أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-05-2015
2774
التاريخ: 17-10-2014
2146
التاريخ: 5-05-2015
2270
التاريخ: 2024-04-15
1037
|
يعدّ (الفصل و الوصل) من مظاهر اتّساق النصّ و انسجامه. و هي ظاهرة ذات إمكانات أسلوبيّة كبيرة لاعتمادها على الأدوات الرابطة التي يطلق عليها (حروف المعاني). و التي تجاوز بها البلاغيون ما تؤدّيه من وظيفة نحويّة إلى أمور وراء ذلك تتّصل بالمقام و السياق. و ذلك من خلال قدرتها (الظاهرة) على الربط بين الجمل و المفردات، و لم يقتصر الأمر على حروف العطف وحدها، بل إنّ ابن الأثير و العلوي قد مدّا هذا المبحث إلى الحروف الجارّة باعتبار قدرتها على وصل الكلام و أنّ لها معاني تخرج بها عن عملها النحوي، و أنّ هذه المعاني لا تكتسب وجودها من الدلالة المعجميّة و إنّما من السياق الوظيفي؛ فمعنى هذه الحروف هي وظيفتها في آن واحد، و من هنا كانت عمليّة العدول بين هذه الأحرف ذات تأثير بالغ في الدلالة، و كذلك عمليّة التناوب بينها كما في العطف الوارد في قوله تعالى { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة : 60] عدل عن اللام إلى (في) في الآيات الثلاثة الأخيرة (للإيذان بأنّهم أرسخ في استحقاق التصدّق عليهم لمن سبق ذكره باللام، لأنّ (في) للوعاء فنبّه على أنّهم أحقّاء بأن توضع فيهم الصدقات كما يوضع الشيء في الوعاء، وأن يجعلوا مظنّة لها" «1».
ويورد صاحب كتاب الصناعتين نصوصا كثيرة تكشف عن أهميّة الوصل و الفصل في الكلام، وأنّ عدم مراعاة هذا المبحث يؤثّر على النظم سلبا. و من هذه النصوص قول للمأمون فيه : " إنّ البلاغة إذا اعتزلتها المعرفة بمواضع الفصل و الوصل كانت كاللآلئ بلا نظام" «2». و نصّ آخر يوصي فيه أكثم بن صيفي كتّابه قائلا" افصلوا بين كلّ منقض معنى، وصلوا إذا كان الكلام معجونا بعضه ببعض" «3». و في موضع آخر يقول : وإذا نزع بك الكلام إلى الابتداء بمعنى غير ما أنت فيه، فافصل بينه، و بين تبيعته، وإذا مدحت رجلا، وهجوت آخر فاجعل بين القولين فصلا" «4». إنّ في النصوص السابقة حديثا غير مباشر عن دور الوصل والفصل في اتّساق الخطاب و انسجامه، و في النصّ الأخير إيضاح لدور الموضوع في اللجوء إلى الوصل أو الفصل، فتباين الموضوعات أو تناقضها يكون سبيلا في الفصل (كالمدح والهجاء مثلا في النصّ).
وأمّا الجرجاني فقد جعل مسألة الوصل و الفصل محكومة بمجموعة من المبادئ والأسس التي تجعل من هذه الظاهرة تجلّيا حقيقيّا لاتّساق الخطاب، و أوّل هذه الأسس الأساس النحوي. فالجرجاني ينطلق من مجموعة من القواعد و القيود النحويّة التي بلورها النحاة من أجل ضبط العطف كامتناع ذكر الواو بين الوصف و الموصوف، أو بين التأكيد و المؤكّد، أو امتناع عطف جملة على أخرى لا محلّ لها من الإعراب، و تمييزهم بين عطف المفرد على المفرد و عطف الجملة على الجملة .... و استثماره لهذه المعطيات قصد مقاربة الفصل و الوصل بلاغيّا، فالجرجاني ينظر إلى حالتي فصل الجمل و وصلها انطلاقا من المفرد معمّما أساسه على الجمل وصلا و فصلا، و حين ينفلت عطف الجملتين من قاعدة المفرد يجتهد لتبريره بمبدأ غير نحوي، و أمّا الأساس الثاني الذي ينطلق منه، فهو مجموعة من المبادئ المعنويّة مثل معنى الجمع، و التضامّ النفسي بين الجملتين، و التضامّ العقلي، و من الأسس كذلك قياس العطف على الشرط و الجزاء، و كذلك التأكيد و هو رابط غير شكلي، و وفقا له يعدّ تأكيد جملة لأخرى وسيلة مهمّة من وسائل الخطاب رغم أنّ كيفيّة الاتّصال معنويّة غير معتمدة على رابط شكلي. و من أمثلته في القرآن الكريم الآية من سورة لقمان : " { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان : 7]
فإنّ التشبيه الثاني لم يعطف على الأوّل" لأنّ المقصود من التشبيه هو التوكيد" «5». فهذا هو الرابط في نظر الجرجاني، و من المبادئ الأخرى التي تحكم فصل الخطاب أو وصله هو صيغة ذلك الخطاب. فإذا كانت الصيغة متماثلة حكاية أو خبرا وصل، و إن كانت غير متماثلة فصل.
ومن دواعي فصل الكلام عن كلام آخر سابق وجود سؤال مقدّر غير متجلّ في سطح الخطاب، و الذي يدعو إلى تقدير هذا السؤال هو بناء الخطاب على شكل زوج مكوّن من سؤال مقدّر وجواب ظاهر، ومن أمثلته في القرآن الكريم : " {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ } [الشعراء : 23 - 25]. يقول الجرجاني : " و جاء ذلك و اللّه أعلم على تقدير السؤال و الجواب كالذي جرت به العادة فيما بين المخلوقين" «6». و غنيّ عن البيان أنّه لم يربط رابط شكليّ ما بين السؤال المقدّر و الجواب في الخطاب القرآني السابق، و لكنّ الخطاب مع ذلك منسجم بالنسبة للمتلقي. و يختم الجرجاني وصفه للفصل و الوصل بقوله : " وإذ قد عرفت هذه الأصول و القوانين في شأن فصل الجمل و وصلها، فاعلم أنّا حصلنا من ذلك على أنّ الجمل على ثلاثة أضرب :
أ- جملة حالها مع التي قبلها حال الصفة مع الموصوف، والتأكيد مع المؤكّد فلا يكون فيها العطف البتّة.
ب- جملة حالها مع التي قبلها حال الاسم يكون غير الذي قبله، إلّا أنّه يشاركه في حكم و يدخل معه في معنى مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلا أو مفعولا فيكون حقّه العطف.
ج- جملة ليست في شيء من الحالين، بل سبيلها مع التي قبلها سبيل الاسم مع الاسم لا يكون منه في شيء، فلا يكون إيّاه ولا مشاركا له في معنى، وحقّ هذا ترك العطف" «7».
والحالة الأولى يسمّيها السكّاكي (كمال الاتّصال)، و الثانية (بين بين)، والثالثة كمال الانفصال، و حول هذه الأنماط الثلاثة يجري السكّاكي أحكامه حول الفصل و الوصل، و حسب عدد من الأسس منها الأساس النحوي، و يضع شروطا ثلاثة لمعرفة الوصل من الفصل هي : إتقان تمييز موضع العطف، و إتقان معرفة فائدته، و إتقان معرفة مقبوليّته من حيث وجود جهة جامعة بين المعطوف و المعطوف عليه. «8»
ومن الأسس التي اعتمدها كذلك جملة من المبادئ المعنويّة منها مبدأ أمن اللّبس، و هو مبدأ يراعى فيه المخاطب كما ترى، و يمثّل له بالبيت الشعري :
و تظنّ سلمى أنّني أبغي بها |
بدلا أراها في الضلال تهيم |
إنّ ما ينقله هذا البيت هو ظنّ سلمى أنّ صاحبها يحبّ أخرى، ولكنّه في الحقيقة لا يحبّ إلّا سلمى، و قوله (أراها في الضلال تهيم) نفي لظنّها، و ردّ لاتّهامها إياه؛ لذلك قطع (أراها) عن الكلام السابق و الداعي لهذا القطع هو أمن اللّبس «9». ومن الأسس الأخرى التي يستند إليها السكّاكي في مقامات الفصل هو ما يطلق عليه داعي الإيضاح، وهو أن يكون في الكلام السابق نوع خفاء، والمقام مقام إزالة له «10». ومن المبادئ المهمّة التي يركّز عليها السكّاكي في الفصل والوصل مجموعة من المبادئ التداوليّة، و من أبرزها في مقام الفصل : تقدير السؤال و هو يشابه تحليل الجرجاني له من حيث وجود جواب ظاهر لسؤال مقدّر، و أمّا دواعي تقدير السؤال عند السكّاكي فيقول عنها : " إنّ تنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار إليه إلّا لجهات لطيفة :
* إمّا لتنبيه السامع على موقعه.
* أو لإغنائه أن يسأل.
* أو لئلّا يسمع منه شيء.
* أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه.
* أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ. «11»
يلاحظ أنّ الجهات الثلاث الأولى اعتبارات تتعلّق بالسامع، و يمكن إجمالها في ثلاثة : تنبيه السامع، و إغناء السامع، و إسكات السامع، و أمّا الرابع فيتعلّق بسلطة المتكلّم و تنبئه بإمكان إثارة الكلام المقول استفهاما في ذهن السامع، فيبادر إلى الجواب قبل السؤال لضمان الاستمرار في الكلام (الكلام نفسه) أمّا الاعتبار الخامس فيتعلّق بالخطاب نفسه.
ومن المبادئ التداوليّة كذلك اختلاف الأفعال الكلامية، كأن تشتمل الجملة الأولى على (خبر) و الثانية على طلب، أو العكس. فهنا يجب الفصل. و في حالة مختلفة قد تكون الجملتان متماثلتين خبرا، و لكن يجب أن تقطع إحداهما عن الأخرى بسبب انكسار بنية الخطاب لو تم الوصل. و أسباب ذلك هي اختلاف موضوع الخطاب فيكون كإقحام لموضوع أجنبيّ في بنية الخطاب. مثال : (يقول أحدهم : إنّ خاتمي هذا سيّئ الصّياغة، كريه النفس، و يقول آخر : خفّي ضيّق، قولوا ما ذا أعمل؟) فلا يصحّ هنا أن يقول الآخر (و خفيّ ضيّق) فالمقام مقام حديث عن الخاتم، و هو بعيد عن الخفّ رغم اشتراكهما في صفة الضيق، و كونهما ملبوسين، و كون الخاتم محيطا بالإصبع، و الخفّ محيطا بالقدم" «12».
فالذي جعلنا نعتبر القطع هنا واجبا هو انقطاع الصّلة بين موضوعي الخطاب.
إنّ الروابط بين الجمل لا تجعل منها نصّا متماسكا، هذا ما أراد أن يقوله السكّاكي و لعلّ المثال الذي يضربه هو خير شاهد على ما نقول. المثال : " زيد منطلق، و درجات الحمل ثلاثون، وكمّ الخليفة في غاية الطول، وما أحوجني إلى الاستفراغ، وأهل الروم نصارى، و في عين الذباب جحوظ، وكان جالينوس ماهرا في الطبّ، و ختم القرآن في التراويح سنّة، و إن القرد لشبيه بالآدمي. «13» إنّ هذا النصّ سليم من حيث النحو والمعجم و الدلالة، إذا نظرنا إلى الجمل بمعزل عن سياقها، و لكن إذا نظر إليها كجزء من كلّ فإنّها لا تنسجم معه، و إذن فمسألة الوصل و الفصل ليست مسألة إتقان ذكر العاطف وتركه، بل إنّها مهارة معرفة اتّساق الخطاب و انسجامه أيضا.
ومن المبادئ الأخرى التي تحكم الوصل تأويل اختلاف الأفعال الكلاميّة، و في هذه الحالة قد تكون الجملتان مختلفتين خبرا و طلبا مثلا، و لكنّ المقام يكون مشتملا على ما يزيل الاختلاف من تضمين الخبر معنى الطلب أو الطلب معنى الخبر. «14» مثال : " {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس : 53 - 59]
. يذهب السكّاكي إلى أنّ قوله تعالى (و امتازوا اليوم) معطوف على" إنّ أصحاب الجنّة اليوم" لأنّ" المقام مشتمل على تضمينه معنى الطلب" «15». ويسمّي السكّاكي هذه الحالة التوسّط بين كمال الاتّصال و كمال القاعدة؛ فالخطاب في صورته السطحيّة من حيث اختلاف الأفعال الكلاميّة يفضي إلى الفصل حسب القاعدة، لكنّ تأويل هذا الاختلاف بالاستعانة بالمقام يؤدّي إلى الوصول بالخطاب إلى صورته العميقة فتصبح القاعدة هي الوصل.
ومن مبادئ الوصل المهمّة لديه جهة الجمع، و ينطلق السكّاكي فيه من مبدأ عام هو أن الجمل ينبغي أن يقطع بعضها عن بعض ما لم يكن بينها ما يجمعها من جهة العقل أو الوهم أو الخيال : (جامع عقلي، أو جامع وهمي، أو جامع خيالي) «16». ولعلّ من الأمثلة الباهرة التي يسوقها السكّاكي موقف ثلاثة أشخاص، مختلفي المهن، يصفون (الكلام)، لكنّ وصفهم يتفاوت بحسب ما اختزن كلّ منهم في مخيّلته من صور مرتبطة بمهنته :
(فقال الجوهري : أحسن الكلام ما ثقبته الفكرة، و نظمته الفطنة، وفصل جوهر معانيه في سمط ألفاظه، فحملته نحور الرواة .....، وقال الصيرفي : خير الكلام ما نقدته يد البصيرة، و جلّته عين الرويّة و وزنته معيار الفصاحة، فلا ينطق فيه بزائف، و لا يسمع فيه ببهرج ...، وقال الكحّال : أصحّ الكلام ما سحقته في منحار الذكاء، و نخلّته بحرير التمييز، وكما أنّ الرمد قذى العين كذا الشبهة قذى البصائر، فاكحل عين اللّكنة بحيل البلاغة، وأجل رمض الغفلة ببرود اليقظة" «17».
هذا المثال وإن كان ساقه السكّاكي للحديث عن الفصل والوصل فهو في صلب قضيّة السياق و المقام وسياق الثقافة؛ فالمتكلّم يغترف من وعائه الثقافي (سياق الثقافة) و هنا يتبدّى هذا السياق في طبيعة المهنة، و طبيعة اللّغة الخاصّة التي يستخدمها أرباب المهن و الحرف المختلفة، و كيف يتمّ التفاهم وفق شيفرة خاصّة تترجم عبر السياق الثقافي، و لو لم نعرف أنّ هذا صيرفي، و هذا كحّال، و هذا جوهري، لما أمكننا أن نضع عبارات كل منهم في موضعها الصحيح من التأويل، فاللّغة جزء لا يتجزّأ من سياق الثقافة، و التفاهم و التواصل يحصل عبر (كودات) خاصة توفّرها هذه الثقافة إن جاز التعبير ... واختلاف الحال هذا أدّى إلى اختلاف المقال. و مثال آخر يسوقه السكّاكي يتمحور حول ثلاثة أشخاص، مهنهم مختلفة، نظمهم سلك الطريق، و افتقدوا البدر، و بينما يتخبّطون في الظلماء، طلع البدر عليهم فطفق كل منهم يصفه، و إذا شبّهه شبّهه بأفضل ما في خزانة صوره :
- فالسلاحيّ يشبّهه بالترس المذهّب يرفع عند الملك.
- والصائغ يشبّهه بالسبيكة من الإبريز تفترّ عن وجهها البوتقة.
- والمعلّم يشبّهه برغيف أحمر يصل إليه من بيت ذي مروءة «18».
ولا يحتاج المثال إلى تعليق كبير فهو بسابقه شبيه. و السكّاكي في المثالين السابقين يبرهن عن اختلاف الحال في ثبوت الصور في الخيالات ترتّبا ووضوحا، وذلك لاختلاف الأسباب المؤدّية إلى ثبوتها، و منها ارتباط إنتاج الخطاب ونوعية ذلك الإنتاج بالنشاط الذي يمارسه الإنسان في حياته اليومية. و في مثال ثالث يقوم السكّاكي بتحليل خطاب قرآني، مفترضا متلقّيين أحدهما من (أهل المدر) والآخر من (أهل الوبر)، والآيات هي" {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية : 17 - 20].
في هذا المثال لدينا خطاب قرآني عناصره : الإبل والسماء والأرض والجبال، وأفعال هي : الخلق، والرفع والسطح. ولدينا متلقّيان حضريّ وبدويّ أمام هذا الخطاب؛ فالحضري لا يستطيع خياله أن يجمع صور هذا الخطاب بشكل متّسق، إذ كيف تجتمع عنده الإبل مع السماء والأرض والجبال ؟ ولذا فإنّه سيحكم على هذا الخطاب بأنّه غير منسجم، وأنّ نسقه غريب معيب، و أمّا البدوي فمطعمه و ملبسه ومشربه من المواشي وخاصّة الإبل وهي أنفعها لديه، ثم إذا كان انتفاعهم بما لا يتحصّل إلّا بأن ترعى و تشرب كان جلّ مرمى غرضهم نزول المطر، وأهمّ مسارح النظر عندهم السماء، والجبال لهم مأوى، إنّ البدويّ لا يستغرب هذا العدّ، ولا هذا الترتيب؛ لأنّ صورة الإبل والسماء و الجبال متقارنة في خياله مجتمعة متعالقة في خزانة صوره، ولذا فسيحكم على هذا الخطاب بأنّه منسجم. فهذا الجزء من حديث السكّاكي خاضع لاعتبارات اجتماعيّة، ثقافيّة، وليس بسبب اعتبارات أملاها الخطاب.
إنّ نوع المتلقّي و دوره أساسي في فهم الخطاب وإحداث انسجامه، ووقوف السكّاكي عند (الجامع الخيالي) بهذا الحشد من الأمثلة يشعرنا بأنّه مختلف عن الجامعين الأوّلين (الوهمي و العقلي)، فهذا الجامع أكثر ارتباطا بسياق الثقافة و السياق الاجتماعي.
ويشير إلى هذا الجانب الاجتماعي بقوله : (و لمّا لم تكن الأسباب على وتيرة واحدة فيما بين معشر البشر ..." «19». و يفهم من كلام السكّاكي أهميّة التجربة الشخصيّة السابقة، ونمط الحياة التي يمارسها الشخص المواجه للخطاب، و من ثمّ فإنّ كلّ خطاب جاء وفق ما هي عليه الصورة في خيال المتلقّي اعتبره السكّاكي منسجما، و كلّ خطاب جاء على خلاف ذلك اعتبره غير منسجم.
وقد تناول البلاغيّون بالدرس والتحليل مجموعة من سياقات الكلام، ومنها سياق الحذف والذكر، وقد أوردنا مسألة الحذف والذكر في ميدان النحو، وأمّا في الدرس البلاغي- و هو لا يبتعد كثيرا- فيمكن إدراك القيمة الحقيقيّة لسياق الذكر والحذف من خلال السياق الأعمّ كسياق الإطناب أو التطويل، أو الإيجاز، وقد تناول عبد القاهر الجرجاني هذه السياقات في جانبها التطبيقي دون تعيين محدّد كما فعل البلاغيّون بعده و حاول رصد المجال الذي لاحظ فيه أنماط الحذف، وربط ذلك بنظريّته في النظم، ونجد عنده ربط نسق الذكر والحذف بطبيعة المتكلّم في تحليله لقوله تعالى : (وأسأل القرية).
ويرى أنّ فهم الحذف فيها يعود إلى غرض المتكلّم، فلو كان المتكلّم خارج سياق النّص القرآني لاختلف الفهم، و لكن لأنّها جاءت في معرض الوعظ و التذكير فإنّها تفضي إلى فهم مختلف «20».
ويربط عبد القاهر سياقات الحذف ببعض الموضوعات كما في وروده بشكل مألوف عند ذكر الديار، و يذكر سياقات أخرى يطّرد فيها حذف المبتدأ، و حذف المفعول، و يربطها بحاجة المتكلّم و بطبيعة التركيب وصلة اللفظة بغيرها، و في هذا قد يساوى الفعل المتعدّي بالفعل اللازم باعتبار السياق الذي يرد فيه. كقولنا يحلّ و يعقد، و يأمر و ينهى، و يضرّ و ينفع «21».
وقد يعود اختلاف السياق عنده إلى الدلالة أو إلى طبيعة الصياغة ومقتضياتها، أو لأنّ الحذف يدلّ عليه الحال، فالسياق عند عبد القاهر هو نقطة البدء، وليس الكلمة، ويعتبر أنّ البحث عن السياق يأتي قبل البحث عن الألفاظ و علاقاتها «22». وأورد عبد القاهر بعض سياقات الذكر مؤكّدا دور السياق في تركيب الصياغة.
وقد حدّد البلاغيون بعد عبد القاهر سياقات الحذف في شكل إطارات ثابتة تنضوي تحت شرطين رئيسين هما :
1- وجود ما يدلّ على المحذوف من القرائن.
2- وجود السياق الذي يترجّح فيه الحذف و الذكر.
ومن السياقات التي يكثر فيها حذف المسند إليه، ويذكرها البلاغيّون ما يلي :
1- الاحتراز عن العبث، وهو سياق يعتمد بالدرجة الأولى على ظهور المخاطب ظهورا بيّنا في عملية التوصيل، وذلك أنّ ما قامت عليه القرينة، و ظهر عند المخاطب؛ فذكره يعدّ نوعا من العبث بسقوط عنصر الإفادة، و ذلك برغم كون المحذوف يمثّل ركنا أساسيّا في الكلام، كأن يكون فاعلا أو مبتدأ في مثل قولنا :
حضر. و شمس، أي هو حضر، و هذه الشمس «23»، وأمثلته كثيرة.
2- ضيق المقام عن إطالة الكلام : وهذا السياق في الغالب يتّصل بالمتكلّم في مجال الإبداع، و ارتباطه بالموقف النفسي الذي يعايشه، كأن يكون في حالة توجّع و ألم، نحو قول الشاعر :
قال لي كيف أنت ؟ قلت : عليل |
سهر دائم وحزن طويل |
أي قلت : أنا عليل «24». و يمتدّ هذا السياق إلى مجال الأسلوب الأخباري كأن يخشى فوات فرصة، كقول من ينبّه إنسانا إلى خطر يواجهه مثلا : الأسد، أو من ينبّهه إلى شيء يقتنصه كقولنا للصيّاد : غزال. أي هذا أسد، و هذا غزال.
3- تيسير الإنكار عند الحاجة، وهو سياق يتّصل بالمستوى الإخباري أيضا، وذلك لأنّه قد تدعو الحاجة إلى إنكاره مثل قولنا عند حضور جماعة فيهم عدوّ : (غادر خائن) فلكيّ تتاح فرصة الإنكار يحذف المسند إليه.
4- تعجيل المسرّة بالمسند نحو (ثروة)، أي : هذه ثروة.
5- تكثير الفائدة بإيجاد عدّة احتمالات للمعنى، نحو قوله تعالى { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف : 18]. أي فأمري صبر جميل. أمّا إذا كان المسند إليه فاعلا فإنّ السياقات التي يترجّح فيها حذفه تتمثّل في :
1- حين لا يحقّق ذكره غرضا معيّنا في الكلام.
2- يحذف للعلم به.
3- للجهل به أو الخوف منه وعليه. «25»
ويتّضح لنا أنّ اتجاه البلاغيّين في بحث سياق الحذف والذكر، كان يهتم بالمحيط الأسلوبي العام الذي يرتبط بموقف كلاميّ، أو نمط أدبي تتحرّك على أساسه الصياغة، وقد يتّصل بظروف المخاطبين، أو المخاطب، ويكون متّصلا بعمليّة التوصيل مثل فهم السامع، وإذا ما كان هذا الفهم منوطا باللفظ دون القرائن، و فيما قصد به التنبيه على غباوة السامع أو غيرها.
كما رصد البلاغيّون كذلك سياقات التقديم و التأخير، فذكروا منها الخبر الذي يأتي على خلاف العادة، و فيما يستغرب، وفي مسائل الوعد، والضمان، وفي مجال المديح، و هذه السياقات ترتبط بالمتكلّم، و المتلقّي، واعتبارات أخرى، تتّصل بطبيعة الصناعة ذاتها، فمن الاعتبارات المتعلّقة بالمتلقي : سياق التشويق، أو سياق محاولة تعديل فكر المتلقّي، كما يتمثّل في تعجيل المسرّة للمتلقي أو تعجيل الإساءة وغيرها. فمن أمثلة الاعتبارات المتّصلة بالمتكلّم نجدهم يقدّمون المسند إليه، تبرّكا به، في نحو قولنا : اسم اللّه اهتديت به.
ويكاد عبد القاهر الجرجاني يعدّ المخاطب الركيزة الأساسيّة في سياقات التعريف والتنكير، وإن كان هذا لا ينفي وجود المتكلّم في الصياغة باعتباره مصدرها، ودراسة عبد القاهر في هذا المجال لم تخرج عن تحليل أنماط من النظم جاء فيها أحد طرفي الإسناد معرّفا أو منكّرا، أو جاءا معا معرّفين، واتّصال ذلك بالجانب النفسي في ترتيب المعنى، ممّا هيّأ للبلاغيّين أن يربطوا بين سياقات معيّنة، وبين مجيء المسند إليه معرّفا أو منكّرا. وكذلك المسند و هي سياقات تتداخل حدودها و تتبادل أماكنها، و قد تكون المقامات ترجع إلى نيّة المتكلّم، أو إلى الموقف الاجتماعي الذي يخلق السياق.
ومن سياقات التنكير التي يذكرونها :
1- الدلالة على الفرديّة، أو النوعيّة. 2- التعظيم أو التحقير أو التكثير أو التقليل.
3- قصد التمويه و الإخفاء. 4- عدم الرغبة في الحصر و التخصيص.
فمن أمثلة النوع الثاني مثلا (سياق التعظيم أو التحقير) و هو سياق يعود إلى المتكلّم في أنّ المنكّر قد بلغ شأنا في الارتفاع أو الانحطاط، وصل إلى حدّ يوهم أنّه لا يمكن أن يعرّف، فتقول في جميع ذلك عندي رجل، أو حضر رجل و منه قول ابن أبي السمط :
له حاجب في كلّ أمر يشينه |
وليس لّه عن طالب العرف حاجب |
" فإنّ الفهم والذوق يقضيان كمال ارتفاع شأن حاجب الأوّل، وكمال انحطاط حاجب الثاني" «26».
ويمثّل الخروج على مقتضى الظاهر مبحثا آخر من المباحث التي يتجلّى فيها السياق في الوظيفة التواصليّة للّغة، و أمثلته تمتدّ في الفروع المختلفة لعلم المعاني كأضرب الخبر و أضرب الإنشاء، كما في خروج الاستفهام عن معناه الأصلي إلى دلالات متنوّعة تستفاد من السياق، و يؤدّي المخاطب و المخاطب و طبيعة العلاقة بينهما دورا خاصا في هذا الموضوع، فيفرّق البلاغيّون مثلا بين صدور الأمر من الكبير إلى الصغير، و بين صدوره من زميل إلى زميل، فهو في الحالة الأولى أمر صريح و لكنّه في الحالة الثانية يعدّ التماسا لتماثل المخاطب و المخاطب في المنزلة، كما يتدخّل مقصود الخطاب و غرضه في تحديد دلالة الكلام في حالة الخروج على مقتضى الظاهر؛ فإذا كان المقصود بالأمر مثلا تعديل فهم المخاطب بالنسبة لما هو محظور عليه كما في قول الشاعر :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة |
لدينا ولا مقليّة إن تقلّت |
فإنّ هذا يسمّى (إباحة) و ذلك التعديل لا يمنع الجمع بين الأمرين فإذا امتنع سمّي (تخييرا) كقول الشاعر :
عش عزيزا أو مت و أنت كريم |
بين طعن القنا و خفق الطبول |
وإذا كان هناك توهّم في الرجحان بين الأمور فإنّ (الأمر) يفيد التسوية كقول الشاعر :
فعش واحدا أوصل أخاك فإنّه |
مقارف ذنب مرّة ومجانبه |
ولا شكّ أنّ الدلالات المتحوّلة للصيغ في هذا الباب كثيرة متعدّدة، ورصدها داخل سياقات التعبير كفيل بإبراز كثير من الطاقات التعبيريّة المدهشة للّغة، والتي تكشف عن جماليّات النصّ الأدبي، وأهميّة منظومة الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة في الولوج إليه.
_______________________
(1) ابن الأثير، المثل السائر، 2/ 241.
(2) أبو هلال العسكري، الصناعتين، ط 2، مطبعة محمود علي صبيح، القاهرة، 1960، ص : 497.
(3) نفسه، ص 499.
(4) نفسه.
(5) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص : 179.
(6) دلائل الإعجاز، ص 186.
(7) دلائل الإعجاز، ص 187.
(8) السكّاكي، المفتاح، ص 109.
(9) السكّاكي، المفتاح، ص 110.
(10) نفسه، ص : 111.
(11) نفسه.
(12) السكاكي، المفتاح، ص 117.
(13) نفسه، ص 118.
(14) نفسه، ص 118.
(15) السكّاكي، ص 111.
(16) نفسه، ص 111.
(17) السكّاكي، ص 111.
(18) نفسه، ص 111.
(19) السكّاكي، المفتاح، ص 113.
(20) عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص 367.
(21) نفسه، ص 367.
(22) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الاعجاز، 188.
(23) دلائل الإعجاز، ص 188.
(24) نفسه، ص 188.
(25) ابن الأثير، المثل السائر، 2/ 184.
(26) السكّاكي، مفتاح العلوم، ص 83.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|