاء, وله ببيته منتدى يضم أنماطًا شتَّى من ذوي اللسن والنكتة والفكاهة، وقد مكث عبد الله نديم في ضيافته مدةً ينعم بكرم وأدب وراحة، وكان واسطة العقد يبهر الناس بأدبه وطلاقة لسانه وسرعة بديهته، وكان يتحداه الأدباء، ويحاولون تعجيزه ولكنه بهرهم بمواهبه؛ وقد روي أن بعضهم اقترح عليه أن يعارض دالية المتنبي المشهورة التي مطلعها:
(1/310)

أقل فعالي بله أكثره مجد ... وذا الجد فيه نلت أو لم أنل جد
وادعى المقترح أنه لا يتأتى لشاعر أن يعارض المتنبي في قوله بهذه القصيدة:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوًا له من صداقته بد
فقبل النديم التحدي، وأنشأ قصيدة مطلعها:
سيوف الثنا تصدا، ومقولي الغمد ... ومن صار في نصري تكلفه الحمد
ومنها يعارض بيت المتنبي:
ومن عجب الأيام شهم أخو حجا ... يعارضه غر ويفحمه وغد
ومن غرر الأخلاق أن تهدر الدما ... لتحفظ أعراض تكفلها المجد
وليس هذا شعرًا صادرًا عن عاطفة أو فكرة، وإن هو إلّا مهارة لسانية، وإظهار لمقدرة كلامية، وقوة عارضة، وتوقد خاطر، وأثر الصنعة باد عليه، ولكن الشعر في عصر عبد الله نديم كان كذلك.
ثم عاد إلى الإسكندرية في سنة 1879، بعد أن غاب عنها طويلًا, ووجد الأمور والأحداث قد بدلت حديث الناس وسمرهم, ولم يعد الشعر وروايته والأدب ودرايته هي ما يشغل المستنيرين بمصر عامة، والإسكندرية بخاصة، وإنما كان يشغل الناس حينذاك إسراف إسماعيل وتهوره، وتدخل الأجنبيّ في شئون البلاد وتجبره, ووجد بالإسكندرية جمعية سرية تسمى: "مصر الفتاة" تنقد إسماعيل وأعماله صراحة، وتعبر عن آلام الأمة وآمالها، ووجد الصحف قد تغيرت لهجتها، وصارت بفضل تعاليم جمال الدين ميدانًا، فيه الأقلام المرهفة الحادة على الظلم والعنفوان والاستبداد والقسوة, وتطلب الشورى وإنصاف الشعب، ورأى عبد الله نديم أن هذا الأدب الجديد ينسجم مع نفسه, فألقى بها في هذا التيار، تيار السياسة القوي, حتى صار من قواد الأمة السياسيين، ورائدًا من رواد الوطنية الأوائل، فأخذ يغذي الصحف بمقالاته السياسية، وحَوَّلَ هذه الجمعية السرية إلى جمعية علنية تعمل في ضوء النهار، وسماها الجمعية

(1/311)

الخيرية الإسلامية، وقد مر بك شيء عنها, وكان من أغراضها تأسيس معاهد العلم يربى فيها النشء تربيةً وطنيةً، ويلقنون العلم بطرق حديثة تحببه إليهم، وتغرس في نفوسهم المثل العليا، وتعودهم قيادة الأمة وإرشادها, ولذلك عمد إلى تشجيع تلاميذ المدرسة على الخطابة، ولم يكتف بهذا, بل كان يؤلف روايات تمثيلية في نقد بعض العيوب الاجتماعية، ويمثلها هو وتلاميذه أمام جمهور المتعلمين بالمدينة؛ كرواية "الوطن وطالع التوفيق" و"العرب", وقد حضرها الخديو توفيق تشجيعًا، ولقي نجاحًا ملحوظًا أثار عليه حسد بعض الناس.
ولم يلبث أن ترك الجمعية الخيرية ومدرستها حين ظهر بها خلل نسب إليه، فتفرغ للصحافة وأنشأ جريدة "التبكيت والتنكيت"(6)، يدبج فيها مقالات ظاهرها هزل, وباطنها جد, يصور فيها عيوب المجتمع المصري تصويرًا شائقًا بأسلوب تهكميٍّ لاذعٍ، ويطلب من القراء أن يعاونوا في تحريرها بقوله: "كونوا معي في المشرب الذي التزمته, والمذهب الذي انتحلته، أفكار تخيلية، وفوائد تاريخية, وأمثال أدبية, وتبكيت ينادي بقبح الجهالة وذم الخرافات؛ لنتعاون بهذه الخدمة على نحو ما صرنا به مثلة في الوجود من ركوب متن الغواية, واتباع الهوى اللذين أضلانا سواء السبيل". وسنتعرض لنهجه أو طريقة كتابته بها فيما بعد، وحسبنا أن نقول الآن: إن أسلوب هذه الجريدة والموضوعات التي عالجتها، والحرارة التي كتبت بها هذه الموضوعات، والجرأة الأدبية التي تمثلت في صراحتها, وهجماتها على كثيرٍ من قلاع الفساد بمصر, حببها إلى جمهرة القراء، وبغضها إلى المنافقين وأدعياء الوطنية.
ثم قامت الثورة العرابية في الظروف التي علمتها من قبل، وصادفت هوًى في نفس النديم؛ لأن مبادئها كانت تنادي بالإصلاح السياسي والاجتماعي الذي طالما دعى إليه في جريدته، ووجد الثوار أنفسهم في حاجة إلى خطيب ذلق اللسان، حاضر البديهة، وجياش العاطفة, مصري غيور على وطنه، يكون لسانهم الناطق
(1/312)

وداعيتهم المحبوب، فلم يجدوا خيرًا من عبد الله النديم, فألحوا عليه حتى شايعهم, فكان معهم كما أردوا وزيادة، وطلب منه عرابي أن يغير اسم جريدته(7) ويسميها "الطائف" تيمنًا باسم طائف الحجاز، وتفاؤلًا بأنها تطوف المسكونة كما جابتها جوائب الشدياق.
وابتدأ الطائف قويةً عنيفة اللهجة, تنقد إسماعيل نقدًا مرًّا، وتشرح للناس كيف أسرف، وكيف استولى على الأراضي، وتصوّر بؤس الفلاحين في السخرة -أيام إسماعيل(8), والعذاب المهين الذي يصبه الرؤساء على الناس, ويلهبون ظهورهم بالسياط في سبيل الجباية ودفع الضرائب، ويضيف إلى كل ذلك ما رآه بنفسه من مشاهد دامية، وقلوب قاسية, ورؤساء يزدادون غلظةً طمعًا في الترقية، وما لجأ عبد الله نديم إلى كل هذه الموضوعات إلّا ليسوغ طلب الثور الحكم النيابي ضمانًا للعدالة، وجبًّا للاستبداد وعهوده؛ وطلب الثوار من وزارة الداخلية أن تعتمد "الطائف" لسانهم المعبر فوافقت على ذلك، وصارت "الطائف" مقياسًا لتطور الثورة، فتارةً تذم الأوربيين وتحمل عليهم حملاتٍ شعواء لتدخلهم في شئون البلاد، وآونةً تصب نقمتها على توفيق؛ لأنه مَكَّنَ لهم في مصر، وغَضَّ الطرف عن ازدياد نفوذهم, وكان النديم في "الطائف" يدلس في أخبار الثورة والقتال تهدئةً للناس, فيصور الهزيمة نصرًا حتى تمت الهزيمة، وأسقط في يد الثوار.
ولم يكن "الطائف" وحده الذي يدعو إلى الثورة ويحرض عليها، ويشجع الناس على التطوع والتبرع، بل خطبه المؤثرة وحماسته المتدفقة، وقدرته على تصنيف الكلام، ومخاطبة كل طائفة بالأسلوب الذي تفهمه، من أشد العوامل على إشعال نار الثورة، وازدياد لهيبها(9).
(1/313)

كان عبد الله نديم يمثل الروح المصرية أتم تمثيل، ويعرف عادات البلاد وصفات أهلها أتم المعرفة، ويحس بشعورهم وآلامهم، وما يعانونه من جور وقسوة على يد حكامهم، ولا بدع فقد خالطهم، ونشأ بينهم، وتشرَّبَ بمشربهم، وعانى مثل ما عانوا, وتربى في أحضان الفقر والفاقة، واختلط بشتَّى الطبقات، وكثرت تجاربه في الحياة, ولذلك كان يحترق شوقًا إلى الحرية، وإلى رفع الظلم عن كواهل مواطنيه، ورفع مستواهم الاجتماعيّ والثقافيّ, وأن يعيشوا في بحبوحة من العيش.
وكانت موهبته الحقة في لسانه، ويعرف أن دعوته إلى الإصلاح وإلى الثورة وإلى التعبئة القومية أيام الثورة العرابية لن تصل إلى أسماع العامة وقلوبهم إلّا عن طريق الخطابة، لفشو الأمية، ولتأثر الناس بالسماع والمشاهدة.
وقد أوتي فصاحة للسان، وقوة الحجة والبيان، ومعرفةً عميقةً بنفسية الشعب, وكيف يهيجه بعذب الكلام، استمع إليه يحث الناس على مجاهدة الإنجليز وحربهم, بعد أن نزلوا الإسكندرية، وبدا منهم الغدر والعدوان، بذلك الأسلوب الساحر القصير الفقرات, الذي يمزجه بآيات القرآن، وأبيات الشعر فيزاد قوة ورونقًا وتحميسًا:
أيا نخوة الإسلام هزي رجالنا ... لحرب بها عز البلاد يدوم
يا بني مصر:
هذه أيام النزال، هذه أيام الذود عن الحياض، هذه أيام الذب عن الأعراض، هذه أيام يمتطي فيها بنو مصر صهوات الحماسة، وغوارب الشجاعة، ومتون الإقدام لمحاربة عدو مصر بل العرب، بل عدو الإسلام، الدولة الإنجليزية خذلها الله ورد كيدها في نحرها, فقاتلوهم قتال المستميتين، وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين. قوم نفضوا العهود، ونكثوا الأيمان، وهموا بإخراج أهل الحكم، وهم بدءوكم أول مرة: أتخشونهم, فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين.

(1/314)

يا أهل مصر!:
إنما الإنجليز نجس فلا يقربوا البلاد بعد عملهم هذا، وإن خفتم ضعفًا فتعاونوا وتأزروا ينصركم الله عليهم, إن الله قوي عزيز، كيف إن يظهروا عليكم لا يراقبوا فيكم إلًّا ولا ذمة, يذبحون أبناءكم، ويستحيون نساءكم، وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم".
لقد صحب الثورة العرابية من أول يوم هبت شعلتها، والتقت روحه بأرواح زعمائها، وعدوه لسانهم الناطق، وكان يصحبهم في كل مكان؛ كان مع الجيش في يوم ثورة عابدين يشد أرزهم، ويثبت قلوبهم، يقول عرابي: "فجال صديقي الأعز الهمام، صاحب الغيرة والعزم القوي, السيد عبد الله نديم, بين الصفوف ينادي: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فكان ثاني اثنين في حفظ قلوب الرجال من الزيغ والارتجاف، وأخذ يردد هذه الآية الكريمة كأنهم لم يسمعوها إلّا من فمه في تلك الساعة"(10).
ولما سافرت فرقة عبد العال حلمي إلى دمياط في أول اكتوبر عام 1881, خطب النديم في جموع المودعين بمحطة القاهرة محييًا الجنود، وداعيًا الناس إلى الالتفاف حولهم قائلًا:
"
حماة البلاد وفرسانها! من قرأ التاريخ وعلم ما تولى على مصر من الحوادث والنوازل, عرف مقدار ما وصلتم إليه من الشرف، وما كتب لكم في صفحات التاريخ من الحسنات، فقد ارتقيتم ذروة ما سبقكم إليها سابق، ولا يلحقكم في إدراكها لاحق، ألا وهي حماية البلاد، وحفظ العباد، وكف يد الاستبداد عنا، فلكم الذكر الجميل، والمجد المخلد، يباهي بكم الحاضرين من أهلها، ويفاخر بمآثركم الآتي من أبنائنا، لقد حيي الوطن حياة طيبة، بعد أن تبلغت الروح التراقي, فإن الأمة جسده والجند روحه، ولا حياة للجسم بلا روح، وهذا وطنكم العزيز يناديكم ويقول:
(1/315)

إليكم يرد الأمر وهو عظيم ... فإني بكم طول الزمان رحيم
إذا لم تكونوا للخطوب وللردى ... فمن أين يأتي للديار نعيم
وإن الفتى إن لم ينازل زمانه ... تأخر عنه صاحب وحميم
إذا لم تكن للعائذين حماية ... فأنت ومخضوب البنان قسيم(11)
كان النديم يرتجل خطبه ولا يزورها، وإنما هي كلمات ملتهبة تعبر عن عواطف جياشة تتحرك في صدره، تصوّر آلامه وآلام أمته، كما تصوّر آمالهم وأحلامهم، وما مثله يحتاج إلى التحضير والتحبير وقد أوتي اللسان المطواع الذرب، وملك أعنَّةَ الكلام؛ ولقد تراه يخطب في المحفل الواحد خمس مرات، فما يكرر كلامًا قاله، ولا يتردد أو يتلعثم، وكان يجوب القرى والدساكر فيخلب قلوب الفلاحين بسحر بيانه وعذب لسانه ورائع خطبه، يحرضهم على الإباء والكرامة، والغضبة للوطن المكلوم، حتى عُرِفَ بخطيب الشرق، وكان يدعى بالبرق إلى الإسكندرية وغيرها ليخطب فيلبي الدعوة زميعًا، "ويرتجل من حُرِّ القول البليغ القوي القويم الحجة ما يترك الألباب سكارى من غير مدام"(12).
ولعلك لاحظت أنه لم يكن يتكلف السجع في خطبه أو غيره من المحسنات، ومع ذلك تحس لكلامه أسرًا وقوة، ورصانةً وموسيقيةً أخاذةً، وأنه كان يعمد إلى التهويل والمبالغة والتزيد حتى يقنع ويهيج العواطف، ويلجأ إلى الإيحاء والدفع، ويكثر من الشعر والحديث والاقتباس، من آي الله الحكيم، ويؤيد بها حجته، ويعلي كلماته، وليكون كلامه أعظم تأثيرًا وأقوى بيانًا.
وكانت كتابته خطبًا مكتوبة من حيث الموضوع والأسلوب، ولا سيما تلك التي كتبها في أيام الثورة العرابية، وفي إبَّان الحرب بين مصر وإنجلترا في جريدة "الطائف"؛ فكان لها فعل السحر في النفوس، ورفع الروح المعنوية، وتثبيت القلوب الواجفة, والأفئدة المضطربة الخائفة.
(1/316)

فلا بدع إذا وجد في أثره الطلب حين أخفقت الثورة؛ إذ رأى فيه توفيق والإنجليز المحرِّضَ الأكبر للثوار وناشر آرائهم، بقلمه ولسانه، ولكنه اختفى من وجه السلطة فلم يعثر عليه؛ لأنه كان يعلم جد العلم أنه لن يغفر له ذنب، أو تقال له عثرة إذا أسر، ولن يجديه الإنكار فتيلًا؛ فأقواله مأثورة، وخطبه مشهورة، والطائف خير شهيد، وسيكون العقاب صارمًا أليمًا، لقد ذل كثير من كبار الثوار والتمسوا الرأفة؛ ولكن عبد الله نديم آثر التشرد والاختفاء على إحناء الرأس، وذلة الطرف، وهو إنما خاض الثورة عن إيمان وعلم.
وقصة اختفاء النديم وحيله التي ضلل به السلطة على الرغم من المكافآت التي رصدتها لمن يأتي به، جديرة بأن توضع في رواية تمثيلية, وستكون رواية غاية في القوة؛ لأنه أجاد التنكر إجادةً يعجز عنها أمهر الممثلين اليوم في بلاد "الخيالة" واسمعه يصف بإيجاز هذا التنكر الذي دام تسع سنين وهو بمصر لم يبرحها, ويمر بين رجال الحكومة، وصنائع الإنجليز دون أن يدركوه، أو يعرفوه(13): "خرجت من مصر مختفيًا فدرت في البلاد متنكرًا، أدخل كل بلد بلباسٍ مخصوص، وأتكلم في كل قريةٍ بلسان يوافق دعواى التي أدعيها، من قولي إني مغربيّ أو يمنيّ أو مدنيّ أو فيوميّ أو شرقاويّ أو نجديّ، وأصلح لحيتي إصلاحًا يوافق الدعوى أيضًا، فأطيلها في مكان عند دعوى المشيخة، وأقصرها في آخر
(1/317)

عند دعوى السياحة -مثلًا- وأبيِّضُهَا في بلد, وأحمِّرُهَا في قرية، وأسوِّدُها في عزبة, وتغيرت الأسماء التي انتحلتها، والناس في عجب من أمره, فالقدرة مقدرة النديم، ولكنه يختلف عنه في الشكل والصوت واللهجة، فيقولون: سبحان الله جل من لا شبيه له".
وقد أتيح له من الفراغ وهو في اختفائه هذا ما مكنه مواصلة دراسته، وشغل نفسه بالتأليف وقرض الشعر، وقد ألَّف في كثير من العلوم، وفي هذا يقول من رسالةٍ لصديق له: "تارةً أشتغل بكتابة فصول في علم الأصول، وأجمع عقائد أهل السنة بما تعظم به لله المنة، وحينًا أشتغل بنظم فرائد في صورة قصائد، ووقتًا أكتب رسائل مؤلفة في فنون مختلفة، وآونةً أكتب في التصوف والسلوك وسير الأخبار والملوك، وزمانًا أكتب في العادات والأخلاق وجغرافية الآفاق، ومرةً أطوف الأكوان على سفينة تاريخ الزمان، ويومًا اشتغل بشرح أنواع البديع في مدح الشفيع, وقد تَمَّ لي الآن عشرون مؤلفًا بين صغير وكبير، فانظر إلى آثار رحمة الله اللطيف الخبير، كيف يجعل أيام المحنة وسيلة المنحة والمنة، أتراني كنت أكتب هذه العلوم في ذلك الوقت المعلوم، وقد كنت أشغل من مرضعة اثنين، وفي حجرها ثالث، وعلى كتفها رابع، وأتعب من مربي عشرة وليس له تابع".
(1/318)

وانتهى به المطاف إلى بلدة "الجميزة" فعرفه عمدتها وكتم أمره، ولكن أحد جواسيس الحكومة عرفه؛ فوشى به طعمًا في المكافأة(14)، وأطبق عليه رجال الشرطة، ولم يستطع النجاة بحيله المعهودة، فسلَّم نفسه(15) ومن حسن حظِّه لم يفحصوا عن أوراقه؛ إذ كان في بعضها هجاء مقذع لتوفيق، ولو تنبهوا لذلك لكان أمره غير ما عرفنا، ثم أرسل إلى طنطا للتحقيق معه، وكان المحقق قاسم بك أمين؛ فأكرمه وواساه وأمدَّه بالمال من عنده, ثم صدر أمر توفيق بالعفو عنه وإبعاده عن مصر، فاختار "يافا" دار إقامة، وطوَّف ما شاء له هواه في فلسطين, وعرف كثيرًا من بقاعها(16).
ولما مات توفيق وتولى عباس عفا عنه، وسمح له بالعودة إلى مصر؛ فرجع إليها سنة 1892 وأنشأ جريدة "الأستاذ" فكانت صحفةً مجيدة في تاريخ الجهاد القوميّ؛ لأن علاقة الخديو عباس بالإنجليز كانت سيئة أول الأمر، وكان يجمع حوله الوطنيين وكبار المفكرين كما علمت آنفًا، وأخذ النديم يناصر عباسًا بكل ما أوتي من قوة، وكان في استطاعته أن يجنح للسلم ويهادن الإنجليز، ويُعيَّنَ في أعظم المناصب بالمعارف أو الأزهر، وهو كفء أديب, ولكن أبت عليه نفسه العفة، ووطنيته المتقدة أن يلين لعدوه مهما كانت الأيام قد حاربته في الماضي، ولقي إبَّان اختفائه من عنتٍ وآلام.
شهر قلمه في وجه الإنجليز غير مبالٍ بهم وبسلطانهم القويّ بوادي النيل، فآثار بذلك حفيظتهم, وخافوا إن تركوه وشأنه أن يتسع الخرق، ويفسد الأمر
(1/319)

ويعيدها جذعًا فأوقفوا مجلته، ورحَّلُوه إلي يافا3 منفيًّا بعد أن منحوه أربعمائة دينار, وأجروا عليه خمسة وعشرين كل شهر، واشترطوا عليه ألّا يكتب شيئًا بشأن مصر، ولم ينفعه الخديو ويحول بينه وبين النفي؛ لأنه كان مغلول اليد, والسلطة كلها بيد الإنجليز.
ولم يكن بيافا أسعد منه حظًّا وهو بمصر؛ إذ وشى به جماعةٌ لدى السلطان عبد الحميد فأمر بإبعاده، فعاد إلى الإسكندرية في حيرةٍ من أمره بعد أن لفظته بلاد الدولة العثمانية، بيد أن الغازي مختار باشا تشفَّع له عند السلطان عبد الحميد حتى سمح له بالسفر إلى تركيا, وهناك التقى بأستاذه الأكبر جمال الدين، وكان كلاهما في أسرٍ وإن اختلف القفصان، فجمال الدين في قفص من ذهب ينسجم مع حسبه ومكانته، والنديم في قفص من حديد يليق بمقامه.
وعُيِّنَ النديم مفتشًا للمطبوعات, وهي وظيفةٌ اسميةٌ تكفل له راتبًا مقداره خمسة وأربعون مجيديًا، وطبعي أنه لم يزاول العمل بمهنته تلك، وهي أبعد الوظائف عن طبعه وحريته، وفي الآستانة عادى أكبر قوةٍ بها في ذاك الوقت, وهو أبو الهدى الصيادي(17), ولعله تأثر في عداوته له بجمال الدين، وقد عرفت من أمرها معًا بعض الشيء, أو لعل الصياديّ -وهو الأرجح- كان عدوًا لكل حرٍّ كريم، ولم يعبأ النديم بسطوة الصيادي وجاهه وقدرته على الانتقام، وهو رجل كانت له في كل مكان عيون تنقل له الأخبار؛ وقد اصطنع بمعروفه كثيرًا من عظماء الدولة؛ فهم طوع يديه ورهن إشارته، وقد سخَّر كل ما بتركيا لخدمته, وكم نفذ أمره وأبطل أمر السلطان, وكم تدلل على عبد الحميد فبالغ في استرضائه.
ولكن النديم لا يهمه الصياديّ ولا عبد الحميد, وأخذ يخوض في سيرته بلسانٍ حادٍّ بذئ، ووضع فيه كتابًا سماه "المسامير"؛ كله هجوٌ مقذعٌ فاحشٌ لا يشرف الصيادي، ولا يشرف النديم، وحاول الصيادي أن يعثر على هذا الكتاب، وهرَّبه "جورج كرتشي" الذي كان متصلًا بجمال الدين وعبد الله نديم إلى مصر، ثم طبعه.
(1/320)

وأصيب النديم بالسل بعد ذلك بقليل، واشتدت عليه العلة؛ فمات في الرابع من شهر جمادى الأولى سنة 1314هـ، العاشر من أكتوبر سنة 1896، ودُفِنَ بتركيا, وهو في الرابعة والخمسين من عمره.
آثاره وأثره:
ولعلك قد أدركت من هذه السيرة أن النديم قد جرَّب كثيرًا من شئون الحياة، وعرف حلوها ومرها، وخالط الفقراء والأغنياء، وعاشر أصنافًا شتَّى من مختلف الأجناس, وعرك الدهر حتى استحصدت مرته، وقويت شكيمته، وإني أدعه يسرد تجربته بنفسه؛ فستعيننا في تعرف أدبه، قال: "أخذت عن العلماء، جالست الأدباء، وخالطت الأمراء، وداخلت الحكام، وعاشرت أعيان البلاد، وامتزجت برجال الصناعة والفلاحة والمهن الصغيرة, وأدركت ما هم فيه من جهالة، وممن يتألمون، وماذا يرجون، وخالطت كثيرًا من متفرنجة الشرقيين, وألممت بما انطبع في صدروهم من أشعة الغربيين، وصاحبت جمعًا من أفاضل الشرقيين المتعلمين في الغرب ممن ثبتت أقدامهم في وظيفتهم، وعرفت كثيرًا من الغربيين, ورأيت أفكارهم عاليةً أو سافلةً فيما يختص بالشرقيين والغاية المقصودة لهم، واختلطت بأكابر التجار، وسبرت ما هم عليه من السير في المعاملة أو السياسة، وامتزجت بلفيف من الأجناس المتباينة جنسًا ووطنًا ودينًا، واشتغلت بقراءة كتب الأديان على اختلافها، والحكمة والتاريخ والأدب، وتعلقت بقراءة الجرائد مدةً، واستخدمت في الحكومة المصرية زمنًا، واتجرت برهةً، وفلحت حينًا, وخدمت الأفكار بالتدريس وقتًا, وبالخطابة والجرائد آونةً، واتخذت هذه المتاعب وسائل لهذا القصد الذي وصلت إليه بعناءٍ, وكساني نحول الشيخوخة في زمنٍ بضاضة الصبا, وتوجني بتاج الهرم الأبيض بدل صبغة الشباب السوداء، فصورتي تريك هيئة أبناء السبعين، وحقيقتي لم تشهد من الأعوام إلّا تسعة وثلاثين".
ولو عاش النديم -مع تجربته هذه التي قلما تتاح لأديب، ومع ذوقه المرهف, ومواهبه العديدة, وقدرته على التعبير- في عصرنا هذا، وعرف ألوان الأدب، وفنونه، واطَّلَع على طريقة الغرب وأساليبه من قصة ومسرحية، وأفكار، لكان

(1/321)

أديبًا عالميًّا ممتازًا, تفاخر كل أمة بانتسابه إليها، ولكنه كان متعلقًا إلى حدٍّ كبير بأذيال الماضين؛ يكتب بأسلوبٍ مقيدٍ بصنوف عديدة من الأغلال، ولم تكن كنوز المعاني قد حطمت أغلالها, ولا ألوان الأدب الغربيّ العديدة قد عرفت ودرست, ومع ذلك فالنديم يُعَدُّ في الطليعة من رواد الأدب الحديث.
أما آثاره: فيحدثنا أحمد سمير مترجم حياته، بأن النديم "لما كان في يافا أول مرةٍ بعث إليَّ محررًا يكلفني به أن أطلب ديوان شعره الصغير من صديقه المرحوم عبد العزيز حافظ, فلما قصدته وجدته مصابًا في قواه العقلية بما لم يدع للطلب مجالًا, ثم كتب إليّ كتابًا ثانيًا بأن ديوانه الأوسط عند "م.ن" فطلبته منه، فاعتذار بأنه ضاع، فلما أنبأت المترجم بذلك أرسل إليَّ في مكتوبه الثالث أنه إنما طلبهما لحيقرهما براءةً منهما ومن أمثالهما؛ لأنه فيها هجوًا كثيرًا، وختم المكتوب بهذه العبارة: "قد خلعت تلك الثياب الدنسة، ولبست ثوب {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} .
وهذه قصة تذكرنا بما كان من الشيخ علي الليثي من قبل, وبمكانة الشعر عند هؤلاء القوم، وفي الواقع أنه لم يكن شعرًا بالمعنى الذي نعرفه اليوم، ولكنه كان -كما ذكرنا من قبل- نظمًا تظهر به المقدرة على التعبير والمهارة اللسانية، وتصريف الكلام, وسنرى نماذج من هذا الشعر فيما بعد، وقد بقي لنا قليل ينبئ عن نوع هذه الدواوين التي لم يعثر عليها.
1-
أما نثره: فقد كتب مقالاتٍ شتَّى في "التنكيت والتبكيت"، وقد وعدنا بالرجوع إليها لننظر في موضوعاتها وقيمتها، وحسبنا أن نتصفح العدد الأول منها؛ وقد حرره النديم بقلمه, فنجد مقالاتٍ شتَّى تمس حياة الأمة وتعالج مشكلاتها.
فمقال عنوانه: "مجلس طبي لمصاب بلإفرنجي" وهي قصة شاب قوي الجسم, سليم البنية، جميل الطلعة، لطيف الشكل, نشأ تحوطه العناية وتكلؤه الرعاية, يدلله أهله ويحمونه حتى لا تصل إليه يد عدو، ولا حلية محتال، ولكن استطاع دجالٌ ماهرُ أتقن فن الخداع والحيلة أن يتسلل إليه، وأن يوهم أهله أنه

(1/322)

من ذوي الورع والتقوى، فأمنوا جانبه، وأسلموه له؛ فأخذه يعرضه في الأسواق والطرقات, وجلب له من الغواني الحسان من تعارض الشمس بحسنها, وتكسف البدر بنورها, يغازلن أهله بحركات تحرك الجبان، فانصر الأهل إليهن، وتركوا مراقبة الفتى المليح؛ فانفرد به ذلك المحتال الخداع، وأغرى به الفتيات الملاح، فتمنع حيناً, وعصمه حياؤه وطهر نشأته زمانًا طويلًا، ولكن رأى أن الإغراء شديد، والخصم عنيد، وأن لا قبل له بهؤلاء الشياطين, ولا سيما وقد وجد أهله عاكفين على التزلف لهؤلاء النسوة، والتدلل له في حبهن، فسار في الطريق التي رسمها من قبل هذا المنافق الدجال, فما هي إلّا شرفة كأس حتى أصيب بالداء الإفرنجي "الزهري"؛ فاصفرَّ لونه, وارتخت أعضاؤه، وذهبت بهجته، وغارت عيناه, وتشوه وجهه، وتبدلت محاسنه بقبائح تنفر منها الطباع، وفطن إليه بعض أهله, فلما رأى ما به بكى وانتحب، وأخذ يذرف العبرات ويصعد الزفرات، ويلفظ الحسرات، وجمع له الأطباء يشخصون داءه، ويركبون الدواء عله يبرئه من علته, ويقف سريان الداء، وأقبل أهله متلهفين لسماع نصح الأطباء ورأيهم, فطلبوا إليهم الهدوء والسكون، ومساعدتهم في خدمته، وتنظيف محله, وتطهير أعضاءه وحفظه حتى لا يقربه غريب, ولا يمكن أجنبي من الوصول إليه فيفسد العلاج, ويسعى في إتلافه أكثر مما صنع هو وقومه، وأخذ أهله يعملون بمشورة الأطباء ويبذلون الجهد في وقايته وصيانته".
وهذه قصة رميزة تصوِّرُ ما كان من إصابة مصر على يد إسماعيل وإسرافه، وتدخل الأجانب في شئونها، والمراقبة الثنائية، وصندوق الدين، وتصور كذلك ألم الناس من هذه المرض الإفرنجي، وأملهم في النجاة بسعي العقلاء وتفكير المستنيرين، وتوريته "بالإفرنجي" عن هذه المصائب التي حلت بالبلاد تورية بارعة.
وترى بالعدد الأول من "التنكيت والتبكيت" مقالًا آخر بعنوان: "عربيٌّ تَفَرْنَجَ" وهي قصة شاب من صميم الريف, أبوه فلاح مسكين، لم يستطع أن يعلمه، بل تركه جاهلًا يساعده في حقله ويأكل البصل، ولا يرى اللحم إلّا في العيد، ثم مرَّ

(1/323)

به أحد التجار, فأغراه على أن يدفع به إلى المدرسة، ولما أتمَّ تعليمه بمصر أُرْسِلَ إلى أوربا, وعاد إلى بلاده متنكرًا لأهله، مستقبحًا عادات قومه، مهجنًا طريقتهم في التحية، ومستفهمًا بقحة عن اسم البصل الذي أكله؛ لأنه نسي الاسم العربيّ، ولم يعد يتذكر إلّا الاسم الفرنسيّ(18), ولما شكى أبوه إلى أحد النابهين قال له: "ولدك لم يتهذب صغيرًا, ولا تعلم حقوق وطنه، ولا عرف حقَّ لغته، ولا قدر شرف أمته، ولا ثمرة الحرص على عوائد أهله, ولا مزية الوطنية، فهو وإن كان تعلم علومًا إلّا أنها لا تفيد وطنه".
وهذا داء استشرى في مصر بعد النديم، وحاكى كثير ممن درسوا في بلاد الغرب أوربا في كل شيء, حتى هجنت عاداتنا وتقاليدنا، وفقد شبابنا كثير من مقومات الوطنية الصادقة، وإن كانت هذه الفتنة قد ابتدأت تخف وتتنبه الأمة إلى التمسك بلغتها وعاداتها ومزاياها، وتعتز بها.
ويلي ذلك قصة جماعة من الموسرين اجتمعوا في بيت أحدهم، ودخل عليهم فوجدهم مبهوتين صامتين لا يتكلمون ولا يتحركون، ولا يرفعون أبصارهم, فظنَّ أول الأمر أن ربَّ الدار قد رزئ بخطب فادح، وقد أتت هذه الجماعة لتواسيه، وعقد الحزن ألستنهم، وران على قلوبهم, فتركهم واجمين، ولكن خاب ظنه هذا، فسأل: هل ثمة معضلة عويصة عرضت لكم وأنتم تبحثون تقدم أوربا في الصناعات، وانتشار تجارتها, وكيف تصل مصر إلى هذه المنزلة، فأجابوا بالنفي، فقال: ربما تفكرون فيما يزيد ثروتكم, ويعود بالنفع والخير عليكم وعلى أمتكم, فقال رب الدار: هذا أمر لا يهمنا, فإن البلاد إذا تقدمت أو تأخرت لا تفيدنا شيئًا أحسن مما نحن فيه، وأما عن ثروتنا وزيادتها فعندنا من الثروة الكفاية؛ وهكذا صار يسألهم وهو في حيرةٍ من أمرهم حتى اكتشف أنهم إنما اجتمعوا لتعاطي "الكيف"، والمنبهات وغير ذلك، وعللوا لاجتماعهم هذا بأن: "الكيف" لا يفرح إلّا إذا تعاطاه الإنسان في مجالس، ويختم النديم هذه القصة التي سماها
(1/324)

"سهرة الأنطاع" بقوله: هكذا تكون حال من لم يتهذب صغيرًا, فإنه يخرج أسير شهواته, بعيدًا عن إدراك المعاني, جبانًا بليدًا غبيًّا".
ثم يتعرض في كلمة أخرى لهؤلاء الذين يلتفون حول القصاص بالمقهى يسمعون قصة عنترة, ويتجادلون ويتحزَّبون لأبطال القصة: ولما رآهم القصاص منصتين إليه أخذ يفتري عباراتٍ ينسبها إلى عنترة، وكلماتٍ يعزوها إلى عمارة، وكل فريق يرشه حتى ينتصر له بتلفيق كلام يصف فيه حزبه، وأخيرًا انتهت الليلة بأسر عنترة، فقام من الجمع رجل قدَّم للقصاص عشرة جنيهات ليخلص عنترة من أسره فأبى، فانهال عليه شتمًا وسبًّا، وتذكر أن عنده قصة عنترة ولكنه أميّ، فذهب إلى ابنه قبيل الفجر وأيقظه، وهو في مصيبته التي لحقته تلك الليلة، حتى ظنَّ الولد أن أمه قد ماتت، أو أحد أخوته توفي، أو تجارة أبيه صودرت، فلم علم أن الأمر يتعلق بعنترة أخذ يهوّن على والده الأمر، ويصف القصة بالتلفيق والكذب، فانهال عليه والده ضربًا بالعصا وطرده من البيت.
ثم يقص أمر المزراع والمرابي، وقد ذكرناها آنفًا، ويتبع ذلك بقصة غنيٍّ كبيرٍ بنى بيتًا واعتنى بأثاثه ورياشه، ثم دعا فريقًا من أصدقائه لزيارته، ولما وصلوا إلى المكتبة سأله أحدهم عن الكتب التي يهواها، فأجاب بما يدل على الجهل، وأنه لا علم له بالكتب وما تحتويه، وكل ما في الأمر أنه زار أحد العظماء ووجد في بيته خزانة كتب، عليها ستارة خضراء، وبجانبها منفضة من الريش، والخادم يسح زجاجة الخزانة كل يوم, فظن أن هذا طرازٌ جديدٌ في تأثيث البيوت؛ فحاكاه فيه دون أن يعرف شيئًا عن الكتب وما تحتويه, فدل على عظيم جهله, وعلى أن التقليد الأعمى مضر بالإنسان مزر بمكانته.
أجل! ضم العدد الأول من المجلة كل هذه الموضوعات التي تصور عيوبًا شائعةً لا يزال بعضها متفشيًا، وتصف الدواء لهذه العلل الاجتماعية، ولكن بأسلوب الوعظ والإرشاد, وإن كان ممزوجًا بكثير من التهكم الاذع والسخرية المرة، والكلمات القارصة، وقد فطن النديم إلى أن التعليم والنقد عن طريق القصة يحمل القارئ على متابعة القراءة, ويرى مصير أشخاص القصة فيتعظ بهم،

(1/325)

وبذلك يجدي النقد ويؤتي ثمرته، ولذلك أكثر منه، ولم يضع هذه القصص في عباراتٍ منمَّقَةٍ مزوقةٍ بليغة متخيرة الألفاظ، ولكن ساقها في أسلوب سهلٍ, وكثيرًا ما عمد إلى اللغة العامية يعبر بها عن مراده، ولعلمه أن في الناس الجاهل والعالم, والعامة والخاصة، ولكل أسلوب يلائمه، فموضوع: "الداء الإفرنجي" موضوع سياسيّ رمزيّ لا يفهمه إلّا الخاصة، ولذلك صيغ صياغةً أدبيةً سليمةً، أما موضوع: "المرابي والمزراع"، وموضوع: "سماع القصص" فمكتوبان للعامة، ولذلك لجأ إلى اللغة العامية يعبر بها حتى يفهمها هؤلاء فيتعظوا.
إن النديم في هذه الموضوعات قدير على الحوار، وتراه يبالغ حتى يستفز شعور القارئ, ويجعله يشمئز من هؤلاء الجهلة الذين يصور حالتهم، وتراه كذلك يستنفد المعاني ويستقرئ الأسباب، حتى يكون الحكم، أو النهاية بالغة العظة، ولو فطن النديم إلى المسرحية الهزلية وصور هذه الشخصيات فيها لكان "موليير" العرب؛ لأن عنده المقدرة على التصوير، وخلق الشخصيات والتهكم عليها, والمبالغة في تبشيع المثالب والعيوب، وهذه كلها تعده لأن يكتب ملهاة متقنة.
2-
ومن الموضوعات التي كتب فيها بمجلته فيما بعد موضوع "الخطابة، وأثرها في تاريخ الإسلام"، وفائدتها في تهذيب الشعب وتربيته، ورأى أن خطب الجمعة ميتةً لا تمت إلى الحياة التي يحياها الناس بصلة, وتتكلم في أمور بعيدة عن مشكلاتهم الاجتماعية والخلقية والسياسية كل البعد(19)، واقترح أن يحضر خطب الجمعة فئة من ذوي الفكر السديد والرأي الرشيد، وتوزعها الحكومة على خطباء المساجد, وتبرع هو فوضع نموذجًا لخطبة منبرية، ضمنها الحثَّ على الاهتمام بشئون البلاد والمحافظة على حقوقها, والدعوة إلى الائتلاف للتغلب على الخصم الأجنبيّ، وعلى الأخطار التي تحدث بالوادي، والاتحاد بين المسلمين والأقباط، والتذكير بمجد مصر السابق، ومعاملة الأجانب بالحسنى حتى لا تتخذ
(1/326)

سوء معاملتهم ذريعةً للتدخل الأجنبيّ، وغير ذلك من الأمور التي يرى أن الحاجة ماسَّةً إلى التكلم فيها لأول عهد توفيق، ومن قوله في أثر الخطابة وفائدتها:
"
ألسن الخطباء تحيي وتميت، وحكمة إذا عقلت معناها وقفت على سر الخطابة حكمة حدوثها، وعلمت أنها للعقول بمنزلة الغذاء للبدن، وكانت الخطابة في الأعصر الخالية غير معلومة إلّا في أمتيّ العرب واليونان، فكانت ساحتها في جزيرة العرب عكاظًا، ومنابرها ظهور الإبل، وهذه الساحة كانت معرضًا للأفكار, تجتمع فيه الخطباء والبلغاء والشعراء وأمم كثيرة من المجاورة للجزيرة؛ فيرقى الخطيب ظهر ناقته, ويشير بطرف ردائه، وينثر على الأسماع دررًا وبدائع، ثم يباريه آخر, ويعارضه غيره, فتتضارب الأفكار, وتتنبه الأذهان, وتحيا الهمم، وتتحرك الدماء، ويرجع كبار القبائل وأمراؤها لما يشير إليه الخطيب إن صلحًا وإن حربًا، ولم يقتصروا في خطباتهم على مسائل الحرب والصلح، بل كانوا يخوضون بحار الأفكار, فلا يتركون مَلَمَّةً إلّا شرحوها، ولا يذرون فضيلةً إلا حثوا عليها، حتى إنهم كانوا يحفظون أسماء الحكماء منهم, وأهل المآثر فيذكرونهم في هذا المعرض إحياءً لتذكارهم, وتخليدًا لأسمائهم؛ لئلَّا يجهل الآتي سيرة الماضي فتفتر الهمم، وتخمد الدماء, وتتغير الطباع".
3-
وأما مقالاته بالأستاذ فكانت صرخةً أخرى مدويةً, حاول بها إيقاظ مصر كي تتنبه لما يحدق بها من أخطار، وعالج في هذه المقالات موضوعات اجتماعية وسياسية وخلقية لم تخطر على بال أحد من قبل، فتراه يتكلم عن التعليم وأثره في الحضارة والعمران, وما يجلبه الجهل من الآفات الاجتماعية والعلل الخلقية, ويعدد هذه المثالب, ويبين أثرها في تأخر الأمة، وتارةً يحث أبناء مصر على الاتحاد والتآزر والالتفاف حول الوطن والأمير والسلطان, والتنكر للأجانب مهما كان شأنهم، والتحذير من غواياتهم، وهو أول من دعا إلى أن مصر يجب أن تكون للمصريين لا لتركيا ولا للأوربيين، فكانت لفتةً وطنيةً لا تخرج إلّا من قلبٍ عامرٍ بحب بلاده، ولا سيما في ذلك الزمان الذي لم تفكر فيه أية دولة عربية في هذا المعنى، وإنما كانت الفكرة الوطنية عندها عاطفة غامضة تربط مصيرها بمصير

(1/327)

تركيا، ولم تكن الفكرة جلية -كما يجب- عند النديم، ولكنها خطرات الوطنيّ المتحمس, جعلته يفكر مثل هذا التفكير، وإن كنا نراه أحيانًا يشايع الرأي السائد، ويدعو للسلطان والالتفاف حوله من مثل قوله: "هذه يدي في يد من أضعها؟ أضعها في يد وطنيك، وأعقد خنصريكما على محبة أمير البلاد، مرتبطة هذه المحبة بمحبة أمير المؤمنين، وإلّا فقطعها خير من وضعها في يد أجنبيٍّ يستميلك إليه بوعود كاذبة وحيل واهية، ويظهر لك سعيه في صالحك وحبه لتقدمك، ورميك بأوهام لا توجد إلّا بينك وبينه، ويغرك بدعوى انفراده بالسلطة عليك، وبعد الدول عنك، ويضللك بنسبة أمرائك للقصور، وحكامك للجهل والظلم، ويصور لك الأباطيل في صورة حقٍّ يخدعك به، ويحوِّلُ أفكارك الشرقية إلى أفكار غربيةٍ تأخذها وتقول بها، فتكون يده القوية وعونه الأكبر على ضياع حقوقك وإذلال إخوانك، واسترقاق أهلك, وانتزاع سلطة أميرك وسلطانك, وأنت لا تشعر بشيء من هذا".
وقد يفسر كلام النديم بدعوته للسلطان والحض على الولاء له، بأنه ولاءٌ دينيّ، بينما الولاء لأمير البلاد ولاء وطنيّ، وهذا ما أرجحه، فإن النديم اشتهر بدعوته الجريئة "مصر للمصريين" وكان دعوة "عرابي" كذلك، وإذا تعارض الدين والوطنية، فضَّل الوطنية على الدين؛ لأنه جاذبية الوطن عنده أقوى من جاذبية الدين، ويعلل لذلك تعليلًا فلسفيًّا في مقالة نفيسة بالأستاذ هي "تجاذب الجنسيات والأديان" يقول فيها: "لو وقعت حرب بين عربيّ وعجميّ تماثلا دينيًّا, هربت الطباع إلى الجنسية, فترى عربيًّا في أقصى الأرض يفرح بانتصار مثيله على العجميّ والعكس بالعكس" ويعلل لاتحاد الأقباط والمسلمين بمصر, ومحبة كل فريق للآخر بقوة الرابطة الجنسية، فإن كثيرًا من مسلمي مصر أقباطٌ أسلموا، فنداء الدم بليغ، وفي هذا يقول: "وأقرب الأماكن إلينا مصر التي نحن فيها، فإنها بلاد إنسانية مختلطة بقليل من الأقباط الذين تجذبهم الجنسية إلى كثير ممن تولدوا ممن أسلم من سابقيهم، وتدفعهم الوطنية إلى التلاصق بالمجموع بجاذبية الوطنية والألفة وطول المعاشرة"، وهذه خطرات وطنية صادقة العاطفة, عميقة الفكرة، بعيدة النظر، ولقد قال وليّ الدين يكن عن عبد الله نديم:

(1/328)

"وإنما أحدث بيننا الخلاف أنه كان عدوًّا للعثمانيين, وهو من قدماء من يقولون "مصر للمصريين، ونحن نقول مصر للعثمانيين".
لقد جهر عبد الله نديم بندائه هذا، ولم يجاره في دعمته زعماء السياسة من بعد، فهذا مصطفى كامل وهو في مناوأته للإنجليز, وبعثه للشعور الوطنيّ, ومحاربته للاحتلال الأجنبيّ, لم تنضج عنده الفكرة الوطنية كما نفهمها اليوم، فلم يقل: إن مصر للمصريين, بل قال: "حقًّا إن سياسة التقرب من الدولة العلية لأحكم السياسات وأرشدها، فضلًا عن الأسباب الداعية لهذا التقريب, فإن العدو واحد ولا يليق بنا أن نكون في فشل وشقاق في وقت يعمل أعداؤنا على تجزئة دولتنا، ولا غرو إن كنا نتألم لآلام الدولة العلية, فما نحن إلّا أبناؤها المستظلون بظلها الوريف, المجتمعون حول رايتها، وقصارى القول أن الراية العثمانية هي الراية الوحيدة التي يجب أن يجتمع حولها، ولا تتحقق وحدتنا بغير الاتحاد والائتلاف, فلنتحد قلبًا ولسانًا"(20) ولكنه رجع عن هذا الرأي فيما بعد, وفسره في خطبته بالإسكندرية(21).
استطاع النديم في جريدة "الأستاذ" أن ينبه الأفكار إلى موضوعات حيوية, وأن يجادل ويناقش ويثير العقول ويخلق الرأي العام, ويدعو زعماء الثورة العرابية الذين أذلهم الاحتلال، وغلبهم الخوف منه إلى البروز والعمل في سبيل مصر، ويدعو إلى تأليف الأحزاب حتّى يكون لكل جريدة حزبها الذي تنافح عنه، ولكل حزب منهجه في الإصلاح، وقد وقف من الأجانب بعامةٍ ومن الإنجليز بخاصة موقفًا صريحًا لا لبس فيه ولا غموض، أما الإنجليز: فهو عدوهم اللدود، ويصورهم صورًا منكرة، ويدعو الشعب لتأييد توفيق والالتفاف حوله، وأما سواهم من المرتزقة الذين هاجروا في سبيل القوت أو الثروة, فينصح بعدم الأمان لهم، وبالبعد عنهم، إلّا إذا برهنت التجربة على إخلاصهم "فعليك بمن إذا حلت المصائب وآب النازحون إلى مقارهم فرارًا من مشاركتك في هموك كان قسيمك
(1/329)

في النكبات، يتناول معك حمل الخطوب، ويحملك إذا ضعفت, ويبرك إذا احتجت، ويعودك إذا مرضت، وينصرك إذا خذلت، ويدفع معك عدوًّا يحاربك، ويحفظ معك وطنًا لزمته، ويصون لك عرضًا تبذل الروح في حمياته، والجمهرة من الأجانب في نظره متسولون؛ إذا أعطيتهم مدحوك، وهم يمدحونك طالما يجدون عندك نفعًا" ومن كانت هذه صفته يصدفه عنك الغير بلقمة يريدها، فإذا زاده دينارًا على أن يقذفك ويهجوك أضحك الناس بما يفتريه عليك".
الحق أن النديم في "الأستاذ" كان معلمًا جليلًا للوطنية المتطرفة كما يفهمها جيله، وكان مخلصًا في نصحه، وثابتًا على مبدئه منذ الثورة واندلاعها, لم يلن للخطوب, أو يطأطئ الرأس لعدوٍّ؛ فكان أكبر مثل يحتذيه الزعماء من بعد.
4-
وله رسائل أدبية، ومقالات في موضوعات شتَّى, احتفي بأسلوبها احتفاء زائدًا, وقد جمع منها أحمد سمير في سلافة النديم مقدارًا صالحًا للحكم عليها من حيث منزلتها الأدبية؛ فمن ذلك رسالة: "لواء النصر في أدباء العصر" وفيها يصف من تعرف عليهم من أدباء مصر أمثال: البارودي, وصفوت الساعاتي، وعبد العزيز حافظ، وعبد الله فكري, وسواهم.
ومنها رسالة: "التنور المسجور" في المفاخرة بين السفينة و"الوابور"، ومنها الرسائل المتبادلة بينه وبين بعض الأدباء في أمور خاصة.
أسلوبه:
1-
التزم عبد الله نديم في مطلع حياته الأدبية ذلك الأسلوب المسجوع المتكلف، يكثر فيه من ألوان البديع ولا سيما الجناس، ويظهر فيه مهارته اللغوية, وقدرته على تأليف الكلام، في جملٍ قصيرة الفواصل، كثيرة المترادفات, ويعمد في أغلب الأحيان إلى الخيال والمبالغات المرذولة، وأحيانًا يأتي يجملٍ لا معنى لها, ولكن اقتضاها السجع, مثل قوله في مطلع رسالته يصف كلامه:
"
حديقة معاني، ونادي مغاني، وبستان أفكار" فهذه جمل مترادفة، والجملة الوسطى لا معنى لها.

(1/330)

ومن الجمل المترادفة والجناس المتكلف قوله من الرسالة السابقة: "فكاهة نفوس، وزينة طورس، هزلها أدب, وجدها طرب، وإن سئلت أوجزت، وإن سألت أعجزت، لو أقمت لها حكمًا، وجدها كلها حِكَمًا".
ومن المبالغات السخيفة، والوصف المتكلف قوله يصف أديبًا: "رامي نبال وعظه إلى الأحشاء، ومفوق سهام بديعه إلى الإنشاء، حامل لواء العلوم العقلية، وقائد جيوش الفنون النقلية، مطلع شمس الأماني، ومبارز فرسان المعاني، إن ألف لم يتكلف، بل يجعل الانسجام زينة الكلام، وإن نثر كَرَّ بهجومٍ على سرايا النجوم".
فهذا الأديب في حربٍ دائمةٍ يرمي الأحشاء بنبال وعظه، يفوق سهام بديعه إلى الإنشاء، ويحمل لواء العلوم العقلية، واللواء يقتضي الجيوش، وهكذا تراه يحمل معدات الحرب ويستعملها، وكثيرًا ما يعمد إلى هذا الأسلوب، ويكرر هذا المعنى كقوله: "وكيف لا يكون لساني قوس البديع، وكلامي السهم السريع، وأنت باريه وراميه؟ أم كيف لا يكون مقامي الحصن المنيع, وقدري العزيز الرفيع، وأنت معليه وبانيه؟ ".
وله في مطلع حياته كذلك رسائل التزم فيها ما لا يلتزم من ألوان السجع إظهارًا لبراعته, وعرضًا لقدرته ومهاراته، فتارةً تراه يأتي بمجموعة من السجعات؛ كل اثنتين متشابهتين في القافية، وفي ختامها سجعة من قافية مختلفة، ثم يكرر هذه القوافي بالترتيب الذي ساقها به أولًا، وتارةً يأتي بمجموعة من السجعات بعض خمس أو ست على الترتيب الأول، وأحيانًا يلتزم في السجعة الثانية أن تكون آية من آيات القرآن، ومن النوع الأول قوله: "لعبت به الأشواق في مصارع العشاق, لعب الراح بالأرواح في مجلس الأنس، وجرت به الأتواق(22) في ميادين الأذواق, جري السحاب والأرواح في حومة الشمس".
(1/331)

ومن الثاني قوله: منحتنا اللهم سلامة الروح, فلله الحمد على هذه المنحة حمدًا بلا عد، ووهبتنا صحة لب البيان, فلله الشكر على هذه الصحة شكرًا بلا حدِّ، يلوح بدره، ويفوح عطره، وروح هو عين الحياة، ومدد العقل، ولب هو منطق للشفاه، وسند النقل، طال عمره وجال أمره".
ومثل النوع الثالث الذي يأتي فيه بسجعةٍ قرآنيةٍ تكمل المعنى قوله من رسالةٍ كتب بها إلى صديقه المرحوم عبد العزيز حافظ تنبيهًا له حينما رآه يجتمع ببعض المغاربة, ويشتغل معهم بخرافاتٍ باطلة: "لا حول ولا قوة إلّا بالله اشتبه المراقب باللاه، واستبدل الحول بالمر، وقدم الرقيق على الحر، وبيع الدر بالخزف، والخز بالحشف، وأظهر كل لئيم كبره, إن في ذلك لعبرة، سمعًا سمعًا؟ قال وشاة إن سعوا لا يعقلوا, ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فكيف تشترون منهم القار في صفة العنبر, وقد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر؟ وكيف تسمع الأحباب لمن نهى منهم وزجر، ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر" إلى أن يقوله له: "وأنت يا عزيز العليا, ووحيد الدنيا، قد بينت لك فعلهم, فبما رحمة من الله لنت لهم؛ ولكنهم طمعوا في عميم قولك، ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك، أتراهم يعقلون كلام أو يفهمون، لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون".
ومعظم رسائله الأدبية من هذا الطراز الذي يكثر فيه ألوان البديع, ويلتزم السجع, ويفتن في عرضه، ونراه لا يمدح رسالةً وصلت إليه إلّا بأن البديع قد كمل نظمه، والسجع قد لطف من مثل قوله: "إذا قرأت لفظه، وسمعت وعظه, ورأيت ما فيه من المرقص والمطرب، والمنعش والمعجب، وتلوث ما فيه من الرقائق، ونظرت ما حاز من الدقائق، علمت أنه معجزة المتنبي, وإن تأخر زمانها، وفطنة المعري، وإن بعد مكانها, وكيف لا وعطر نرجس بلاغته أزرى بطيب الريحانة، وحسن دمية بيانه نبه على ضيق الخزانة، وانسجام رقائق كلماته أغنى عن البديعات، ورقة لطف سجعاته تأهت على الأرتقيات(23)".
(1/332)

وهذا النوع من النثر بما فيه من تلاعبٍ وافتنانٍ في الازدواج والفواصل والسجعات, تقليد لمقامات الحريري وما ورد على مثالها من الرسائل، ومما يؤيد هذا الاتجاه عند النديم أنه كتب رسالة على لسان أحد أصدقائه يطلب إليه فيها أن يراسله، ويشترط أن تكون رسائله مشتملة على أفانين خاصة من البديع وغيره، وينفذ النديم الشرط, فيضع عدة رسائل منفذًا بها شروط صديقه التي ذكرها في قوله: "أحب أن تتواصل إليّ رسائلك, وتسامرني وسائلك، بشرط أن تكون أسطرها عشرين فما فوق، وأن يكون بعضها في غزل وعشق, وبعضها نكتًا أدبية, وبعضها فوائد عربية، هذه محاورة، والأخرى مسايرة، تارةً طرائف خمرية, ومرةً لطائف عمرية، وهكذا تشرف من كل دن، وتسطع في كل فن، على أن تكون بحكايات ما طرأت على الأفكار، ولا خرجت من الأوكار, تلتزم الجناس في الفقر, وألَّا تأخذ شعر غيرك إلّا بيتًا أو بيتين" وقد استجاب النديم لهذا الطلب فوضع عدة رسائل متكلفة لا معنى لها، وقد أثبت منها "أحمد سمير في السلافة" رسالتين.
والشعر الذي يرصع به الرسائل وأمثالها -وهو كثير بحيث لا تخلوا منه رسالة- شعر يمثل هذا التعامل من مثل قوله يتلاعب بلفظ النوى:
لست الملول مع التدلل والنوى ... إن لم يكن روحي على هجري نوى
ما دام يرضي منيتي فقد استوت ... عند الإقامة في شبين أو نوى
أطعمته أثمار ودي كلها ... وغذيت من ثمر المحبة بالنوى
ويأتي النديم أحيانًا بتعبيراتٍ غريبةٍ شاذةٍ متكلفة الاستعارات؛ كقوله: "وطلاؤه مرمر بالدبر معجون بليلة القدر" وأحيانًا يأتي بتعبيرات في منتهى اللطف كقوله: "واختلسنا النوم من جفون الزهر" أو قوله: أورق من خفر في بكر".
وشعر النديم الموجود قليل، وهو كنثره الأدبيّ مصنوع متكلف، يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ شعر أبي النصر وعلي الليثي، مع فارقٍ واحدٍ هو قوة السبك، ولكنه لا يختلف عن شعرهما في الصياغة والزخرفة والمعاني، ومن أحسن ما روي له قوله في الغزل:

(1/333)

سلوه عن الأرواح فهي ملاعبه ... وكفوا إذا سل المهند حاجبه
وعودوا إذا نامت أراقم شعره ... وولوا إذا دبت إليكم عقاربه
ولا تذكروا الأشباح بالله عنده ... فلو أتلف الأرواح منذا يطالبه
أراه بعيني والدموع تكاتبه ... ويحجب عني والفؤاد يراقبه
فلا حاجة تدني الحبيب لصبه ... سوى زفرة تثني الحشا وتجاذبه
فلا أنا ممن يتقيه حبيبه ... ولا أنا ممن بالصدود يعاتبه
ولو أن طرفي أرسل الدمع مرة ... سفيرًا لقلبي ما توالت كتائبه
وتراه يستعمل التأريخ الشعريّ؛ كقوله يؤرخ موت توفيق وهو بيافا, من قصيدة أرسلها إلى مصر يرثيه على الرغم من أنه نفاه:
فملائك الجنات قالت أرخوا ... توفيق في عز النعيم السرمدي 1309
ومن شعره قوله من رسالةٍ كتبها لأحد أصدقائه أيام أن كان بالمنفى, وفيها يظهر أمله ويندب سوء حظه:
يا صاحبي دع عنك قول الهازل ... واسمع نصيحة عارف بالحاصل
اجهل تجد صفو الزمان فإنه ... من قصمة الفدم الغبي الجاهل
ودع التعقل بالغفل يستقم ... أمر المعاش فحظه للغافل
وارض البلادة تغتنم من بابها ... مالًا وجاهًا بعد ذكر خامل
وإذا أبيت سوى العلوم فلا تضق ... بحروب دهر لا يميل لفاضل
قلب تواريخ الألى سبقوا تجد ... دنياك ما قيدت بغير الباطل
أحسبنا إذا قلنا بلينا ... بلينا، أن يروم القلب لينا
نعم؟ للمجد نقتحم الدواهي ... فيحسب خامل أنا دهينا
تناوشنا فنقهرها خطوب ... ترى ليث العرين لها قرينا

(1/334)

إلى أن يقول:
ولسنا الساخطين إذا رزينا ... نعم يلقى القضا قلبًا رزينا
فإنا في عداد الناس قوم ... بما يرضى الإله لنا رضينا
إذا طاش الزمان بنا حلمنا ... ولكنا نهينا أن نهينا
وله قصيدة طويلة من رواية الوطن التي مثلها أمام الخديوي توفيق، وفي هذه القصيدة يبكت المصريين على افتخارهم الدائم بآبائهم, بينما هم في خمول وتقصير فتركوا الصناعات والعلوم، واستمرؤوا الصفات التي تذل الشعوب وتضعها، وقد قال القصيدة معارضة لنونية ابن زيدون المشهورة، وفيها يقول:
هذه معالمنا تبكي وتنشدنا ... قول ابن زيدون إذ قامت تعزينا
"بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا"
قل للنفوس التي ماتت بلا أجل ... أين القلوب التي كانت تجارينا؟
أين العلوم التي كانت توصلنا ... باب السعود فصارت من أعادينا؟
أين الصنائع أين العارفون بها؟ ... أين الديار التي كانت لأهلينا
كانت وكانوا وصار الكل في عدم ... واستعبدتنا بما نهوى أمانينا
إذا سمعنا خطيبًا ذاكرًا حكمًا ... قلنا له: عزة الآباء تكفينا(24)
وحسبنا هذا القدر من شعره, فهو يعطينا صورةً عن منزلته في الشعر وعن فهمه له.
2-
أما مقالاته في "التنكيت والتبكيت" وأسلوبه الكتابيّ في هذه الصحيفة، فقد ذكرنا آنفًا أنها احتوت موضوعات للخاصة, يكتبها بأسلوب أدبيّ محرر من السجع ومن ألوان البديع، ويتوخى فيها السهولة، "ليست منمقة بمجاز واستعارات, ولا مزخرفة بتورية واستخدام, ولا مفتخرة برقة قلم محررها، وفخامة لفظه وبلاغة عبارته، ولا معربة عن غزارة علمه وتوقد ذكائه، ولكنها
(1/335)

أحاديث تعودنا عليها، ولغة ألفنا المسامرة بها، لا تلجئك إلى قاموس الفيروزآبادي، ولا تلزمك مراجعة التاريخ، ولا نظر الجغرافية, ولا تضطرك لترجمانٍ يعبر لك عن موضوعها، ولا شيخٍ يفسر لك معانيها، فهي في مجلسك كصاحبٍ يكلمك بما تعلم، وفي بيتك كخادمٍ يطلب منك ما تقدر عليه، ونديم يسامرك بما تحب وتهوى". ومن أمثلة موضوعات الخاصة مقالته المشهورة "مجلس طبي على مصاب بالإفرنجي" وفيها يقول: "كان المصاب صحيح البنية قويّ الأعصاب جميل الصورة لطيف الشكل، وما رآه فارغ القلب إلّا صبًّا، ولا سمع بذكره بعيد إلّا طار إليه شوقًا، نشأ في العالم روضة، ودار به أهله يحفظونه عن الأعداء، ويدفعون عنه الوشاة والرقباء، وقد مات في حبه جملة من العشاق الذين خاطروا في وصاله بالأرواح والأموال، وكلما وصل إليه واحد سحره برقة ألفاظه وعذوبة كلامه، وسلب عقله ببهجة يحار الطرف فيها، وعزة لا يشاركه فيها مشارك" وأنت ترى أسلوبًا خاليًا من السجع ليفرغ كتابه إلى المعاني التي يريدها، ويسير في سهولة ووضوح.
وهناك موضوعات للعامة كتبت باللغة العامية الدارجة بمصر حتى يفهموها، ويعملوا بها كموضوع المزراع والمرابي، وكموضوع "عربي تفرنج" ويقول في الأخير: "وُلِدَ لأحد الفلاحين ولد فسماه زعيط، وتركه يلعب في التراب، وينام في الوحل حتى صار يقدم على تسريح الجاموسة، فسرحه مع البهائم إلى الغيط, يسوق الساقية ويحول الماء, وكان يعطيه كل يوم أربع حندويلات، وأربعة أمخاخ بصل، وفي العيد يقدم له اليخني ليمتعه بأكل اللحم والبصل".
وأما أسلوبه في "الأستاذ" فهو أسلوب صحفيّ أدبيّ يمتاز بالسهولة والتدفق، والخلو من السجع والبديع والمجاز، وقد مر بك نماذج منه.
ويلاحظ أن النديم يستعمل الأسلوب الخبريّ الممتزج بالخطابيّ في معظم كتابته، وهو أسلوب يصلح للوعظ، وتراه كثير التهكم والسخرية في موضوعاته الاجتماعية، يلجأ إلى الحوار في الموضوعات التي كتبها للعامة وكان

(1/336)

ينطلق كل شخص بما يوافق طبعه وصنعته ودرجة علمه، مما يدل على خبرة واسعة بالناس وطباعهم ولغة حديثهم، وله مقالات اختار لها عناوين من العامية الدارجة, تدل على تمكنه عن تفهم البيئة الفقيرة ولغتها، وعلى روح الفكاهة والسخرية عنده مثل: "الشنة والرنة في أولاد مصر الزنة" ومثل: "حاوريني يا طيطة في الطربوش والبرنيطة" و"شد الدبلاق في أكتاف أهل بولاق" وإن كانت المقالات نفسها مفقودة مع دواوين شعره.
منزلته:
واشتهر عبد الله النديم بالخطابة، وتملكه لناصية القول، فكان لسان الأمة في عهده بخطبه المملوءة حماسة وقوة وصراحة، يذيعها في كل مجلس بكل مكانٍ, لا يكلُّ ولا يملُّ، وقد استطاع بهذا أن ينشر آراءه في أكبر عدد ممكن من الأمة, وأسهم في تكوين رأي عام -سواء بخطبه أو بقلمه- يؤمن بحكم الشورى، ويثور ضد الأجانب، ويتطلع إلى إصلاح المفاسد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وإذا كان السيد جمال الدين رسول الخاصة في هذه المعاني, فعبد الله نديم أوتي المقدرة واللباقة على أن يبسط آراء جمال الدين ونظريات الإصلاح المنشود في كل نواحي الحياة، حتى يفهمها العامة؛ من الفلاح في حقله, والتلميذ في مدرسته، والصانع في دكانه.
وقد شهد بمقدرته على الحديث والخطابة وبراعته في تنميق الكلام كثيرٌ من ذوي الخبرة بوجوه الكلام، فهذا جمال الدين الأفغاني، وهو من عرفت ذكاء وقوت عارضة، ومقدرة على الحديث يقول: "إن ما رأى مثل النديم طول حياته في توقد الذهن وصفاء القريحة، وشدة العارضة، ووضوح الدليل، ووضع الألفاظ وضعًا محكمًا بإزاء معانيها إن خطب أو كتب"(25).
وأحمد تيمور العالم المحقق يقول في الترجمة التي كتبها له(26): "كان شهيّ الحديث، حلو الفكاهة, إذا أوجز ود المحدث أنه لم يوجز، لقيته مرة في آخر إقاماته
(1/337)

بمصر، فرأيت رجلًا في ذكاء إياس, وفصاحة سحبان، وقبح الجاحظ، أما شعره فأقل من نثره، ونثره أقل من لسانه، ولسانه الغاية القصوى في عصرنا هذا".
ويقول عنه جورجي زيدان(27): "أما أخلاقه فإنه كان برًّا بوالديه وذوي قرابته وقصاده, ولو لم يكن يعرفهم، فما أقرض أحدًا شيئًا وطالبه به، ولا ردَّ يومًا سائلًا، ولا خضع لعظيم قط، وإنما كان يلين ويتواضع لصغار الناس وأوساطهم، وكان ذكيًّا فطنًا قويَّ الحافظة, فصيحًا جريئًا شاعرًا مطبوعًا، وكاتبًا ثائرًا".
ويقول عنه عبد الرحمن الرافعي(28): "وهو الزعيم الوحيد بين العرابيين الذي استمر في جهاده السياسيّ ونضاله عن مصر في عهد الاحتلال، وهي ميزة كبرى انفرد بها دون بقية الزعماء الذين أثرت فيهم الهزيمة؛ فوهنت لها روحهم المعنوية، وانطفأت فيهم شعلة الأمل والحماسة والجهاد, وهذا وحده يدلك على مبلغ علو نفسه، وقوة شخصيته؛ إذ لم تنل منه الشدائد، ولم يضعف إزاء المحن والكوارث، ولم يعرف اليأس إلى قلبه سبيلًا".
ويقول عنه الأستاذ أحمد أمين(29): "طالما غذى الناس بقلمه، وهيجهم بأفكاره, وأضحكهم وأبكاهم، وحيّر رجال الشرطة، وأقلق بال الساسة، ونازل خصومه من رجال الصحافة، فنال منهم أكثر مما نالوا منه، ولم يهدأ له لسان ولا قلم حيث حلّ، وعلى أي حالٍ كان، حتى هدأه الموت الذي يهدئ كل ثائر، ومهما أخذ عليه فقد كان عظيمًا، وكانت جريدة "الأستاذ" هي الأستاذ لمصطفى كامل, تعلم منها الاتجاه والنغمة، وإن اختلفا من حيث الثقافة والأسلوب بحكم الزمن والأحداث والظروف".
ويقول الأستاذ العقاد(30): "ولقد كان عبد الله النديم خطيبًا مطبوعًا، ومحدثًا ظريفًا من الطراز الأول, كما شهد له عدوه وصديقه، وكان إذا كتب فكأنما
(1/338)

يرتجل الخطابة لسهولة منحاه وتدفق كلامه، وتناسق عباراته، إلّا حين يكتب الخطب المنبرية, أو المقامات المصنوعة.. على أنك قد تقول ما بدا لك في شعر عبد الله نديم وفي خطبه وفي كتاباته وفي تحقيقه العلمي وملكاته الأدبية، ولكنك لا تستطيع أن تنكر عليه أنه كان أعجب نموذج من نماذج الشخصيات في تاريخ الأدب المصري الحديث".
أما نحن فقد أصدرنا حكمنا عليه في هذه الترجمة، ووفينا أدبه درسًا، وبينَّا خصائصه كما ظهر لنا من آثاره القليلة التي أبقى عليها الزمان.

(1/339)

 

__________
(1) كان أبوه مصباح إبراهيم نجارًا في أول أمره، ثم خبازًا، ويحصل من مخبزه على الكفاف من العيش، ويعول أسرة كبيرة العدد، يعيش في مسكن متواضع، وقد أرسل ابنه عبد الله إلى المكتب, ثم إلى مسجد الشيخ إبراهيم باشا في الإسكندرية، وغاية ما يرجوه أن يتعلم قليلًا منه ثم يعود إليه ليعاونه.

(2) وكان من رفقائه الخلصاء الشيخ حمزة فتح الله.
(3) وقد دبج عبد الله نديم مقالًا في هؤلاء الأدباء, أتى فيه عليهم, ووصف كلًّا منهم ببعض النعوت والمدائح، راجع سلافة النديم ج21 ص34.
(4) وهو خصي, كان ذا حظوةٍ عظيمةٍ لدى إسماعيل وأمه، وكانت إشارته حكم, وطاعته غنم, كأنه كافور الإخشيدي أو يزيد.

(5) وقد وقع له مع شاهين باشا حادثة تدل على مبلغ بديهة عبد الله نديم واستعداده الأدبي, فقد قال هو عن نفسه: "كنت بمولد السيد البدوي ومعي السيد علي أبو النصر والشيخ علاوة, وجلسنا على قهوة الصباغ نتفرج على أديب وقف يناظر آخر، فلما فطن أحدهم لانتقادنا عليهما استلفت أخاه إلينا، وخصنا بالكلام، فأخذا يمدحاننا واحدًا

فواحدًا, إلى أن جاء دورهما إليّ, فقال أحدهما يخاطبني:
أنعم بقرشك يا جندي ... وإلا اكسنا أمل يا أفندي
ولا أنا وحياتك عندي ... بقي لي شهرين طول جوعان
فقلت على سبيل المزاح:
أما الفلوس أنا مديشي ... وأنت تقول لي ما امشيشي
يطلع على حشيشي ... أقول أمص لك لودان
ولما بلغ شاهين باشا ذلك وأني غلبت هؤلاء "الأدباتية" طلب شيخهم، ووعده إن غلبوني يعطهم ألف قرش. وإن غلبتهم يضرب كل واحد من عشرين "سوطًا" واجتمع لذلك حشد من الناس كبير, وابتدأ كبيرهم فقال:

 

أول كلامي حمد الله ... ثم الصلاة على الهادي
ماذا تريد يا عبد الله ... قدام أميرنا وأسيادي
فقلت:
إني أريد أحمد ربي ... بعد الصلاة على المختار
وإن كنت تطمع في أدبي ... أسمعك بعض الأشعار
فقال:
دعنا من الأدب المشهور ... وادخل بنا باب الدعكة
ندخل على أسيادنا بسرور ... ونغنم الخير والبركة
فقلت:
ها احتكم في البحر وشوف ... فن النديم ولا فنك
دقولت أسمع يا متحوف ... أحسن أدب وحياة دقنك

 

وهكذا استمر عبد الله نديم يشاجل هؤلاء الأدباتية حتى أفحمهم, وتجد ثبتًا لا بأس به بمجلة الأستاذ, كتبه بنفسه، ونقله أحمد باشا تيمور في كتابه "تراجم أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر".

(6) صدر أول عدد منها في 8 رجب سنة 1298، 6 يونيه سنة 1881.

(7) وكان آخر عدد صدر من التنكيت في 23 ذي القعدة سنة 1298هـ, وصدر منها ثمانية عشر عددًا.
(8) لأن من حسنات رياض التي تذكر له أنه ألغى السخرة في أوائل عهد توفيق؛ كإقامة الجسور على النيل أيام الفيضان، وحفر الترع من غير أجر، وكان كثير من الملاك يسخرون الفلاحين في أرضهم بدون أجرة, فمنعهم رياض من ذلك منعًا باتًّا, فأثار حفيظتهم؛ ولعل ذلك ما جعل محمد عبده ينظر إليه دائمًا بأنه المستبد العادل الذي يجب أن يحكم البلاد خمش عشرة سنة حتى يصلح شئونها.
(9) كان يخطب في كل مجتمع: في الأزهر وطلبته, والجيش وجنوده، وفي حفلات الأفراح, فما يكون مجتمع إلّا ويطمع أن يكون فيه عبد الله نديم خطيبًا هو وجماعة من تلاميذه.

(10) كشف الستار، ص266.

(11) مصر للمصريين ج4 ص91، وكشف الستار ص259.
(12) سلافة النديم ج1 ص19.

(13) فتارة اسمه الشيخ يوسف المدني، وتارةً الشيخ محمد الفيومي، وأحيانًا سي الحاد على المغربي, وكان إذا ادعى أنه مغربيّ تكلم بلسانٍ مغربي محكم، أو مدني فكذلك, وادعى مرة أنه عالم يمني, وكان بالقرشية عند أحمد المنشاوي، وأذاعت شهرته حتى بلغت رياض -وهو الرجل الذي يطارده, ويضع له الأرصاد من كل طريق، ويقف المال في سبيل أسره إرضاء لتوفيق- فأرسل سعد زغلول ليسأله عن مثل ورد ذكره في بعض الجرائد لم يفهمه، فقابل سعد علي أنه عالم يمني وفسره له.
وقد استعان على تضليل الحكومة بإشاعة سفره إلى خارج القطر على لسان صديقٍ فرنسيٍّ كان يثق به، ونقلت كل الجرائد خبر سفره هذا, فصدقت الحكومة, وعنفقت رجال الأمن على إهمالهم وتمكينهم له من الهرب، وقد وجد عطفًا زائدًا من كثير

من الناس فأعانوه على الاختفاء، وأمدوه وخادمه بالمال، فقد أتى مرةً عيد الأضحى وهو في "برية" يسكن الحقول، لا أحد معه إلّا زوجته، ولا يجد القوت الضروريّ ويأتيه خادمه يشكو البؤس والفاقة، وإذا رجل من أهل البِرِّ والمرؤءة يملأ بيت النديم قمحًا وعسلًا وسمنًا وثيابًا من أطلس, وحرير للزوجة, وللخادم وزوجته. =

= ولكن مرت عليه من ذلك أيام حالكة السواد, مليئةً بالمصائب، فقد اختفى مرةً في قاعةٍ مظلمةٍ لا يتوصل إليها إلّا من سرداب طويل مظلم، ويرشح الماء من أرضها لقربها من ترعة, ولا يتمكن من القراءة والكتابة إلّا على مصباحٍ صغيرٍ به ذبالة تملأ الحجرة دخانًا، وقد مكث بهذا السرداب ستة أشهر, وكان إذا أراد الكتابة صنع المداد من سناخ السراج مع قليلٍ من قرظ السنط، ويتخذ أقلامه من الحجناء, كل هذا وهو صابر لا يشكو ولا يتململ، وكان في أول مرة شديد الحنين لأمه وأبيه وأخيه, لا يعرف ما صاروا إليه, فلما خف عنه الطلب، ويئست الحكومة من العثور عليه، تمكَّن من الاتصال بأهله اتصالًا منتظمًا, وكان حريصًا على ما خلفه في بيته بالإسكندرية من كتب ومؤلفات، ولكنها ضاعت بالسكة الحديدية حين وضعها أبوه في صناديق وهو مهاجر من الثغر بعد ضربه بالمدافع الإنجليزية، فلما اشتد الزحام بالقطار عمد رجال السكة الحديدة إلى التخلص من البضائع ليفسحوا المجال للناس؛ فألقوا بهذه الصناديق المملوءة كتبًا وهم لا يعلمون قيمتها عند عبد الله النديم.

(14)كان اختفاؤه في سنة 1299هـ, والقبض عليه في سنة 1309هـ.
(15) وكان في أول أمره يرتدي الثياب الإفرنجية المعلومة,؛ لما ظهر بعد الاختفاء لبس الجبة والقباء واعتمَّ بعمامةٍ خضراء إشارةً إلى الشرف، ولكن كثيرًا من ذوي الخبرة ينكرون هذا النسب، ولعل هذا الإدعاء لشعوره بضعة نسبه؛ فأراد أن يستره بهذه الصلة.
(16) وقد ودع قراءه في آخر عدد صدر من مجلة الأستاذ في 13 من يونيه سنة 1893 بكلمة مؤثرة قال فيها: ما خلقت الرجال إلّا لمسايرة الأهوال ومصادمة النوائب؛ والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظمة والجلال، وإن كان المبدأ صعوبة وكدرًا في أعين الواقفين عند الظواهر, وعلى هذا فإني أودع إخواني قائلًا:
أودعكم والله ويعلم أنني ... أحب لقاكم والخلود إليكم
وما عن قلي كان الرحيل وإنما ... دواعٍ تبدت فالسلام عليكم

(17) الصادي سوري من حلب, فقير من المال والحسب, دفعته المقادير إلى الآستانة, وكان ماهرًا ذكيًّا وسيم المحيا، وماضي العزيمة, استطاع أن يتغلب على السلطان عبد الحميد ويخضعه لمشيئته، بأحلامه وتفسيراته والطرق ومشيختها، وربط نسبه بأعلى نسب, وادعى أنه قرشيٌّ هاشميٌّ، وحياته وأعماله تمثل دورًا هامًّا أشبه بدور راسبوتين عند قياصرة الروس.

)18) وقد ساق النديم هذه القصة بطريقة الحوار بين هذا الشاب المغرور الذي أسماه "زعيط" وبين والده، وذكر فيها كثيرًا من الكلمات العامية حتى يعطي اللون الخاص الذي يريده، وكان يذكر بطريقة تهكمية لاذعة هذه الكلمات الفرنسية التي يلوكها هذا الدعيّ مثل كلمة "بون أريفي" عمد التنبيه و"أنيون" يريد البصل, وهكذا.

(19) من العجيب أن تسعين في المائة من خطباء المساجد اليوم لا يزالون على الحال التي وصفها النديم وخطبهم بعيدة عن التأثير؛ لأنها لا تمس الحياة في صميمها, ولا تعالج مشكلات الناس، وكل جمعة أحس بضيق وحرج من جراء ما أسمع من خطب ميتة.

(20) مصطفى كامل باشا, الطبعة الأولى "1928", ج1 ص198.
(21) راجع تفصيل ذلك في كتابنا "الأدب الحديث" ج2 ص84 الطبعة الرابعة.

(22) تاق إليه توقًا بفتح فسكون: اشتاق.

(23) نسبة إلى الدولة الأرتقية, وأول من أسس الدول الأرتقية معين الدولة سقمان بن أرتق, بعد أن استولى على حصن "كيفا" سنة 385هـ من الأمير موسى التركماني، وكان أرتق جد معين الدولة مملوكًا من مماليك السلطان ملكشاه السلجوقي، وأحد قواده، والأرتقيات القصائد والمدائح, كان يقولها الشعراء لملوك هذه الأسرة, واستمرت الأسرة الأرتقية حتى القرن التاسع الهجري.

(24) وهنا ترديد لما قال السيد جمال الدين من قبل, راجع 343 من هذا الكتاب.

(25) سلافة النديم ص17.
(26) تراجم أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر, لأحمد باشا تيمور, ص77.

(27) مشاهير الشرق, ج2 ص111.
(28)الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي, ص527.
(29) مجلة الثقافة العدد 279.
(30) شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي, ص93-96.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.