أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-03-2015
5688
التاريخ: 2-03-2015
14205
التاريخ: 2-03-2015
4028
التاريخ: 2-03-2015
13799
|
أجمع القدماء على أن نحو الكوفيين يشكل مذهبا مستقلا, أو كما نقول بلغة العصر مدرسة مستقلة سواء منهم أصحاب كتب الطبقات والتراجم مثل ابن النديم في كتابه الفهرست والزبيدي في كتابه طبقات النحويين واللغويين أو أصحاب كتب المباحث النحوية، إذ نراهم دائما يعرضون في المسائل المختلفة وجهتي النظر المتقابلتين في المدرستين: الكوفية والبصرية. وقد أفرد أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري مجلدا ضخما عرض فيه الخلاف بين المدرستين في إحدى وعشرين ومائة مسألة، وهو إنما عرض أهم ما اختلفتا فيه من مسائل في رأيه, ووراءها مسائل أخرى كثيرة مبثوثة في الكتب النحوية لم ير التوسع بذكرها. ونعجب أن نرى "فايل" ناشر هذا الكتاب لأول مرة, يزعم في مقدمته له أن الكوفة لم تؤسس لنفسها مدرسة نحوية خاصة وأن خلافات نحاتها وخاصة الكسائي والفراء مع الخليل وسيبويه إنما هو امتداد لما سمعاه من أستاذهما البصري يونس بن حبيب الذي نص القدماء على أن له قياسا في النحو خاصا به ومذاهب ينفرد بها. واستدل على ذلك بأن جميع المواضع التي ذكر ابن الأنباري اسمه فيها بكتابه يذكر معه فيها الكوفيين متابعين له في آرائه، وهي لا تعدو أربعة آراء! واستدل أيضا بأن الزمخشري قرن به الكوفيين في خمس مسائل بكتابه المفصل. وهو استدلال واضح الضعف، إذا قسنا ما وقف فيه الكوفيون معه إلى ما وقفوه مع الخليل وسيبويه، فالكتب النحوية إنما تذكر خلافهم لهما ولا تذكر مواضع اتفاقهم معهما، وهي أكثر من أن يحاط بها. ونفس سيبويه نقل عن يونس في كتابه نحو مائتي رواية تتخللها آراؤه التي كان يتفرد بها دونه ودون أستاذه الخليل.
والحق أننا إذا أردنا أن نبحث بين البصريين عن موجِّه للكسائي والفراء في إنشاء المذهب الكوفي مَثَل توا أمامنا الأخفش الأوسط الذي روى عنه الكسائي
ص155
إمام الكوفة الأول كتاب سيبويه، فهو الذي فتح له وللفراء أبواب الخلاف مع سيبويه والخليل على مصاريعها، وبذلك أعدهما للخلاف عليهما وتنمية هذا الخلاف بحيث نفذا إلى مذهبهما النحوي الجديد. وإذا كان فايل لاحظ أن بعض الكتب النحوية ذكرت اتفاق يونس والكوفيين في مسائل لا تعدو أصابع اليد الواحدة, فقد مر بنا في ترجمة الأخفش اتفاق الكسائي والفراء والكوفيين معه في نحو ثلاثين مسألة. وليس ذلك فحسب، فإنه هو أيضا الذي ألهم -كما مر بنا- الكوفيين المتأخرين الاعتداد بالقراءات الشاذة للذكر الحكيم، مما يجعله بحق الموجه الحقيقي للكوفيين في إحداث مدرستهم سواء من حيث أخذها بالقراءات الشاذة, أو من حيث التوسع في الرواية والاعتماد على الشواذ في مخالفة سيبويه وأستاذه الخليل.
أما ما زعمه فايل من أن الكوفة لم تكن لها مدرسة نحوية خاصة, فقد بنى زعمه فيه على كثرة الخلافات بين أئمتها على نحو ما سيلقانا بين الكسائي وتلميذه الفراء، وكأنها لا تؤلف جبهة علمية موحدة، إنما كل ما هناك اتجاه للخلاف على البصرة تمادوا فيه. وهو دليل منقوض، فقد كان نحاة الكوفة يكونون جبهة طالما تناظر أفرادها مع أفراد جبهة البصرة، وأكثر ابن جني وغيره من ذكر آرائها، بل لقد أفرد لها العلماء المصنفات على نحو ما مر بنا آنفا عند أبي البركات بن الأنباري في كتابه الإنصاف. على أن فايل نفسه يعود فيثبت للفراء مذهبا في النحو خالف به الكسائي ومعاصريه، وليس هذا المذهب إلا مذهب المدرسة الكوفية التي أنكرها، تكامل تشكله عنده. أما أنه خالف أستاذه الكسائي في بعض المسائل فهذا من حقه، على نحو ما خالف سيبويه أستاذه الخليل، وعلى نحو ما خالفهما معا تلميذهما الأخفش في كثير من المسائل، وهم جميعا أئمة المدرسة البصرية. وسنرى في غير هذا الموضع أن الفراء يقوم في الكوفة مقام سيبويه في البصرة، فهو الذي أعطى المدرسة الكوفية تشكلها النهائي إلا بعض إضافات زادها الكوفيون بعده وفي مقدمتهم ثعلب.
وغلا بعض المعاصرين في كتاب له عن الفراء فأخرجه من المدرسة الكوفية, وجعله إمام المدرسة البغدادية التي تكونت بعده بنحو مائة عام, والتي أقامت
ص156
مذهبها النحوي على عُمُد الانتخاب من آراء المدرستين الكوفية والبصرية. وإنما أوقعه في ذلك أنه رأى الفراء يتأثر بالمدرسة البصرية في بعض آرائه ومنازعه(1) ، كأن يعمد أحيانا في الإعراب إلى تقدير العوامل المحذوفة، أو يرفض بعض اللغات الشاذة، أو يأخذ بالقياس وضبط القواعد، أو يخطئ شاعرا في تعبير. وكل ما رواه من ذلك ليس فيه شيء انتخبه الفراء من آراء المدرسة البصرية وأقوال أئمتها النحويين، وإنما هو فيه يدلي بآرائه الخاصة. وأبعد في الغلو فقال: إنه تأثر بالبصريين في تخطئة بعض القراءات متورطا في ذلك مع بعض الباحثين، ورأينا في ترجمة الأخفش كيف كان يوجه القراءات التي لا تجري على مقاييس مدرسته، وليس في كتاب سيبويه تخطئة واحدة لقراءة من القراءات مع كثرة ما استشهد به منها, وقد صرح بقبولها جميعا مهما كانت شاذة على مقاييسه، إذ قال: إن "القراءة لا تخالف؛ لأنها سنة"(2).
ويظهر أن الكسائي هو الذي بدأ تخطئة القراء, إذ نرى الفراء يتوقف في كتابه معاني القرآن مرارا ليقول: إن الكسائي كان لا يجيز القراءة بهذا الحرف أو ذاك، يقول تعليقا على قراءة يكون بالرفع والنصب في قوله تعالى في سورة النحل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} , وقول جل وعز في سورة يس: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فَيَكُونَ": بالنصب "لأنها مردودة (أي معطوفة) على فعل قد نُصب بأن، وأكثر القراء على رفعهما، والرفع صواب، وذلك أن تجعل الكلام مكتفيا عند قوله "في سورة النحل": إذا أردنا أن نقول له كن، فقد تم الكلام، ثم قال: فيكون ما أراد الله. وإنه لأحب الوجهين إلي، وإن كان الكسائي لا يجيز الرفع فيهما ويذهب إلى النسق (أي العطف على الفعل المنصوب بأن)"(3) وكأن الفراء هنا يخطئ أستاذه ويصحح القراءة، وسنرى في ترجمته أنه أنكر عدة قراءات. ومن هنا كنا نؤمن بأنه هو وأستاذه اللذان فتحا للبصريين التالين لهما تخطئة بعض القراءات من أمثال
ص157
المازني والمبرد والزجاج، بينما أغلق الكوفيون الذين خلفوهما هذا الباب، بل لقد مضوا يتوسعون في الاحتجاج بالقراءات الشاذة مقتدين بالأخفش. ولعل في ذلك ما يسقط التهمة التي اتهم بها بعض المعاصرين نحاة البصرة عامة، إذ زعموا أنهم كانوا يطعنون على القراءات، كما زعموا أن الكوفيين عامة كانوا يقبلونها ويحتجون بها. وسنرى أن الفراء الكوفي هو الذي بدأ بقوة تخطئة القراء. وينبغي أن نعرف أن حروفا معدودة هي التي وقف عندها الكسائي والفراء ومن تلاهما من البصريين بحيث يكون من الإسراف أن يقال: إنهم كانوا يخطِّئون القراء، إنما الذي ينبغي أن يقال: إنهم وقفوا عند بعض حروف في قراءات القرآن الكريم، رغبة منهم في التحري الدقيق للفظ الذكر الحكيم ونطقه.
على كل حال ليس الفراء بصريا ولا بغداديا، إنما هو كوفي، بل إن المدرسة الكوفية في النحو لم يتم تشكلها إلا به وبآرائه ومقاييسه وما اعتمده من تفسير لبعض الظواهر اللغوية وما وضعه من مصطلحات نحوية خالف بها مصطلحات البصريين، مما يجعله الإمام الحقيقي لهذه المدرسة. وحقا سبقه فيها أستاذه الكسائي، ولكن لم يكن له دقة عقله وغور ذهنه، بحيث يرسي قواعد المدرسة ويرفع أركانها. وإذا أخذنا نحقق هذه القواعد والأركان وجدنا ثلاثة طوابع كبيرة تشيع فيها هي: طابع الاتساع في الرواية، بحيث تفتح جميع الدروب والمسالك للأشعار واللغات الشاذة، وطابع الاتساع في القياس بحيث يقاس على الشاذ والنادر دون تقيد بندرته وشذوذه، ثم طابع المخالفة في بعض المصطلحات النحوية وما يتصل بها من العوامل.
وينبغي أن يستقر في الأذهان أن المدرسة الكوفية لا تباين المدرسة البصرية في الأركان العامة للنحو، فقد بنت نحوها على ما أحكمته البصرة من تلك الأركان، التي ظلت إلى اليوم راسخة في النحو العربي، غير أنها مع اعتمادها لتلك الأركان استطاعت أن تشق لنفسها مذهبا نحويا جديدا، له طوابعه وله أسسه ومبادئه.
وإذن فمن الخطأ أن يرى معاصرٌ الكسائيَّ أو الفراء يتأثر بالنحو البصري، فيظن أنهما ليسا كوفيين وأنهما مقدمة المذهب البغدادي أو المدرسة البغدادية، فإن هذا التأثر عندهما وعند جميع أئمة الكوفة شيء طبيعي، ومعروف أن
ص158
الكسائي تتلمذ للخليل بن أحمد وأنه قرأ كتاب سيبويه على الأخفش، وقد رحل الفراء إلى البصرة وتتلمذ على يونس بن حبيب وأكب على كتاب سيبويه يقرؤه ويدرسه، كما أكب عليه جميع أئمة الكوفة من بعده.
ومعنى ذلك أن الصلة بين المدرسة الكوفية والمدرسة البصرية في النحو ظلت قائمة على مدار الزمن، وأن من الطبيعي أن نجد دائما عند نحاة الكوفة تأثرات مختلفة بالمذهب البصري، ولكنهم مع ذلك استطاعوا أن يتبينوا شخصياتهم إزاءه، وأن ينفذوا إلى مذهب مستقل بهم، له طوابعه وخصائصه التي تفرده عن المذهب البصري إفرادا متميزا واضحا.
ص159
___________________
(1) كتاب أبي زكريا الفراء ومذهبه في النحو واللغة ص377 وما بعدها.
(2) ابن الجزري 1/ 603.
(3) معاني القرآن للفراء "طبعة دار الكتب المصرية" 1/ 75.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|