أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-4-2019
54960
التاريخ: 29-3-2016
3160
التاريخ: 12-6-2019
9405
التاريخ: 29-3-2016
3999
|
وصل الإمام الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء في يوم الخميس الثاني من محرّم سنة للهجرة.
ومن ثمّ أمر بنصب الخيام وضرب أخوته وأولاد عمّه خيامهم من حول خيمته, وكذلك نصب الأصحاب ومواليه خيامهم في أطراف خيمة الحسين (عليه السلام).
وفي الليلة الأولى أرسل الإمام (عليه السلام) رسالة إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة كتب فيها:
"أمّا بعد, فكأنّ الدنيا لم تكن، وكأنّ الآخرة لم تزل".
وصول ابن سعد
وفي اليوم الثالث من المحرّم قدم إلى كربلاء عمر بن سعد في أربعة آلاف فارس، وانضمّ إليه الحرّ بن يزيد الرياحيّ في ألف فارس.
وأرسل ابن سعد رسولاً إلى الإمام الحسين يستفسره عن سبب مجيئه فقال الإمام في جوابه:
"كتب إليَّ أهل مصركم هذا أن أقدم، فأمّا إذا كرهوني فأنا أنصرف عنهم".
فكتب ابن سعد إلى عبيد الله بن زياد يخبره بما جرى، فكتب إليه ابن زياد أن يطلب من الحسين (عليه السلام) البيعة ليزيد.
ومن بعد ذلك حصل اللقاء الأوّل بين الإمام الحسين (عليه السلام) وبين عمر بن سعد فنصحه الإمام بنصائح لكن ابن سعد رفضها ومن بعد هذا اللقاء قام ابن سعد بإرسال كتاب إلى عبيد الله بن زياد.
وكتب ابن زياد في جوابه وبتوصية من الشمر: إن لم يستسلم الحسين فاقتله واركض الخيل على صدره وظهره.
منع الماء
وفي كلّ يوم كان يزداد عدد جيش العدوّ، وفي المقابل كانت تزداد الضغوط والتضييق على الإمام وأصحابه، إلى أن كتب ابن زياد في اليوم السابع إلى عمر بن سعد كتاباً يأمره فيه بأن يحولوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء وأن لا يدعهم يذوقوا من الماء قطرة.
فأمر ابن سعد عمرو بن الحجّاج أن يسير في خمسمائة فارس فينيخ على الشريعة ويحولوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء.
ولكنّ العبّاس (عليه السلام) قام ومعه بعض الأصحاب بإحضار مقدارٍ من الماء إلى أهل البيت عليهم السلام، "وفي هذه الأثناء اشتدّ العطش من الحسين وأصحابه وكادوا أن يموتوا عطشاً".
وَعَنِ المَاءِ مَنَعَهُ الكُوفِيُّونَ فَرِحِينَ، هَلْ هَذِهِ حُرْمَةُ ضَيْفِ كَرْبَلَاءِ؟
هُمُ الشَّياطِينُ تُرْوَى الوُحُوشُ مِنْ مَائِهِمْ ولِفَقْدِهِ يَمصُّ خَاتِمَهُ سُلَيْمَانُ كَرْبَلاءِ
وَلِلْعَيوقِ يَصِلْ صُرَاخُ العُطاشَى العَطَشَ العَطَشَ مِنْ صَحْرَاءِ كَرْبَلَاءِ
تأخير الهجوم
وفي عصر اليوم التاسع من المحرّم وبينما كان الحسين (عليه السلام) جالساً أمام خيمته مستنداً إلى سيفه وقد خفق برأسه على ركبتيه. نادى عمر بن سعد بجيشه: يا خيل الله اركبي وأبشري، وسمعت زينب عليها السلام الصيحة فدنت من أخيها تخبره بهجوم الأعداء، فقال لها الحسين (عليه السلام): "إنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقال لي إنّك تروح إلينا...".
ثمّ طلب من أخيه العبّاس أن يذهب للقائهم واستعلام الحال منهم، وتوجّه العبّاس نحوهم وسألهم فأجابوه: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم ولمّا أخبر العبّاس الإمام الحسين بجواب القوم، قال له: "ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار".
وبعد أن استشار ابن سعد قوّاد جيشه قَبِلَ بطرح الإمام (عليه السلام) بالتأجيل إلى غد.
اختبار الأصحاب
وفي غروب ذلك اليوم جمع الإمام (عليه السلام) أصحابه الذين قال عنهم بأنّه "لا أعلم أصحاباً خيراً ولا أوفى من أصحابي... لم ولن تقصّروا في حقّي". ومن ثمّ قال لهم: "هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، ثمّ ليأخذ كلّ رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي ثمّ تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله، فإنّ القوم إنّما يطلبونني ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري".
وما أن أتمّ الحسين (عليه السلام) كلامه حتّى قام أخوته وأهل بيته وأصحابه وأعلنوا عزمهم الراسخ على الوقوف معه والدفاع عنه.
وعندما جاءته زينب عليها السلام تستعلم منه نيّات أصحابه طمأنها الإمام (عليه السلام) وقال لها: "أما والله لقد نهرتهم وبلوتهم وليس فيهم إلّا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل بلبن أمّه".
اصبري يا زينب
وحلّت ليلة عاشوراء، وجلس الحسين (عليه السلام) في خيمته حاملاً سيفه بيده يكرّر هذه الأبيات:
"يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيلِ كَمْ لَكَ بِالإِشْرَاقِ وَالأَصِيلِ
مِنْ طَالِبٍ وَصَاحِبٍ قَتِيلِ وَالدَّهْرُ لا يَقْنَعُ بِالبَدِيلِ
وَإِنَّمَا الأَمْرُ إِلى الجَلِيلِ وَكُلُّ حَيٍّ سَالِكٌ سَبِيلِي"
وما أن سمعت زينب هذه الأبيات على لسان أخيها لم تملك نفسها أن وثبت وجاءت نحوه وقالت: واثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة...
فنظر إليها الحسين (عليه السلام) وقال لها: "يا أخيّة, لا يذهبنّ حلمك الشيطان"، وترقرقت عيناه بالدموع وقال: "لو ترك القطا ليلاً لنام".
وقام الحسين (عليه السلام) إليها يصبّ الماء على وجهها بعد أن وقعت مغشيّاً عليها وقال لها: "يا أختاه اتق الله، وتعزّي بعزاء الله, واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون, وأنّ كلّ شيءٍ هالك إلّا وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته...".
تضرّعٌ ومناجاة
وقام الإمام الحسين (عليه السلام) بإجراء احترازيٍّ ووقائيّ فأمر أصحابه أن يقرّبوا الخيام من بعضها البعض وأن يشدّوها بالحبال وأن يكونوا بين البيوت فيستقبلون القوم من وجهٍ واحد، وكذلك أمر (عليه السلام) أصحابه بأن يحفروا خندقاً حول الخيام وأن يشعلوا فيه النّار ليمنع القوم من الإحاطة به.
وأمضى أصحاب الحسين (عليه السلام) ليلة عاشوراء في خيمهم مشتغلين بالدعاء والصلاة ومناجاة الله ولهم دويٌّ كدويِّ النحل، وكذلك أمضى الحسين ليلته تلك بالعبادة يتلو قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: ، ].
عاشوراء للهجرة
وفي صبيحة عاشوراء صلّى الحسين (عليه السلام) مع أصحابه ومن ثمّ التفت إليهم قائلاً: "إنّ الله قد أذن في قتلكم فعليكم بالصبر".
وفي ساعات النهار الأولى أمر ابن سعد جيشه المكوّن من ثلاثين ألف مقاتل بالتهيّؤ للحرب والقتال، وفي المقابل استعدّ الحسين (عليه السلام) وأصحابه للدفاع ورفع الإمام (عليه السلام) يديه إلى السماء وهو يقول: "أللهم أنت ثقتي في كلّ كربٍ ورجائي في كلّ شدّة وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل بي ثقة وعدّة...".
إنّ الحضور الكبير والهام لسيّد الشهداء في عاشوراء سنة للهجرة يمكن ملاحظته من خلال هذه المواقف والمقاطع:
الامتناع عن بدء القتال
اقترب شمر من الخيم يستفزّ أصحاب الحسين (عليه السلام) ونادى بأعلى صوته: يا حسين أتعجّلت النّار؟ فأراد مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهمٍ فمنعه الحسين (عليه السلام) من ذلك وقال له: "لا ترمه، فإنّي أكره أن أبدأهم".
الخطبة الأولى
وركب الحسين (عليه السلام) على فرسه قاصداً نحو الكوفيّين لإتمام الحجّة وقطع العذر فوقف في مقابلهم وناداهم بأعلى صوته، وعلى حدّ قول الناقل لهذا الخبر: "فوالله ما سمعت متكلّماً قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطقٍ منه"، ثمّ قال الحسين (عليه السلام): "الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناءٍ وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقيّ من فتنته, فلا تغرّنّكم هذه الدنيا, فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيّب طمع من طمع فيها...".
فقال عمر بن سعد: "ويلكم كلّموه فإنّه ابن أبيه, فوالله لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما قطع ولما حصر، فكلّموه".
ولكن الحسين (عليه السلام) بكلّ صلابة وإباء علويّ تابع كلامه قائلاً: "فانسبوني فانظروا من أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها, فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله بما جاء به من عند ربّه، أوليس حمزة سيّد الشهداء عمّي؟ أوليس جعفر الطيار في الجنّة بجناحين عمّي؟ أولم يبلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟
فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ، والله ما تعمّدت كذباً منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاريّ، وأبا سعيد الخدريّ، وسهل بن سعد الساعديّ، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي ولأخي، أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي؟".
فقال له شمر بن ذي الجوشن: "هو يعبد الله على حرفٍ إن كان يدري ما يقول".
فقال له حبيب بن مظاهر: "والله إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادقٌ ما تدري ما تقول، قد طبع الله على قلبك".
ثمّ تابع الإمام الحسين كلامه الناصح لهم فقال: "فإن كنتم في شكٍّ من هذا! أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلته؟ أو مالٍ لكم استهلكته، أو بقصاصٍ من جراحةٍ" فلم يجبه أحدٌ منهم، وحينئذٍ توجّه الإمام (عليه السلام) إلى أشراف أهل الكوفة وزعمائها الموجودين في جيش ابن سعد فسمّاهم وناداهم وذكّرهم بدعوتهم له، فقال لهم: "يا شبث بن ربعيّ، يا حجّار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث يا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب, وإنّما تقدم على جندٍ لك مجنّدة!". فأنكروا أمام الإمام (عليه السلام) إرسال الرسائل إليه، فقال لهم: "أيّها الناس, فإن كنتم لا تريدون فذروني ألتجئ إلى مكان آخر".
وقال له قيس بن الأشعث ما ندري ما تقول وعرض عليه التسليم والبيعة، فقال له الحسين (عليه السلام): "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد".
ثمّ أناخ سيّد الشهداء (عليه السلام) راحلته وأمر عقبة بن سمعان بعقلها، فأقبل القوم يزحفون نحوه.
زئير في مقابل ضجيج الخصم
وأقام ابن سعد الرايات ورتّب جيشه في مراتبهم وهيّأهم للقتال وفي المقابل عبّأ الحسين (عليه السلام) أصحابه في الميمنة والميسرة وأحاط أصحاب الحسين (عليه السلام) به من كلّ جانب وبدأ الهجوم من كلّ طرفٍ وعلت أصوات جيش العدوّ وخرج الحسين (عليه السلام) بين أصحابه، واقترب من العدوّ وطلب منهم السكوت والإنصات له فأبوا أن ينصتوا فقال لهم:
"ويلكم، ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا قولي، وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد فمن أطاعني كان من المرشدين، ومن عصاني كان من المهلكين، وكلّكم عاصٍ لأمري غير مستمع لقولي. فقد مُلئت بطونكم من الحرام وطبع الله على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون، ألا تسمعون؟".
فتلاوم أصحاب عمر بن سعد فيما بينهم وعمّ السكوت في الميدان.
الخطبة الثانية: كشف قناع الكوفيّين
وأخذ الإمام (عليه السلام) يوبّخ أهل الكوفة على قلّة وفائهم وغدرهم وانخداعهم بعدوّه وعدوّهم، فقال لهم: "تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً، حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم".
ثمّ عرّض الإمام (عليه السلام) بجيش ابن سعد الرافع راية العداوة والظلم سائلاً لهم: "فهلّا لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم, والجأش طامن، والرأي لمّا يستحصف، ولكن أسرعتم إليهم كطيرة الدَّبا، وتداعيتم إليهم كتهافت الفراش" ومن ثمّ كشف (عليه السلام) القناع عن وجوه الكوفيّين اللئيمة وعرّفهم بهذه الأوصاف: "فسحقاً لكم يا عبيد الأمّة، وشذّاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب, ومحرّفي الكلم، وعصبة الآثام، ونفثة الشيطان، ومطفئي السنن, وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيري عترة الأوصياء، وملحقي العهار بالنسب، ومؤذي المؤمنين، وصراخ أئمّة المستهزئين، الذين جعلوا القرآن عضين...".
والذي تبلور في كلام سيّد الشهداء (عليه السلام) هو عدم وفاء أهل الكوفة وقد سلّط (عليه السلام) الضوء على هذه الحقيقة، فقال لهم:
"أهؤلاء تعضدون، وعنّا تتخاذلون، أجل والله غدر فيكم قديم، وشجت عليه أصولكم، وتآزرت عليه فروعكم، فكنتم أخبث ثمرٍ، شجى للناظر وأكلة للغاصب...".
هيهات منّا الذلّة
وتابع الإمام الحسين (عليه السلام) كلامه مؤكّداً على عدم استسلامه قائلاً لهم:
"ألا إنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد تركني، بين السلّة والذلّة، وهيهات له ذلك منّي، هيهات منّا الذلّة" وتابع كلامه قائلاً:
"يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون, وحجورٌ طابت وطهرت, وأنوفٌ حميّة, ونفوسٌ أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام".
"فَإِنْ نُهْزَمْ فَهَزَّامُونَ قِدْماً وَإِنْ نُغْلَبْ فَغَيْرُ مُغَلَّبِينا
وَمَا إِنْ طَبَّنا جُبْنٌ وَلَكِنْ مَنَايَانا وَدوْلَةُ آخَرِينا"
ثمّ حذّر أهل الكوفة قائلاً:
"ثمّ أيم الله، لا تلبثون بعدها إلّا كريث ما يركب الفرس، حتّى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور..." ومن بعد هذا الكلام قام الإمام (عليه السلام) بالدعاء على هؤلاء القوم الناكثين للعهد والملتحقين بجيش أعداء الله.
وبعد إتمام كلامه لم يلتحق به سوى الحرّ بن يزيد الرياحيّ وجمع قليل معه.
بداية الحرب
ثمّ إنّ عمر بن سعد وضع سهمه في كبد قوسه ورمى به نحو أصحاب الحسين (عليه السلام) وقال: "اشهدوا أنّي أوّل من رمى، فرمى أصحابه كلّهم بأجمعهم في أثره رشقة واحدة".
فنادى الحسين (عليه السلام) في أصحابه قائلاً لهم: "قوموا يا كرام، هذه رسل القوم إليكم".
فقام أصحاب الحسين (عليه السلام) وتوجّهوا نحو الميدان ووقع قتال دامٍ بين القوم حتّى استشهد جماعة من الأصحاب. وقام عمرو بن الحجّاج قائد ميمنة جيش ابن سعد بالهجوم على ميسرة أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) واشتهرت هذه الهجمة عند أرباب التاريخ بالحملة الأولى، جثى أصحاب الحسين (عليه السلام) على الركب وأشرعوا الرماح نحوهم فصدّوهم عن التقدّم نحوهم. وفي هذه الحملة أيضاً استشهد بعض أصحاب الحسين الأوفياء. وهجم بعض الأصحاب على العدوّ فاستشهدوا أيضاً، ثمّ إنّ عمرو بن الحجّاج حمل مجدّداً بجيشه على الحسين وأصحابه وهو يقول: "لا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام (أي إمامه يزيد)".
فقال له الحسين (عليه السلام): "يا عمرو بن الحجّاج أعليَّ تحرّض الناس؟ أنحن مرقنا وأنتم ثبتّم عليه، أما والله لتعلمنّ لو قد قبضت أرواحكم ومتّم على أعمالكم أيّنا مرق من الدين. ومن هو أولى بصلي النّار...".
وفي هذه الحملة أيضاً استشهد جمع من أصحاب سيّد الشهداء (عليه السلام).ومن ثمّ حمل شمر بن ذي الجوشن من الميسرة على ميمنة الإمام وأصحابه الذين وقفوا في وجهه وثبتوا أمامه, ومن بعد ذلك توالت الحملة تلو الحملة, وفي كلّ مرّة يسقط بعض أصحاب الإمام شهيداً بعد أن قاتلوهم قتالاً شديداً.
ويذكر المؤرّخون بأنّ شمر بن ذي الجوشن أمر بأن يحرق خيام الإمام وأهل البيت عليهم السلام واقترب منهم إلّا أن الأصحاب قاوموه وما زال الواحد منهم يسقط تلو الآخر حتّى بان النقص في أنصار الحسين (عليه السلام).
الصلاة الأخيرة
وعند زوال الشمس من يوم العاشر جاء أبو ثمامة الصائديّ يؤذن الحسين (عليه السلام) بحلول وقت الصلاة فقال له: "ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلّين الذاكرين، نعم هذا أوّل وقتها".
وقام الحسين (عليه السلام) إلى الصلاة في نحو نصفٍ من أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف وسعيد بن عبد الله الحنفيّ قائم قد جعل نفسه درعاً للإمام (عليه السلام), فاستهدفوه بالنبل يرمونه يميناً وشمالاً وهو قائم بين يديه, فما زال يُرمى حتّى سقط شهيداً.
وبعدما أتمّ الإمام صلاته تكلّم مع أصحابه بكلام موجز وذكّرهم بانتظار الجنّة لهم واشتياق أهلها للقائهم، وقال لهم: "فحاموا عن دين الله وذبّوا عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".
عروج الأصحاب
وبعد إقامة الصلاة بدأ أصحاب الحسين (عليه السلام) بالنزول إلى الميدان واحداً تلو الآخر, وبعد المبارزة والقتال سقطوا شهداء وتهيّأ بنو هاشم للقتال, وكان أوّل المبارزين منهم عليّ الأكبر (عليه السلام) الذي نزل إلى الميدان فبارزهم ثمّ خرّ شهيداً, ومن بعده استشهد بقيّة آل هاشم ومن جملتهم أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) وفي تلك اللحظات الأخيرة استدعى
الإمام (عليه السلام) طفله الرضيع وبينما هو في حجره رماه حرملة بسهمٍ في عنقه ففار الدم منه وعندئذٍ قال الإمام (عليه السلام): "هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله".
وحيداً فريداً
ولم يبق مع الحسين (عليه السلام) أيّ ناصرٍ ومعين فبقي وحيداً فريداً ينظر يميناً وشمالاً، فلم يَرَ أحداً من أصحابه وأهل بيته إلّا صرعى بدمائهم على وجه الأرض، فنادى الإمام (عليه السلام) مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وزهير بن القين وحبيب بن مظاهر وعليّ الأكبر وسائر الشهداء وصرخ قائلاً: "أيّها الكرام، ادفعوا عن حرم الرسول الطغاة اللئام، ولكن صرعكم والله ريب المنون وغدر بكم الدهر الخؤون، وإلّا لما كنتم عن دعوتي تقصّرون، ولا عن نصرتي تحتجبون، فها نحن عليكم مفتجعون، وبكم لاحقون، فإِنَّا لِلهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ".
الوداع الأخير
وانطلق الإمام (عليه السلام) إلى خيمة ولده والإمام من بعده زين العابدين (عليه السلام) فضمّه إلى صدره وودّعه. ثمّ طلب ثوباً لا يرغب فيه ليلبسه تحت ثيابه لئلّا يبقى عارياً. فأخذ الثوب ففزره وخرّقه لكيلا يُسلبه، ومن ثمّ توجّه (عليه السلام) لوداع أخته زينب الكبرى وسائر النساء فنادته ابنته سكينة: "يا أبتاه، أأسلمت نفسك للموت".
فقال لها الإمام (عليه السلام): "كيف لا يستسلم من لا ناصر له ولا معين" فقالت له سكينة: أبتاه ردّنا إلى حرم جدّنا صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال لها الإمام (عليه السلام): "هيهات لو ترك القطا لنام".
وعلا صوت النساء بالبكاء فسكّتهنّ الحسين (عليه السلام) ومن ثمّ حمل على الأعداء.
موتٌ في عزّ
كان الإمام الحسين (عليه السلام) يرى أنْ: "موت في عزٍّ خير من حياة في ذلّ" وكان كلّما برز إليه أحد قتل, ويحمل على الميمنة وهو يقول:
"القَتْلُ أَوْلَى مِنْ رُكُوبِ العَارِ وَالعَارُ أوْلَى مِنْ دُخُولِ النَّارِ
وَاللهِ مَا هَذا وَهَذا جَارِ"
ثمّ يحمل على ميسرة القوم وهو يقول:
أَنَا الحُسَيْنُ بْنَ عَلِي آلَيْتُ أَنْ لا أَنْثَنِي
أَحْمِي عِيَالاتِ أَبِي أَمْضِي عَلَى دِينِ النَّبِي
وهجم عليه مالك بن نسر وضربه بالسيف على رأسه فشقّ برنسه ووصلت الضربة إلى أمّ رأسه وجرى الدم منه وامتلأ البرنس دماً، وخلع الإمام درعه ولبس خوذة بعد أن عمّم رأسه بخرقة سوداء, ولبس جبّة من خزّ, وقاتل قتال الفارس الشجاع, وكان يتّقي الرماة ويفترص العورة, ويشدّ على الخيل.
ورغم الجراحات الكثيرة التي أصابت جسد الإمام (عليه السلام) إلّا أنّه كان يحمل تارة على الميمنة وأخرى على الميسرة فيفرّون من بين يديه.
يقول الراوي: "فوالله ما رأيت مكثوراً قطّ قد قتل ولده وأهل بيته وصحبه أربط جأشاً منه، وإن كانت الرجال لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ عليها الذئب...".
ورجع الإمام (عليه السلام) إلى مركزه وهو يردّد قائلاً: "لا حول ولا قوّة إلّا بالله".
كونوا أحراراً
وقاتل الإمام (عليه السلام) قتال الأبطال وابن سعد يحثّ جيشه على قتل الإمام قائلاً لهم:"احملوا عليه من كلّ جانب. وقام شمر مع جماعة من المقاتلين فحالوا بين الحسين (عليه السلام) وبين رحله. فقال لهم (عليه السلام): "ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون".
فحمل شمر على الإمام الحسين (عليه السلام) وحمل الإمام (عليه السلام) على العدوّ وهو يقول: "أعلى قتلي تحاثون؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله اللهُ أسخط عليكم لقتله منّي، وأيم الله إنّي لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثمّ ينتقم لي منكم...".
ليت السماء أطبقت على الأرض
ولكثرة الجراحات التي أصيب بها الإمام (عليه السلام)، وقف يستريح وقد ضعف عن القتال، فطعنه صالح بن وهب برمحه على خاصرته طعنة منكرة فسقط الحسين (عليه السلام) عن فرسه إلى الأرض على خدّه الأيمن وهو يردّد قائلاً: "بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله".
وفي ذلك الوقت خرجت زينب عليها السلام من خيمتها وهي تنادي: وا أخاه وا سيّداه وا أهل بيتاه، ولهول ما رأت عليها السلام وما ألمّ بها قالت: "ليت السماء أطبقت على الأرض".
وقام العدوّ بمحاصرة الإمام (عليه السلام) والشمر يصيح بهم: ويحكم ما تنتظرون بالرجل، اقتلوه ثكلتكم أمّهاتكم، فحملوا عليه من كلّ جانب، وضربه زرعة بن شريك على عاتقه فجعل يكبو مرّة ويقوم أخرى, ثمّ كبا على وجهه وحمل عليه سنان بن أنس في تلك الحال فطعنه بالرمح في ترقوته, ثمّ انتزع الرمح فطعنه في بواني صدره, ثمّ رماه سنان أيضاً بسهمٍ فوقع في نحره فسقط (عليه السلام), وجلس قاعداً فنزع السهم من نحره, وقرن كفّيه جميعاً فلمّا امتلأتا دماً خضّب بهما رأسه ولحيته, وقال: "هكذا حتّى ألقى الله مخضباً بدمي مغصوباً عليّ حقّي".
صريعاً على الأرض
وكلّما دنا أحدهم من الحسين (عليه السلام) رجع عنه، حتّى صاح بهم ابن سعد طالباً منهم أن يجهزوا عليه، يقول بعض أتباع بن سعد: والله ما رأيت قتيلاً مضمّخاً بدمه أحسن منه ولا أنور وجهاً، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيئته عن الفكر في قتله.
وفي تلك الحالة وقد خرّ الإمام (عليه السلام) صريعاً مشرفاً على الموت استسقى الماء، فلم يسقوه وقال له رجلٌ منهم: والله لا تذوق الماء حتّى ترد الحامية.
وبدر إليه خولّي بن يزيد الأصبحي ليحتزّ رأسه فأرعد وقفل راجعاً، وحينئذٍ قدم الشمر وجلس على صدر الإمام (عليه السلام) وقبض على لحيته, وهمّ بقتله فضحك الحسين (عليه السلام) وقال له: "أتقتلني؟ أولا تعلم من أنا؟!".
فقال الشمر: أعرفك حقّ المعرفة، أمّك فاطمة الزهراء عليها السلام وأبوك عليّ المرتضى، وجدّك محمّد المصطفى، وخصيمك الله العليّ الأعلى، وأقتلك ولا أبالي.
وضربه بسيفه اثنتي عشرة ضربة ثمّ حزّ رأسه من القفا
قَتَلُوكَ عَطْشَاناً وَلَمْ يَتَرَقَّبُوا فِي قَتلِكَ التَنْزِيلَ وَالتَّأْوِيلا
وَيُكَبِّرُونَ بِأَنْ قُتِلْتَ وَإِنَّمَا قَتَلُوا بِكَ التَكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلا
ثمّ أقبلوا على الحسين (عليه السلام) فسلبوا كلّ شيء عن بدنه الشريف ومن ثمّ صاح عمر بن سعد في أصحابه: من ينتدب للحسين فيواطئ الخيل ظهره وصدره؟ فانتدب منهم عشرة، فداسوا جسد الإمام (عليه السلام) المقطوع الرأس بحوافر خيولهم حتّى رضّوا صدره وظهره.
ولمّا رأت زينب الكبرى جسد أخيها سيّد الشهداء مضمّخاً بدمائه نادت: "يا محمّداه صلّى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مرمّلٌ بالدماء، مقطّع الأعضاء...".
(شعر)
وَهَذَا المَقْتُولُ الصَّرِيعُ عَلَى الأَرْضِ حُسَيْنُكَ وَهَذا الصَّيدُ المُرَمَّلُ بِدِمائِهِ حُسَيْنُكَ
وَهَذا القَمَرُ الصَرِيعُ فِي بِحَارِ الدَّمِ أُضِيفَتْ إِلى بَدَنِهِ جِرَاحُ النُّجُومِ حُسَيْنُكَ
وحمل الرأس المبارك للإمام (عليه السلام) إلى الكوفة، وبعد عدّة أيّام من واقعة عاشوراء، جاءت طائفة من بني أسد إلى كربلاء وقاموا بدفن جسد الإمام وسائر الأصحاب في التراب.
ونختم هذا الفصل بآية من القرآن سمعت تردّد من الرأس المقطوع لسيّد الشهداء (عليه السلام): {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: ] .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|