الصور التي يحكمها القانون الإداري
المؤلف:
صباح عبد الكاظم شبيب الساعدي
المصدر:
دور السلطات العامة في مكافحة ظاهرة الفساد الإداري في العراق
الجزء والصفحة:
ص 116-125
2025-11-01
61
تعتبر المخالفات الوظيفية من صور الفساد الإداري التي يحكمها القانون الإداري، وفي الواقع أنها غير محددة فهي تختلف باختلاف المؤسسات الحكومية وأنظمتها، وكذلك تختلف من ظرف الى آخر، ولكن يمكن القول أنها تقع ضمن (نص م 4 عدم قيام الموظف بواجباته الوظيفية ونص م5 الإتيان بإحدى المحظورات) من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم 14 لسنة 1991 وقد نص القانون المذكور في م/7 على أنه ( إذا خالف الموظف واجبات وظيفته أو قام بعمل من الأعمال المحظورة عليه يعاقب بأحدى العقوبات المنصوص عليها في هذا القانون ولا يمس ذلك بما قد يتخذ ضده من إجراءات أخرى وفقاً للقوانين ذات العلاقة).
وجدير بالذكر أن القانون لم يحدد المخالفات بل حدد العقوبات في م/8 (1) ، وترك تقدير الفعل على أنه مخالفة من عدمه إلى المسؤول الإداري المخول بفرض العقوبة وفقاً للمبدأ العام في القانون الإداري - لا عقوبة إلا بنص - على عكس المبدأ العام في قانون العقوبات (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ) (2)
ونستطيع القول أن ظاهرة الفساد الإداري تزداد في مجال المخالفات الإدارية لعدة أسباب لعل أهمها؛ عدم وجود عقوبة جزائية على مرتكب المخالفة، وسهولة التستر عليها وإخفائها، والتساهل من قبل المسؤول الإداري وغياب الرقابة وعموماً وجود وانتشار ظاهرة الفساد الإداري حيث تبدأ ما يسمى الحلقة المفرغة، ومن أبرز هذه المخالفات هي الآتي:
الفرع الأول: التسيب الوظيفي
ويتمثل في مخالفة القوانين والأنظمة والتعليمات مثل عدم الحضور إلى مقر العمل في الموعد المحدد، والخروج قبل انتهاء مدة العمل أو عدم التواجد في مكان العمل المخصص لفترات طويلة دون سبب معقول إضافة إلى عدم استغلال وقت العمل الرسمي في أداء الواجبات الوظيفية والانشغال بأعمال غير رسمية أو شخصية أثناء وقت العمل(3).
وتشكل كل حالة من الحالات المذكورة مخالفة أداريه يعاقب عليها قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام، لكنها تتحول إلى ظاهرة فساد إداري عندما تتكرر من قبل مجموعة من الموظفين ويتزايد عددهم باستمرار، مما يشكل ظاهرة عامة في المؤسسة الحكومية تؤثر بشكل واضح على سير العمل والانضباط الوظيفي.
وقد انتشرت هذه الظاهرة في العراق حالياً انتشاراً واسعاً، بل وصل الأمر إلى أن هناك موظفين لم يأتوا أصلاً إلى الدوام الرسمي ويتقاضون رواتب كاملة وحتى مخصصات إضافية، والأدهى من ذلك أن هناك موظفين لم يكونوا موجودين بالفعل إنما هم مجرد أسماء وهمية يتقاضى بعض الأشخاص رواتبهم و يسمون (الموظفون الأشباح) (4).
وسبب ذلك هو الفوضى السياسية و الإدارية والاجتماعية، ففي غياب نظام سياسي قوي ونظام إداري رصين ومنظومة اجتماعية راسخة تزداد هذه الظواهر وتتكاثر بل تترسخ وتصبح تقليداً أو مكسباً يتباهى البعض بالحصول عليه، الأمر الذي يؤدي بالآخرين إلى الانجرار إلى تلك الظاهرة لما يجدونه من طريقة سهلة للحصول على الراتب دون تعب كما يعود ذلك ايضا إلى عدم الشعور بالمسؤولية وفقدان روح المواطنة وغياب الضمير أو بسبب الأنظمة الإدارية المتخلفة التي تزرع اليأس والهزيمة في نفوس الموظفين، ولا تقل ظاهرة التسيب خطورة عن صور الفساد الإداري الأخرى فمن الموظفين من يكتفي بالتوقيع صباح كل يوم في سجلات الحضور وينصرف بعدها بدقائق للتفرغ لشؤونه الخاصة، بل أن التسيب قد بلغ ذروته عند بعض الموظفين عندما يقتصر تواجده بالإدارة على يوم أو يومين في الأسبوع ليتفرغ للقيام بأعمال تجارية أو غيرها بقية أيام الأسبوع مقابل التنازل عن جزء من راتبه لمن يقوم بعمله من زملائه (5).
وقد انتشرت ظاهرة التنازل عن الراتب بادئ الأمر في العراق أثناء الحرب العراقية الإيرانية حيث أخذ بعض العسكريين التنازل عن راتبهم أو جزء منه مقابل عدم التواجد في الوحدة العسكرية أو التخلص من جبهات القتال، وازدادت في الوقت الحاضر بشكل واسع نتيجة ضعف الرقابة والوضع السياسي والإداري غير المستقر، حيث يجري بعض الموظفين موازنة بين ما يتنازل عنه وما سيحصل عليه مقابل هذا التنازل. لذلك لا بد من وجود رقابة صارمة ودقيقة ونزيهة للحد من التسيب ونرى أن الرقابة التقليدية من قبل الأشخاص غير مجدية وإنما استخدام التقنية الحديثة في تسجيل الحضور والغياب من خلال ( البطاقة الإلكترونية) ولكن هذا يتطلب في الوقت نفسه توفير مستلزمات العمل وتسهيل وصول الموظف الى مقر عمله في الوقت المحدد (6).
ومن قبيل حالات التسيب ايضاً تناول الإفطار الجماعي أثناء العمل وقراءة الصحف واستقبال الضيوف في المكاتب وتبادل الزيارات وقضاء الموظفات بعض الحاجات المنزلية أثناء العمل مثل (الحياكة، تحضير وجبة طعام.. الخ) والسماح للباعة المتجولين بدخول الإدارات و يؤدي التسيب إلى إشاعة الفوضى في الأجهزة الإدارية وإهدار مصالح المواطن الذي إذا ما استشعر الإهمال والظلم من جانب الإدارة وترتب على ذلك ضياع حق من حقوقه فأنه لا يقف بإدانته عند حد القطاع الإداري وحده، بل ستشمل إدانته لنظام الدولة كله أيا كانت سلامة الأسس التي يقوم عليها هذا النظام وقدر ديمقراطيته، ويكمن السبب الرئيس والجوهري لتفشي التسيب أولاً في ضعف الخلق وعدم القناعة لدى بعض الموظفين، فضلاً عن انتفاء صفة الأمانة وغياب الضمائر الحية المؤمنة لدى أكثريتهم، كما يكمن أيضا في غياب الرقابة، فالرقابة الذاتية أو الداخلية ضعيفة فلا يمارس الرئيس رقابة جدية على مرؤوسيه ولا ينظر الى شكاوى الجمهور إلا على أنها شكاوى (كيدية) لا على أساس أنها بداية لتحريك الرقابة، وكذلك الرقابة الخارجية لا تقوم بدور فاعل فهي غالباً لا تتحرك إلا بعد وقوع المحظور وارتكاب المخالفات وضياع الحقوق(7).
إن التسيب الإداري يعني عدم الاكتراث بمصالح المواطنين وعدم شعور الموظفين بالمصلحة العامة لذلك استخدمت مفردات كثيرة تدل على التسيب مثل تعال غداً، أنتظر أسبوعا، لماذا الاستعجال الموظف في إجازة، لدينا جرد، عندنا أجتماع... الخ (8).
الفرع الثاني:
الوساطة والمحسوبية والمحاباة
أن الوساطة والمحسوبية والمحاباة من صور الفساد الإداري التي يحكمها القانون الجنائي، ولكن هناك حالات أقل حدة من سابقاتها وتكاد تكون ممارسة اعتيادية في تعامل الموظفين مع المواطنين أو فيما بينهم لإنجاز أعمال لا تشكل جريمة، بل هي أعمال مشروعة قانوناً، إنما فيها تفضيل البعض على الآخرين من حيث الوقت أو الأولوية، مثل تسهيل الحصول على إجازة معينة أو وثيقة رسمية، أو التعيين في وظيفة مع توفر المؤهلات المطلوبة، ويرى بعض الباحثين أن أي نظام إداري في العالم لا يخلو من ممارسة الوساطة(9)
إلا أن سعة تفشي ذلك تختلف من نظام لآخر، فمجتمعات الدول المتقدمة لا تعاني من الوساطة مثلما تعانيه مجتمعات الدول النامية، ويلجأ الموظف للوساطة في حالات كثيرة تسهيلاً لإنجاز طلباته التي قد تمر بإجراءات طويلة مثل طلبات (النقل، الترقية، الترفيع... الخ). أما المواطن فيلجأ إلى الوساطة سواء كانت معاملاته مع الإدارة مشروعة أو غير مشروعة. فإذا كانت غير مشروعة فيحاول أن ينجزها من خلال الوساطة وهنا تشكل الحالة جريمة جنائية كما في حالة تمرير معاملة مزورة لغرض الحصول على وظيفة عامة أو على وثيقة رسمية، أما إذا كانت المعاملة مشروعة فيلجأ المواطن إلى الوساطة لعدة أسباب منها:- تعقيد الإجراءات وعدم قدرة المواطن العادي على فهمها أو اجتيازها ومن ثم حاجته إلى من يعاونه، أو قد تكون الإجراءات شكلية وليست موضوعية كما في حالة كثرة التواقيع والموافقات على المعاملة وبالتالي يمكن اختراقها بسهولة من خلال الوساطة، أو قد تكون الوساطة شكلاً من أشكال تبادل المصالح فصاحب الخدمة اليوم هو طالب الخدمة غداً، وباختصار أن السبب الرئيس في كل الصور السابقة هو افتقار أسس العدالة والموضوعية في التعامل مع المواطنين(10).
ونرى بكل وضوح الآن انتشار الوساطة في العراق إلى حد غير معقول فهي تأتي حلاً وسطاً بين عدم إنجاز المعاملة في دوائر الدولة، وبين إنجازها في زمن طويل يستغرق جهداً ووقتاً ومالاً أو دفع الرشوة والسبب في ذلك هو الفساد الإداري المنتشر حيث يتعرض طالب الخدمة الى الابتزاز في الحصول على الموافقات لذلك يلجأ الى الوساطة (11) .
أما المحسوبية Nepotism والتي يطلق عليها البعض المحاباة Favoritism وفي بعض الدول تسمى (الاستثناءات Exceptions) وتعني الخروج على القوانين والأنظمة والتعليمات لصالح آخرين تربطهم بالموظف رابطة القرابة أو النسب أو الصداقة أو (الشللية) كما تسمى أحيانا، ويمكن التمييز بين نوعين من صور المحسوبية الأولى: المحسوبية الاجتماعية وتسمى أحيانا المحاباة الشخصية وهي تعني محاباة الأقارب والأصهار والأصدقاء والمعارف وأقاربهم في التعيين مثلاً دون النظر لاعتبارات الكفاءة والجدارة وهذا ما يحدث في بعض الدول الأفريقية (12).
وفي مصر مثلاً كان التعيين في غالبية الوظائف لا يتم إلا عن طريق المحاباة الشخصية وهذا ما دفع سعد زغلول إلى أن يقول أني آسف كل الأسف لأن أقاربي غير أكفاء وإلا عينت منهم في كل مكان ولكان عندنا حينئذ إدارة زغلولية أسماً ومعنى ودما. أما الصورة الثانية فهي المحسوبية السياسية ويقصد بها مكافأة أنصار الحزب الحاكم ومؤيديه بالتعيين والترقية وعقاب الخصوم بالحرمان أو الفصل دون النظر لاعتبارات الكفاءة والجدارة، ولم يقتصر ذلك على تعيين كبار الموظفين بل يشمل الصغار أيضاً، ومن ثم تستخدم المحسوبية كدعاية حزبية، وهذا ما يؤدي إلى إفساد الحياة الإدارية بوجه عام، ومن مظاهر المحسوبية السياسية حرص ممثلي الشعب حين يصبحون نواباً على أرضاء رغبات ناخبيهم لا بتحقيق مشروعات عامة نافعة بل السعي لأداء خدمات شخصية للبعض (13).
ويترتب على انتشار ظاهرة المحسوبية في الدول النامية شغل الوظائف بأشخاص غير مؤهلين مما يؤثر على انخفاض كفاءة الإدارة في تقديم الخدمات وهذا ما دفع بعض الدول الى تحريم المحسوبية في تشريعاتها (14)
ويرى البعض أن الأسباب التي أوجدت المحسوبية تختلف من دولة لأخرى فقد تكون المواريث الاجتماعية المختلفة التي توارثت نتيجة الاستعمار أو الإقطاع أو وجود نظم حزبية فاسدة تطبق نظام الغنائم أو أسباب طائفية أو مذهبية أو عشائرية أو غير ذلك (15).
ومن جانبنا نرى أن هناك أكثر من سبب، فما يحصل عندنا الآن في العراق من انتشار ظاهرة المحسوبية بشكل خطير له عدة أسباب منها نظام المحاصصة في تولي الوظائف، الأمر الذي دفع بعض المسؤولين إلى تعيين الأقارب والأصدقاء، أو تعيين البعض على أسس حزبية أو طائفية أو قومية في المؤسسات التي يديرونها وكذلك الوضع الأمني السيئ وضعف القانون الذي دفع الكثير من الموظفين في الوظائف المتقدمة للاحتماء بأبناء عشيرتهم أو بإحدى الجهات التي ينتمون إليها سواء كانت سياسية أو اجتماعية.
الفرع الثالث:
مخالفة القواعد المالية
تنص القوانين والأنظمة على القواعد والإحكام التي تنظم سير العمل الإداري والمالي داخل المؤسسات الحكومية سواء كانت مركزية أو غير مركزية مثل الشركات العامة التي لديها قواعد تتماشى مع طبيعة عملها وتتفق مع القوانين والأنظمة، وعندما يخل الموظف بهذه القواعد عمداً من أجل المصلحة الخاصة يكون قد أرتكب مخالفة إدارية، أما إذا كان الفعل يشكل جريمة فيكون قد ارتكب فعلا جنائياً (16). والواقع أن أغلب حالات الفساد الإداري ترتكب من خلال مخالفة القواعد المالية لما فيها من تماس مباشر مع عامل الإغراء الأول وهو (المال) و يطلق على هذه المخالفات أحياناً (الفساد المالي) لأن الهدف الأول والأخير منها هو الحصول على المال.
وتتعدد القواعد المالية فهناك القواعد الخاصة بنظم الرواتب والأجور والمكافات والحوافز، وقواعد الشراء والمناقصات والمزايدات وقواعد الإيداع والسحب والصرف، وقواعد المحاسبة. كذلك تتعدد الجهات ذات العلاقة بالعمليات المالية في المؤسسات الحكومية فهناك المصارف والبنوك وشركات التأمين، ودوائر الضريبة، والخزينة العامة وديوان الرقابة المالية، ولكل واحدة من هذه الجهات قواعد وإجراءات خاصة إضافة الى القواعد العامة الموجودة في القوانين والأنظمة والتعليمات، وبذلك قد يخالف الموظف إحدى هذه القواعد للحصول على المال من خلال التزوير أو إخفاء بعض المعلومات أو المستندات والوثائق، أو إعطاء معلومات غير صحيحة أو مضللة.
وقد اعتبر أمر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم 777 لسنة 2004 في القسم 2/ المادة 9 المعدل للمادة / 10 - اولاً من قانون ديوان الرقابة المالية رقم 6 لسنة 1990 المخالفات المالية من حالات الفساد الإداري ويجب على الديوان إصدار أمر الى مكتب المفتش العام في الجهة المعنية لإجراء التحقيق وتصحيح المخالفة، أو تبليغ مفوضية النزاهة فورا اذا كانت المخالفة من المفتش العام.
الفرع الرابع: السلبية Negativism
ويقصد بها جنوح الموظف إلى عدم إبداء الرأي وإلى اللامبالاة وعدم الميل إلى التجديد والتطوير والابتكار، والعزوف عن المشاركة في اتخاذ القرارات، الأمر الذي يصل بالموظف إلى حد القناعة بتلقي التعليمات من غيره دون مناقشة، ويعود ذلك إلى انخفاض الروح المعنوية للموظف العام وعدم ارتباطه بالعمل والإدارة وفقدانه الانتماء والولاء للمنظمة الإدارية التي يعمل بها، وتؤدي هذه الصورة إلى مقاومة التغيير وعدم الرغبة في التجديد وانخفاض الرغبة في التعليم واكتساب المهارات(17).
ومن مظاهر السلبية
1. عدم الالتزام بأوامر وتعليمات الرؤساء وقد يكون السبب في ذلك ممارسات الرؤساء السلبية تجاه الموظفين، ولكن الاغلب ان يكون السبب من المرؤوسين.
2 . محاولة الموظف تجنب المسؤولية ويظهر ذلك من خلال تحويل الأوراق الرسمية إلى مستوى إداري أقل أو أعلى، والتهرب من التوقيع والتفسير الضيق للقوانين والأنظمة والتعليمات حتى لا يتحمل مسؤولية أي اجتهاد أو تفكير إبداعي، ويترتب على ذلك استفادة عدد قليل من بعض هذه القوانين مقابل حصول طالبي الخدمة على أقل فائدة (18) . ونتيجة لذلك فإنه كلما قلت قدرة الموظف على تحمل المسؤولية كلما قلت مشاركته في أداء العمل وزاد احتمال سلبيته تجاه العمل، وهذا ما يلاحظ بشكل ملموس في إحالة معاملات المواطنين من موظف إلى آخر بما يشبه الحلقة المفرغة حيث تعود بالنهاية إلى المربع الأول وكان بإمكان الموظف الأول إنجاز العمل دون إحالته إلى الآخرين.
3. الانعزالية Exclusiveness: وتعني عدم رغبة بعض الموظفين في التعاون مع زملائهم في العمل وعدم تشجيعهم للعمل الجماعي، وقد يعود السبب إلى نزوعهم إلى الاستقلال أو بسبب سوء التنظيم الإداري الذي لا يشجع على العمل الجماعي ويضعف من شعور الفرد بانتمائه إلى الجماعة (19).
4. إفشاء المعلومات أو التكتم عليها - يمكن أن يشتد ساعد الأشخاص الضالعين في الفساد، فينتقل إلى مرحلة التكتم على المعلومات التي من غير الجائز التكتم عليها، ومن أمثلة ذلك السكوت على سرقات أو اختلاسات وممارسات غير قانونية سواء كان ذلك بمقابل مادي أو معنوي أو بدون مقابل، وكذلك قد يفشي الموظف معلومات سرية بهدف الحصول على مكسب مادي أو معنوي، ومن أمثلة ذلك أن يفشي أمورا تتعلق بالمناقصات الخاصة بالدائرة التي يعمل فيها لصالح بعض المتنافسين للحصول على العطاء، مما يؤثر سلبا على قاعدة التنافس الشريف وعلى فرصة مؤسسته في الحصول على أحسن العروض المقدمة(20).
5. التراخي Tardiness تعني كلمة التراخي في اللغة العربية التباطؤ ، وهو امتداد الفترة الزمنية اللازمة لإنجاز العمل وفي اللغة الانكليزية تعني التأخير، والتراخي يشير إلى موقف القيادات الإدارية من السلوكيات السلبية للموظفين وتباطؤهم في إنجاز الأعمال المطلوبة منهم، وهو ما يدعى بالتساهل أي سكوت الرؤساء عن إساءات مرؤوسيهم وهذا سبب مهم ورئيس في انتشار الفساد، فقد يستغل التساهل لارتكاب المزيد من الأخطاء، ويميل معظم العاملين في الدول النامية إلى التراخي والتكاسل ولا يحفزهم إلا الحافز المادي أو الخوف من العقوبة التي تصيب هذا الحافز، ويرجع البعض سبب هذه الظاهرة إلى زيادة عدد العاملين في الدولة الذي أدى إلى عدم إسناد عمل لبعض الموظفين وهو ما يسمى (البطالة المقنعة) ومن الأمثال التي تتردد بهذا الشأن هو (يوم الحكومة بسنة) (21). وهذا عكس ما نراه في الدول المتقدمة حيث الالتزام بإنجاز العمل المطلوب ضمن الوقت المحدد وغياب ظاهرة التكاسل أو التراخي أو التهرب من العمل (22).
6. النكوص Regression: ويعني لغوياً الإحجام عن العمل أو الرجوع عنه، وفي مجال الإدارة يعني إخلال الموظف ، بوعد قطعه على نفسه في أن يقوم بعمل معين خارج نطاق العمل المكلف به أو أثناء الإجازة، وهذا يعتبر استخفافاً بالواجب وعدم التعاون مع الإدارة (23).
7. امتناع الموظف عن أداء العمل المكلف به : . تحدث هذه الحالة عندما يرفض الموظف أداء العمل الذي يكلف به من قبل رؤسائه، أو أعمال وظيفته اليومية بصورة مباشرة أو بتأخير انجازها تأخيراً ضاراً، ويمكن إرجاع أسباب هذه الظاهرة إلى ما يتردد بين الموظفين من قول (على قدر الراتب) وهذا المثل يعكس مدى انخفاض الرواتب والأجور التي لا تتناسب مع الجهد اللازم لإنجاز الأعمال المطلوبة منهم (24). أو أسباب أخرى مثل عدم الشعور بالمسؤولية الاستهانة بالواجب، عدم الاندفاع أو الإخلاص في العمل.
الفرع الخامس: عدم المحافظة على كرامة الوظيفة
يجب على الموظف أن يحافظ على كرامة الوظيفة وإن يسلك في تصرفاته السلوك اللائق مع مركز الوظيفة ومخالفة هذا المبدأ هو أن يقوم الموظف بتصرفات لا تليق به من خلال تعامله مع الآخرين، أو يقوم بإفشاء أسرار المنظمة، أو أسرار الأفراد المتعاملين معها من خلال إطلاع ذوي الشأن على التقارير السرية أو المخاطبات الرسمية الخاصة أو البيانات المتعلقة بأحد الزبائن وخاصة في مجال العمل المصرفي، أو إطلاع الآخرين على وثائق المناقصات أو المزايدات وقد نص قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم 14 لسنة 1991 في م/5 الفقرة/14 على ذلك (25).
ومن مظاهرها أيضاً العمل خارج أوقات الدوام الرسمي بدون إذن الإدارة بما لا يتلاءم مع كرامة الوظيفة، وقد انتشرت هذه الظاهرة أثناء فترة الحصار الاقتصادي نتيجة الحاجة إلى العيش فقد كان الموظف لا يتقاضى راتباً سوى ــ دولاراً أو دولارين، الأمر الذي دفع الدولة بالسكوت عن هذه الظاهرة، ولكنها ما زالت مستمرة رغم التحسن النسبي للرواتب ومن آثار هذه الصورة السلبية إنها تضعف قدرة الموظف على العمل نتيجة الإجهاد في العمل الثانوي، كما يصرف كل اهتمامه إلى العمل الثانوي على اعتبار أن العمل الوظيفي مضمون الأجر.
كما تسبب احتكاكه بالآخرين مما يولد علاقات غير نزيهة مع الأفراد لإنجاز أعمال غير مشروعة، بالإضافة إلى إنها تؤدي إلى مصادرة فرص الآخرين بالحصول على عمل فقد يكون الموظف متنفذاً ويستطيع الحصول على عمل ثانوي كان بالإمكان أن يكون لشخص آخر عاطل عن العمل وبالتالي تزداد الأنانية والتنافس غير المشروع بين المواطنين. وفي هذا السياق ندعو إلى تفعيل القوانين والقرارات التي تمنع الموظف من العمل خارج الدوام الرسمي بدون إذن الإدارة للأسباب التي ذكرناها مع ضمان توفير راتب يكفي لسداد الحاجات اليومية (26).
الفرع السادس : -
التمييز بين المواطنين:
إن التمييز بين المواطنين الذين يتجهون للعمل الحكومي أو الاستفادة من خدماته هو أول خطوة على طريق الفساد الإداري، فالأصل أن الإدارة العامة خادمة لكافة فئات الشعب، وأن الموظف العام ملزم بمعاملة الجميع وفق معيار واحد، لأن مواصفات الإدارة تتمثل باللاشخصية Impersonality والرسمية Formality في تعامل الموظفين مع المواطنين، كما يفترض أن يتم التوظيف في الجهاز الإداري على أسس الكفاءة والتأهيل ويعتمد أسلوب التنافس بين المتقدمين على قاعدة المساواة، ويترسخ هذا المفهوم في الدول المتقدمة إدارياً عن طريق تعريف الموظفين من خلال دورات التدريب الأساسي Orientation Training التي تعطى لهم بأن المواطنين هم دافعو الضرائب التي تمول منها الأجهزة الإدارية ومنها تدفع رواتب العاملين، وهو أمر يرسخ قواعد للتعامل السليم مع المواطنين(27).
أما إذا تم تجاوز هذين الأساسين في عمل الأجهزة الحكومية فإن هذا يعتبر نذير خطر وخلل في آن واحد، ذلك أن الموظف الذي يتم تعيينه وفقاً لاعتبارات تتجاوز التأهيل في العمل، يدرك عندها أن قواعد اللعبة غير عادلة، وأنه يمكنه التصرف على هواه، وأن ذلك أمر مسموح به من قبل أصحاب القرار، كما أن المواطن الذي يستثنى من العمل رغم جدارته ولاعتبارات لا يتم تفسيرها له يدرك عندها أن هناك سياسة تقوم على التمييز، مما يشعره بالاغتراب والإحباط ويفقده الثقة بالنظام الإداري، خاصة إذا ما عرف أن هذه ليست حالته الخاصة بل حالة عامة، وتكتمل الصورة عندما تتضح للمتعاملين مع الإدارة أن الموظفين يتخاطبون بأسماء عائلاتهم وليس بأسمائهم الفردية، بل يعرف الموظف نفسه بأنه يعمل عند أو مع فلان (مدير المؤسسة ) وليس في المؤسسة المعنية(28).
إن معنى ذلك أن ينتقل ولاء الموظف من للدولة إلى الشخص المسؤول في الدائرة أو لعائلته، فتصبح دوائر الانتماء الضيقة هي أساس الانتماء بدل الولاء للدولة ككل، ويعزز مثل ذلك السلوك ما تؤكد عليه بعض طلبات التوظيف من ضرورة ذكر بلد الولادة الأصلي أو مكان ولادة الأب أو الجد أو الدين، وهي أسئلة لا علاقة لها بالعمل ولا يستشف منها أية قدرات قد تحتاجها الوظيفة، ويستتبع هذا التمييز في التوظيف أن يرى الموظفون أن واجبهم هو خدمة أنفسهم ومناطقهم لأنهم عينوا أصلاً وفقا لهذه الاعتبارات، ولا يروا أن واجبهم هو خدمة كل المواطنين وبنفس الدرجة من المساواة في المعاملة، وبذلك تصبح المؤسسات الحكومية بمثابة مراكز تمثل مناطق جغرافية أو تقسيمات عائلية وهو أمر يبيح للعاملين فيها استغلال المال العام بالطريقة التي يقررونها، ذلك لأن منظومة القيم الاجتماعية السائدة تسعفهم على ذلك حيث يصبح الموظفون قادرين على انتقاء أو تحريف قصص التراث وحتى الأحاديث النبوية والآيات القرآنية بشكل يدعم مواقفهم وتصبح الأجهزة الإدارية بمثابة مزارع خاصة، ينهش منها الجميع وحسب شطارتهم وليس حسب قدراتهم ومساهمتهم في العمل، ويبدأ هذا السلوك يتعمم من جهاز إداري إلى جهاز إداري آخر، ومن المؤسسات المدنية للمؤسسات العسكرية، ومن ثم للمعاهد والكليات والجامعات ومراكز البحث العلمي، ثم للشركات الحكومية، ثم شبة الحكومية، ثم الشركات الخاصة التي يكون لها ارتباطات عمل مع هذه الجهات الحكومية، وينتهي الأمر بأن يصبح البلد في حالة استقطاب بين مواطنين حاكمين وآخرين محكومين لأنهم مستبعدين (29)
من ما تقدم يتبين لنا أن الفساد الإداري له صور متعددة لا يمكن حصرها بل هي متغيرة من ظرف الى آخر ومن مجتمع الى آخر، لكنها تشترك في أن جميعها استغلال للوظيفة من اجل المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة، ولهذه الصور أسباب متعددة، تختلف من صورة الى أخرى ومن ظرف الى آخر ..... .
____________
1- وهذه العقوبات -هي لفت النظر الإنذار، قطع الراتب، التوبيخ إنقاص الراتب تنزيل الدرجة، الفصل العزل.
2- أنظر م / 1 من قانون العقوبات.
3- انظر: د. صلاح الدين فهمي محمود الفساد الإداري كمعوق لعمليات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، دار النشر بالمركز العربي للدراسات الامنية والتدريب بالرياض، 1994 ، ص 41. وكذلك د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997، ص 44.
4- انتشرت هذه الظاهرة بشكل ملفت للنظر في فلسطين بعد تأسيس السلطة الوطنية فيها. وفي العراق بعد 9 / 4 / 2003، وهناك الكثير من الإحصاءات عن هذه الحالة وقد أعترف بها أكثر من مسؤول في الحكومة وآخر ذلك ما صرح به السيد وكيل وزارة الداخلية من أن هناك 26 الف اسم وهمي في قيادة شرطة البصرة، قناة البغدادية الفضائية 25 / 6 / 2007.
5- أنظر د. إبراهيم عبد العزيز شيحا، أصول الإدارة العامة الإسكندرية منشأة دار المعارف 2004 ، ص 456 .
6- تيسر لنا مشاهدة هذا النظام خلال زيارتنا الى بعض الدول الأوربية عام 2007. وقد طبق اخيرا في مركز وزارة النفط.
7- أنظر: د. إبراهيم عبد العزيز شيحا، أصول الإدارة العامة الإسكندرية منشأة دار المعارف 2004 ، ص 457 وما بعدها.
8- انظر:- د. محمد قاسم القريوتي، الإصلاح الإداري بين النظرية والتطبيق، الطبعة الأولى دار وائل للنشر، عمان ، ص 39.
9- جدير بالذكر أن لمفهوم الوساطة وجه إيجابي وذلك في حل النزاعات أو الخلافات كما هو الحال في العلاقات بين الدول.
10- انظر: د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997، ص 50.
11- يطلق على الوساطة بهذا الشكل في العراق عبارات عامية مثل ( فيتامين واو، عمامة، ظهر.. الخ )
12- أنظر نبوية علي محمود الجندي، الفساد السياسي في الدول النامية مع دراسة تطبيقية للنظام الإيراني حتى قيام الثورة الإسلامية ( 1941- 1979) رسالة ماجستير ، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، جامعة القاهرة 1983 ، ص 35
13- انظر:- د. أحمد محمد عبد الهادي، مصدر سابق، ص 49.
14- أنظر فادي فرحات، ثالوث المحاصصة والمحسوبية والواسطة يحول دون إتمام الإصلاح الإداري في لبنان، مقال منشور في جريدة العهد 10/ 11 / 2000.
15- انظر: د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997، ص 49.
16- أنظر د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997، ص 50.
17- نود الإشارة الى أننا أطلقنا عبارة ( الموظف الروبوت ) على الموظفين الذين لا يبدعون ولا يجتهدون وكأنهم أجهزة روبوت مبرمجة، أثناء محاضرات عن القرار الإداري القيناها في وزارة النفط عام 2002.
18- أنظر د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997، ص 45
19- أنظر- د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997، ص 46.
20- انظر: د. محمد قاسم القريوتي، الإصلاح الإداري بين النظرية والتطبيق، الطبعة الأولى دار وائل للنشر، عمان، ، ص 40.
21- انظر:- د. أحمد محمد عبد الهادي، مصدر سابق، ص44 وما بعدها.
22- توفرت لنا فرصة ملاحظة ذلك خلال زيارتنا الى بعض البلدان الأوربية عام 2007.
23- انظر: د. أحمد محمد عبد الهادي، مصدر سابق، ص 45
24- أنظر - د. أحمد محمد عبد الهادي، مصدر سابق، ص 44.
25- أنظر المادة / 5 رابع عشر التي نصت على ما يأتي: ( يحظر على الموظف الإفضاء بأي تصريح أو بيان عن أعمال دائرته.....)
26- أنظر م / 5 أولاً من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم 14 لسنة 1991 التي نصت على يحظر على الموظف الجمع بين وظيفتين بصفة أصلية أو بين الوظيفة أو أي عمل آخر إلا بموجب أحكام القانون.
27- أنظر:- د. محمد المتولي مبدأ المساواة أمام المرافق العامة، بالتطبيق على توزيع الخدمات الصحية في مصر، دار النهضة العربية، بدون تاريخ، ص 37 وما بعدها.
28- أنظر - د. محمد قاسم القريوتي، الإصلاح الإداري بين النظرية والتطبيق، الطبعة الأولى دار وائل للنشر، عمان، ص 38 وما بعدها.
29- فتسمع عبارات مثل انصر أخاك ظالما أو مظلوما، خيركم خيركم لأهله، الأقربون أولى بالمعروف، أنظر:- محمد قاسم القريوتي، الإصلاح الإداري بين النظرية والتطبيق، الطبعة الأولى دار وائل للنشر، عمان، ص 39.
الاكثر قراءة في القانون الاداري
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة