أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-8-2019
2256
التاريخ: 13-6-2019
1845
التاريخ: 6-5-2019
5390
التاريخ: 13-6-2019
7407
|
قال تعالى : {وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وكَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ ولَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف : 172 - 174] .
ذكر سبحانه ما أخذ على الخلق من المواثيق بعقولهم ، عقيب ما ذكره من المواثيق التي في الكتب ، جمعا بين دلائل السمع والعقل ، وابلاغا في إقامة الحجة ، فقال : {وإذ أخذ ربك} أي : واذكر لهم يا محمد ، إذ أخرج ربك {من بني آدم من ظهورهم ، أي : من ظهور بني آدم {ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} : اختلف العلماء من العام والخاص في معنى هذه الآية ، وفي هذا الإخراج والإشهاد ، على وجوه أحدها : إن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه ، كهيئة الذر ، فعرضهم على آدم ، وقال : إني آخذ على ذريتك ميثاقهم ، أن يعبدوني ، ولا يشركوا بي شيئا ، وعلي أرزاقهم ، ثم قال لهم : ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أنك ربنا . فقال للملائكة : اشهدوا . فقالوا : شهدنا . وقيل : إن الله تعالى جعلهم فهماء عقلاء ، يسمعون خطابه ويفهمونه ، ثم ردهم إلى صلب آدم ، والناس محبوسون بأجمعهم حتى يخرج كل من أخرجه الله في ذلك الوقت ، وكل من ثبت على الاسلام فهو على الفطرة الأولى ، ومن كفر وجحد ، فقد تغير عن الفطرة الأولى ، عن جماعة من المفسرين ، ورووا في ذلك آثارا بعضها مرفوعة ، وبعضها موقوفة ، ويجعلونها تأويلا للآية .
ورد المحققون هذا التأويل وقالوا : إنه مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه ، لأنه تعالى قال : {وإذ أخذ ربك من بني آدم} ولم يقل من آدم ، وقال ، {من ظهورهم} ، ولم يقل من ظهره ، وقال : {ذريتهم} ، ولم يقل ذريته ، ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا إنهم كانوا عن ذلك غافلين ، أو يعتذروا بشرك آبائهم ، وأنهم نشأوا على دينهم ، وهذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون ، فلا يتناول الظاهر ولد آدم لصلبه ، وأيضا فإن هذه الذرية المستخرجة من صلب آدم ، لا يخلو إما أن جعلهم الله عقلاء ، أو لم يجعلهم كذلك ، فإن لم يجعلهم عقلاء ، فلا يصح أن يعرفوا التوحيد ، وأن يفهموا خطاب الله تعالى ، وإن جعلهم عقلاء وأخذ عليهم الميثاق ، فيجب أن يتذكروا ذلك ، ولا ينسوه ، لأن أخذ الميثاق لا يكون حجة على المأخوذ عليه ، إلا أن يكون ذاكرا له ، فيجب أن نذكر نحن الميثاق ، ولأنه لا يجوز أن ينسى الجمع الكثير ، والجم الغفير من العقلاء ، شيئا كانوا عرفوه وميزوه ، حتى لا يذكره واحد منهم ، وإن طال العهد ، ألا ترى أن أهل الآخرة يعرفون كثيرا من أحوال الدنيا ، حتى يقول أهل الجنة لأهل النار : {أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا} ولو جاز أن ينسوا ذلك مع هذه الكثرة ، لجاز أن يكون الله تعالى ، قد كلف الخلق فيما مضى ، ثم أعادهم إما ليثيبهم وإما ليعاقبهم ، ونسوا ذلك ، وذلك يؤدي إلى التجاهل ، وإلى صحة مذهب التناسخية .
وحكي عن علي بن عيسى ، عن أبي بكر بن الأخشيد أنه جوز أن يكون خبر الذر صحيحا ، غير أنه قال : ليس تأويل الآية على ذلك ، ويكون فائدته أنه إنما فعل ذلك ليجروا على الأعراق الكريمة ، في شكر النعمة ، والإقرار لله تعالى بالربوبية ، كما روي أنهم ولدوا على الفطرة . وحكي أبو الهذيل في كتاب الحجة أن الحسن البصري وأصحابه ، كانوا يذهبون إلى أن نعيم الأطفال في الجنة ثواب عن الإيمان في الذر .
وثانيها : إن المراد بالآية أن الله سبحانه ، أخرج بني آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمهاتهم ، ثم رقاهم درجة بعد درجة ، وعلقة ، ثم مضغه ، ثم أنشأ كلا منهم بشرا سويا ، ثم حيا مكلفا ، وأراهم آثار صنعه ، ومكنهم من معرفة دلائله ، حتى كأنه أشهدهم . وقال لهم : ألست بربكم؟ فقالوا : بلي . هذا يكون معنى أشهدهم على أنفسهم : دلهم بخلقه على توحيده ، وإنما أشهدهم على أنفسهم بذلك ، لما جعل في عقولهم من الأدلة على وحدانيته ، وركب فيهم من عجائب خلقه ، وغرائب صنعته ، وفي غيرهم ، فكأنه سبحانه بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم ، فكانوا في مشاهدة ذلك وظهوره فيهم على الوجه الذي أراده الله ، وتعذر امتناعهم منه ، بمنزلة المعترف ، المقر ، وإن لم يكن هناك إشهاد صورة وحقيقة ، ونظير ذلك قوله تعالى : {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} وإن لم يكن منه سبحانه قول ، ولا منهما جواب . ومثله قوله تعالى : {شاهدين على أنفسهم بالكفر} ومعلوم أن الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم ، لكنه لما ظهر منهم ظهورا لا يتمكنون من دفعه ، فكأنهم اعترفوا به ، ومثله في الشعر :
وقالت له العينان : سمعا وطاعة ، وحدرتا كالدر لما يثقب
وكما يقول القائل : جوارحي تشهد بنعمتك . وكما روي عن بعض الخطباء من قوله : {سل الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك ، وأينع ثمارك ، فإن لم تجبك حوارا (2) ، أجابتك اعتبارا} ومثله كثير في كلام العرب وأشعارهم ، ونظمهم ، ونثرهم ، وهو قول الرماني ، وأبي مسلم ، وابن الأخشيد .
وثالثها : إنه تعالى إنما عنى بذلك جماعة من ذرية آدم ، خلقهم وأكمل عقولهم ، وقررهم على ألسن رسله عليهم السلام بمعرفته ، وبما يجب من طاعته ، فأقروا بذلك ، وأشهدهم على أنفسهم به ، لئلا يقولوا يوم القيامة : {إنا كنا عن هذا غافلين} أو يقولوا : {إنما أشرك آباؤنا من قبل} فقلدناهم في ذلك ، فنبه سبحانه على أنه لا يعاقب من له عذر ، رحمة منه لخلقه ، وكرما ، وهذا يكون في قوم خاص من بني آدم ، ولا يدخل جميعهم فيه ، لأن المؤمن لا يدخل فيه ، لأنه بين أن هؤلاء المأخوذ ميثاقهم ، كان لهم سلف في الشرك ، ولأن ولد آدم لصلبه لم يؤخذوا من ظهور بني آدم ، فقد خرجوا من ذلك ، وهذا اختيار الجبائي ، والقاضي ، وقوله {شهدنا} حكاية عن قول الملائكة ، إنهم يقولون ذلك أي : شهدنا لئلا تقولوا ، ذكره الأزهري عن بعضهم وقال : إن قوله : {قالوا بلى} تمام الكلام ، وهذا خلاف الظاهر ، وما عليه المفسرون ، لأن الكل قالوا شهدنا من قول من قال بلى ، وإن اختلفوا في كيفية الشهادة على أن الملائكة لم يجر لها ذكر في الآية ، فيبعد أن يكون إخبارا عنهم {أن تقولوا يوم القيامة} معناه لئلا يقولوا إذا صاروا إلى العذاب يوم القيامة {إنا كنا عن هذا غافلين} لم نتنبه عليه ، ولم تقم لنا حجة به ، ولم تكمل عقولنا فنفكر فيه {أو تقولوا} أي : أو يقول قوم منهم : {إنما أشرك آباؤنا من قبل} حين بلغوا وعقلوا {وكنا ذرية من بعدهم} أي : أطفالا لا نعقل ، ولا نصلح للفكرة والنظر والتدبر ، وعلى التأويل الأخير فمعناه : إني إنما قررتكم بهذا ، لتواظبوا على طاعتي ، وتشكروا نعمتي ، ولا تقولوا يوم القيامة إنا كنا غافلين عما أخذ الله من الميثاق على لسان الأنبياء ، وتقولوا {إنما أشرك آباؤنا من قبل} فنشؤنا على شركهم احتجاجا بالتقليد ، وتعويلا عليه أي : فقد قطعت حجتكم هذه بما قررتكم به من معرفتي ، وأشهدتكم على أنفسكم بإقراركم بمعرفتكم إياي {أفتهلكنا بما فعل المبطلون} ومعناه : ولأن لا تقولوا أفتهلكنا لما فعل آباؤنا من الشرك؟ وتقديره : إنا لا نهلككم بما فعلوه ، وإنما نهلككم بفعلكم أنتم {وكذلك نفصل الآيات} معناه : إنا كما بينا لكم هذه الآيات ، كذلك نفصلها للعباد ، ونبينها لهم ، وتفصيل الآيات :
تمييزها ، ليتمكن من الاستدلال بكل واحدة منها {ولعلهم يرجعون} أي : ليرجعوا إلى الحق من الباطل .
______________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 390-393 .
2 . الحوار - بالفتح ويكسر - : مراجعة الكلام .
عالم الذر :
{وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ} . في المسلمين فئة تؤمن بعالم الذر مستندة إلى هذه الآية ، وإلى بعض الروايات ، ومعنى عالم الذر عند هذه الفئة ان اللَّه بعد أن خلق آدم أخرج من صلبه كل ذكر وأنثى يوجدان - فيما بعد - منذ آدم الأول إلى نهاية الكون ، وجمعهم دفعة واحدة على هيئة الذر ، ثم قال لهم : ألست بربكم ؟ . قالوا : بلى أنت ربنا ، وبعد هذا الاعتراف ردهم إلى صلب آدم . . ونحن مع الذين يؤمنون بعالم الذر ان أجابوا عن التساؤلات التالية :
أين جمع اللَّه هذه الذرية ؟ . هل جمعها في هذه الأرض أو في غيرها ؟ .
وهل تتسع هذه الأرض لهم جميعا ؟ . ولنفترض انها اتسعت ، لأنهم على هيئة الذر ، فهل كان آدم من الضخامة بحيث يستوعب كل من خرج منه مباشرة وبالواسطة إلى يوم يبعثون ؟ . ثم هل يتذكر واحد من الجم الذي يفوق عدد الرمال ، هل يتذكر واحد فقط هذا الخطاب والعهد الذي أعطاه للَّه مشافهة ؟ .
وان كان قد أنساه طول العهد ، فكيف يحتج اللَّه عليه بشيء لا يتذكره . .
هذا من جهة العقل ، أي بعض ما يدور في ذهن العاقل .
أما من جهة نص الآية فإنه يدل على عكس عالم الذر الذي أخذ من صلب آدم الأول ، لأن اللَّه سبحانه قال : {أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} ولم يقل من آدم ، مع العلم ان ابن آدم يقال له : آدم ، ولا يقال لآدم الأول : ابن آدم . .
وأيضا قال تعالى : {مِنْ ظُهُورِهِمْ} ولم يقل من ظهره . وقال : {ذُرِّيَّتَهُمْ} ولم يقل : ذريته . . هذا ، إلى ان اللَّه قال في الآية الثانية : انه فعل ذلك لئلا يحتج عليه أحد بشرك الآباء ، مع ان أول من أشرك لا مبرر لاحتجاجه بشرك أبيه ، لأن المفروض ان أباه لم يشرك . . وان دل هذا على شيء فإنه يدل على ان العهد قد أخذ من كل واحد واحد مستقلا بعد وجوده حتما ، بل وبعد رشده وإدراكه .
ونحن لا نفهم معنى لهذا العهد المأخوذ من الإنسان للَّه تعالى الا الفطرة ، وغريزة الاستعداد التي أودعها اللَّه في كل عاقل ، والتي بها - لو قصد التفهم والتدبر - يميز بين الهدى والضلال ، وبين الحق والباطل ، وبها يهتدي إلى الإيمان باللَّه ودينه الحق . . وبكلمة ان على كل امرئ ان يتفكر في آيات اللَّه ودلائله . واتفق المسلمون قولا واحدا على ان السنة النبوية تفسير وبيان للآيات القرآنية ، وقد ثبت بالتواتر قوله (صلى الله عليه وآله) : كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه . وقوله : يقول اللَّه اني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتاحتهم عن دينهم .
{وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا} . كل من السؤال والجواب قائم إلى اليوم ، وإلى آخر يوم ، لأنهما بلسان الحال والواقع ، تماما كقوله تعالى : {فَقالَ لَها ولِلأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} [فصلت - 11] . {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي مخافة أن تقولوا أو لئلا تقولوا : {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ} . هذا إشارة إلى التوحيد الذي دل عليه قوله : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} . لا تعليل ولا معذرة أبدا ، لا في هذه الحياة ولا في الآخرة لمن منحه اللَّه الاستعداد الكامل لتفهم الدلائل والبينات على وحدانية اللَّه وعظمته ، ثم كفر وأشرك .
{أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} . يقلد الإنسان في الأشياء التي تحتاج إلى التخصص ، وتستغرق سنوات من الدراسة كالطب والهندسة ، وما إليهما ، أما الإدراكات الفطرية التي لا تكلف الإنسان أكثر من اليقظة والتنبه كوجود اللَّه ووحدانيته ، أما هذه فالكل فيها سواء . . وقد أقام اللَّه سبحانه البراهين الوافية الكافية على وحدانيته ، ومنح كل عاقل الاستعداد لتفهمها بيسر ، ولم يبق عذرا لمعتذر بأنه جحد أو أشرك تقليدا لغيره من المبطلين . . ولا فرق أبدا في نظر العقل بين من يعمل بغير علمه متعمدا وبين من يتبع الباطل جهلا به ومن غير قصد مع قدرته على معرفته وتمييزه عن غيره .
{وكَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ ولَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلى عقولهم التي تؤدي بهم حتما بمعونة الدلائل إلى عقيدة التوحيد . أنظر تفسير الآية 41 من سورة الأنعام ، فقرة اللَّه والفطرة ص 188 .
___________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 418-420 .
الآيات تذكر الميثاق من بني آدم على الربوبية وهي من أدق الآيات القرآنية معنى : وأعجبها نظما .
قوله تعالى : ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا﴾ أخذ الشيء من الشيء يوجب انفصال المأخوذ من المأخوذ منه واستقلاله دونه بنحو من الأنحاء : وهو يختلف باختلاف العنايات المتعلقة بها والاعتبارات المأخوذة فيها كأخذ اللقمة من الطعام وأخذ الجرعة من ماء القدح وهو نوع من الأخذ : وأخذ المال والأثاث من زيد الغاصب أو الجواد أو البائع أو المعير وهو نوع آخر : أو أنواع مختلفة أخرى : وكأخذ العلم من العالم وأخذ الأهبة من المجلس وأخذ الحظ من لقاء الصديق وهو نوع وأخذ الولد من والده للتربية وهو نوع إلى غير ذلك .
فمجرد ذكر الأخذ من الشيء لا يوضح نوعه إلا ببيان زائد : ولذلك أضاف الله سبحانه إلى قوله : ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم﴾ الدال على تفريقهم وتفصيل بعضهم من بعض : قوله : ﴿من ظهورهم﴾ ليدل على نوع الفصل والأخذ : وهو أخذ بعض المادة منها بحيث لا تنقص المادة المأخوذ منها بحسب صورتها ولا تنقلب عن تمامها واستقلالها ثم تكميل الجزء المأخوذ شيئا تاما مستقلا من نوع المأخوذ منه فيؤخذ الولد من ظهر من يلده ويولده : وقد كان جزء ثم يجعل بعد الأخذ والفصل إنسانا تاما مستقلا من والديه بعد ما كان جزء منهما .
ثم يؤخذ من ظهر هذا المأخوذ مأخوذ آخر وعلى هذه الوتيرة حتى يتم الأخذ وينفصل كل جزء عما كان جزء منه : ويتفرق الأناسي وينتشر الأفراد وقد استقل كل منهم عمن سواه ويكون لكل واحد منهم نفس مستقلة لها ما لها وعليها ما عليها : فهذا مفاد قوله : ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم﴾ ولو قال : أخذ ربك من بني آدم ذريتهم أو نشرهم ونحو ذلك بقي المعنى على إبهامه .
وقوله : ﴿وأشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم﴾ ينبئ عن فعل آخر إلهي تعلق بهم بعد ما أخذ بعضهم من بعض وفصل بين كل واحد منهم وغيره وهو إشهادهم على أنفسهم : والإشهاد على الشيء هو إحضار الشاهد عنده وإراءته حقيقته ليتحمله علما تحملا شهوديا فإشهادهم على أنفسهم هو إراءتهم حقيقة أنفسهم ليتحملوا ما أريد تحملهم من أمرها ثم يؤدوا ما تحملوه إذا سئلوا .
وللنفس في كل ذي نفس جهات من التعلق والارتباط بغيرها يمكن أن يستشهد الإنسان على بعضها دون بعض غير أن قوله : ﴿ألست بربكم﴾ يوضح ما أشهدوا لأجله وأريد شهادتهم عليه : وهو أن يشهدوا ربوبيته سبحانه لهم فيؤدوها عند المسألة .
فالإنسان وإن بلغ من الكبر والخيلاء ما بلغ : وغرته مساعدة الأسباب ما غرته واستهوته لا يسعه أن ينكر أنه لا يملك وجود نفسه ولا يستقل بتدبير أمره : ولو ملك نفسه لوقاها مما يكرهه من الموت وسائر آلام الحياة ومصائبها : ولو استقل بتدبير أمره لم يفتقر إلى الخضوع قبال الأسباب الكونية : والوسائل التي يرى لنفسه أنه يسودها ويحكم فيها ثم هي كالإنسان في الحاجة إلى ما وراءها : والانقياد إلى حاكم غائب عنها يحكم فيها لها أو عليها : وليس إلى الإنسان أن يسد خلتها ويرفع حاجتها .
فالحاجة إلى رب - مالك مدبر - حقيقة الإنسان : والفقر مكتوب على نفسه : والضعف مطبوع على ناصيته : لا يخفى ذلك على إنسان له أدنى الشعور الإنساني : والعالم والجاهل والصغير والكبير والشريف والوضيع في ذلك سواء .
فالإنسان في أي منزل من منازل الإنسانية نزل يشاهد من نفسه أن له ربا يملكه ويدبر أمره : وكيف لا يشاهد ربه وهو يشاهد حاجته الذاتية؟ وكيف يتصور وقوع الشعور بالحاجة من غير شعور بالذي يحتاج إليه؟ فقوله : ﴿ألست بربكم﴾ بيان ما أشهد عليه : وقوله : ﴿قالوا بلى شهدنا﴾ اعتراف منهم بوقوع الشهادة وما شهدوه : ولذا قيل : إن الآية تشير إلى ما يشاهده الإنسان في حياته الدنيا أنه محتاج في جميع جهات حياته من وجوده وما يتعلق به وجوده من اللوازم والأحكام : ومعنى الآية أنا خلقنا بني آدم في الأرض وفرقناهم وميزنا بعضهم من بعض بالتناسل والتوالد : وأوفقناهم على احتياجهم ومربوبيتهم لنا فاعترفوا بذلك قائلين : بلى شهدنا أنك ربنا .
وعلى هذا يكون قولهم : ﴿بلى شهدنا﴾ من قبيل القول بلسان الحال أو إسناد اللازم القول إلى القائل بالملزوم حيث اعترفوا بحاجاتهم ولزمه الاعتراف بمن يحتاجون إليه : والفرق بين لسان الحال : والقول بلازم القول : أن الأول انكشاف المعنى عن الشيء لدلالة صفة من صفاته وحال من أحواله عليه سواء شعر به أم لا كما تفصح آثار الديار الخربة عن حال ساكنيها : وكيف لعب الدهر بهم؟ وعدت عادية الأيام عليهم؟ فأسكنت أجراسهم وأخمدت أنفاسهم : وكما يتكلم سيماء البائس المسكين عن فقره ومسكنته وسوء حاله .
والثاني انكشاف المعنى عن القائل لقوله بما يستلزمه أو تكلمه بما يدل عليه بالالتزام .
فعلى أحد هذين النوعين من القول أعني القول بلسان الحال والقول بالاستلزام يحمل اعترافهم المحكي بقوله تعالى : ﴿قالوا بلى شهدنا﴾ والأول أقرب وأنسب فإنه لا يكتفي في مقام الشهادة إلا بالصريح منها المدلول عليه بالمطابقة دون الالتزام .
ومن المعلوم أن هذه الشهادة على أي نحو تحققت فهي من سنخ الاستشهاد المذكور في قوله : ﴿ألست بربكم﴾ فالظاهر أنه قد استوفى الجواب بعين اللسان الذي سألهم به : ولذلك كان هناك نحو ثالث يمكن أن يحمل عليه هذه المساءلة والمجاوبة فإن الكلام الإلهي يكشف به عن المقاصد الإلهية بالفعل : والإيجاد كلام حقيقي - وإن كان بنحو التحليل - كما تقدم مرارا في مباحثنا السابقة فليكن هنا قوله : ﴿ألست بربكم﴾وقولهم : ﴿بلى شهدنا﴾ من ذاك القبيل : وسيجيء للكلام تتمة .
وكيف كان فقوله : ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم﴾ الآية يدل على تفصيل بني آدم بعضهم من بعض : وإشهاد كل واحد منهم على نفسه : وأخذ الاعتراف على الربوبية منه : ويدل ذيل الآية وما يتلوه أعني قوله : ﴿أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون﴾ على الغرض من هذا الأخذ والإشهاد .
وهو على ما يفيده السياق إبطال حجتين للعباد على الله وبيان أنه لو لا هذا الأخذ والإشهاد وأخذ الميثاق على انحصار الربوبية كان للعباد أن يتمسكوا يوم القيامة بإحدى حجتين يدفعون بها تمام الحجة عليهم في شركهم بالله والقضاء بالنار : على ذلك من الله سبحانه .
والتدبر في الآيتين وقد عطفت إحدى الحجتين على الأخرى بأو الترديدية : وبنيت الحجتان جميعا على العلم اللازم للإشهاد : ونقلتا جميعا عن بني آدم المأخوذين المفرقين يعطي أن الحجتين كل واحدة منهما مبنية على تقدير من تقديري عدم الإشهاد كذلك .
والمراد أنا أخذنا ذريتهم من ظهورهم وأشهدناهم على أنفسهم فاعترفوا بربوبيتنا فتمت لنا الحجة عليهم يوم القيامة : ولو لم نفعل هذا ولم نشهد كل فرد منهم على نفسه بعد أخذه فإن كنا أهملنا الإشهاد من رأس فلم يشهد أحد نفسه وأن الله ربه : ولم يعلم به لأقاموا جميعا الحجة علينا يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين في الدنيا عن ربوبيتنا : ولا تكليف على غافل ولا مؤاخذة : وهو قوله تعالى : ﴿أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين﴾ .
وإن كنا لم نهمل أمر الإشهاد من رأس : وأشهدنا بعضهم على أنفسهم دون بعض بأن أشهدنا الآباء على هذا الأمر الهام العظيم دون ذرياتهم ثم أشرك الجميع كان شرك الآباء شركا عن علم بأن الله هو الرب لا رب غيره فكانت معصية منهم : وأما الذرية فإنما كان شركهم بمجرد التقليد فيما لا سبيل لهم إلى العلم به لا إجمالا ولا تفصيلا : ومتابعة عملية محضة لآبائهم فكان آباؤهم هم المشركون بالله العاصون في شركهم لعلمهم بحقيقة الأمر : وقد قادوا ذريتهم الضعاف في سبيل شركهم بتربيتهم عليه وتلقينهم ذلك : ولا سبيل لهم إلى العلم بحقيقة الأمر وإدراك ضلال آبائهم وإضلالهم إياهم : فكانت الحجة لهؤلاء الذرية على الله يوم القيامة لأن الذين أشركوا وعصوا بذلك وأبطلوا الحق هم الآباء فهم المستحقين للمؤاخذة : والفعل فعلهم : وأما الذرية فلم يعرفوا حقا حتى يؤمروا به فيعصوا بمخالفته فهم لم يعصوا شيئا ولم يبطلوا حقا : وحينئذ لم تتم حجة على الذرية فلم تتم الحجة على جميع بني آدم : وهذا معنى قوله تعالى : ﴿أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون﴾ .
فإن قلت : هنا بعض تقادير أخر لا يفي به البيان السابق كما لو فرض إشهاد الذرية على أنفسهم دون الآباء مثلا أو إشهاد بعض الذرية مثلا كما أن تكامل النوع الإنساني في العلم والحضارة على هذه الوتيرة يرث كل جيل ما تركه الجيل السابق ويزيد عليه بأشياء فيحصل للاحق ما لم يحصل للسابق .
قلت : على أحد التقديرين المذكورين تتم الحجة على الذرية أو على بعضهم الذين أشهدوا .
وأما الآباء الذين لم يشهدوا فليس عندهم إلا الغفلة المحضة عن أمر الربوبية فلا يستقلون بشرك إذ لم يشهدوا : ولا يسع لهم التقليد إذ لم يسبق عليهم فيه سابق كما في صورة العكس فيدخلون تحت المحتجين بالحجة الأولى : ﴿إنا كنا عن هذا غافلين﴾ .
وأما حديث تكامل الإنسان في العلم والحضارة تدريجا فإنما هو في العلوم النظرية الاكتسابية التي هي نتائج وفروع تحصل للإنسان شيئا فشيئا : وأما شهود الإنسان نفسه وأنه محتاج إلى رب يربه فهو من مواد العلم التي إنما تحصل قبل النتائج : وهو من العلوم الفطرية التي تنطبع في النفس انطباعا أوليا ثم يتفرع عليها الفروع : وما هذا شأنه لا يتأخر عن غيره حصولا : وكيف لا : ونوع الإنسان إنما يتدرج إلى معارفه وعلومه عن الحس الباطني بالحاجة كما قرر في محله .
فالمتحصل من الآيتين أن الله سبحانه فصل بين بني آدم بأخذ بعضهم من بعض ثم أشهدهم جميعا على أنفسهم وأخذ منهم الميثاق بربوبيته فهم ليسوا بغافلين عن هذا المشهد وما أخذ منهم الميثاق حتى يحتج كلهم بأنهم كانوا غافلين عن ذلك لعدم معرفتهم بالربوبية أو يحتج بعضهم بأنه إنما أشرك وعصى آباؤهم وهم برآء .
ولذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد بهذا الظرف المشار إليه بقوله : ﴿وإذ أخذ ربك﴾ هو الدنيا : والآيتان تشيران إلى سنة الخلقة الإلهية الجارية على الإنسان في الدنيا فإن الله سبحانه يخرج الذرية الإنسانية من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمهاتهم ومنها إلى الدنيا : ويشهدهم في خلال حياتهم على أنفسهم : ويريهم آثار صنعه وآيات وحدانيته : ووجوه احتياجاتهم المستغرقة لهم من كل جهة الدالة على وجوده ووحدانيته فكأنه يقول لهم عند ذلك : ألست بربكم : وهم يجيبونه بلسان حالهم : بلى شهدنا بذلك وأنت ربنا لا رب غيرك : وإنما فعل الله سبحانه ذلك لئلا يحتجوا على الله يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين عن المعرفة : أو يحتج الذرية بأن آباءهم هم الذين أشركوا : وأما الذرية فلم يكونوا عارفين بها وإنما هم ذرية من بعدهم نشئوا على شركهم من غير ذنب .
وقد طرح القوم عدة من الروايات تدل على أن الآيتين تدلان على عالم الذر : وأن الله أخرج ذرية آدم من ظهره فخرجوا كالذر فأشهدهم على أنفسهم وعرفهم نفسه : وأخذ منهم الميثاق على ربوبيته فتمت بذلك الحجة عليهم يوم القيامة .
وقد ذكروا وجوها في إبطال دلالة الآيتين عليه وطرح الروايات بمخالفتها لظاهر الكتاب .
1 - أنه لا يخلو إما أن جعل الله هذه الذرية المستخرجة من صلب آدم عقلاء أو لم يجعلهم كذلك فإن لم يجعلهم عقلاء فلا يصح أن يعرفوا التوحيد : وأن يفهموا خطاب الله تعالى : وإن جعلهم عقلاء وأخذ منهم الميثاق وبنى صحة التكليف على ذلك وجب أن يذكروا ذلك ولا ينسوه لأن أخذ الميثاق إنما تتم الحجة به على المأخوذ منه إذا كان على ذكر منه من غير نسيان كما ينص عليه قوله تعالى : ﴿أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين﴾ ونحن لا نذكر وراء ما نحن عليه من الخلقة الدنيوية الحاضرة شيئا فليس المراد بالآية إلا موقف الإنسان في الدنيا : وما يشاهده فيه من حاجته إلى رب يملكه ويدبر أمره : وهو رب كل شيء .
2 - أنه لا يجوز أن ينسى الجمع الكثير والجم الغفير من العقلاء أمرا قد كانوا عرفوه وميزوه حتى لا يذكره ولا واحد منهم : وليس العهد به بأطول من عهد أهل الجنة بحوادث مضت عليهم في الدنيا وهم يذكرون ما وقع عليهم في الدنيا كما يحكيه تعالى في مواضع من كلامه كقوله : ﴿قال قائل منهم إني كان لي قرين﴾ إلى آخر الآيات : الصافات : 51 وقد حكى نظير ذلك من أهل النار كقوله : ﴿وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار﴾ ص : 62 إلى غير ذلك من الآيات .
ولو جاز النسيان على هؤلاء الجماعة مع هذه الكثرة لجاز أن يكون الله سبحانه قد كلف خلقه فيما مضى من الزمن ثم أعادهم ليثيبهم أو ليعاقبهم جزاء لأعمالهم في الخلق الأول وقد نسوا ذلك : ولازم ذلك صحة قول التناسخية أن المعاد إنما هو خروج النفس عن بدنها ثم دخولها في بدن آخر لتجد في الثاني جزاء الأعمال التي عملتها في الأول .
3 - ما أورد على الأخبار الناطقة بأن الله سبحانه أخذ من صلب آدم ذريته وأخذ منهم الميثاق : بأن الله سبحانه قال : ﴿أخذ ربك من بني آدم﴾ ولم يقل من آدم وقال : ﴿من ظهورهم﴾ ولم يقل من ظهره : وقال :﴿ذريتهم﴾ ولم يقل : ذريته ثم أخبر بأنه إنما فعل بهم ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو يقولوا ﴿إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم﴾ الآية : وهذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون فلا يتناول ظاهر الآية أولاد آدم لصلبه .
ومن هنا قال بعضهم : إن الآية خاصة ببعض بني آدم غير عامة لجميعهم فإنها لا تشمل آدم وولده لصلبه : وجميع المؤمنين ومن المشركين من ليس له آباء مشركون بل تختص بالمشركين الذين لهم سلف مشرك .
4 - أن تفسير الآية بعالم الذر ينافي قولهم - كما في الآية - ﴿إنما أشرك آباؤنا﴾ لدلالته على وجود آباء لهم مشركين : وهو ينافي وجود الجميع هناك بوجود واحد جمعي .
5 - ما ذكره بعضهم أن الروايات مقبولة مسلمة غير أنها ليست بتأويل للآية : والذي تقصه من حديث عالم الذر إنما هو أمر فعله الله سبحانه ببني آدم قبل وجودهم في هذه النشأة ليجروا بذلك على الأعراق الكريمة في معرفة ربوبيته كما روي : أنهم ولدوا على الفطرة : وكما قيل : إن نعيم الأطفال في الجنة ثواب إيمانهم بالله في عالم الذر .
وأما الآية فليست تشير إلى ما تشير إليه الروايات فإن الآية تذكر أنه إنما فعل بهم ذلك لتنقطع به حجتهم يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين : ولو كان المراد به ما فعل بهم في عالم الذر لكان لهم أن يحتجوا على الله فيقولوا : ربنا إنك أشهدتنا على أنفسنا يوم أخرجتنا من صلب آدم فكنا على يقين بأنك ربنا كما أنا اليوم وهو يوم القيامة - على يقين من ذلك لكنك أنسيتنا موقف الإشهاد في الدنيا التي هي موطن التكليف والعمل : ووكلتنا إلى عقولنا فعرف ربوبيتك من عرفها بعقله : وأنكرها من أنكرها بعقله كل ذلك بالاستدلال فما ذنبنا في ذلك وقد نزعت منا عين المشاهدة : وجهزتنا بجهاز شأنه الاستدلال وهو يخطئ ويصيب؟ .
6 - أن الآية لا صراحة لها فيما تدل عليه الروايات لإمكان حملها على التمثيل : وأما الروايات فهي إما مرفوعة أو موقوفة ولا حجية فيها .
هذه جمل ما أوردوه على دلالة الآية وحجية الروايات : وقد زيفها المثبتون لنشاة الذر وهم عامة أهل الحديث وجمع من غيرهم من المفسرين بأجوبة .
فالجواب عن الأول : أن نسيان الموقف وخصوصياته لا يضر بتمام الحجة وإنما المضر نسيان أصل الميثاق وزوال معرفة وحدانية الرب تعالى : وهو غير منسي ولا زائل عن النفس وذلك يكفي في تمام الحجة أ لا ترى أنك إذا أردت أن تأخذ ميثاقا من زيد فدعوته إليك وأدخلته بيتك : وأجلسته مجلس الكرامة ثم بشرته وأنذرته ما استطعت : ولم تزل به حتى أرضيته فأعطاك العهد وأخذت منه الميثاق فهو مأخوذ بميثاقه ما دام ذاكرا لأصله وإن نسي حضوره عندك ودخوله بيتك وجميع ما جرى بينك وبينه وقت أخذ الميثاق غير أصل العهد .
والجواب عن الثاني : أن الامتناع من تجويز نسيان الجمع الكثير لذلك مجرد استبعاد من غير دليل على الامتناع مضافا إلى أن أصل المعرفة بالربوبية مذكور غير منسي كما ذكرنا وهو يكفي في تمام الحجة : وأما حديث التناسخية فليس الدليل على امتناع التناسخ منحصرا في استحالة نسيان الجماعة الكثيرة ما مضى عليهم في الخلق الأول حتى لو لم يستحل ذلك صح القول بالتناسخ بل لإبطال القول به دليل آخر كما يعلم بالرجوع إلى محله : وبالجملة لا دليل على استحالة نسيان بعض العوالم في بعض آخر .
والجواب عن الثالث : أن الآية غير ساكتة عن إخراج ولد آدم لصلبه من صلبه فإن قوله تعالى : ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم﴾ كاف وحده في الدلالة عليه فإن فرض بني آدم فرض إخراجهم من صلب آدم من غير حاجة إلى مئونة زائدة : ثم إخراج ذريتهم من ظهورهم بإخراج أولاد الأولاد من صلب الأولاد : وهكذا : ويتحصل منه أن الله أخرج أولاد آدم لصلبه من صلبه ثم أولادهم من أصلابهم ثم أولاد أولادهم من أصلاب أولادهم حتى ينتهي إلى آخرهم نظير ما يجري عليه الأمر في هذه النشأة الدنيوية التي هي نشأة التوالد والتناسل .
وقد أجاب الرازي عنه في تفسيره : بأن الدلالة على إخراج أولاده لصلبه من صلبه من ناحية الخبر كما أن الدلالة على إخراج أولاد أولاده من أصلاب آبائهم من ناحية الآية فبمجموع الآية والخبر تتم الدلالة على المجموع .
وهو كما ترى .
وأما الأخبار المشتملة على ذكر إخراج ذرية آدم من صلبه : وأخذ الميثاق منهم فهي في مقام شرح القصة لا في مقام تفسير ألفاظ الآية حتى يورد عليها بعدم موافقة الكتاب أو مخالفته .
وأما عدم شمول الآية لأولاد آدم من صلبه لعدم وجود آباء مشركين لهم وكذا بعض من عداهم فلا يضر شيئا لأن مراد الآية أن الله سبحانه إنما فعل ذلك لئلا يقول المشركون يوم القيامة : إنما أشرك آباؤنا لا أن يقول كل واحد واحد منهم : إنما أشرك آبائي فهذا مما لم يتعلق به الغرض البتة فالقول قول المجموع من حيث المجموع لا قول كل واحد فيئول المعنى إلى أنا لو لم نفعل ذلك لكان كل من أردنا إهلاكه يوم القيامة يقول : لم أشرك أنا وإنما أشرك من كان قبلي ولم أكن إلا ذرية وتابعا لا متبوعا .
والجواب عن الرابع : يظهر من الجواب عن سابقه وقد دلت الآية والرواية على أن الله فصل هناك بين الآباء والأبناء ثم ردهم إلى حال الجمع .
والجواب عن الخامس : أنه خلاف ظاهر بعض الروايات وخلاف صريح بعض آخر منها : وما في ذيله من عدم تمام الحجة من جهة عروض النسيان ظهر الجواب عنه من الجواب عن الإشكال الأول .
والجواب عن السادس : أن استقرار الظهور في الكلام كاف في حجيته : ولا يتوقف ذلك على صفة الصراحة : وإمكان الحمل على التمثيل لا يوجب الحمل عليه ما لم يتحقق هناك مانع عن حمله على ظاهره : وقد تبين أن لا مانع من ذلك .
وأما أن الروايات ضعيفة لا معول عليها فليس كذلك فإن فيها ما هو الصحيح وفيها ما يوثق بصدوره .
هذا ملخص ما جرى بينهم من البحث في ما استفيد من الآية من حديث عالم الذر إثباتا ونفيا : واعتراضا وجوابا : واستيفاء التدبر في الآية والروايات : والتأمل فيما يرومه المثبتون بإثباتهم ويدفعه المنكرون بإنكارهم يوجب توجيه البحث إلى جهة أخرى غير ما تشاجر فيه الفريقان بإثباتهم ونفيهم .
فالذي فهمه المثبتون من الرواية ثم حملوه على الآية : وانتهضوا لإثباته محصله : أن الله سبحانه بعد ما خلق آدم إنسانا تاما سويا أخرج نطفة التي تكونت في صلبه - ثم صارت هي بعينها أولاده الصلبيين - إلى الخارج من صلبه ثم أخرج من هذه النطف نطفها التي ستتكون أولادا له صلبيين ففصل بين أجزائها والأجزاء الأصلية التي اشتقت منها ثم من أجزاء هذه النطف أجزاء أخرى هي نطفهاثم من أجزاء الأجزاء أجزاءها ولم يزل حتى أتى آخر جزء مشتق من الأجزاء المتعاقبة في التجزي : وبعبارة أخرى أخرج نطفة آدم التي هي مادة البشر ووزعها بفصل بعض أجزائه من بعض إلى ما لا يحصى من عدد بني آدم بحذاء كل فرد ما هو نصيبه من أجزاء نطفة آدم : وهي ذرات منبثة غير محصورة .
ثم جعل الله سبحانه هذه الذرات المنبثة عند ذلك - أو كان قد جعلها قبل ذلك كل ذرة منها إنسانا تاما في إنسانيته : هو بعينه الإنسان الدنيوي الذي هو جزء المقدم له فالجزء الذي لزيد هناك هو زيد هذا بعينه : والذي لعمرو هو عمرو هذا بعينه فجعلهم ذوي حياة وعقل وجعل لهم ما يسمعون به وما يتكلمون به : وما يضمرون به معاني فيظهرونها أو يكتمونها وعند ذلك عرفهم نفسه فخاطبهم فأجابوه : وأعطوه الإقرار بالربوبية إما بموافقة ما في ضميرهم لما في لسانهم أو بمخالفته ذلك .
ثم إن الله سبحانه ردهم بعد أخذ الميثاق إلى مواطنهم من الأصلاب حتى اجتمعوا في صلب آدم وهي على حياتها ومعرفتها بالربوبية وإن نسوا ما وراء ذلك مما شاهدوه عند الإشهاد وأخذ الميثاق : وهم بأعيانهم موجودون في الأصلاب حتى يؤذن لهم في الخروج إلى الدنيا فيخرجون وعندهم ما حصلوه في الخلق الأول من معرفة الربوبية : وهي حكمهم بوجود رب لهم من مشاهدة أنفسهم محتاجة إلى من يملكهم ويدبر أمرهم .
هذا ما يفهمه القوم من الخبر والآية ويرومون إثباته : وهو مما يدفعه الضرورة وينفيه القرآن والحديث بلا ريب : وكيف الطريق إلى إثبات أن ذرة من ذرات بدن زيد - وهو الجزء الذري الذي انتقل من صلب آدم من طريق نطفته إلى ابنه ثم إلى ابن ابنه حتى انتهى إلى زيد - هو زيد بعينه : وله إدراك زيد وعقله وضميره وسمعه وبصره : وهو الذي يتوجه إليه التكليف : وتتم له الحجة ويحمل عليه العهود والمواثيق : ويقع عليه الثواب والعقاب؟ وقد صح بالحجة القاطعة من طريق العقل والنقل أن إنسانية الإنسان بنفسه التي هي أمر وراء المادة حادث بحدوث هذا البدن الدنيوي : وقد تقدم شطر من البحث فيها .
على أنه قد ثبت بالبحث القطعي أن هذه العلوم التصديقية البديهية والنظرية منها التصديق بأن له ربا يملكه ويدبر أمره تحصل للإنسان بعد حصول والتطورات والجميع تنتهي إلى الإحساسات الظاهرة والباطنة : وهي تتوقف على وجود التركيب الدنيوي المادي فهو حال العلوم الحصولية التي منها التصديق بأن له ربا هو القائم برفع حاجته .
على أن هذه الحجة إن كانت متوقفة في تمامها على العقل والمعرفة معا فالعقل مسلوب عن الذرة حين أرجعت إلى موطنه الصلبي حتى تظهر ثانيا في الدنيا : وإن قيل إنه لم يسلب عنها ما تجري في الأصلاب والأرحام فهو مسلوب عن الإنسان ما بين ولادته وبلوغه أعني أيام الطفولية .
ويختل بذلك أمر الحجة على الإنسان : وإن كانت غير متوقفة عليه بل يكفي في تمامها مجرد حصول المعرفة فأي حاجة إلى الإشهاد وأخذ الميثاق وظاهر الآية أن الإشهاد وأخذ الميثاق إنما هما لأجل إتمام الحجة فلا محالة يرجع معنى الآية إلى حصول المعرفة فيئول المعنى إلى ما فسرها به المنكرون .
وبتقرير آخر : إن كانت الحجة إنما تتم بمجموع الإشهاد والتعريف وأخذ الميثاق سقطت بنسيان البعض : وقد نسي الإشهاد والتكليم وأخذ الميثاق : وإن كان الإشهاد وأخذ الميثاق جميعا مقدمة لثبوت المعرفة ثم زالت المقدمة ولزمت المعرفة : وبها تمام الحجة تمت الحجة على كل إنسان حتى الجنين والطفل والمعتوه والجاهل : ولا يساعد عليه عقل ولا نقل : وإن كانت المعرفة في تمام الحجة بها متوقفة على حصول العقل والبلوغ ونحو ذلك : وقد كانت حصلت في عالم الذر فتمت الحجة ثم زالت وبقيت المعرفة حجة ناقصة ثم كملت ثانيا لبعضهم في الدنيا فتمت الحجة ثانيا بالنسبة إليهم فكما أن لحصول العقل في الدنيا أسبابا تكوينية يحصل بها وهي الحوادث المتكررة من الخير والشر وحصول الملكة المميزة بينهما من التجارب حصولا تدريجيا ينتهي من جانب إلى حد من الكمال : ومن جانب إلى حد من الضعف لا يعبأ به : كذلك المعرفة لها أسباب إعدادية تهيأ الإنسان إلى التلبس بها : وليست تحصل قبل ذلك : وإذا كانت تحصل في ظرفنا هذا بأسبابها المعدة لها كالعقل فأي حاجة إلى تكوينه تكوينا آخر في سالف من الزمان لإتمام الحجة والحجة تامة دونه؟ وما ذا يغني ذلك؟ .
على أن هذا العقل الذي لا تتم حجة ولا ينفع إشهاد ولا يصح أخذ ميثاق بدونه حتى في عالم الذر المفروض هو العقل العملي الذي لا يحصل للإنسان إلا في هذا الظرف الذي يعيش فيه عيشة اجتماعية فتتكرر عليه حوادث الخير والشر : وتهيج عواطفه وإحساساته الباطنية نحو جلب النفع ودفع الضرر فتتعاقب عليه الأعمال عن علم وإرادة فيخطئ ويصيب حتى يتدرب في تمييز الصواب من الخطأ : والخير من الشر : والنفع من الضر والظرف الذي يثبتونه أعني ما يصفونه من عالم الذر ليس بموطن العقل العملي إذ ليس فيه شرائط حصوله وأسبابه .
ولو فرضوه موطنا له وفيه أسبابه وشرائطه كما يظهر مما يصفونه تعويلا على ما في ظواهر الروايات أن الله دعاهم هناك إلى التوحيد فأجابه بعضهم بلسان يوافقه قلبه : وأجابه آخرون وقد أضمروا الكفر وبعث إليهم الأنبياء والأوصياء فصدقهم بعض وكذبهم آخرون ولا يجري ما هاهنا إلا على ما جرى به ما هنالك إلى غير ذلك مما ذكروه كان ذلك إثباتا لنشأة طبيعية قبل هذه النشأة الطبيعية في الدنيا نظير ما يثبته القائلون بالأدوار والأكوار واحتاج إلى تقديم كينونة ذرية أخرى تتم بها الحجة على من هنالك من الإنسان لأن عالم الذر على هذه الصفة لا يفارق هذا العالم الحيوي الذي نحن فيه الآن فلو احتاج هذا الكون الدنيوي إلى تقديم إشهاد وتعريف حتى يحصل المعرفة وتتم الحجة لاحتاج إليه الكون الذري من غير فرق فارق البتة .
على أن الإنسان لو احتاج في تحقق المعرفة في هذه النشأة الدنيوية إلى تقدم وجود ذري يقع فيه الإشهاد ويوجد فيه الميثاق حتى تثبت بذلك المعرفة بالربوبية لم يكن في ذلك فرق بين إنسان وإنسان فما بال آدم وحواء استثنيا من هذه الكلية؟ فإن لم يحتاجا إلى ذلك لفضل فيهما أو لكرامة لهما ففي ذريتهما من هو أفضل منهما وأكرم! وإن كان لتمام خلقتهما يومئذ فأثبتت فيهما المعرفة من غير حاجة إلى إحضار الوجود الذري فلكل من ذريتهما أيضا خلقة تامة في ظرفه الخاص به فلم لم يؤخر إثبات المعرفة فيهم ولهم إلى تمام خلقتهم بالولادة حتى تتم عند ذلك الحجة؟ وأي حاجة إلى التقديم؟ .
فهذه جهات من الإشكال في تحقق الوجود الذري للإنسان على ما فهموه من الروايات لا طريق إلى حلها بالأبحاث العلمية : ولا حمل الآية عليه معها حتى بناء على عادة القوم في تحميل المعنى على الآية إذا دلت عليه الرواية وإن لم يساعد عليه لفظ الآية لأن الرواية القطعية الصدور كالآية مصونة عن أن تنطق بالمحال : وأما الحشوية وبعض المحدثين ممن يبطل حجة العقل الضرورية قبال الرواية : ويتمسك بالآحاد في المعارف اليقينية فلا بحث لنا معهم هذا ما على المثبتين .
بقي الكلام فيما ذكره النافون أن الآية تشير إلى ما عليه حال الإنسان في هذه الحياة الدنيا : وهو أن الله سبحانه أخرج كلا من آحاد الإنسان من الأصلاب والأرحام إلى مرحلة الانفصال والتفرق : وركب فيهم ما يعرفون به ربوبيته واحتياجهم إليه كأنه قال لهم إذا وجه وجوههم نحو أنفسهم المستغرقة في الحاجة : أ لست بربكم؟ وكأنهم لما سمعوا هذا الخطاب من لسان الحال قالوا : بلى أنت ربنا شهدنا بذلك : وإنما فعل الله ذلك لتتم عليهم حجته بالمعرفة وتنقطع حجتهم عليه بعدم المعرفة : وهذا ميثاق مأخوذ منهم طول الدنيا جار ما جرى الدهر والإنسان يجري معه .
والآية بسياقها لا تساعد عليه فإنه تعالى افتتح الآية بقوله : ﴿وإذ أخذ ربك﴾ الآية فعبر عن ظرف هذه القضية بإذ وهو يدل على الزمن الماضي أو على أي ظرف محقق الوقوع نحوه كما في قوله : ﴿وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس - إلى أن قال - قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم﴾ المائدة : 119 فعبر بإذ عن ظرف مستقبل لتحقق وقوعه .
وقوله : ﴿وإذ أخذ ربك﴾ خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو له ولغيره كما يدل عليه قوله : ﴿أن تقولوا يوم القيامة﴾ الآية : إن كان الخطاب متوجها إلينا معاشر السامعين للآيات المخاطبين بها والخطاب خطاب دنيوي لنا معاشر أهل الدنيا : والظرف الذي يتكي عليه هو زمن حياتنا في الدنيا أو زمن حياة النوع الإنساني فيها وعمره الذي هو طول إقامته في الأرض : والقصة التي يذكرها في الآية ظرفها عين ظرف وجود النوع في الدنيا فلا مصحح للتعبير عن ظرفها بلفظة ﴿إذ﴾ الدالة على تقدم ظرف القصة على ظرف الخطاب : ولا عناية أخرى في المقام تصحح هذا التعبير من قبيل تحقق الوقوع ونحوه وهو ظاهر .
فقوله : ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم﴾ في عين أنه يدل على قصة خلقه تعالى النوع الإنساني بنحو التوليد وأخذ الفرد من الفرد : وبث الكثير من القليل كما هو المشهود في نحو تكون الآحاد من الإنسان : وحفظهم وجود النوع بوجود البعض من البعض على التعاقب : يدل على أن للقصة - وهي تنطبق على الحال المشهود - نوعا من التقدم على هذا المشهود من جريان الخلقة وسيرها .
وقد تقدمت استحالة ما افترضوا لهذا التقدم من تقدم هذه الخلقة بنحو تقدما زمانيا بأن يأخذ الله أول فرد من هذا النوع فيأخذ منه مادة النطفة التي منها نسل هذا النوع فيجزؤها أجزاء ذرية بعدد أفراد النوع إلى يوم القيامة ثم يلبس وجود كل فرد بعينه بحياته وعقله وسمعه وبصره وضميره وظهره وبطنه ويكسيه وجوده التي هي له قبل أن يسير مسيره الطبيعي فيشهده نفسه ويأخذ منه الميثاق : ثم ينزعه منها ويردها إلى مكانها الصلبي حتى يسير سيره الطبيعي : وينتهي إلى موطنها الذي لها من الدنيا فقد تقدم بطلان ذلك : وأن الآية أجنبية عنه .
لكن الذي أحال هذا المعنى هو استلزامه وجود الإنسان بما له من الشخصية الدنيوية مرتين في الدنيا : واحدة بعد أخرى المستلزم لكون الشيء غير نفسه بتعدد شخصيته فهو الأصل الذي تنتهي إليه جميع المشكلات السابقة .
وأما وجود الإنسان أو غيره في امتداد مسيره إلى الله ورجوعه إليه في عوالم مختلفة النظام متفاوتة الحكم فليس بمحال : وهو مما يثبته القرآن الكريم ولو كره ذلك الكافرون الذين يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا : وما يهلكنا إلا الدهر فقد أثبت الله الحياة الآخرة للإنسان وغيره يوم البعث : وفيه هذا الإنسان بعينه : وقد وصفه بنظام وأحكام غير هذه النشأة الدنيوية نظاما وأحكاما : وقد أثبت حياة برزخية لهذا الإنسان بعينه وهي غير الحياة الدنيوية نظاما وحكما : وأثبت بقوله : ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ الحجر : 21 أن لكل شيء عنده وجودا وسيعا غير مقدر في خزائنه : وإنما يلحقه الأقدار إذا نزله إلى الدنيا مثلا فللعالم الإنساني على سعته سابق وجود عنده تعالى في خزائنه أنزله إلى هذه النشأة .
وأثبت بقوله : ﴿إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء﴾ يس : 83 وقوله : ﴿وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر﴾ القمر : 50 وما يشابههما من الآيات أن هذا الوجود التدريجي الذي للأشياء ومنها الإنسان هو أمر من الله يفيضه على الشيء : ويلقيه إليه بكلمة ﴿كن﴾ إفاضة دفعية وإلقاء غير تدريجي فلوجود هذه الأشياء وجهان وجه إلى الدنيا وحكمه أن يحصل بالخروج من القوة إلى الفعل تدريجا : ومن العدم إلى الوجود شيئا فشيئا : ويظهر ناقصا ثم لا يزال يتكامل حتى يفني ويرجع إلى ربه : ووجه إلى الله سبحانه وهي بحسب هذا الوجه أمور تدريجية وكل ما لها فهو لها في أول وجودها من غير أن تحتمل قوة تسوقها إلى الفعل .
وهذا الوجه غير الوجه السابق وإن كانا وجهين لشيء واحد : وحكمه غير حكمه وإن كان تصوره التام يحتاج إلى لطف قريحة : وقد شرحناه في الأبحاث السابقة بعض الشرح وسيجيء إن شاء الله استيفاء الكلام في شرحه .
ومقتضى هذه الآيات أن للعالم الإنساني على ما له من السعة وجودا جميعا عند الله سبحانه : وهو الذي يلي جهته تعالى ويفيضه على أفراده لا يغيب فيها بعضهم عن بعض ولا يغيبون فيه عن ربهم ولا هو يغيب عنهم : وكيف يغيب فعل عن فاعله أو ينقطع صنع عن صانعه : وهذا هو الذي يسميه الله سبحانه بالملكوت : ويقول : ﴿وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين﴾ الأنعام : 75 ويشير إليه بقوله : ﴿كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين﴾ التكاثر : 7 .
وأما هذا الوجه الدنيوي الذي نشاهده نحن من العالم الإنساني وهو الذي يفرق بين الآحاد : ويشتت الأحوال والأعمال بتوزيعها على قطعات الزمان : وتطبيقها على مر الليالي والأيام ويحجب الإنسان عن ربه بصرف وجهه إلى التمتعات المادية الأرضية واللذائذ الحسية فهو متفرع على الوجه السابق متأخر عنه .
وموقع تلك النشأة وهذه النشأة في تفرعها عليها موقعا كن ويكون في قوله تعالى : ﴿أن نقول له كن فيكون﴾ يس : 82 .
ويتبين بذلك أن هذه النشأة الإنسانية الدنيوية مسبوقة بنشأة أخرى إنسانية هي هي بعينها غير أن الآحاد موجودون فيها غير محجوبين عن ربهم يشاهدون فيها وحدانيته تعالى في الربوبية بمشاهدة أنفسهم لا من طريق الاستدلال بل لأنهم لا ينقطعون عنه ولا يفقدونه : ويعترفون به وبكل حق من قبله : وأما قذارة الشرك وألواث المعاصي فهو من أحكام هذه النشأة الدنيوية دون تلك النشأة التي ليس فيها إلا فعله تعالى القائم به فافهم ذلك .
وأنت إذا تدبرت هذه الآيات ثم راجعت قوله تعالى : ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم﴾ الآية وأجدت التدبر فيها وجدتها تشير إلى تفصيل أمر تشير هذه الآيات إلى إجماله فهي تشير إلى نشأة إنسانية سابقة فرق الله فيها بين أفراد هذا النوع : وميز بينهم وأشهدهم على أنفسهم : أ لست بربكم؟ قالوا : بلى شهدنا .
ولا يرد عليه ما أورد على قول المثبتين في تفسير الآية على ما فهموه من معنى عالم الذر من الروايات على ما تقدم فإن هذا المعنى المستفاد من سائر الآيات والنشأة السابقة التي تثبته لا تفارق هذه النشأة الإنسانية الدنيوية زمانا بل هي معها محيطة بها لكنها سابقة عليها السبق الذي في قوله تعالى : ﴿كن فيكون﴾ ولا يرد عليه شيء من المحاذير المذكورة .
ولا يرد عليه ما أوردناه على قول المنكرين في تفسيرهم الآية بحال وجود النوع الإنساني في هذه النشأة الدنيوية من مخالفته لقوله : ﴿وإذ أخذ ربك﴾ ثم التجوز في الإشهاد بإرادة التعريف منه : وفي الخطاب بقوله :﴿ألست بربكم﴾ بإرادة دلالة الحال : وكذا في قوله : ﴿قالوا بلى﴾ وقوله : ﴿شهدنا﴾ بل الظرف ظرف سابق على الدنيا وهو غيرها : والإشهاد على حقيقته : والخطاب على حقيقته .
ولا يرد عليه أنه من قبيل تحميل الآية معنى لا تدل عليه فإن الآية لا تأبى عنه وسائر الآيات تشير إليه بضم بعضها إلى بعض .
وأما الروايات فسيأتي أن بعضها يدل على أصل تحقق هذه النشأة الإنسانية كالآية : وبعضها يذكر أن الله كشف لآدم (عليه السلام) عن هذه النشأة الإنسانية : وأراه هذا العالم الذي هو ملكوت العالم الإنساني : وما وقع فيه من الإشهاد وأخذ الميثاق كما أرى إبراهيم (عليه السلام) ملكوت السماوات والأرض .
رجعنا إلى الآية : قوله : ﴿وإذ أخذ ربك﴾ أي واذكر لأهل الكتاب في تتميم البيان السابق أو واذكر للناس في بيان ما نزلت السورة لأجل بيانه وهو أن لله عهدا على الإنسان وهو سائله عنه وأن أكثر الناس لا يفون به وقد تمت عليهم الحجة .
اذكر لهم موطنا قبل الدنيا أخذ فيه ربك ﴿من بني آدم من ظهورهم ذريتهم﴾ فما من أحد منهم إلا استقل من غيره وتميز منه فاجتمعوا هناك جميعا وهم فرادى فأراهم ذواتهم المتعلقة بربهم ﴿وأشهدهم على أنفسهم﴾ فلم يحتجبوا عنه وعاينوا أنه ربهم كما أن كل شيء بفطرته يجد ربه من نفسه من غير أن يحتجب عنه : وهو ظاهر الآيات القرآنية كقوله ﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم﴾ الإسراء : 44 .
﴿ألست بربكم﴾ وهو خطاب حقيقي لهم لا بيان حال وتكليم إلهي لهم فإنهم يفهمون مما يشاهدون أن الله سبحانه يريد به منهم الاعتراف وإعطاء الموثق : ولا نعني بالكلام إلا ما يلقى للدلالة به على معنى مراد : وكذا الكلام في قوله : ﴿قالوا بلى شهدنا﴾ .
وقوله : ﴿أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين﴾ الخطاب للمخاطبين بقوله : ﴿ألست بربكم﴾ القائلين : ﴿بلى شهدنا﴾ فهم هناك يعاينون الإشهاد والتكليم من الله والتكلم بالاعتراف من أنفسهم : وإن كانوا في نشأة الدنيا على غفلة مما عدا المعرفة بالاستدلال : ثم إذا كان يوم البعث وانطوى بساط الدنيا : وانمحت هذه الشواغل والحجب عادوا إلى مشاهدتهم ومعاينتهم : وذكروا ما جرى بينهم وبين ربهم .
ويحتمل أن يكون الخطاب راجعا إلينا معاشر المخاطبين بالآيات أي إنما فعلنا ببني آدم ذلك حذر أن تقولوا أيها الناس يوم القيامة كذا وكذا : والأول أقرب ويؤيده قراءة : ﴿أن يقولوا﴾ بلفظ الغيبة .
وقوله : ﴿أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل﴾ هذه حجة الناس إن فرض الإشهاد وأخذ الميثاق من الآباء خاصة دون الذرية كما أن قوله : ﴿أن تقولوا﴾ إلخ حجة الناس إن ترك الجميع فلم يقع إشهاد ولا أخذ ميثاق من أحد منهم .
ومن المعلوم أن لو فرض ترك الإشهاد وأخذ الميثاق في تلك النشأة كان لازمه عدم تحقق المعرفة بالربوبية في هذه النشأة إذ لا حجاب بينهم وبين ربهم في تلك النشأة فلو فرض هناك علم منهم كان ذلك إشهادا وأخذ ميثاق : وأما هذه النشأة فالعلم فيها من وراء الحجاب وهو المعرفة من طريق الاستدلال .
فلو لم يقع هناك بالنسبة إلى الذرية إشهاد وأخذ ميثاق كان لازمه في هذه النشأة أن لا يكون لهم سبيل إلى معرفة الربوبية فيها أصلا : وحينئذ لم يقع منهم معصية شرك بل كان ذلك فعل آبائهم : وليس لهم إلا التبعية العملية لآبائهم والنشوء على شركهم من غير علم فصح لهم أن يقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون .
قوله تعالى : ﴿وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون﴾ تفصيل الآيات تفريق بعضها وتمييزه من بعض ليتبين بذلك مدلول كل منها ولا تختلط وجود دلالتها : وقوله : ﴿ولعلهم يرجعون﴾ عطف على مقدر : والتقدير : لغايات عالية كذا وكذا ولعلهم يرجعون من الباطل إلى الحق .
____________________________
1. تفسير الميزان ، ج8 ، ص 306- ٣٢٣ .
العهد الأوّل وعالم الذّر :
الآيات المذكورة أعلاه ، تشير إلى «التوحيد الفطري» ووجود الإيمان في أعماق روح الإنسان ... ولذلك فإنّ هذه الآيات تكمل الأبحاث الواردة في الآيات المتقدمة من هذه السورة في شأن «التوحيد الاستدلالي» !
وبالرغم من كثرة الأقوال والكلام بين المفسّرين في شأن عالم الذّر ، إلّا أنّنا نحاول أن نبيّن التّفسير الإجمالي لهذه الآيات الكريمة ، ثمّ نختار الأهم من أبحاث المفسّرين ، ونبيّن وجهة نظرنا بصورة استدلالية موجزة !
يقول الله سبحانه مخاطبا نبيّه في هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا! ...} .
«الذريّة» كما يقول أهل اللغة وعلماؤها ، معناها في الأصل الأبناء الصغار اليافعون ، إلّا أنّها تطلق في الغالب على عموم الأبناء ، وقد تستعمل هذه الكلمة في معنى المفرد ، كما قد تستعمل في معنى الجمع ، إلّا أنّها في الأصل تحمل معنى الجمع !
والجذر اللغوي لهذه الكلمة مختلف فيه ، إذ احتملوا له أوجها متعددة .
فقال بعضهم : إنّ جذر هذه الكلمة مأخوذ من «ذرأ» على زنة «زرع» ومعناه الخلق ، فعلى هذا الوجه يكون معنى الذرية مساويا «للمخلوق» .
وقال بعضهم : بل الجذر مأخوذ من «ذرّ» على وزن «شرّ» ويعني الموجودات الصغيرة جدّا كذرّات الغبار مثلا والنمل الصغير ، ومن هنا فإنّ أبناء الإنسان تبدأ حياتهم من نطفة صغيرة جدا.
والاحتمال الثّالث أنّه مأخوذ من مادة ذرو ومعناه النثر والتفريق والتنقية [ومنه ذرو الحنطة (2)] وإنما سمي أبناء الإنسان بالذرية لأنّهم يتفرقون في أنحاء الأرض بعد التكاثر !
ثمّ يشير الله سبحانه إلى الهدف النهائي من هذا السؤال والجواب ، وأخذ العهد من ذرية آدم في مسألة التوحيد ، فيقول : {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ} .
الآية التّالية تشير إلى هدف آخر من أخذ هذا العهد ، وهو أنّه إنّما أخذ ربّك هذا العهد من ذرية بني آدم لئلا تعتذروا {أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} .
أجل {... وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
إيضاح لما ورد عن عالم الذّر .
رأينا أنّ الآيات محل البحث تتحدث عن أخذ العهد من ذريّة آدم ، لكن كيف أخذ هذا العهد ؟!
لم يرد في النص إيضاح في جزئيات هذا الموضوع ، إلّا أنّ للمفسّرين آراء متعددة تعويلا منهم على الرّوايات الإسلامية «الواردة عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام» ومن أهم هذه الآراء رأيان .
1 ـ حين خلق آدم ظهر أبناؤه على صورة الذّر إلى آخر نسل له من البشر «وطبقا لبعض الرّوايات ظهر هذا الذّر أو الذرّات من طينة آدم نفسه» وكان لهذا الذرّ عقل وشعور كاف للاستماع والخطاب والجواب ، فخاطب الله سبحانه الذرّ قائلا {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}؟! .. فأجاب الذرّ جميعا : {بَلى شَهِدْنا} .
ثمّ عاد هذا الذرّ «أو هذه الذرات» جميعا إلى صلب آدم «أو إلى طينته» ومن هنا فقد سمي بهذا العالم بعالم الذرّ ... وهذا العهد بعهد «ألست» ؟
فبناء على ذلك ، فإنّ هذا العهد المشار إليه آنفا هو عهد تشريعي ، ويقوم على أساس «الوعي الذاتي» بين الله والناس .
2 ـ إنّ المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الاستعداد «والكفاءات» ، و «عهد الفطرة» والتكوين والخلق . فعند خروج أبناء آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الأمهات ، وهم نطف لا تعدو الذرات الصغار ، وهبهم الله الاستعداد لتقبل الحقيقة التوحيدية ، وأودع ذلك السرّ الإلهي في ذاتهم وفطرتهم بصورة إحساس داخلي ... كما أودعه في عقولهم وأفكارهم بشكل حقيقة واعية بنفسها.
فبناء على هذا ، فإنّ جميع أبناء البشر يحملون روح التوحيد ، وما أخذه الله من عهد منهم أو سؤاله إيّاهم : ألست بربكم ؟ كان بلسان التكوين والخلق ، وما أجابوه كان باللسان ذاته !
ومثل هذه التعابير غير قليلة في أحاديثنا اليوميّة ، إذ نقول مثلا : لون الوجه يخبر عن سره الباطني «سيماهم في وجوهم» ، أو نقول : إنّ عيني فلان المجهدتين تنبئان أنّه لم ينم الليلة الماضية .
وقد روي عن بعض أدباء العرب وخطبائهم أنّه قال في بعض كلامه : سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وأينع ثمارك؟ فإنّ لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا! ... كما ورد في القرآن الكريم التعبير على لسان الحال ، كالآية (11) من سورة فصلت ، إذ جاء فيها {فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} .
هذا باختصار هو خلاصة الرأيين أو النظرتين المعروفتين في تفسير الآيات آنفة الذكر ... لّا أنّ التّفسير الأوّل فيه بعض الإشكالات ، ونعرضها في ما يلي :
1 ـ ورد التعبير في نصّ الآيات المتقدمة عن خروج الذريّة من بني آدم من ظهورهم ، إذ قال تعالى {... مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} مع أنّ التّفسير الأوّل يتكلم عن آدم نفسه أو عن طينة آدم .
2 ـ إذا كان هذا العهد قد أخذ عن وعي ذاتي وعن عقل وشعور ، فكيف نسيه الجميع؟! ولا يتذكر أحد مع أنّ الفاصلة الزمانية بين زماننا ليست بأبعد مدى من الفاصلة بين هذا العالم والعالم الآخر «أو القيامة»؟ ونحن نقرأ في آيات عديدة من القرآن الكريم أنّ الناس سواء كانوا من أهل الجنّة أو من أهل النّار لا ينسون أعمالهم الدنيوية في يوم القيامة ، ويتذكرون ما اكتسبوه بصورة جيدة ، فلا يمكن أن يوجّه هذا النسيان العمومي في شأن عالم الذر أبدا «ولا مجال لتأويله !» .
3 ـ أيّ هدف كان من وراء مثل هذا العهد؟! فإذا كان الهدف أن يسير المعاهدون ، في طريق الحق عند تذكرهم مثل هذا العهد ، وألّا يسلكوا إلّا طريق معرفة الله ، فينبغي القول بأنّ مثل هذا الهدف لا يتحقق أبدا وبأي وجه كان ، لأنّ الجميع نسوه !! ... وبدون هذا الهدف يعدّ هذا العهد لغوا ولا فائدة فيه .
4 ـ إنّ الإعتقاد بمثل هذا العالم يستلزم ـ في الواقع ـ القبول بنوع من التناسخ ، لأنّه ينبغي ـ طبقا لهذا التّفسير ـ أن تكون روح الإنسان قد خلقت في هذا العالم قبل ولادته الفعلية ، وبعد فترة طويلة أو قصيرة جاء إلى هذا العالم ثانية ، وعلى هذا فسوف تحوم حوله كثيرا من الإشكالات في شأن التناسخ !
غير أنّنا إذا أخذنا بالتّفسير الثّاني ، فلا يرد عليه أيّ إشكال ممّا سبق ، لأنّ السؤال والجواب ، أو العهد المذكور ـ عهد فطري ، وما يزال كلّ منّا يحس بآثاره في أعماق روحه ، وكما يعبر عنه علماء النفس بـ «الشعور الديني» الذي هو من الإحساسات الأصيلة في العقل الباطني للإنسان. وهذا الإحساس يقود الإنسان على امتداد التأريخ البشري إلى «طريق» معرفة الله ... ومع وجود هذا الإحساس أو الفطرة لا يمكن التذرّع بأنّ أباءنا كانوا عبدة للأصنام ونحن على آثارهم مقتدون !! ...(فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : 30] .
والإشكال الوحيد الذي يرد على التّفسير الثّاني هو أنّ هذا السؤال والجواب يتخذ شكلا «كنائيّا» ويتسم بلغة الحوار. إلّا أنّه مع الالتفات إلى ما بيّناه آنفا بأن مثل هذه التعابير كثير في لغة العرب وجميع اللغات ، فلا يبقي أيّ إشكال في هذا المجال .
ويبدو أن هذا التّفسير أقرب من سواه !
__________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 564-567 .
2. يقال ذرأ فلان الحنطة ذروأ أو ذرّاها تذرية ، أي نقّاها من الشوائب .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|