الأسباب الاقتصادية للفساد الإداري
المؤلف:
صباح عبد الكاظم شبيب الساعدي
المصدر:
دور السلطات العامة في مكافحة ظاهرة الفساد الإداري في العراق
الجزء والصفحة:
ص 161-169
2025-11-03
49
للأسباب الاقتصادية دور مؤثر في تفشي ظاهرة الفساد الإداري وأن تأثيرها يختلف كماً وكيفاً تبعاً للظروف الاقتصادية المختلفة، ويلاحظ أن أغلب التصرفات الإنسانية تهدف أساساً إلى إشباع حاجات الفرد المالية رغم أن الدراسات العلمية أثبتت أن أغلب صور الفساد المالي كالرشوة قد تقع من أشخاص يتمتعون بمستوى معيشي مرتفع، كما يلاحظ أيضاً أن أغلب صور الفساد تتأثر بالتغيرات الاقتصادية وأن كانت تختلف فيما بينها من حيث التأثير.
ففي حالات الانتعاش والرخاء الاقتصادي قد تكثر انحرافات مثل الوساطة والمحاباة والعمولات، كما أن القلق النفسي الناتج عن ضيق اقتصادي قد يكون دافعاً للموظف أن يرتكب انحرافات مثل السرقة والاختلاس والرشوة والتزوير (1).
وتختلف مستويات الفساد استناداً إلى طبيعة النظام الاقتصادي والاجتماعي ذاته، كالفساد في الاقتصاد الموجه والفساد في اقتصاد السوق والفساد في الاقتصاد المشترك فضلاً عن ظاهرة الفساد الجديدة المرتبطة بعملية الانتقال من الاقتصاد المخطط إلى الاقتصاد الحر، وهذه ظاهرة لم يألفها التاريخ سابقاً إلا في مرحلة انهيار الشيوعية وإعادة إنتاج العلاقات الرأسمالية مرة أخرى (2).
وللعامل الاقتصادي أهمية كبيرة في حياة الموظف وغير الموظف، ولكن ليس هو العامل الوحيد لأن هناك كثيراً من الأثرياء هم غير أمناء، وبالمقابل هناك اشخاص فقراء أو من أصحاب الدخل المحدود لكنهم غير فاسدين، وهذا يفسر لنا أن الفساد اخلاقي بالدرجة الأولى وبذلك يتقاضى كبار الموظفين الرشاوى ويقومون بالاختلاس، بل حتى الأثرياء منهم يزداد طمعه كلما زادت ثروته(3).
ويمكن إجمال أهم الأسباب الاقتصادية على النحو الآتي:
أولاً: طبيعة النظام الاقتصادي Economic System Nature
لطبيعة النظام الاقتصادي في الدولة دور هام ومؤثر في توجيه النشاط الاقتصادي، وينبع هذا مما للهيمنة والسيادة التي تكون للنظام الاقتصادي فيها وفي توجيهها أكثر من غيره من النظم السياسية أو الاجتماعية، وفيما يتعلق بالدول العربية فقد انقسمت من حيث طبيعة النظام الاقتصادي إلى قسمين:
الأول قلص دور الدولة في توجيه الأنشطة الاقتصادية إلى حد ما وتبنى مذهب الاقتصاد الحر، وتوجه على أساس من الحرية الاقتصادية سواء في داخل الدولة أو في العلاقات الاقتصادية مع الخارج، والآخر اتخذ من الأفكار الاشتراكية منهجاً له، وعمل على تقليص دور القطاع الخاص، وأفرد دوراً هاماً وكبيراً للدولة، ولذلك قام النظام الاقتصادي في هذه الدول على أساس من التدخل والتوجيه الكامل للاقتصاد، واختلفت كل دولة عن الأخرى في مدى تطبيقها للنظام الاقتصادي الذي اختارته، فبعض الدول العربية وصلت إلى حد تطبيق النظام الاشتراكي الصارم " الشيوعية" على نظامها الاقتصادي، في حين وازن البعض الآخر بين دور الدولة في النشاط الاقتصادي ودور القطاع الخاص، بحيث وصل إلى ما يعرف " بالاقتصاديات المختلطة"، والبعض الثالث أطلق العنان للقطاع الخاص(4).
إن كل نظام من هذه الأنظمة له دور في ظهور وانتشار ظاهرة الفساد الإداري بشكل أو بآخر، فالنظام الحر يدعي أن الحرية والمنافسة الشريفة بين الأفراد هي عوامل تساعد على تقدم المجتمع في معظم نواحي الحياة، وأن محاولة تحقيق أقصى ربح ممكن هي الهدف الرئيسي الذي تسعى كل مؤسسة إلى تحقيقه. وتؤكد المبادئ الأساسية لهذا النظام أن المدير وهو الذي يتولى إدارة دفة النشاط الاقتصادي ومحاولة مواجهة المشكلات الاقتصادية التي تقابله أنما يعمل في ذات الوقت على محاولة منع أو التخفيف من الفساد الإداري، لأن ذلك يزيد من أرباح المنظمة التي يديرها، ومع التسليم بأن هذه المبادئ تكاد لا تطبق في أي من دول العالم، إلا أن بعضاً من الجوانب الأساسية لهذا النظام والتي تطبق بالفعل بصورة أو بأخرى تبتعد شيئاً فشيئاً عن الجانب الايجابي وتظهر على السطح الجوانب السلبية ومنها أن المنافسة الحرة تتحول في الحقيقة إلى منافسة غير شريفة تؤدي تدريجياً إلى أضعاف وإفلاس كثير من المنافسين - خصوصاً صغار المستثمرين - وإبعادهم عن حلبة الصراع مما يؤدي إلى نشوء نوع من الاحتكارات والهيمنة على السوق، الأمر الذي يعني أن البعض فقط سيتسنى له تحقيق مصالحه الخاصة، والبعض الآخر لن يتحقق له ذلك، وتبدأ الحرب بين المؤسسات باستخدام كافة السبل في سبيل تحقيق أهدافها أياً كانت هذه الأهداف حتى لو أدى ذلك إلى محاربة المنافسين بطرق الفساد من رشوة وتدليس وغش تجاري، فضلاً عن العمولات التي تصل إلى الملايين لمن بيدهم مقاليد الأمور والتي تدفع من أجل التأثير على الأسواق، بل الأدهى من ذلك أن كثيراً من الشركات الكبرى استطاعت بشكل أو بآخر تسخير واستصدار تشريعات قانونية لصالحها، فأصبحت حتى الدولة وأجهزتها بيد مثل هذه الشركات التي تعمل ما تشاء وتحت غطاء القانون أو النظام، ومع تفشي الفساد سعت هذه الدول إلى تبني صيغ تسمح بمزيد من تدخل الدولة ورقابتها على الأسواق والأسعار مع تقليص حريات القطاع الخاص إلى درجة ما أملاً في التخفيف من مستوى الفساد(5).
أما في النظام الاشتراكي فأن الدولة تتدخل في توجيه النشاط الاقتصادي والسيطرة عليه ويقوم على ملكية الدولة لوسائل الإنتاج وكيفية تملكها، لقد تم ذلك في معظم التجارب إما بالتأميم أو المصادرة دون تعويض عادل، وهو ما ولد رد فعل سلبي تجاه الدولة فظهر الفساد في كل مكان في معظم المجتمعات الاشتراكية (6). لقد أدى ذلك إلى تضاؤل دافع تحقيق المصلحة الخاصة وسيادة دافع تحقيق المصلحة العامة على أهداف النشاط الاقتصادي ومسيرته، وحيث أن موارد الإنتاج - ما عدا العمل - ذات ملكية عامة فأن ميكانيكية السوق ونظام الأسعار تتم بالاستعاضة عنها بمبدأ التوجيه المركزي الذي يتم عبر سلطة عليا - الدولة ومؤسساتها وهذه السلطة تتولى تحديد قرارات الإنتاج وتحديد طريقة إنتاجه وتحديد الأسعار أيضا(7).
ومع أن تطبيقات النظام الاشتراكي ليست واحدة في الدول التي أخذت به، إذ هناك اختلافات في التطبيق وأن القاسم المشترك لتلك الأنظمة هو تملك الدولة لجميع عناصر الإنتاج واتخاذها القرارات الاقتصادية عن طريق جهاز التخطيط المركزي، إلا أن معظم الدول التي أخذت بالنظام الاشتراكي عانت من سلبيات هذا النظام والتي تمثلت في تفشي الفساد الإداري في معظم الأجهزة الحكومية وفي معظم قطاعات الإنتاج حيث يفتعل عمال القطاع العام في مختلف المؤسسات الاقتصادية في هذه البلدان مشاكل كثيرة من سوء التصرف والفساد انعكست على إنتاجيه هذه البلدان ككل وأن سيطرة فئة قليلة - هم أعضاء الحزب الحاكم - على مقدرات البلاد لم يخلف وراءه إلا الفساد والغش والخداع والارتشاء في سبيل الحصول على الحاجات الضرورية للحياة. إن محاولات الإثراء النسبي من قبل فئة قليلة من الشعب على حساب البقية بأساليب غير شريفة كالرشوة واستغلال النفوذ وإهمال المصلحة العامة وما إلى ذلك من ظواهر الفساد الإداري هي التي أدت إلى تبني بعض البلدان ذات التوجه المركزي لسياسات وصيغ يغلب عليها مزيد من الحرية وفتح المجال أمام القطاع الخاص وذلك فيما يعرف بالخصخصة وإعطاء المشروعات الحكومية مزيداً من الحريات الإدارية وذلك بتقليص القيود البيروقراطية وأخذ معيار الربح لتقويم مستوى أداء المشروعات وذلك من أجل الحد من الفساد الذي انتشر في كل أرجاء الأجهزة الحكومية والذي أصبح سمة من سمات النظام، وما زالت كل مجموعة تحاول التكيف مع النظام الذي اختارته ومع أن اختيار نظام ما يعني اختيار نمط معين من التنمية، ذلك أن اختيار نظام اقتصادي معين عادة ما يكون نتاج ظروف تاريخية قد تكون الدول طرفاً فيها أو تكون ضحيتها. فمن المعروف أن بعض البلدان العربية قامت عقب الاستقلال بتبني نموذج النمو الرأسمالي، وكانت المحصلة استمرار حالة التخلف وعدم المقدرة على بناء اقتصاد وطني مستقل، لأن نموذج النمو الرأسمالي قد وضع في ظل ظروف تطور البلدان الرأسمالية في مراحلها الأولى، بينما تختلف ظروف الدول العربية التي طبقت النموذج الرأسمالي عن الظروف التي مرت بها الدول الرأسمالية خلال مراحل تطورها، ونفس الأمر يقال عن مجموعة البلدان العربية التي تبنت النموذج الاشتراكي (8) . وهذا ما حدث للعراق فقد طبق النموذج الاشتراكي بعد عام 1968 وما صاحب ذلك من آثار إيجابية للتأميم بداية السبعينيات وارتفاع أسعار النفط فقد حدث ازدهار اقتصادي كان له الأثر في القضاء على الفساد الإداري، ولكن بعد نشوب الحرب العراقية الإيرانية وما صاحبها من تدهور اقتصادي ومديونية عالية اتجه إلى خصخصة الكثير من المشاريع الاقتصادية عام 1987 وإلغاء ودمج بعض المؤسسات وهو ما سمي في حينه بالثورة الإدارية، حيث رافق هذا التحول حالات فساد أستأثر بها أصحاب النفوذ، ثم تخلى العراق تدريجياً عن النظام الاشتراكي وولد ذلك نوعاً من الاختلال الاقتصادي وازداد ذلك بعد فرض الحصار الاقتصادي، لذلك استغل هذا الوضع من قبل البعض في ارتكاب جرائم فساد إداري.
ثانياً: التحول الاقتصادي Economic Transition
إن التعقيد والإفراط في فرض الأنظمة وعدم إمكانية التكهن بتأثيرات الأنظمة القانونية في كثير من البلدان النامية والتي تمر في مرحلة انتقالية حيث تفتقر الحكومات إلى المحاسبة والشفافية أمور تشكل فرصاً لاستشراء الفساد ومن المفارقات أن هذه الاقتصاديات إذ تتجه نحو تحرر الاقتصاد وتفتح أبوابها أمام الاستثمارات والتجارة الأجنبية فإن نفس عمليات التغيير - الخصخصة تصبح مجالات يزدهر فيها الفساد وهكذا، فإن الفساد أصبح عاملا مهماً بالنسبة إلى الشركات الأميركية وسواها التي عملت في هذه الأسواق الناشئة في السنوات الأخيرة (9) . وخير مثال لحالات الفساد اثناء عملية التحول الاقتصادي هو ما حدث في روسيا في اعقاب السياسة الإصلاحية التي اتبعها يلتسين والتي ركزت على ضرورة التحول السريع، حيث أدت هذه السياسة الى عجز الميزانية وضعف تحصيل الضرائب ونسبة عالية من التهرب الضريبي، ووصل تدهور الأوضاع الاقتصادية الى قمته مع الأزمة التي حاقت بروسيا عام 1998، حيث هبط سعر (الروبل) وادى ذلك الى تعطيل الإنتاج القومي، ولم يعد المواطنون يحصلون على رواتبهم، وقد ادى انتشار الفقر وافتقاد الفرص الاقتصادية الى خلق بيئة مناسبة لنمو الفساد وتشابكه مع الجريمة المنظمة(10).
إن تحقيق التنمية المستديمة في ظل المرحلة الانتقالية يتطلب وجود دولة ذات كفاءة تستطيع أن تسهم بقوة في التنمية وفي الحد من الفقر والمشكلات الاجتماعية، غير أن احتكار الدولة لوسائل الإرغام يعطيها السلطة للتدخل بفعالية في النشاط الاقتصادي، وتخلق هذه السلطة الفرصة امام الموظفين لتدعيم مصالحهم الخاصة أو مصالح اصدقائهم أو حلفائهم على حساب المصلحة العامة، مما يفتح الباب امام الفساد ويضعف مصداقية الدولة ويقوض حكم القانون ويشجع الموظفين على وضع انفسهم فوق القانون ويغري افراد المجتمع على فعل الشيء نفسه(11).
وهذا ما يلاحظ في العراق حالياً، حيث كان النظام الاقتصادي في ظل النظام السابق مركزياً، وتحول بعد التغيير الى نظام السوق (النظام الحر) مما رافق ذلك حالات فساد كبيرة، وساعد على ذلك عدم الاستقرار السياسي وغياب الرقابة.
ثالثاً: البطالة والفقر Non-Employment & Poverty
تعتبر البطالة بحق مشكلة اقتصادية واجتماعية وسياسية، وتشكل المشكلة الأولى في مختلف دول العالم، فهناك ما يقارب مليار عاطل عن العمل في الدول الفقيرة وثلاثة ملايين ينضمون سنوياً إلى طابور البطالة في بلدان الشرق الأوسط، ويبدو أن البطالة دخلت مرحلة جديدة تختلف عن بطالة عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد كانت البطالة جزءاً من الدورة الاقتصادية في البلدان الصناعية، بمعنى أنها تظهر مع ظهور الركود الاقتصادي العالمي وتختفي مع مرحلة الانتعاش، أما الآن فقد أصبحت البطالة وفق ما يزيد على ربع قرن مشكلة هيكلية بالرغم من تحقق الانتعاش والنمو الاقتصادي، وفي البلدان النامية تتفاقم البطالة بشكل عام مع استمرار فشل جهود التنمية وتفاقم الديون الخارجية وانتشار الأمية وضعف الأداء الاقتصادي. (12) ومعنى البطالة في المفهوم الاقتصادي هو التوقف عن العمل أو عدم توافر العمل لشخص قادر عليه وراغب فيه.(13)
والبطالة أنواع:
1. البطالة الدورية وهي التي ترافق الدورة الاقتصادية ومداها الزمني بين ثلاث وعشر سنوات.
2. البطالة الاحتكاكية وهي التي تحدث بسبب التنقلات المستمرة للعاملين بين المناطق والمهن المختلفة.
3. البطالة الهيكلية - وهي التي تصيب جانباً من قوة العمل بسبب تغيرات هيكلية تحدث في الاقتصاد القومي.
4. البطالة السافرة: وهي حالة تعطل أكثر قوه وإيلاما وقد تكون دورية أو هيكلية أو احتكاكية.
5. البطالة المقنعة وهي التي يتكدس فيها عدد كبير من العاملين بشكل يفوق الحالة الفعلية للعمل مما يعني وجود عماله زائدة أو فائضة لا تنتج شيئاً تقريباً، ويسود هذا النوع في أغلب مؤسسات القطاع العام في العراق، الذي يأتي في مقدمة دول الشرق الأوسط بنسبة بطالة تقدر ب 59% من حجم قوة العمل و31% بطالة مؤقتة و 43% مقنعه، وتقدر نسبة النساء العاطلات ب 85% من قوة عمل النساء في العراق(14). إن أسباب البطالة في العراق في الوقت الحاضر كثيرة أهمها:
1. فشل برامج التنمية في العناية بالجانب الاجتماعي بالقدر المناسب وتراجع الأداء الاقتصادي وتراجع قدرة القوانين المحفزة على الاستثمار في خلق فرص عمل وتراجع دور الدولة في إيجاد فرص عمل.
2. الحروب التي خاضها العراق خلال العقود الثلاثة الماضية والتي تسببت في تدني مستوى الإنتاج وتوجيه الدخل القومي نحو متطلبات الحروب، وفترة الحصار الاقتصادي الذي استمر 13 سنة، حيث توقفت أغلب المشاريع الاقتصادية.
3. تدمير وحرق مؤسسات الدولة ونهب المال العام بعد 2003/4/9 وما تبع ذلك من أعمال تخريبية وإرهابية وتوقف تام للإنتاج وانخفاض صادرات النفط وقلة الإيرادات الأخرى مثل الضرائب ورسوم الخدمات (15).
4. الفساد الإداري الذي يعم كل مؤسسات الدولة وما يخلفه ذلك من ضياع لفرص العمل، حيث يتطلب الأمر في كثير من الحالات الى دفع الرشوة للحصول على وظيفة عامة، وتظهر أهمية البطالة في أنها تؤدي إلى الفقر الذي يدفع الفرد إلى الانحراف كرد فعل على وضعه الاقتصادي والاجتماعي السيئ(16)، وحاجته الى توفير أسباب العيش، ورغم أن الفساد يمارس لأسباب كثيرة إلا أن الفقر من أهمها فكثيراً ما تدفع الحاجة الأفراد الى الانحراف، وقد قال الإمام علي (ع) بشأن الفقر ومدى خطورته على المجتمع (لو كان الفقر رجلاً لقتلته) (17).
ويشير مؤشر مدركات الفساد الصادر من منظمة الشفافية الدولية لعام 2007 الى العلاقة الواضحة والقوية بين الفساد والفقر، حيث حصلت %40 من الدول على أقل من ثلاث نقاط من اصل عشرة وجميعها دول منخفضة الدخل حسب تصنيف البنك الدولي (18).
وكما يقول البعض بأنه يجب القضاء على الفساد لأننا إن لم نقض عليه لدينا ثلاث مشاكل النمو مستحيل، وحل المشكلتين الكبيرتين - الفقر و البطالة مستحيل بل على العكس ستتعمق هاتان المشكلتان ويتحولان الى قنبلة موقوتة لتفجير المجتمع، والفساد كما أثبتت التجربة هو مراكز الاختراق الأساسية للعدو الخارجي لذلك لا حل سوى القضاء على الفساد ولا يجب ان يكون السؤال هل يمكن القضاء على الفساد بل القضية يجب أن يقضى على الفساد) (19).
ونود الإشارة إلى أن الفساد الإداري كما هو سبب من أسباب البطالة، فالبطالة في الوقت نفسه سبب ونتيجة للفساد الإداري فكثيراً ما يحرم أشخاص من فرص عمل نتيجة عدم قدرتهم على دفع رشوة للمسؤولين على التوظيف أو نتيجة المحاباة والمحسوبية، الأمر الذي يضطرهم للحصول على فرص عمل من خلال هذه القنوات أو غيرها من القنوات غير المشروعة وبالتالي يكونوا مارسوا الفساد وكرد فعل على ذلك يمارسوه مع غيرهم وهكذا ندخل في (الحلقة المفرغة للفساد الإداري).
رابعاً: انخفاض الرواتب والأجور Deries of Salaries & Wages
إن ما يؤدي اليه انخفاض الرواتب والأجور هو نفس ما تؤدي اليه البطالة من فقر وحاجة، فعندما يجد الموظف أن راتبه لا يكفيه يضطر للبحث عن مصادر أخرى قد تكون مشروعة بادئ الأمر لكنها قد تؤدي الى تصرفات غير مشروعة، إن أقل ما يفكر به الموظف في هذه الحالة هو البحث عن وظيفة أخرى يكون راتبها أعلى حتى وإن كانت غير منتجة، أو ترك الوظيفة والعمل في القطاع الخاص، أو يلجأ الى العمل بعد الدوام الرسمي، أو يمارس الفساد من خلال طلب أو قبول الرشوة أو صور الفساد الإداري الأخرى، وفي جميع الحالات يتأثر العمل الوظيفي سلبياً وينتشر الفساد الإداري (20).
وهذا ما لاحظناه أثناء فترة الحصار الاقتصادي -1990-2003 حيث أضطر الكثير إلى ترك الوظيفة أو العمل بعد الدوام الرسمي، أو ممارسة الفساد من رشوة واختلاس واستغلال للوظيفة، وبقي البعض الأخر يعاني شظف العيش حينما كان راتبه الشهري يساوي (دولاراً ونصف) (21).
ونستطيع القول أنه رغم التحسن النسبي في رواتب الموظفين بعد 2003/4/9، إلا أن سلم الرواتب المعتمد لم يكن عادلاً في توزيع الرواتب، حيث هناك فوارق كبيرة بين بعض الدرجات الوظيفية، ولم يأخذ بنظر الاعتبار تكاليف الحياة بمنح مخصصات الزوجية والأطفال ومخصصات (غلاء المعيشة) التي تأخذ بالحسبان ارتفاع الأسعار وازدياد الحاجات(22).
كما أن الوضع الحالي المتمثل بغياب انسيابية الخدمات الكهرباء، الماء، الوقود، الخدمات الصحية... الخ) ساهم بشكل كبير في تقليل القدرة الشرائية للموظف، بالإضافة الى فرض ضريبة الدخل على الرواتب والأجور والمخصصات التي يتقاضاها الموظفون - والتي كانت معفاة من الضريبة حسب المادة / 7 الفقرة/5 من قانون ضريبة الدخل رقم 113 لسنة 1982 (23). بموجب أمر سلطة الائتلاف المؤقتة (المنحلة) رقم 49 في 2004/2/19 القسم / 11 الذي نص في فقرة 1 على تخضع للضريبة اعتبارا من 1 نيسان /2004 الرواتب والأجور والمخصصات التي يتقاضاها موظفو الدوائر الحكومية والقطاعين العام والمختلط بغية ضمان مشاركة جميع قطاعات المجتمع العراقي في عبء الضريبة وبناءً على ذلك: أ.......
ب- تحذف الفقرة 5 من المادة 77 من قانون ضريبة الدخل رقم 113 لسنة 1982.
خامساً: الثروة الاستخراجية Extractive Wealth
من المفارقات أن تكون الثروة النفطية سبباً للفساد بدلاً من أن تكون سبباً للرخاء لكنها الحقيقة التي أثبتتها الدراسات المتخصصة والتي كشفت أن الثروة الاستخراجية لا تنعكس خيراً على اقتصاديات البلدان ونظمها السياسية، بل على الأغلب تؤدي الى عكس ذلك وهي الظاهرة المعروفة باسم (لعنة الموارد Curse Resources) فهي كما يقال نقمة وليست( نعمة Wealth) ، ومن الآثار السلبية الناجمة عن الموارد المزيد من الفقر ومن انخفاض معدل النمو ومن بطء التطور، حيث تأتي البلدان الغنية بالموارد في أسفل اللائحة في معظم مقاييس التنمية البشرية. وثمة أثر آخر هو الفساد وغياب الديمقراطية عندما تتحول الثروة الناجمة عن الموارد الطبيعية الى حافز قوي للحكم التسلطي وتساهم بجلاء في العنف والحروب الأهلية اذ تتخذ شهوة السيطرة على الموارد أقصى أشكال التطرف، ومن جانب آخر فأن صناعة النفط والغاز من الصناعات ذات رأس المال الكثيف والتي لا تخلق فرص عمل كثيرة وغالباً ما تعتمد البلدان الغنية بهذه الموارد على إيراداتها المعرضة الى صدمات الهبوط المفاجئ في الاسعار وتسمى (البلدان الربعية ) أي التي تعتمد على ربع الأرض المتمثل بالموارد الطبيعية، كما أن تدفق العملة الأجنبية يدعم العملة المحلية مما يؤثر سلباً على تصدير البضائع المحلية وتحدث ظاهرة (المرض الهولندي Dutch Dieses) التي تؤثر على القطاعات الاقتصادية الاخرى مثل الصناعة والزراعة وغيرها (24).
إن العلاقة بين الغنى بالمعادن ونوعية ادارة الحكم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فيما يتعلق بالمستويات المتدنية للمساءلة الخارجية، كانت مصدر وحي لبحث كبير وواسع، وتظهر الدراسات التجريبية الاخيرة أن ريع النفط الخاضع للمداخيل وحجم السكان يملك قدرة تفسيرية كبيرة لضعف إدارة الحكم في هذه المنطقة (25).
واذا نظرنا في مؤشر مدركات الفساد الصادر من منظمة الشفافية الدولية نجد أن الدول الغنية بالنفط تقع في أسفل المؤشر أي أنها حصلت على أوطأ الدرجات وتكون بذلك من أكثر دول العالم فساداً، فعلى سبيل المثال نختار تسع دول غنية بالنفط من مختلف القارات وحسب مؤشر الشفافية العالمية للأعوام 2006، 2005 ، 2004 ، 2003، 2007، نجد الآتي:
أحتلت إيران التسلسل 105 ،78،87،88 و 131 على التوالي، تأتي بعدها روسيا في التسلسل 86، 90، 143، 126،121 ، ثم فنزويلا في التسلسل ،100، 130،138، 14 و 162 ، ثم العراق 113،129، 137، 160 و 178 . اما ليبيا فتحتل التسلسل الآتي 118108،117،105 و 131 ، ثم تأتي إندونيسيا وأنغولا وأذربيجان بتسلسلات متدنية وآخر هذه الدول نيجيريا التي تحتل التسلسل 32،144،152،142 و147 للسنوات المذكورة على التوالي) (26) .
ان ارتفاع مستوى الفساد وضعف نظم الحكم تشكل سمة أخرى شائعة في البلدان الغنية بالموارد، هذه البلدان التي تمتلك موارد طبيعية وفيرة تتجمع غالبيتها في اسفل سلم دليل الحكم الصادر عن البنك الدولي، ومن السهل فهم المنطق الكامن خلف هذه الظاهرة، فعندما تتوفر كميات كبيرة من الثروة في بلد فقير ويكون قرار التصرف بالثروة في ايدي حفنة من الموظفين فان الفساد يحدث بطريقتين على الأقل، الأولى: هناك خطر دخول الرشاوى والامتيازات وادوات الفساد الاخرى في المفاوضات بين المسؤولين الحكوميين والشركات متعددة الجنسيات، الثانية ان ايرادات النفط تسمح للحكومة بأن تصبح اكبر منفق وهذا يدفع الأطراف المهتمة بالتجمع حولها في محاولة لدفع الموظفين الحكوميين لانفاق الاموال بطريقة تعود بالفوائد عليهم وتعرف ب (السعي وراء الريع). ونتيجة لذلك وبسبب التطورات الدولية وما رافقها من انفتاح اقتصادي ودور الشركات متعددة الجنسيات، تأسست بعض المنظمات غير الحكومية التي تهتم بهذه المسألة منها (منظمة مراقبة الدخل Revenue Watch) ومنظمة (أنشر ما تدفع Publish What You Pay ) التي تحرض شركات النفط العالمية على نشر ما تدفعه للبلدان النفطية، وكذلك مبادرة الشفافية في الصناعة الاستخراجية Extractive Industrial Transparency Initiative المعروفة اختصاراً EITI، ومنظمة غلوبال ووتش (الشاهد العالمي ) هدفها كشف العلاقة بين الموارد الطبيعية وبين الصراعات المسلحة وانتهاك حقوق الانسان والفساد في هذه الدول، وايجاد الحلول والمعالجات(27).
__________
1- أنظر - د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997، ، ص 104 وما بعدها.
2- انظر الموقع: http://www.annabaa.org 3
3- أنظر د عبد الرحمن محمد العيسوي، سيكلوجية الإدارة – الدار الجامعة الإسكندرية 1999 ، ص 243.
4- أنظر:- د. صلاح الدين فهمي محمود الفساد الإداري كمعوق لعمليات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، دار النشر بالمركز العربي للدراسات الامنية والتدريب بالرياض، 1994 ، ص 143 وما بعدها.
5- أنظر د. صلاح الدين فهمي محمود الفساد الإداري كمعوق لعمليات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، دار النشر بالمركز العربي للدراسات الامنية والتدريب بالرياض، 1994 ، ص 145 وما بعدها.
6- للمزيد عن الفساد في الدول الاشتراكية :أنظر
The End of Communist Leslie Holmes p5. 1993 Cambridge Anti.Corruption Campaigns Legitimation Crises Power
7- أنظر: د. صلاح الدين فهمي محمود مصدر سابق، ص 147.
8- أنظر: د. صلاح الدين فهمي محمود مصدر سابق، ص 148.
9- الفساد والتنمية، مكتب الإعلام الخارجي، وزارة الخارجية الامريكية تشرين الثاني 1998، ص5.
10- للمزيد أنظر د. شادية فتحي، الآثار السياسية للتحول حالة روسيا محرر .د. مصطفى كامل السيد ود. صلاح سالم زرنوقة، الفساد والتنمية القاهرة، 1999، ص 109 وما بعدها.
11- أنظر د شادية فتحي، انماط الفساد وتكلفته، مجلة الأهرام الاقتصادي، العدد / 1600، 1999، ص 23 .
12- لمزيد من التفصيل أنظر ملف البطالة ملحق صحيفة الصباح، العدد 832، 13 أيار 2006.
13- نود الإشارة الى أن قانون العمل العراقي رقم 71 لسنة 1987 النافذ قد نص في المادة / 3 على أن: ( أن العمل واجب مقدس يمليه الشرف وتستلزمه ضرورة المشاركة في بناء المجتمع وتطويره وازدهاره)، وهذا يعني أن الفرد يجب أن يعمل إذا توفرت له الفرصة وعلى الدولة أن تهيئها للمزيد من التفصيل - أنظر أستاذنا الدكتور محمد علي الطائي، محاضرات ألقيت على طلبة الدكتوراه القسم العام، كلية القانون جامعة بغداد للعام الدراسي 2003 2004.
14 - ملف البطالة ملحق صحيفة الصباح، العدد 832، 13 أيار 2006.
15- للمزيد من التفصيل، أنظر : د. غزوان هادي الأبعاد الاجتماعية للبطالة، مقال منشور في صحيفة الصباح، العدد 832،13 أيار 2006 ص13
16- أنظر:- د. معتز محي عبد الحميد الانحراف والعوامل المحفزة له مقال منشور في جريدة الصباح، العدد 855 في 8 حزيران 2006
17- للمزيد من التفصيل عن الفقر في العالم، أنظر البنك الدولي للإنشاء والتعمير، مؤشرات التنمية في العالم 2000، الناشر مركز معلومات قراء الشرق الأوسط "ميريك" ، ط 1 ، آذار ، 2000، ص 62 - 64.
18 - أنظر الموقع :www.transparency.org/cpi/index
19- مقال منشور في الحوار المتمدن، العدد 1592 25/6/2006، أنظر الموقع http://www.rezgar.com/debat
20- للمزيد، أنظر الفساد في الحكومة، ندوة الامم المتحدة مصدر سابق، ص13
21- في لقاء شخصي مع الإستاذ الدكتور مصطفى كامل السيد في القاهرة بتاريخ 2006/2/4 أكد أن انخفاض الرواتب والأجور من أسباب الفساد الإداري، لكن زيادتها قد تؤدي الى التضخم النقدي وارتفاع الأسعار.
22- جاء في دراسة ميدانية من أن قلة الرواتب واستنزافها بفعل التضخم ووجود الفرق بين أقل راتب وأعلى راتب من أسباب الفساد الإداري، أنظر د عبد الرضا فرج بدراوي، الفساد الإداري في العراق، الأسباب ووسائل المعالجة كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة البصرة، 2004 ، ص 15
23- نصت هذه المادة على ما يأتي تعفى من الضريبة المدخولات الآتية: 5. الرواتب والأجور والمخصصات التي يتقاضاها منتسبو دوائر الدولة والقطاع الاشتراكي والمختلط عن عملهم فيها ولا يشمل المدخولات المتأتية لهم من غير هذه المصادر.
24- أنظر: جيم شولتز، دليل مراقبة الموازنات وايرادات النفط والغاز، مقدم في ورشة العمل التي نظمها برنامج ( ريفينيو ووتش ) التابع الى معهد المجتمع المنفتح (OSI) في بودابست 2004، ص 7.
25- البنك الدولي، إدارة حكم أفضل لأجل التنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مصدر سابق، ص 120.
26- أنظر www.tranparency.org/cpi
27- أنظر جيم شولتز، دليل مراقبة الموازنات وايرادات النفط والغاز، مقدم في ورشة العمل التي نظمها برنامج ( ريفينيو ووتش ( التابع الى معهد المجتمع المنفتح (OSI) في بودابست 2004، ، ص 19 وما بعدها.
28- أنظر: عبد الغني اليعقوبي، التفاوت الاجتماعي والتفاوت الطبقي مقال منشور على الموقع:
http://www.rezgar.com
الاكثر قراءة في القانون الاداري
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة