أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-8-2019
672
التاريخ: 17-8-2019
1227
التاريخ: 8-8-2019
688
التاريخ: 10-8-2019
576
|
لمّا ذهب مثبتو الأعيان المعدومة إلى أنّ المعدوم عين وذات، وأنّ الوجود حالة زائدة على ثبوت الشّيء يتجدّد على الذّوات المحدثة بالفاعل، جوّزوا في الذي علموه من المؤثّر في حدوث الأجسام الذي علموه قادرا عالما لذاته أن يكون معدوما، فاحتاجوا إلى إقامة دلالة مستأنفة على أنّه تعالى موجود. فأمّا نحن إذا لم نثبت للوجود حالة زائدة على ثبوت الشّيء فلا نحتاج إلى إقامة دلالة مستأنفة على وجوده تبارك وتعالى، لأنّا قد علمنا ثبوته الذي هو وجوده بالدلالة التي دلّتنا على ثبوته من حدوث الأجسام.
فإن قيل: لم قلتم إنّ وجود الشّيء هو ثبوته؟ وهلّا جوزّتم أن تكون حالة زائدة على حقيقة الشيء، على ما يقوله القوم؟.
قلنا: لو كان كذلك لوجب أن يتصوّر أن يعلم ثبوت شيء معيّن ولا نعلم وجوده، أو نعلم وجوده ولا نعلم ثبوته مثلا، كأن نعلم متحيّزا معيّنا ولا نعلم وجوده، أو نعلم وجوده على التعيين ولا نعلمه متحيّزا، وقد علمنا خلاف ذلك.
وليس لأحد أن يقول: إنّما استحال ذلك، لأنّ أحد العلمين محتاج، إلى الآخر، وذلك لأنّه لا يمكن أن يقال بحاجة كلّ واحد منهما إلى الآخر، لأنّ ذلك يؤدّي إلى حاجة الشيء إلى نفسه. فلا بدّ أن يقال: بأنّ أحدهما لا يحتاج إلى الآخر. فإن كان المحتاج هو العلم بالتحيّز إلى العلم بالوجود، وجب أن يصحّ أن يعلم موجودا وإن لم يعلم متحيّزا، وإن كان المحتاج هو العلم بالوجود إلى العلم بالتحيّز وجب أن يصحّ أن يعلم متحيّزا وإن لم موجودا والمعلوم خلافه.
فإن قيل: يصحّ أن يعلم وجود الجوهر ولا يعلم تحيزّه. وذلك بأن يوجد اللّه تعالى جوهرا، ثمّ يخبر على الجملة بأنّي أوجدت ذاتا، فعند ذلك نعلم وجود تلك الذات التي هي الجوهر المتحيّز، ولا نعلم متحيّزا فنعلم وجود المتحيّز في هذه الصّورة ولا نعلم تحيّزه.
قلنا: علمنا بوجوده عند تحيّزه إنّما هو علم بتحيّزه على الجملة، وإنّما لم نعلم أنّا علمناه متحيّزا، لأنّ علمنا به إنّما هو على طريق الجملة.
يبيّن ما ذكرناه أنّه لو أخبر تعالى عن هذه الذات بأنّي أوجدت ذاتا موصوفة بصفة زائدة على وجوده، على ما يذهب إليه الخصم لكنّا عالمين بالذّات على تلك الصفة الّتي هي التحيّز في نفسها وما كنّا عالمين بأنّا نعلمها متحيّزة، ثمّ لا يدلّ على أنّ الصفة التي أخبر اللّه تعالى عنها ليس هي التحيّز، وإنّما هي زائدة على التحيّز، كذلك لا يلزم ما ذكره السائل.
يزيد ما ذكرناه وضوحا أنّ وجود الجوهر لو كان زائدا على التحيّز لتصوّر أن يعلم الجوهر موجودا أو إن لم يعلم متحيّزا، أو متحيّزا من دون أن يعلم موجودا، سواء كان العلم به جملة أو علم تفصيل، ومعلوم أنّ هذا مستحيل فيما نعلمه مفصّلا من الجواهر.
فإن قيل: ألسنا نعلم وجود السواد وهو ليس بمتحيّز، فقد علمنا الوجود من دون التحيّز في غير الجوهر.
قلنا: كما نذهب إلى أن وجود الجوهر هو تحيّزه، كذلك نذهب إلى أنّ وجود السواد هو هيئته المخصوصة، فالوجود اسم مشترك يقع على حقائق مختلفة كالعين.
فإن قيل: أفليس الموجودات كلّها مشتركة في الموجود وهي مختلفة في حقائقها؟ فكيف يكون وجود الشّيء حقيقته.
قلنا: إنّما اشتركت الأشياء في أنّ كلّ واحد منها حقيقة معيّنة، ولا يقتضي أمرا زائدا على حقيقتها يبيّن ما ذكرناه أنّ مثل هذا الاشتراك ثابت في الصفات، لأنّ الأحوال كلّها مشتركة في أنّها صفات وهي مختلفة في حقائقها، ولا يدلّ ذلك على أنّ كونها صفات زائدة على حقائقها، كذلك ما ذكره السائل.
قالوا: السواد والبياض متنافيان على المحلّ، والشرط في منافاة السواد.
للبياض حلوله في محلّه. وكذا القول في منافاة سائر المتنافيات على المحلّ والحلول المرجع به إلى الوجود، فلو كان وجود السواد نفسه لكنّا قد جعلنا الشيء مشروطا بنفسه، كأنّا قلنا أنّ السواد إنّما ينافي البياض، بشرط أن يكون سوادا، وهذا محال.
قلنا: ليس الحلول عندكم مجرّد الوجود ولا عند أحد وإلّا لزم في كلّ وجود أن يكون حلولا، وإنّما هو كيفيّة الوجود، فعندكم أنّها كيفيّة الحالة تسمّونها وجودا، وعندنا هي كيفيّة للذّات ولا يمتنع ثبوت كيفيّة لغير الحالة الّتي تسمّونها وجودا.
وبيانه: أنّ حصول الجوهر في جهة كيفيّة لكونه متحيّزا لا لوجوده، لا يشغل الجهة ولا يتخصص بجهة لوجوده عندكم فثبت أنه يتصوّر الكيفية لغير حالة الوجود. فإذن حلول السّواد في محلّ البياض الذي هو شرط في منافاته له إنّما هو كيفيّة لذات السواد، وليس هو مجرّد الذات كما عندكم، إنّما هو كيفيّة الوجود، وليس المرجع به إلى مجرّد الوجود.
قالوا: قد علمنا ضرورة أنّ المعلوم لا يخلو إمّا أن يكون معدوما أو موجودا.
وهذا يقتضي أن يكون الوجود زائدا على حقيقة الشيء، لأنّه لو كان المرجع لوجود الشيء إلى حقيقته لكان التقسيم أزيد من هذا، بأنّ يقال: المعلوم إمّا أن يكون جوهرا أو سوادا أو بياضا، أو كذا أو كذا.
قلنا: معنى قولنا: «المعلوم إمّا أن يكون موجودا أو معدوما»، أنّه إمّا أن يكون عينا أو لم يكن عينا، والعين تشمل الأشياء المختلفة، فلا يدلّ هذا التقسيم على أنّ الوجود زائد على حقيقة الشيء.
يبين ما ذكرناه أنّه كما يعلم أنّ المعلوم إمّا أن يكون موجودا أو معدوما، كذلك يعلم أنّ الصفة أو الحالة إمّا أن تكون ثابتة أو لا تكون ثابتة، ثمّ لا يدلّ هذا على أن ثبوت الصفة زائدة على حقيقة الصفة.
كذلك في مسألتنا قالوا: الجوهر والفناء يتضادّان على مجرّد الوجود، فيجعل مجرّد الوجود شرطا في تضادّهما، فلو كان وجود الشيء نفسه لكنّا قد جعلنا الشيء شرطا في نفسه.
والجواب عن ذلك أن نقول: معنى قولنا: «إنّهما متضادّان على مجرّد الوجود» أنّه لا يراعى في تضادّهما كيفيّة الوجود، كما راعيناها في غيرهما من المتضادّات.
قالوا: الأجناس وصفاتها لا تتعلّق بالفاعل والوجود يتعلّق بالفاعل، فيجب أن يكون زائدا على الجنس، إذ يستحيل أن يكون ما يتعلّق بالفاعل هو الذي لا يتعلّق بالفاعل.
الجواب عن ذلك أن نقول: ما تستدلّون به، على أنّ الأجناس وصفاتها لا تتعلّق بالفاعل مبنيّ على أنّ الوجود زائد على صفات الأجناس، فكيف تستدلّون على أنّ الوجود زائد، بأنّ صفات الأجناس لا تتعلّق بالفاعل. وهل هذا إلّا الاستدلال بكلّ واحد منهما على صاحبه.
وبيان ما ذكرناه: أنّ دلالتكم على أنّ صفة الجنس لا تتعلّق بالفاعل، إنّما هي من جنس ما صوّرتموه في الجوهر وتحيّزه من أنّه لو كان التحيّز بالفاعل، لتصوّر من الفاعل أن يجعل الشيء الواحد متحيّزا سوادا بالتدريج الذي تذكرونه، ولئن جمع بينهما ثمّ فرضنا طروّ البياض الذي لا يكون فناء على تلك الذات، فإنّه يلزم أن تنعدم تلك الذات من حيث أنّها سواد، ولا تنعدم من حيث أنّها متحيّزة فتكون موجودة معدومة في حالة واحدة، وهذا محال.
ومعلوم أنّ هذه الاستحالة إنّما تلزم إذا كان الوجود زائدا على التحيّز وهيئة السواد حتّى يلزم إذا خرج عن هيئة السواد أن يخرج عن الوجود تبعا لها وإن ثبت له صفة الوجود، بسبب أن التحيّز ثابت فيه، فيتبعه ثبوت الوجود. فأمّا إذا فرض أن الوجود ليس بزائد على صفة الجنس، يكون هذا التقدير تقديرا لحصول ذات واحدة على هاتين الصفتين لا غير. فإذا طرأ عليه البياض الذي وصفوه إنّما يلزم أن يخرج عن هيئة السواد، ويبقى متحيّزا. ولا استحالة في خروج الموصوف بصفتين عن أحد الصفتين وبقائه على الاخرى.
ثم وهذه الدلالة مبنيّة على أنّ المتحيّز ذات وحالة، وكذلك السواد ذات وحالة حتّى يمكن فرض اتّصاف الشيء الواحد بصفتين وأمّا إذا كان المتحيّز أمرا واحدا والسواد أمرا واحدا، كيف يتأتّى من الفاعل أن يجعل الشيئين شيئا واحدا.
إذا تقرّر هذا، فغير مسلّم أنّ المتحيّز ذات وحالة فعليهم أن يبيّنوا أنّه ذات وحالة، حتّى يتمّ دلالتهم، على أنّا قد بيّنا أن المتحيّز أمر واحد، وأنّه ليس ذاتا وحالا، فبطل مبنى استدلالهم هذا.
قالوا: إنّ المعدوم ذات وعين، وإنّه على صفة، وأنّ تلك الصفة ليست ظاهرة بنفسها وإنّما تظهر باقتضائها المقتضى كظهور الجوهريّة باقتضائها المتحيّز، وصفة السواد باقتضائها الصفة المخصوصة التي هي الحلوكة، وأنّ تلك الصفة لا تقتضي مقتضاها إلّا بشرط متجدّد، والّا كان يلزم أن يكون مقتضاها معها أبدا، والمعلوم خلافه، فذلك الشرط المتجدّد هو الذي نسمّيه وجودا، فتبيّن بذلك أنّ الوجود زائد على الذات وعلى صفة الذات والمقتضى عنها.
والجواب عن ذلك: أنّ كلّ هذا بناء على صحّة القول بأنّ المعدوم ذات على صفة. ودون صحّة هذا خرط القتاد. على أنّا قد بيّنا أنّ الوجود ليس بزائد على ثبوت الذات بما لا يدخله شبهة عند المنصف. وإذا كان كذلك بطل كون المعدوم ذاتا إذ يستحيل أن يكون ذاتا ولا يكون ذاتا.
وممّا يدلّ على أنّ المعدوم ليس بذات ولا عين، أنّه لو كان ذاتا وعينا لم يخل كلّ جنس من الأجناس من أن يكون عينا واحدة في العدم أو أعيانا كثيرة، فإذا كان عينا واحدة وقد علمنا أنّها في الوجود ذوات كثيرة، فمن أين جاءت هذه الكثرة بأن صارت تلك الذات الواحدة في حالة الوجود ذوات كثيرة، فإن كان كذلك كان انقساما لتلك الذات، والذات الواحدة لا تنقسم ولا تتجزّى، وإن كانت هذه الكثرة جاءت على طريق الإنشاء لا من تلك الذات الواحدة كان ذلك مصيرا الى أنّ باقي الذوات لم تكن أعيانا في العدم، وإنّما العين تلك الذات الواحدة فليت شعري ما الذات التي كانت في العدم ذاتا وما التي لم تكن في العدم ذاتا من الجنس الواحد؟ وما أمر شيء لم يكن في العدم ذاتا من الجنس الواحد، وإن كانت متعددة متغايرة في العدم، فينبغي أن يتميّز البعض من البعض بوجه، فما ذلك الوجه؟
ونقدّم الكلام في الجوهر فنقول: أيتميّز بعض الجواهر المعدومة عن البعض بأن كان بعضها في جهة، وبعضها في جهة اخرى، أو بأن حلّ في بعضها من الأعراض ما لم يحلّ البعض الآخر، أو بأن صدر عن بعضها فعل أو حكم لم يصدر عن البعض الآخر، أن بأن كان بعضها من جملة حيّ، والبعض الآخر من جملة حيّ آخر، أو بأن ثبت لبعضها أمر لم يثبت للآخر. ومعلوم خلاف ذلك، فلم يمكن إثبات تميّز بينها. وإذا لم يمكن إثبات تميّز بينها لم يثبت بينها التغاير والتعدّد، فبطلت الكثرة، وقد أبطلنا الوحدة أيضا، فلم يبق إلّا أن لا يكون الأجناس في العدم ذوات.
فإن قيل: يتميّز البعض عن البعض، بأن علم أنّ هذا يكون من جوهر زيد، والآخر يكون من جوهر عمرو، وأنّ بعضها من السماء وبعضها من الأرض، إلى أمثال هذا.
قلنا: هذه امور مترتبة، والامور المترتبة لا تؤثّر في أحكام سابقة عليها.
ومن وجه آخر، وهو أنّ قول القائل: هذا من جوهر زيد وهذا من جوهر عمرو، فيه إثبات تميّز بينهما. قيل: كونهما من جملة الحيّين، لأنّ هذا وهذا يقتضي التميّز، فالتميّز، يكون سابقا على كونهما من جملة الحيّين، فلا يجوز أن يحال به على ذلك، وقد قال بعضهم بتميّز الجواهر المعدومة بعضها عن بعض، وكذا سائر المتماثلات المعدومة يكون بعضها غير البعض.
وهذا تغيير عبارة، وذلك لأنّ معنى الغيريّة أيضا هو التميّز. فما ذا صار البعض غيرا للبعض، أبأن حصل له صفة لم تحصل للآخر أو حلّه فيما لم يحلّه الآخر، أو صدر منه حكم أو فعل لم يصدر من الآخر؟ كلّ هذا مفقود فالتميّز مفقود فالغيريّة أيضا مفقودة بيّن ذلك أنّ ألخص ما قيل في حدّ الغيرين أنّهما المذكوران اللّذان لا يشملهما ذكر واحد. فهذا على ما ترى فيه أنّهما مذكوران، وفيه إثبات الاثنينيّة فيهما، ونحن إنّما نطلب ما به صار اثنين وهو مفقود. فثبت بهذا أنّه لا معنى لما ذكره من الغيريّة ولا فرح فيه فتحقق ما ذكرناه.
وأيضا، فإنّ الأصل في العلم بالمعدوم هو ما نجده من أنفسنا من علمنا بأفعالنا قبل إيجادها وتميّز أجناسها بعضها من بعض، وعلمنا بأحكامها التي تثبت لها عند الوجود ومعلوم أنّا لا نجد من أنفسنا إلّا العلم بصورة تلك الأفعال وحقائقها التي تثبت لها عند الوجود، ولا نعلمها على امور تقتضي أوصافا لها عند الوجود. وكذلك إذا علمنا في مقدوره تعالى سوادا فإنّما نعلم الهيئة الّتي تحصل للسواد عند الوجود، ولا نجد من أنفسنا أنّا نعلم السواد في حال العدم، على أمر يقتضي هذه الهيئة عند الوجود؛ ونعلم أنّ هذا العلم، كالعلم بالكتابة في أنّه علم بكيفيّة ترتيب تلك الرقوم وصورتها التي تحصل لها عند الوجود ولا التفات له إلى أمر ثبت حالة العدم، ولا متعلّق له فإذا ثبت أنّ العلم بالمعدوم إنّما هو تصوّر الحقائق والأجناس وأنّه لا متعلّق له في وجود أو عدم. وعلى هذا فإنّه قد توجد الأشياء وتنعدم وعلمه هذا لا يتغيّر، فبطل قول من قال: إنّ العلم بالمعدوم هو علم بشيء معيّن.
وقد تعلّق أصحاب المعدوم بهذه الطّريقة أيضا، بأن قالوا: أحدنا يعلم أفعاله قبل إيجادها ويميّز بعضها عن بعض، وعلى هذا يقع تصرّفه بحسب قصده وداعيه فلو لا علمه بها وتمييزه بعضها عن بعض لما كان يقع بحسب قصده وداعيه وهذا يبيّن أنّ علمه يتعلّق بالمعدوم، والتعلّق إنّما يثبت بين شيئين وأيضا فانّه يميّز بعضها عن بعض، فيجب أن تكون متميّزة، لأنّ العلم متعلّق بالشيء على ما هو به فعلى هذا تكون المعدومات متميّزات، فتكون أعيانا وذوات، وهو المطلوب.
والجواب عن ذلك: أنّا قد بيّنا من قبل أنّا كيف نعلم أفعالنا قبل وجودها؟ وكيف نجد علمنا بها، إذ قد ذكرنا أنّا نجد من أنفسنا علمنا بها على صورها التي تكون لها عند الوجود ونعلمها متميّزة تميّزا تحصل لها عند الوجود ولا نعلمها معيّنات في العدم، وذكرنا أنّ علمنا بها كعلم الكاتب بالكتابة التي يكتبها، فإنّه يميّز بين بعض ما يكتبه وبين بعض، ككتابة بسم اللّه وكتابة الحمد للّه. ومعلوم أنّه إنّما يتميّز بين الكتابتين بصورتيهما اللتين تحصلان عند وجودهما، إذ لا صورة لهما في العدم. وكما يميّز بين ما ينفيه من قديم ثان مع اللّه تعالى عاجز وبين ما ينفيه من قديم آخر قادر، وكذا بين ما ينفيه من الثاني العالم والثاني الجاهل، وكما يميّز بين ما ينفيه من الذات المسمّاة بالقدرة القديمة والذات المسمّاة بالعلم القديم، وبين ما ينفيه من المعنى المسمّى بالبقاء، وبين ما ينفيه من المعنى المسمّى بالإدراك. ومن المعلوم أنّ هذه التميّزات لا تستدعي ثبوت متميّزات في العدم، كذلك ما قالوه.
يزيد ما ذكرناه وضوحا: أنّه لا يمكنهم أن يقولوا انّ أحدنا يقصد إلى ذات معيّنة من جنس فيوجدها حتّى يلزم أن يكون عالما بتلك الذات المعيّنة، إذ في العدم من ذلك الجنس ما لا نهاية له وهو لا يميّز بعضها من بعض، كيف يميّزه ولا يختصّ البعض بصفة ليست للبعض ولا بحكم، فصحّ أنّه لا يقصد إلى العين، وإنّما يقصد إلى الجنس، وإذا كان قصده إلى الجنس يجب أن يكون عالما به وهو عالم به، إذ العلم بالجنس هو التصوّر الذي أشرنا إليه، فيوقع ما يطابقه بأن ينشئ ذاتا مطابقة لتصوّره.
ومن وجه آخر: لا يصحّ أن يقال: إنّ أحدنا يقصد إلى ذات معيّنة، وهو أنّ غرضه غير متعلّق بالعين، وإنّما هو متعلّق بالجنس.
وقولهم: «علمنا بما نفعله قبل فعله متعلّق بالمعدوم. وإنّما نميّز بعض أفعالنا عن بعض قبل وجودها»، إن عنوا به أنّا نعلم شيئا متعيّنا ونميّز بين أعيان متميّزة كما نعلم ونميّز بين الأشياء الموجودة فهذا غير مسلّم، بل المعلوم الموجود من النفس خلافه ...
يبيّن ما ذكرناه ويوضحه: أنّ الأعيان المعدومة لو ثبتت لكان الطريق إليها الاستدلال دون الضرورة، إذ لا يمكن أن يقال: نعلم ضرورة كون المعدوم ذاتا وعينا من حيث إنّ دعوى الضرورة في ذلك ليست بأولى من دعوى الضرورة في خلافه، بل ادّعاء الضرورة في خلافه أقرب إلى الأوهام.
إذا تقرّر أن طريق ذلك إنّما هو الاستدلال بأن لو ثبت. فمن لم ينظر فيما يدلّه على ذلك أو لم يكن من أهل النظر جملة، كالصبيّ، فإنّه قد يعلم أفعاله قبل وجودها وقد يميّز بعضها عن بعض ويقع تصرّفه بحسب قصده وداعيه.
ثم لا يمكن ادّعاء القول بأنّه يعلم الذوات المعدومة، بل زائدا على الصّبي، فإنّ الحيوانات التي ليست من جنس الإنس، كالطّيور والوحوش والبهائم تعلم أفعالها قبل وقوعها وتميّز بعضها من بعض ألا ترى أنّ الطير مثلا يفصل بين الطيران الممكن وقوعه منه وبين الوقوف حتّى إذا قصده إنسان أو شيء من الجوارح فإنّه يطير ولا يقف، ولا ذلك إلّا لفرقه بين الطيران والوقوف، وكذا القول في سائر الحيوان أ فترى أنّها تعلم الذوات المعدومة أنّ هذا لجهالة عظيمة تمسّكوا بكونه تبارك وتعالى عالما بالمعدوم، وقالوا إنّه يعلم المعدومات مفصلة مميّزة، ولا يصحّ أن يعلمها مفصّلة مميّزة إلّا وهي كذلك، والأشياء لا تكون مفصلة مميّزة إلّا بالصفات، والصفة لا تثمر التميّز إلّا وهي ثابتة في الحال. أمّا المترقبة فإنّها لا تفيد التميّز سابقا عليها، فثبت بهذا أنّ المعدومات أشياء موصوفات معيّنات، ولو لا علمه بذلك ما صحّ منه إيجاد ما يريده بدء وعودا.
والجواب عن ذلك، أنّا نقول: أمّا التمسك بكون الواحد منّا عالما في المسألة، فله وجه، وذلك لأنّا نعلم كوننا عالمين بما نعلمه على التفصيل، فصحّ أن يدّعى أنّا نعلم المعدوم على وجه كيت وكيت ونميّز بينها، ويمكن الحوالة على ما يجده الإنسان من نفسه، وقد تعلّقوا بذلك. وأجبنا عنه وبيّنا أنّا كيف نجد كوننا عالمين بالمعدوم.
وأمّا التمسّك بكونه تعالى عالما في هذه المسألة فمما لا وجه له، لأنّه أمر غائب عنّا، ولا نعلمه على طريق التفصيل، وإنّما يعلم في الجملة أنّه تعالى عالم لذاته، وأنّه يجب أن يكون عالما بجميع ما يصحّ أن يعلم على سائر وجوهها الّتي يمكن أن يعلم عليها، ولا نعلم من عالميّته شيئا وراء هذا، ولا ندري أنّه هل يعلم المعدومات ذوات أو غير ذوات وإنّما يمكننا أن نعلم ذلك بعد أن يتبيّن لنا بطريق آخر أنّ المعدومات ذوات وأعيان، فحينئذ يمكننا أن نعلم أنّه تعالى يعلمه كذلك وذلك لأنّ العالم إنّما يعلم المعلوم على ما هو به.
وعلى هذا لا يصحّ التمسّك في أنّ زيدا في الدار بأن يقال: إنّه تعالى عالم لذاته، فيعلم أنّ زيدا في الدار، وإذا علمه كذلك كان في الدار بل يجب أن يبيّن أوّلا أنّه في الدار، ثمّ عند ذلك نعلم أنّه تعالى يعلمه في الدار، كذلك في مسألتنا.
يبيّن ما ذكرناه: أنّ كون العالم عالما في تعلّقه بالمعلوم على ما هو به كالمرآة المستقيمة في إراءتها الصورة على ما هي عليه. وإذا كان كذلك لم يجز التمسّك في أنّ فيما غاب عنا صورا جميلة ونقوشا مليحة من حيث إنّ ثمّ مرآة مستقيمة، وهي تري صورا جميلة ونقوشا مليحة. بل الواجب أن نبيّن أن ثمّ تلك الصور والنقوش، ثمّ نحكم بأنّ المرآة تريها وتحاكيها. كذلك في مسألتنا يجب أن نبيّن أنّ المعدومات ذوات وأعيان مفصّلة مميّزة ثمّ نوجب كونه تعالى عالما بها، فأمّا التمسّك بكونه تعالى عالما لذاته في أنّ المعدوم ذات وعين فممّا لا وجه له، وهو رجم بالغيب ...
وأمّا قولهم: لو لا علمه تبارك وتعالى بهذا النوع من التمييز والتفصيل لما صحّ منه إيجاد أفعاله على ما يريده.
فالجواب عنه أن نقول: إنّا قد بيّنا أنّ التمييز المحتاج إليه في إيقاع الفعل بحسب قصد الفاعل وداعيه ما هو، وأنّ ذلك التمييز ليس هو الذي أشاروا إليه، فذلك التمييز حاصل له تبارك وتعالى على أتمّ ما يمكن، فلمكانه يصحّ منه إيقاع أفعاله على ما يريده ويكفيه كما كفى ذلك التمييز في أحدنا في وقوع أفعالنا بحسب قصدنا وداعينا.
ومن وجه آخر: لا يصحّ التمسّك في هذه المسألة بكونه تعالى عالما وهو ما قد ثبت بالاتفاق بين المحققين أنّ كلّ ذات لا تعلم ضرورة، فإنّما يمكن إثباتها إمّا بفعل أو حكم يصدر عنها، ومن البيّن أن لا فعل للمعدوم، فلا طريق إلى إثباته إلّا من طريق الحكم، فكونه تعالى عالما ليس هو حكم المعدوم، حتّى يستدلّ به عليه.
وتعلّقوا أيضا بأنّ قالوا: القدرة متعلّقة بالمعدوم والتّعلّق لا يثبت إلّا بين شيئين، فينبغي أن يكون المعدوم شيئا معيّنا، حتّى تتعلّق القدرة به.
والجواب عن ذلك أن نقول: ما تعنون بتعلّق القدرة؟ أ تريدون به أمرا زائدا على القدرة يثبت بينها وبين شيء معيّن؟ إنّ أردتم هذا، فبيّنوا أنّ المعدوم شيء معيّن، حتّى يمكنكم أن تدّعوا أنّ القدرة هذا التّعلّق، وإن أردتم به ما نفهمه ونعقله، فإنّا لا نعقل من تعلّق القدرة والقادر إلّا أنّه يصحّ منه إنشاء ذات أو صفة لذات.
ثم نقول لهم: يلزمكم على قولكم هذا أن يكون الوجود ثابتا في العدم، لأنّ القدرة تتعلّق بالوجود وهي فدرة على الوجود [عندكم فكما جاز أن يكون القدرة قدرة على الوجود] وإن لم يثبت الوجود حالة العدم جاز أن يكون قدرة على الشيء وإن لم يكن ذلك الشّيء ثابتا في حال العدم.
وتمسّكوا أيضا بأن قالوا: المحدثات قبل وجودها كانت صحيحة الوجود، وصحّة الوجود حكم لا يستقلّ بنفسه، بل تستدعي أمرا يضاف إليه ويقوم به.
ولا يمكنكم أن تقولوا: إن هذه الصحّة مضافة إلى القادر. وذلك أنّ المضاف إلى القادر إنّما هو صحّة الإيجاد وصحّة التأثير، فأمّا صحة الوجود والتأثّر من القادر، فينبغي أن تنصرف إلى غير القادر، لأنّه لا يصحّ من القادر وجود نفسه، وإنّما يصح منه وجود غيره.
والجواب عن ذلك أن نقول: صحّة الوجود الّتي أشرتم إليها أوّلا، هي مضافة إلى الوجود فإن الذي يصحّ من القادر عندكم إنّما هو تحصيل حالة الوجود للذات، فلا شكّ في أنّ هذه الصحّة مضافة إلى الوجود، فتستدعي هذه الإضافة كون الوجود ثابتا في العدم. فكما لا تستدعي هذه الإضافة ثبوت الوجود. فكذلك لا تستدعي ثبوت أمر آخر.
ثم نقول: وكمّا أنّ صحّة الوجود حكم إضافيّ، فكذلك استحالة الوجود حكم إضافيّ، لأنّه إنّما يستحيل وجود أمر يذكّر كما تقول إنّه يستحيل وجود ثان مع اللّه تعالى ويستحيل وجود معنى هو البقاء أو معنى هو الإدراك، وقد علمنا أنّ هذه الإضافة لا تستدعي أن تكون هذه الامور ذوات وأعيانا، حتّى تضاف الاستحالة إليها، كذلك لا يجب أن يكون ما يصحّ وجوده شيئا معيّنا حتّى تضاف إليه هذه الصحّة، وإنّما الذي يضاف إليه الصحّة المشار إليها هو المتقرّر في أذهاننا من تصوّر الحقائق، كما أنّ الذي يضاف إليه الاستحالة هو الذي تصوّرناه من ثاني القديم أو المعنى المسمّى بالبقاء أو الإدراك.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|