لزوم إتباع الأعلم
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج1/ ص277-280
2025-10-26
53
قال اللهُ الحكيم في كتابه الكريم: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[1].
بقاء منصب الإمامة في ذريّة إبراهيم عليه السلام إلى يوم القيامة: يمكن الاستفادة من هذه الآية المباركة أنّ منصب الإمامة وهداية الناس هو في ذريّة ابراهيم عليه السلام نسلًا بعد نسل إلى يوم القيامة.
وبيان ذلك انّ لفظ (بَرآء) مصدر من الفعل بريء يَبْرَءُ وصفته بريء، و(إنّني براء) إمّا على تقدير محذوف تقديره (إنّني ذو براء) أو على سبيل التأكيد والمبالغة مثل (زيدٌ عدلٌ)؛ وضمير الفاعل في (جعلها) يعود إلى الله سبحانه، وضمير المفعول امّا أن يعود إلى البراءة التي تكلّم عنها ابراهيم عليه السلام، أو يعود إلى الهداية التي تستنتج وتتّخذ من كلمة (سيهدين).
امّا اذا قلنا انّه يرجع إلى لفظ البراءة، فانّ مفاده هو كلمة التوحيد، أي كلمة: لا إلَه الّا الله؛ وذلك لأنّ {إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} هو نفس مفاد كلمة التوحيد (لَا إلَه إلَّا اللهُ)، ولها معنى واحد هو مرجع ضمير المفعول في (وَجَعَلها).
وفي بيان معنى كلمة لا إلَه الّا الله: فبناءً على قواعد العربيّة، فانّ إعراب المستثنى في الكلام المنفي في الاستثناء المتّصل سيكون اعراب المستثنى منه وبدله، وفي كلمة (لَا إلَهَ إلَّا اللهُ) فانّ لفظ الجلالة مرفوع بعنوان بدل من (إله) المرفوعة محلّا، بملاحظة أنّ الإبدال لن يكون في أكثر من جملة واحدة، فيكون المعنى هكذا (لَا إلَهَ الّا اللهُ مَوجُودٌ).
ولو كانت هذه الجملة تتضمّن النفي والإثبات، فالواجب ان يكون لفظ الجلالة منصوباً، وفي هذه الحال فانّ هناك جملتين كلاهما يتضمّن معنى مستقلّا.
الاوّل الجملة المنفيّة: (لَا إلَهَ مَوْجُودٌ)، والثاني الجملة المثبتة: (أسْتَثني اللهَ أو اللهُ مَوْجَودٌ)، والأمر ليس كذلك بالطبع.
وعليه فانّ ما ورد على لسان أهل الدعاء والأوراد من أن كلمة (لَا إله إلّا اللهُ) وِرد نفي واثبات المركّب، هو أمرٌ خالٍ من التحقيق، فهو فقط ذكر النفي دونَ سواه.
وامّا اذا كان مرجعه إلى لفظ الهداية، فمن المعلوم انّ الهداية الالهيّة أولًا: وبالذات مختصّة بالذات المقدّسة لربّ العالمين، ثم تسري من الذات المقدّسة إلى غيرها. فالهداية الالهيّة التامّة إذن مختصّة بالله تعالى، وما دونها للموجودات والمخلوقات.
ولأنّ ابراهيم يُشير بكلمة (سَيَهْدِينِ) إلى الهداية المطلقة، فإنّها قابلة للإنطباق على أتم مراتب الهداية، وهي حظّ هداية الإمام ومن لوازم الولاية الكلية.
وذلك لأنّه قد ذكر في تفسير قوله تعالى {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً} حيث الخطاب موجّه لإبراهيم عليه السلام: انّ وظيفة الإمام هداية أفراد البشر من باطن وملكوت أعمالهم إلى الله عزّ وجل الذي أرشدهم وجعلهم في درجات القرب وفي دركات البُعد كلّا حسب منزلته، وسوف يجعلهم يُقيمون هناك ويُسكنهم فيما تقتضي أعمالهم وأفعالهم، وسيجذبهم إلى ذلك المنزل. فتكون هداية الله الباري تعالى شأنُه ذاتيّة، وهداية الإمام بالتّبع وبالعرض.
امّا إذا كان مرجع الضمير إلى (البراءة)، فانّ معناه انّنا قد جعلنا حقيقة التوحيد، أي الولاية ثابتة وباقية إلى الأبد في ذريّة ابراهيم لعلّهم يرجعون إلى الحق والتوحيد. فيُستفاد أولًا انّ هذه الحقيقة ستبقى ثابتة إلى الأبد في ذريّة ابراهيم، وأنّ ذريّته- إجمالًا- يمتلكون مثل هذا المنصب والمقام، وانّ الإمامة لن تزال أبداً وفي أي زمن عن ذريّة إبراهيم، وثانياً انّ كلمة التوحيد والولاية هذه في خصوص ذريّةٍ تدعو إلى الحق، وبقيّة الذريّة تُدعى إلى الحق، فيكون المراد من (في عَقِبِهِ) الذريّة باعتبار الإمامة والقيادة، والضمير في (يَرْجِعُونَ) عائداً إلى الذريّة باعتبار الإهتداء والإنقياد.
ومع ذلك فانّ لكلّ فئة سيرٌ خاصّ وحركة خاصّة بها، فالفئة الاولى لها الإمامة والثانية الائتمام.
ويظهر من هذا البيان: أولًا: استجابة دعاء ابراهيم في دعائه إلى الله: {رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ومِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}[2].
وثانياً: يتّضح سرّ قول الله عزّ وجل: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[3]، بعد سؤال ابراهيم: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، في انّ الفئة التي تصل إلى الإمامة هي التي لم تظلم نفسها ولا غيرها.
وثالثاً: انّها تبرهن معنى سلسلة من الروايات الواردة في تفسير هذه الآية المباركة، والتي فسّرت الكلمة الباقية بالإمامة، والتي صرّح بعضها بانطباقها على ذريّة الحسين بن علي سيد الشهداء عليه السلام.
وقد روى في (مجمع البيان) عن الإمام الصادق عليه السلام انّ المقصود بالكلمة الباقية الإمامة إلى يوم القيامة.
واذا ما كان مرجع الضمير عائداً إلى (الهداية)، فمن المعلوم أنّ الهداية الالهيّة هي مقام الولاية والإمامة التي يرجع الناس بوسيلتها من الشرك إلى التوحيد، ومن غير الله إلى الله. وعموماً، وعلى كلّ حال، وسواءً أ كان الضمير عائداً إلى كلمة البراءة والتوحيد، أو عائداً إلى الإمامة والهداية، فانّ الآية المباركة سيكون لها دلالة على بقاء منصب الإمامة في ذريّة ابراهيم.
وهذا المقام بالطبع معلول لمقام التوحيد والولاية، ومقام التوحيد والولاية يستلزم اندكاك الصفات البشريّة في الصفات الالهيّة، ومن جملتها صفة القدرة والعلم.
[1] الآية 26- 28، من السورة 43: الزخرف.
[2] الآية 124، من السورة 2: البقرة.
[3] الآية 124، من السورة 2: البقرة.
الاكثر قراءة في الامامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة