النبي الأعظم محمد بن عبد الله
أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)
آبائه
زوجاته واولاده
الولادة والنشأة
حاله قبل البعثة
حاله بعد البعثة
حاله بعد الهجرة
شهادة النبي وآخر الأيام
التراث النبوي الشريف
معجزاته
قضايا عامة
الإمام علي بن أبي طالب
الولادة والنشأة
مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)
حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله
حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة
بيعته و ماجرى في حكمه
أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته
شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة
التراث العلوي الشريف
قضايا عامة
السيدة فاطمة الزهراء
الولادة والنشأة
مناقبها
شهادتها والأيام الأخيرة
التراث الفاطمي الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)
التراث الحسني الشريف
صلح الامام الحسن (عليه السّلام)
أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته
شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة
قضايا عامة
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)
الأحداث ما قبل عاشوراء
استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء
الأحداث ما بعد عاشوراء
التراث الحسينيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)
شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)
التراث السجّاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الباقر
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)
شهادة الامام الباقر (عليه السلام)
التراث الباقريّ الشريف
قضايا عامة
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)
شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)
التراث الصادقيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)
شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)
التراث الكاظميّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن موسى الرّضا
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)
موقفه السياسي وولاية العهد
شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة
التراث الرضوي الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الجواد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
التراث الجواديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن محمد الهادي
الولادة والنشأة
مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
التراث الهاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي العسكري
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
التراث العسكري الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن الحسن المهدي
الولادة والنشأة
خصائصه ومناقبه
الغيبة الصغرى
السفراء الاربعة
الغيبة الكبرى
علامات الظهور
تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى
مشاهدة الإمام المهدي (ع)
الدولة المهدوية
قضايا عامة
وجه الشبه بين ذو القرنين والإمام المهدي "عج"
المؤلف :
الشيخ محمد السند
المصدر :
الإمام المهدي "عج" والظواهر القرآنية
الجزء والصفحة :
ص231-254
2025-05-21
52
الظاهرة الخامسة وهي الثالثة في سورة الكهف ، ولكنَّها خامسة فيما استعرضناه من ظواهر قرآنية متَّصلة بعقيدة الإمام المهدي وغيبته ، ألا وهي ظاهرة ذي القرنين[1].
وليس هذا التكرير والإكثار والتعديد من البيانات القرآنية إلَّا لأجل أنَّه سيقع في هذه الأمّة أمر عصيب تفتتن فيه الأمّة وتمتحن وتبتلى بمثل هذه العقيدة الحقّة ، كي يصبر ، ويهتدي ، ويثبت على الهدى ، و ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) ( الأنفال : 42 ) .
فليس من العبط ولا من المصادفة ولا من عدم الحسبان أن تكرّر لنا السور القرآنية الأخرى بعد الأخرى والثانية بعد الأولى ظاهرة غيبة حجج وأولياء الله في الأرض ، ثمّ ظهورهم وقيامهم بأدوار في الغيبة ، ثمّ قيامهم بعد ظهورهم بالأدوار المعلنة على المكشوف ، إلَّا لبيان أنَّ في هذه الأمّة ستقع مثل هذه السُنّة الإلهية ، فظاهرة ذي القرنين هي أيضاً كظاهرة خامسة متَّصلة بظهور الإمام المهدي ، حيث إنَّ ذا القرنين كالنبيّ سليمان هما مَلِكان قد أوعز إليهما وفوّض إليهما ومُكّنا من قبل الله تعالى ونصّبا للحكم العامّ الشامل في أرجاء الكرة الأرضية ، كما ورد في الروايات أنَّ أربعة من الملوك حكموا غالب أرجاء الكرة الأرضية ، اثنان صالحان وهما الملك سليمان وقبله ذو القرنين ، واثنان طالحان وهما نمرود وبختنصر[2].
وهذا أيضاً من السنن الإلهية التي يوليها الله عز وجل لأوليائه وحججه ، ( وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ) ( الكهف : 83 ) ، هنا تبتدئ الآيات ببيان البطاقة الشخصية التي يسردها لنا القرآن الكريم عن شخصية ذي القرنين ، شخص صالح اصطفي للتمكين في ملك الأرض ، وهو على أيّة حال يضاهي ما ستشهده البشرية من إرهاص عظيم مزلزل مجلجل في أرجاء الأرض ويدوي في أجواء السماء وهو ظهور الإمام المهدي عليه السلام ، بل لن تشهد البشرية جلجلة وزلزلة وزلزالًا وإرهاصاً أعظم ممَّا ستشهده في ظهور الإمام المهدي ، وهو أعظم ممَّا أوتي ذو القرنين ، أو أوتي النبيّ سليمان عليه السلام .
أنظر هاهنا التعبير : ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) ( الكهف : 84 ) ، هكذا عرَّف القرآن الكريم ذا القرنين ، ولم يعرّفه بأنَّه نبيّ أو مرسل ، هذا هو التعريف الذي اقتصر عليه القرآن الكريم في تعريف ذي القرنين ، نظير ما مرَّ من تعريف للخضر في نفس سورة الكهف ، وهي ظاهرة أيضاً متَّصلة بغيبة الإمام المهدي عليه السلام .
تصل سورة الكهف بتعريف نهاية المطاف ، نهاية حفظ الدين ، وبقاء الدين ألا وهي ظاهرة ذي القرنين في سورة الكهف ، لأنَّه نهاية حفظ هذا الدين في هذه الأمّة هو ظهور المهدي ليظهر الله عز وجل الدين على أرجاء الأرض كافّة على يده فيملأها قسطاً وعدلًا ، ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) ، وهذا التناسق البديع في سورة الكهف قد رصد في ترتيبه بشكل ظريف بديع ينطبق تماماً على ملحمة العقيدة بالإمام المهدي وغيبته .
عرَّف القرآن ذا القرنين بأنَّه عبد مصطفى ولم يكن نبيّاً ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ) ( الكهف : 84 ) ، فهو تمكين إلهي وقدرة تفوق قدرات الأسباب الطبيعية في البشر ، بل هي بأسباب طبيعية ، ولكن هذه الأسباب الطبيعية لا يمكن للقدرة البشرية تناولها ، وإنَّما هي بتمكين فقط من الله عز وجل .
الطبيعة البشرية فيها أسباب ولكن هذه الأسباب لا يمكن نيلها بتمامها أو بجملة وافرة منها أو بجملة مهمّة إلَّا بتمكين من الله ، نظير ما ورد في الخضر : ( آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) ( الكهف : 65 ) ، أي هنا تمكين إيتائي ولدنّي من الله ، ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ) ، وهذا التمكين تمكين خاصّ ( وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) ( الكهف : 84 ) ، إيتاء لدنّي ، كما أنَّ في القرآن الكريم بياناً واضحاً أنَّ هناك غير مقام النبوّة ومقام الرسالة ، هناك مقام صاحب العلم اللدنّي ، وهو صاحب تأويل كما مرَّ في الخضر ، وهنا صاحب تمكين في الأرض وقدرة وولاية تكوينية ، ( وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) .
وهناك قدرة علمية خاصّة لدنّية ، كما أنَّ هناك قدرة تكوينية خاصّة لدنّية من الله ، وهذا مقام آخر يستعرضه لنا القرآن الكريم ، هذا المقام ليس مقام نبوّة ولا رسالة ، وإنَّما مقام الملك والإمامة في الأرض بأن يمكّن الإمام والخليفة في الأرض ، من القدرة التي تتقاصر وتعجز عنها وعن التطاول إليها القدرة البشرية مهما تقدَّمت ومضت قدماً في الحضارة والتمدّن .
بعد ذلك يعرّفنا القرآن الكريم : ( فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا ) ، خطاب من الله عز وجل إلى ذي القرنين ، ( يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) ( الكهف : 85 و 86 ) ، هنا حوار ووحي خاصّ بين الباري تعالى وذي القرنين ، مع أنَّ القرآن الكريم لم يعرّف لنا ذا القرنين بأنَّه نبيّ ولا رسول ، ولكنَّه وليّ مصطفى ومجتبى قد مُكّن واختير واصطفي لمقام الإمامة والخلافة في الأرض ، الملك ملك التدبير والتصرّف ، وهو إمام ومستخلف في الأرض وأحد مصاديق سُنّة الله ، ( قُلْنا ) خطاب من الله لذي القرنين ( يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ) خطاب خاصّ ، وحي خاصّ ، كما في الوحي ل - ( امّ موسى ) ، وكما استعرض لنا القرآن الكريم في الوحي ل - ( مريم ) ، فلم تكن نبيّة ولا رسولة ولا إماماً ، ولكن كانت مصطفاة وحجّة مطهَّرة .
تصل سورة الكهف إلى ظاهرة ذي القرنين حيث تمثّل نهاية المطاف لحفظ بقاء الدين من ظهور الملك الإلهي والخلافة الإلهية بشكل مكشوف وعلني على أرجاء الأرض كافّة ، وهو ظهور الإمام المهدي عليه السلام ، فصحَّ إذن أنَّ هذه الضمانات الأربعة ، سيّما الرابعة كمثل ضربه الله للإمام المهدي عليه السلام ، وهو غلبة واستيلاء وتمكين ذي القرنين في الأرض ، ومن ثَمَّ ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام أنَّ ذا القرنين أوتي السحاب ، وأنَّ الإمام المهدي عليه السلام يؤتى ذلك أيضاً[3]، إلَّا أنَّ الأسباب الأكثر والأشدّ قوّة ونفوذاً أخّرت للإمام المهدي عليه السلام ، والنمط النازل المتوسّط من الأسباب ، طبعاً هي فوق قدرة البشر ، لكن من الأسباب اللدنّية أعطيت لذي القرنين ، فأوّل مجتمع واجهه ذو القرنين وانخرط فيه : ( وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) ( الكهف : 86 ) ، هذا الحوار والخطاب الإلهي مع ذي القرنين ليس مفاده وحي شريعة ولا وحي رسالة ، ولكنَّه وحي من علم لدنّي للتدبير في الأرض ، كما مرَّ في الخضر ، إذن فهذا العلم اللدنّي الذي أعطاه الله للخضر ، كذلك إعطاء الإيتاء اللدنّي لذي القرنين يؤهّل أن يكون هناك ارتباط بين الخضر وذي القرنين بوحي علم لدنّي ، وليست هذه القناة نبويّة ولا قناة رسالة ، وإنَّما ارتباط إمامة ووحي لدنّي .
هذه الظاهرة صريحة في القرآن الكريم ، أنَّ هناك أولياء لله أصفياء مصطفون نصَّبهم الله حججاً وأئمّة للخلق مزوَّدون بالعلم اللدنّي ، أو بإيتاء الأسباب ، يوحي إليهم ليس وحي شريعة ولا وحي رسالة ولا وحي نبوّة ، وإنَّما يوحي إليهم العلم اللدنّي ، يطلعون عبره على إرادات الله وأوامره الخاصّة التفصيلية في تدبير الأرض وفي تطبيق شرائع الأنبياء التي هي شرائع إلهية ، ومحطّة عقائدية متكرّرة في السور القرآنية ، لا نجد لها تفسيراً عند المدارس الإسلاميّة غير مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، ففي منهاج العقائد لمدرستهم عليهم السلام أنَّ هذه الظاهرة القرآنية وأمثالها هي موقعية ومنصب ومقام الإمام ، بخلاف المدارس الأخرى التي حصر فيها الارتباط بالغيب بقناة النبوّة والرسالة فقط ، وليس هناك مقام ومنصب إلهي آخر عندهم ، فلا يستطيعون أن يفسّروا ظاهرة ذي القرنين ولا ظاهرة الخضر ولا ظاهرة مريم ولا ظاهرة طالوت ولا ظواهر عديدة في القرآن الكريم كصاحب سليمان الذي عنده علم من الكتاب مثلًا .
وإنَّما استعرض القرآن هذه الحقيقة لحِكم ومغازي عديدة ، منها تبيان أنَّ بقاء هذا الدين وحفظه سيكلّل في النهاية إلى ظهور المصلح الإلهي المزوَّد بالتمكين من السماء والمزوَّد بأسباب القدرة التكوينية بإيتاء من الباري تعالى ، وهذا طبعاً مغزى وغاية مهمّة لاستعراض ظاهرة ذي القرنين في سورة الكهف في حفظ وبقاء الدين ، وإظهار الدين على أرجاء الأرض كافّة ، فالتشابه كبير بين الوعد الإلهي كوعد قطعه الله عز وجل على نفسه بإظهار هذا الدين وتمكين هذا الدين ، وبين ما تستعرضه سورة الكهف في أوّل مطلع الآيات ؟ فهناك الوجل حول حفظ وبقاء هذا الدين ( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) ، وتذكر أيضاً أنَّ خاتمة الضمانات لبقاء حفظ الدين هي ظاهرة ذي القرنين ، يعني أنَّ الدين يحفظ بمجيء شخص نظير ذي القرنين يمكّنه الله ويعطيه أسباب القدرة والنفوذ ، ومن ثَمَّ سيعمر أرجاء الأرض كافّة بإظهار ونشر هذا الدين الحنيف ، هذا مغزى مهمّ وعظيم .
ومغزى آخر من استعراض ظاهرة ذي القرنين وهو أنَّ الذي يمكّنه الله تمكيناً لدنّياً ، ويؤتيه من أسباب القدرة إيتاءاً لدنّياً يكون متّصلًا بالغيب ، يكون لديه سبب متّصل ، قناة اتّصال مع الله عز وجل ، ليس هذه القناة نبوّة ولا رسالة ، ومن ثَمَّ ينقل لنا القرآن حواراً ليس حوار وحي نبوّة ولا وحي رسالة ، وإنَّما ينقل لنا وحي برامج إلهية لتدبير الأرض وقيادة الأرض ، أي برامج الإمامة الإلهية في منصب ذي القرنين ، حيث يقول القرآن الكريم : ( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ) ( الكهف : 86 و 87 ) ، فهنا إذن حوار إلهي وَحْياني بين الباري تعالى وبين ذي القرنين ؛ لأنَّه استخلف في الأرض وجُعل خليفة يدبّر ، ويقود الأرض ، وأوتي القدرة اللدنّية من الله الإيتائية وليست الاكتسابية ، هذا المقام يؤهّله لأن يطَّلع على الإرادة الإلهية التفصيلية الخاصّة في التدبير وفي الحكم السياسي والقضائي والتنفيذي .
التوحيد والحاكمية السياسية في مدرسة أهل البيت عليهم السلام :
إنَّها حقّاً الملحمة عظيمة أن يشاهد المسلم والمؤمن من يتشدَّد في عقيدة التوحيد توحيد الله عز وجل ، ورغم ذلك لا يستطيع أن يرسم لوناً من التوحيد في الحاكمية السياسية لله تعالى ، بينما نجد هذا اللون المركَّز في التوحيد في حاكمية الله في الحقيقة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، حيث نجد ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) ( الأنعام : 57 ) ، أنَّ الحاكمية السياسية أو الحاكم السياسي الأوّل هو الله عز وجل ، عبر ما ينزّله الله عز وجل من إرادات وأوامر خاصّة تنفيذية وتطبيقية للإمام المعصوم ، حيث يزوَّد بالعلم اللدنّي ، ففي الحقيقة هذا اللون المركَّز من التوحيد لا نجده في المدارس الإسلاميّة الأخرى ، يعني على صعيد الحكومة السياسية والحكومة التنفيذية أين هي يد الله عز وجل ؟ وأين هو تصرّف الله تعالى ؟ وأين هي حاكمية الله ؟ للأسف في غير مدرسة أهل البيت التي تشدّد وتؤكّد على أنَّ الإمام يجب أن يكون منصوباً من قِبَل الله لكي يكون سفيراً لله في خلقه ، لا سفارة نبوّة ولا سفارة رسالة ، وإنَّما سفارة إمامة وسفارة إبلاغ البشر والإقامة في البشر ، لإرادات الله السياسية وإرادات الله القضائية ، فهناك إرادات تشريعية عامّة هي علم النبوّة والشريعة ، لكن الإرادات الإلهية التفصيلية التطبيقية التنفيذية والإرادات السياسية كيف تتنزَّل ؟ من الذي يطَّلع عليها ؟ ومن ينفّذها ؟ ومن يتلقّاها ويقيمها ؟ فالنبوّة والرسالة عبارة عن توحيد لله في النبوّة والرسالة ، وتوحيد لله في التشريع ، فنفس العقيدة بالنبوّة والرسالة عبارة عن عقيدة التوحيد ؛ لأنَّها توحيد لله في التشريع ، فهناك من يتلقّى تشريعات الله ، وهي النبوّة والرسالة والرسول ، أوَليس لا بدَّ أن نعتقد بتوحيد الله في الحكومة السياسية وبتوحيد الله في الحكومة التنفيذية وفي الإجراء العسكري وفي الإجراء القضائي ، فمن يتلقّى إرادات الله السياسية ؟ من يتلقّى الإرادات الإلهية في المنعطفات في مسار النظام البشري ؟ من يتلقّى إرادات الله العسكرية القضائية الثقافية ؟ وهلمَّ جرّاً في الحكومة التنفيذية ، وليس في مدارس المسلمين ومذاهب المسلمين من يصوّر هذا اللون وهذا الركن من التوحيد إلَّا مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، فما ينقضي العجب ممَّن يتشدَّق بعقيدة التوحيد كيف لا يبصر هذا التوحيد المركَّز في مدرسة أهل البيت ، ويتَّبع سبيل الهدى في مدرسة أهل البيت من كون الإمام المنصوب من قبل الله عز وجل هو الذي يتلقّى . هذا توحيد لله في الولاية ، وهذا ما تسلّط الضوء عليه بشكل مركَّز ظاهرة ذي القرنين في سورة الكهف ، إذ يتلقّى إرادات الله السياسية : ( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) ( الكهف : 86 ) .
إذن لا يفتأ القرآن الكريم يصرّح أنَّ لله تعالى إرادات سياسية غير الإرادات العامّة التشريعية وهي مغايرة علم الخضر وعلم النبيّ موسى ، مغايرة الإمامة الإلهية عن النبوّة والرسالة واللتان اجتمعتا في خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم . هذه الإرادات التفصيلية تتنزَّل على من ينصبه الله عز وجل إماماً في الأرض وخليفة له يستخلفه لتدبير المجتمعات ولنظم المجتمعات ، أين هذا الركن العقائدي ؟ أين هذا المفصل العقائدي ؟ أين هذه الحقيقة العقائدية القرآنية في مذاهب المسلمين ؟ لا نجدها إلَّا في مدرسة أهل البيت عليهم السلام .
فظاهرة ذي القرنين في سورة الكهف تبيّن لنا أنَّ الإمام الذي يمكّنه الله لإظهار الدين على أرجاء الأرض كافّة ويملأها قسطاً وعدلًا ، هذا يؤهّل لأن يكون بينه وبين الله قناة ارتباط ليست قناة نبويّة ولا قناة رسالة ، ولكن قناة تؤهّله لأن يعلم وأن يتزوَّد وأن يتلقّى إرادات الله السياسية في تدبير الباري تعالى لنظام البشر الاجتماعي ، وهي إرادات سياسية ، وهذا لون من التوحيد في الحاكمية السياسية .
نعم ، بعد ذلك تواصل لنا ظاهرة ذي القرنين في الآيات ، فتبيّن لنا ملامح واضحة بأنَّ الإمام كالإمام المهدي الذي يصطفيه الله لنشر الدين على أرجاء الأرض كافّة ويملأ الأرض قسطاً وعدلًا يتحقَّق على يديه إنجاز الوعد الإلهي ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) ، وكما بدأ من بيت النبوّة وأهل البيت ، وبعدما وقف انتشاره فإنَّه ينتشر مرَّة أخرى على يد أهل البيت أيضاً .
ولو كانت الأمور بيد أهل البيت لتمَّ إنجاز هذا الوعد الإلهي سريعاً ، ولكن سوء تصرّف الأمّة أخَّر إنجاز هذا الوعد على يد ابنهم المهدي ، فهذا الإمام الذي ينجز الله على يده هذا الوعد الإلهي ويمكّنه في أرجاء الأرض يكون كذي القرنين بينه وبين الباري تعالى ارتباط يؤهّله أن يخاطبه الربّ لا بوحي نبوّة ولا بوحي رسالة ولا بوحي شريعة جديدة والعياذ بالله ، كلَّا وإنَّما هي نفس الشريعة المحمّدية الخالدة ، ولكن لتطبيقها ولتطبيق هذا الدستور وهذه الشريعة الخالدة العظيمة على صعيد الحكومة التنفيذية فإنَّه يحتاج إلى إرادات تفصيلية من الله عز وجل في المنعطفات الخطيرة المهمّة ، بأن يخاطب ( قلنا : يا مهدي ) هكذا كما في ظاهرة ذي القرنين ، ( إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) يعني كما يخاطب ذو القرنين في قول الله تعالى : ( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ) ( الكهف : 86 ) ، فأيضاً يخاطب الإمام المهدي عليه السلام في إمامته وفي حكومته بذلك .
ثمّ يقول تعالى : ( حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ) ( الكهف : 93 ) ، فما معنى السدّين ؟ هل هما سدّان في أجواء السماء بين المجال المغناطيسي والمجال غير المغناطيسي ؟ أو شيء آخر ، أو السدّان على وجه الأرض ؟ فالعبارة قابلة لاحتمال هذه المحتملات ، المهمّ أنَّه أوتي مثل هذه القدرات المتعدّدة ، هذا مجتمع ثالث يخوض فيه ذو القرنين لإصلاحه وإقامة العدل فيه ، ( قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) ( الكهف : 95 94 ) ، يعني أنَّ الإمام الذي ينصَّب من قبل الله تعالى في الأرض على البشر لا يتقاضى أجره وجزاءه من البشر ، بل من الله عز وجل ، فلا يتقايض ذو القرنين مع هذا المجتمع الثالث الذي يخوض فيه على الإصلاح وإقامة العدل فيه ومناهضة الفساد كما هو واضح هنا . وهذا حقيقة الأمانة والنزاهة في قيادة الإمامة الإلهية أنَّها لا تنظر إلى القيادة كسلطة وجسر للمآرب الذاتية ، بل كطريق لخدمة البشر خدمة مجّانية ووظيفة إلهية ، إلى أن تتمّ الآية فتقول : ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) ( الكهف : 95 و 96 ) ، هذه محطّة مهمّة أخرى في الغاية تبيّنها لنا ظاهرة ذي القرنين .
وبعد ذلك تطالعنا هذه الآيات حول ظاهرة ذي القرنين ، إنَّها محطّة أخرى مهمّة في الإمامة ، وهي في الواقع حول إمامة الإمام المهدي وغيبته وظهوره ، وحول إمامة أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، أيضاً يقول الباري تعالى في شأن ذي القرنين : ( قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) ( الكهف : 94 ) ، فها هو يردع الفساد ، الخليفة في الأرض والإمام كما مرَّ في سورة البقرة : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، هو سُنّة إلهية دائمة ، ( قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة : 30 ) ، يعني الخليفة يصدّ ما اعترضت به الملائكة من أنَّه يحول بينه وبين الإفساد في الأرض ، فيكون سدّاً حائلًا عن قطع النسل البشري ، فذو القرنين الذي هو خليفة في الأرض يخوض في المجتمعات لقطع مادة الفساد في الأرض ، ( قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) ، مع كون ذي القرنين أوتي الأسباب اللدنّية من الله والتمكين في الأرض ، مع ذلك يقول : ( فَأَعِينُونِي ) ، فأعينوني بماذا ؟ ( بِقُوَّةٍ ) ، ويقول : ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) ، ويقول : ( انْفُخُوا ) ، ويقول : ( آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) ، ماذا يدلُّ استمداد العون من البشر ؟ هذا المطلب يدلُّ بوضوح على أنَّ من يجعله الله إماماً للناس من قبله وخليفة في الأرض لا يعني ذلك أنَّه جبر ( كن فيكون ) في إصلاح الأرض وإقامة الإصلاح ودرء الفساد ، ولا هو تفويض للناس ، وإنَّما هي نفس نظرية القرآن ( أمر بين أمرين ) في الإصلاح الاجتماعي وفي حكومة المجتمع ، فليست الحكومة الإلهية على البشر ، والحكومة السياسية الإلهية الدينية على البشر جبراً وإلجاءاً ، ولا تفويضاً للبشر ، ولا استبداداً إلهياً ، ولا هو تفويض مطلق بشيء ، إنَّما هو طريق وسط في رائعة التصوير الإمتحاني ، وهي صورة ذات جمال خلّاب تحافظ على إرادة البشرية في الحركة الحيوية ، وتحافظ على عناية السماء وهداية السماء ولطفها بالبشر في نظرية الاختيار والامتحان في الإصلاح وإقامة الحكم السياسي ، وهذه هي نظرية وعقيدة مدرسة أهل البيت ، عقدية أصلية من متن القرآن الكريم .
فالإمامة الإلهية والخليفة من قبل الله عندما يريد أن يقيم الإصلاح ودرء الفساد في الأرض لا بدَّ له من إعانة البشر بقوّة ، وحينئذٍ يتمكَّن مع ما زوّد بأسباب لدنية ، وهذا أمر ملحمي مهمّ في عقيدتنا بالإمام المهدي وغيبته وظهوره ، إذ أنَّ وعد الله عز وجل بإنجاز وإظهار هذا الدين ومَلء الأرض قسطاً وعدلًا على يدي الإمام المهدي لا يعني إلجاء البشر ، بل لا بدَّ أنَّ تقوم البشرية بدور ما من الإعانة لوليّ الله وللإمام ، سواء في غيبته يعني في غيبة الخفاء فيما يقوم به من أدوار فيجب على المؤمنين أن يقوموا بمسؤوليتهم تجاه منهاج الحقّ وتجاه منهاج الرسالة ، لا بدَّ أن يقوموا بمسؤوليتهم في الإعانة بقوّة ، إذن دائماً يستمدّ العون من المجتمع ، من الرعيّة ومن التابعين له ، وليس يعني أنَّه منصوب من قبل الله عز وجل فتكون الأشياء ( كن فيكون ) ، وليس وظيفة المسلمين أن يتفرَّجوا ، بل يجب عليهم حينئذٍ القيام بالمسؤولية من نشر هذه العقيدة الحقّة .
قال تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) ( الأنبياء : 105 ) ، إنَّ القرآن يدلّل على أنَّ كلّ زبر الأنبياء السابقين وكلّ كتبهم بشَّرت كما بشَّر خاتم الأنبياء بأنَّ الله يكلّل مسيرة الأنبياء بالنجاح والظفر بالإمام المهدي عليه السلام ، وهو الذي ينجز مواعيد السماء على لسان سيّد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن هنا يجب على المسلمين أن يقوموا بدور هذه المسؤولية وهي نشر هذه العقيدة الحقّة ، وأنَّ الدين الإسلامي يبشّر برجل وفرد من عترة النبيّ من ولد فاطمة وولد علي يملأ الله الأرض قسطاً وعدلًا ، كي تنجذب البشرية لمثل هذا المشروع من الدين ولمثل هذه البشارة في هذا الدين ، هذا واجب على كلّ المسلمين أجمع ، من غير فرق بين أتباع مدرسة أهل البيت أو بقيّة المسلمين ؛ لأنَّ العقيدة بظهور الإمام المهدي عقيدة إسلاميّة يعتنقها الكلّ ، والواجب فيه كما علَّمنا القرآن : ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) ( الكهف : 95 ) .
كيفية الخفاء والاستتار مع المحافظة على الدين :
الإمامة باقية إلى يوم القيامة ، وهي في عدد الاثني عشر كما أوضحه القرآن الكريم في جملة من الآيات التي استعرضها ، كقوله تعالى في سورة المائدة : ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ) ( المائدة : 12 ) ، هي بعثة إلهية إذن ، هذه الإمامة هي نقابة إلهية وقيادة إلهية للمجتمعات وسُنّة قرآنية أصيلة ، العقيدة بهذه الإمامة الإلهية وهذا المقام الإلهي تشرحه لنا سورة الكهف ، بأنَّ قيام الإمام والخليفة بأدواره لا ينحصر بالحكومة الرسمية المعلنة ، وهذا الأمر الذي ينبغي أن تركّز الإضاءة عليه هنا ؛ لأنَّ سورة الكهف تنبئنا عن وجود الخليفة كضمانة ثانية ذكرتها في الترتيب للوجل حول بقاء الدين : ( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) .
فهي تعطينا قاعدة عقائدية مهمّة جدَّاً في الإمام ، وهي أنَّ الإمامة لها أذرع وأشكال وصور عديدة من الحكومة ، يتصرَّف فيها فيما استخلفه الله في إدارة البشر والحيلولة عن الفساد وقطع النسل البشري ، وبطبيعة الحال على درجات ، سقف نازل ، وسقف أعلى ، وسقف متوسّط ، نعم السقف الأعلى عند الامتلاء عندما يظهره الله ليملأ الأرض قسطاً وعدلًا ، وهذه معلومة علمية منظورة متمدّنة ينبئنا بها القرآن الكريم في أشكال الحكومة ، وهذا ما يجب أن ينتبه إليه المسلمون والمؤمنون في قراءتهم لسورة الكهف ، فهو أمر مهمّ وللأسف مغيَّب في ثقافة المسلمين أو في ثقافة المؤمنين بالنحو العقدي والاعتقادي ، ولربَّما إن لم يكن مغيَّباً لديهم فثقافتهم عنه سطحية في أمورهم العادية والمعتادة من أنَّ الحكومة التي يقودها خليفة الله والإمام في الأرض من قبل الله ليست حكومة ذات شكل وصورة واحدة وذات هيأة واحدة ، بل هي ذات كيانات متعدّدة ، فللإمام والخليفة في الأرض عدّة أساليب في الحكم ، منها الحكومة الخفية والمستترة بأعضائها وكياناتها .
وهذا أمر بالغ الأهمّية يجب على عموم المسلمين والمؤمنين الالتفات إليه ، من هذا البيان الناصع العقائدي الذي تطلعنا عليه سورة الكهف ، أنَّ الخليفة في الأرض والإمام الذي يستخلف من قبل الله تعالى له أنماط من الأدوار وله أساليب متنوّعة ومتعدّدة وعلى درجات مختلفة ، وله أيضاً أجهزة وليس جهازاً واحداً لحكومات وليست حكومة واحدة ، فالحكومة المعلنة على المكشوف البادية بأعضائها ومرافقها وكياناتها ، تلك تمثّل فقط أحد أساليب الحكومة والحكم ، نظير ما ل - ( ذي القرنين ) ، وهو نظير ما يكون للإمام المهدي عليه السلام عند الظهور ، ونظير ما كان لأمير المؤمنين عليه السلام بعد أن بويع وانشدَّت إليه قاعدة عموم المسلمين ، وكانت بيعته بيعة فريدة في العالم وفي تاريخ الإسلام ، فعدا البيعة التي حصلت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم تحصل بيعة بهذا الوفور وبهذه السعة في القاعدة الشعبية الإسلاميّة كما حصلت لأمير المؤمنين ، وكما حصلت لبيعة الإمام الحسن عليه السلام ، وكما حصلت أيضاً إلى حدّ ما في مبايعة أهل العراق وبعض أهل الشام وأهالي الحرمين للإمام الحسين عليه السلام طواعية بلا جبر ولا فلتة ولا انتهاز فرصة ولا ما شابه ذلك .
هذه البيعة التي حصلت لأئمّة أهل البيت والحكومة الظاهرية ، هي في الحقيقة إحدى أساليب الحكم ، وإحدى أجهزة الحكم ، وإلَّا فإنَّ هناك أيضاً جهاز حكم آخر وحكومة أخرى وأسلوب آخر من الحكومة استعرضته أيضاً سورة الكهف ، وهي ظاهرة الخضر .
فلكلّ عنصر من هذه المجموعة العبادية دوائر بشرية تقوم بأدوار اختراق النظم ، وإرساء العدالة ، تلك المجموعات البشرية التي هي جهاز إلهي خفي مستتر وسرّي .
فللّه في الأرض حكومة من نمط آخر ، بل حكومات وأجهزة حكومية من نمط آخر تكون خفية ، كما كان للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكّة المكرَّمة ، حيث كان له أيضاً هذا الجهاز حتَّى في معيّة الحكومة المعلنة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا تقاطع بين وجود جهاز الحكم الخفي والجهاز الحكومي المعلن ؛ لأنَّ جهاز الحكم الخفي كما تدلُّ عليه سورة الكهف ، هو جهاز ليس فيه انقطاع أو انبتار ، وليس فيه فترة وفتور وجزر ومدّ ، بل هو مدّ دائم ، مدّ إلهي آبد ؛ لأنَّه كما بيَّنت سورة الكهف في قصَّة أصحاب الخضر أنَّ هناك أوامر تفصيلية إلهية تتنزَّل وتنزل ، ( وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) ، ( فَأَرادَ رَبُّكَ ) ، والإرادة الإلهية والسياسية دوماً موجودة ، فتدلّل إذن ظاهرة الخضر وسورة الكهف على أنَّ الجهاز الخفي للحكومة الإلهية هو نمط من حكومة لا يفتر ولا ينقطع ولا يبتر ولا يكون فيه جزر ، وإنَّما هو مدّ دائم موجود قائم ، وليس تابعاً لطبيعة البشر واختيارهم ، وليس تابعاً لإقبال أو إدبار البشر ، بل تابع لوجود ثُلّة من أصفياء الله وهم هذه العناصر .
وقد ورد بشكل مستفيض في روايات الفريقين تسمية هذه العناصر البشرية التي هي جهاز إلهي خفي بالأبدال ، والأركان ، والسيّاح ، هذه التعبيرات متواترة في كتب المسلمين ، سواء في كتب التاريخ ، أو في كتب التراجم ، أو في كتب الرجال ، حتَّى أصبحت من نواميس الشريعة المحمّدية عند كلّ مذاهب المسلمين في كتبهم ، فالذهنية الإسلاميّة مأنوسة بهذا التعبير كبديهة في الشريعة الإسلاميّة ، من أنَّ هناك أبدالًا ، وأوتاداً ، وسيّاحاً ، وأركاناً ، وهلمَّ جرّاً ، وقد بات واضحاً أنَّ أشكال الحكومة وأنماط الحكومة وكيانات الحكومة هو بأساليب مختلفة في الحقيقة أيضاً ، كما تطالعنا السور القرآنية الأخرى ، وحتَّى سورة الكهف ، أنَّ جهاز الحكم وكيفية إقامة الأهداف الإلهية لا ينحصر حتَّى بنمطين نمط خفي ونمط معلن ظاهر ، بل فيه أنماط أخرى ، مثل التيّار الاجتماعي ، كما تبيّن لنا سورة الكهف في ظاهرة أصحاب الكهف والرقيم ، فظاهرتهم في الواقع هذه وليدة للتيّار الاجتماعي الذي يقوم به خليفة الله ، حيث سمعوا بشرائع الأنبياء وبأديان الأنبياء ، فمن ثَمَّ استجابوا لهذه الدعوة ، ففي الواقع إنَّ أصحاب الكهف تأثّروا بامتداد أمواج شرائع الأنبياء وأديان الأنبياء وبما يقوم به خليفة الله في الأرض من أدوار اجتماعية ، وهذا أسلوب آخر تستعرضه لنا سورة الكهف وسور أخرى .
أنواع الحكومة الخفيّة والمعلنة :
هناك جملة من الآيات فيها بيانات مختلفة دالّة على أنَّ دولة الحقّ تكون في آخر الزمان ، مثلًا التعبير القرآني الذي مرَّ بنا مراراً : ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) ( القصص : 5 و 6 ) ، فيدلُّ هذا التعبير القرآني على أنَّ المستضعفين هم من أهل الحقّ وروّاد الحقّ ، هؤلاء يكونون وارثين ، أي في مآل الأمر وعاقبته تكون دولتهم التي يظهرهم الله ويمكّنهم فيها ، والتعبير القرآني الوارد بكثرة : ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) ( الأنبياء : 105 ) ، فالتعبير بالوارثين يدلُّ على أنَّه ستكون الأرض للصالحين في نهاية المطاف والمآل والخاتمة ، وكذلك ما ورد في سورة الأعراف : ( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( الأعراف : 128 ) ، وهذا العنوان : ( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ، والتوريث الإلهي للمتّقين في العاقبة ورد متواتراً متكرّراً في آيات القرآن الكريم ، في العاقبة للتقوى ، فالعاقبة يعني المآل والخاتمة ، وكذلك في آيات أخرى يحدّثنا القرآن الكريم ، ويدلّل مثلًا أنَّ عاقبة المفسدين والظالمين والمجرمين والمكذّبين مقطوعة ، أي ليست نهاية الأمر لهم : ( وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) ( الأعراف : 86 ) ، ( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) ( يونس : 39 ) ، أي إنَّ دابرهم مقطوع وأنَّه ليس لهم مآل ولا خاتمة في الفترات المتوسّطة .
فدائماً العاقبة تكون بيد أهل الحقّ ، أمَّا الفترات المتوسّطة بيد المكذّبين والمنكرين ، كما يبيّن لنا : ( فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) ( آل عمران : 137 ) ، العاقبة تكون للصادقين ، ويقطع دابر المكذّبين للفترات المتوسّطة بعد الأنبياء ، فالأنبياء هم ظاهرة الحقّ ومسار الحقّ ، وتتوسَّط ما بعدهم من الفترات تغلّب المفسدين حسب ما يبيّن لنا القرآن الكريم ، لكن العاقبة تكون في نهاية المطاف لأهل الحقّ والمتّقين . فإذن كون دولة الحقّ في أمم الأنبياء هي في آخر عمر الأمم التابعة للأنبياء بات أمراً واضحاً ناصعاً عياناً طافحاً بشكل لا تلابسه ريبة في الهداية القرآنية ، وهذا ممَّا يدلّل على أنَّ أحد الحجج من أئمّة أهل البيت عليهم السلام الذين استضعفوا وازووا من مراكز القدرة المعلنة ومقاماتهم ورتبهم التي رتَّبهم الله عز وجل وجعلها لهم ، ستكون العاقبة لهم ولدولتهم في آخر الزمان : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) ( التوبة : 33 ) .
وكما أنَّ لحكومة أولياء الله أنماطاً مختلفة حيث ذكرنا النمط المعلن والخفي ، فهناك نمط ثالث وهو أسلوب بناء التيّار الاجتماعي ، وهو أسلوب متوسّط ، لا هو أسلوب معلن مكشوف على الظاهر كالحكومات الرسمية ، ولا هو خفي سرّي ، بل هو متوسّط ، وهناك أنماط أخرى في كيفية النفوذ والحكومة والقدرة يستعرضها لنا القرآن الكريم لخليفة الله في الأرض ، وهذه ثلاثة نماذج ذكرتها سورة الكهف ، بل إنَّ سورة الكهف ذكرت نموذجاً رابعاً لحكومة وليّ الله وخليفة الله في الأرض ، وهو طاعة جميع الملائكة لخليفة الله ، كما ذكرت ذلك سورة البقرة وسور قرآنية أخرى ، أمَّا النبيّ والرسول في مقام النبوّة والرسالة فهذا مقام لا يكفل طاعة جميع الملائكة كما ينبئنا القرآن الكريم ، وإنَّما هذه الخصيصة وهذه القدرة في ملكوت السماوات والأرض من شؤون وصلاحيات مقام الإمام سواء أكان نبيّاً ورسولًا أيضاً أم لا ، كما ينبئنا عن ذلك القرآن الكريم في سور عديدة ، فمن شؤون وصلاحيات جعل الخليفة في الأرض أن يطلع الله عز وجل جميع الملائكة المقرَّبين في السماوات والأرضين ، ومن يكون في جوّ الهواء والسماء ، يطلعهم جميعهم على طاعة خليفة الله في الأرض ، وهو إنَّما ذكر في آدم ، لأنَّه نموذج لأوّل السلسلة كما مرَّ بنا وليس منحصراً بآدم ، وإنَّما إطاعة الملائكة لآدم بما هو متقلّد مقام الخلافة الإلهية .
إذن هذا من شؤون مقام الخلافة الإلهية ، وهذا نمط من القدرة والحكم والحكومة الملكوتية ، وهو نمط رابع تذكره سورة الكهف ، وهذا النمط ليس فيه فتور ، وليس فيه إقبال وإدبار ، وليس فيه انقطاع ، وليس فيه جزر ومدّ ، بل دائم آبد ، فتدلّل لنا سورة الكهف على أنَّ الإمامة والخلافة الإلهية لها أجهزة وأنماط عديدة ومختلفة عن أنماط القدرة والحكومة والحكم ، وليس فقط الحكومة المعلنة المكشوفة هي الأسلوب الوحيد لمقام الخليفة والإمام من قبل الله للقيام بأدواره في النظام البشري ، وهذا الحصر للأسف غفلت عنه جملة غفيرة من الكتب الكلامية في مذاهب المسلمين ، وهو أنَّها حصرت أسلوب قيام واضطلاع الإمام الخليفة بأدواره بالحكومة الرسمية المعلنة على المكشوف ، والحال أنَّ هذه أدبية ضيّقة الأفق قاصرة ، ومن ثَمَّ ما جرى من نقض وإبرام في مقام الإمام في بحث الخلافة الإسلاميّة وجعله مقصوراً على الحكومة الظاهرية هو من ضمن ضيق الأفق وضيق البصيرة في الوعي السياسي أو في أسلوب نظم الحكم ، وبعبارة أخرى هو أيضاً مجانب ومجافي وبعيد عن بصائر أنوار القرآن الكريم فيما يطرحه من أساليب وأجهزة حكم يقوم بها خليفة الله والإمام المنصوب في الأرض ، وفي الحقيقة هذه الأنماط والأشكال والأساليب من القدرة والنفوذ والحكم والقيام بالأدوار النظمية في المجتمعات البشرية ذكرها القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرناً ، وللتو في القرون الأخيرة توصَّلت البحوث الأدبية الأكاديمية السياسية والعلوم الاجتماعية إلى أنَّ هناك صياغات عديدة وأشكالًا عديدة ، وأساليب عديدة للحكومة والنفوذ ، والحكومة السرّية هي إحداها . فإذن من الخطأ بمكان في نهج التفكير الإسلامي أن يناقش إذا كان الإمام إماماً فلماذا هو عازب ضارب صفحاً عن مجريات الأمور الإسلاميّة ، وتارك الحبل على الغارب طيلة هذه السنين ! وهو ظنٌّ في أنَّ أسلوب القيام بالأدوار في النظام الاجتماعي منحصر فقط بالحكومة المعلنة الرسمية ، كفرضية مسبقة خاطئة جدَّاً موجودة ، ولربَّما لو أردت أن أذكر لك كلمات كثيرة لطال المقام من الكتّاب وعلماء المذاهب الإسلاميّة الأخرى في انتقادهم أو التشكيك في العقيدة بالإمام المهدي وغيبته ، وأنَّه كيف يكون إماماً منصوباً من قبل الله تعالى وهو غائب كلّ هذه الفترة ؟ ! على أيّ حالٍ فإنَّ هناك أنماطاً لا تنحصر حتَّى في هذه الأشكال والأنماط الأربعة ، فهناك أدوار متعدّدة ، وعلى أيّ تقدير فمن المهمّ جدَّاً في بطاقة البحث على الطاولة الإسلاميّة وفي الفكر الإسلامي وفي العقل الإسلامي عندما يُراد بحث الإمامة وبحث خليفة الله في الأرض يجب أن تتوسَّع ذهنية العقول والأفكار في آفاق وسيعة رحبة وتستوعب ما يطرحه القرآن الكريم من نماذج وبصائر ومن أشكال وأمثال ومن هيئات وأساليب متعدّدة . ونحن فقط قد تدبَّرنا شيئاً ممَّا في سورة الكهف فقط ، فما بالك في السور الأخرى التي تستعرض أنماطاً ونماذج عديدة وكثيرة جدَّاً ، فالحري إذن بالبحث في موضوع الإمامة والخلافة أن يكون مبتنياً على هذه العقلية التي ترى بأنَّ القدرة لها أشكال ، وأنَّ النفوذ له أشكال ، وأنَّ أجهزة القيام بأدوار في النظام الاجتماعي السياسي يتّخذ قنوات وأبواباً عديدة ، وأنَّه بات أمراً بديهياً الآن في الأدبيات الأكاديمية السياسية ، فعجيب من اجترار أفكار بالية وضيّقة الأفق وقاصرة النظر من أن تستوعب ما يذكره القرآن الكريم .
حينئذٍ نصل إلى هذه النقطة وهي أنَّ الحكومة الإلهية عندما تكون أمراً بين أمرين لا جبر ولا تفويض ، وأنَّه ليس إلجاءاً ، وأنَّه لا بدَّ من تعاون وتفاعل ومناصرة وتعاطي القاعدة الشعبية والأمّة الإسلاميّة والمجتمع البشري مع الحكومة الإلهية ، هذا في الحقيقة في أسلوب الحكومة الرسمية المعلنة على المكشوف ، وأمَّا أساليب الحكومة الأخرى فهي في الواقع لا تتوقَّف ولا تتأثّر ولا تعلّق فعّاليتها ونشاطها وحيويتها ودوامها على تفاعل البشر ولا على تعاطي البشر ولا على مبايعة الناس ولا على تجاوب الناس مع تلك الحكومة ، وأساليب الحكومة الأخرى وأدوارها يقوم بها الأئمّة والخلفاء من قبل الله تعالى أقبل البشر عليهم أم أدبروا ، بايعوهم أم قاطعوهم ، ناصروهم أم خذلوهم ، فازعوهم أم قتلوهم ، ومن ثَمَّ نرى القرآن الكريم يفصح لنا عن ذلك ببديع بيانه : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) ( النساء : 54 ) ، فالآية تخاطب حقبة العهد الإسلاميّة ، والناس المحسودون كما في بيان بعض الروايات هم آل محمّد عليهم السلام[4]، وفي بيان نصوص قرآنية عديدة : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ( الشورى : 23 ) ، وهم آل محمّد أيضاً ، وآية الخمس ، حيث قال تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ( الأنفال : 41 ) ، ( لِلَّهِ ) يعني تدبيره ، فالله عز وجل ليس محتاجاً للأموال ، وإنَّما هو خالق كلّ شيء ، اللام لام لملك الولاية في التدبير ، ومن ثَمَّ تكرَّرت اللام في لله والرسول وذي القربى ، ولم تتكرَّر في الطبقات المحرومة واليتامى والمساكين وابن السبيل ، للدلالة على أنَّ الطبقات المحرومة ليس لها صلاحية الحكم .
فهم أهل البيت عليهم السلام وآل محمّد ، فلم يحدّثنا التاريخ عن أنَّ آل إبراهيم أو إبراهيم عندما قال له الباري تعالى : ( إِنِّي جاعِلُكَ ) يعني بالفعل ( لِلنَّاسِ إِماماً ) ( البقرة : 124 ) ، وقال عن إسحاق ويعقوب : ( وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) ( السجدة : 24 ) ، أو آية أخرى : ( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) ( الأنبياء : 73 ) ، هنا أخبر القرآن الكريم بأن آتاهم ملكاً عظيماً ، وجعلهم أئمّة بالفعل ، ومع ذلك لم يحدّثنا أيّ كتاب تاريخي أنَّهم باشروا الحكومة الرسمية المعلنة الظاهرة . فأيّ ملك عظيم أوتيه آل إبراهيم وإبراهيم ؟ أوَلا يحدّث المسلم نفسه عن هذه النبوءة القرآنية وعن هذا الوحي والحقيقة القرآنية ؟ ! إذن التصرّف والقدرة في الحكم السياسي والحاكمية السياسية والإرادة السياسية الأولى هي لله عز وجل ، وهي غير الإرادة التشريعية ، وهي الملك العظيم الذي أخبرنا القرآن الكريم ، أنَّه قد أوتيه آل إبراهيم .
[1] عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : ( إنَّ ذا القرنين لم يكن نبيّاً ، ولكنَّه كان عبداً صالحاً أحبّ الله فأحبّه الله ، وناصح لله فناصحه الله ، أمر قومه بتقوى الله فضربوه على قرنه ، فغاب عنهم زماناً ، ثمّ رجع إليهم فضربوه على قرنه الآخر ، وفيكم من هو على سُنّته ) ، ( كمال الدين : 393 / ما روي من حديث ذي القرنين / ح 1 ) .
[2] في الرواية عن ابن مسعود : إنَّ أوّل مَلِك مَلَك في الأرض شرقها وغربها نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ، وكانت الملوك الذين ملكوا الأرض كلّها أربعة : نمرود بن كنعان ، وسليمان بن داود ، وذو القرنين ، وبختنصر ، مؤمنان ، وكافران . ( تاريخ الطبري 163 : 1 ) .
[3] عن الباقر عليه السلام ، قال : ( إنَّ ذا القرنين كان عبداً صالحاً ، ناصح الله سبحانه ، فناصحه ، فسخّر له السحاب ، وطويت له الأرض ، وبسط له في النور ، وكان يبصر بالليل كما يبصر بالنهار ، وإنَّ أئمّة الحقّ كلّهم قد سخَّر الله تعالى لهم السحاب ، وكان يحملهم إلى المشرق والمغرب لمصالح المسلمين ولإصلاح ذات البين . وعلى هذا حال المهدي عليه السلام ، ولذلك يسمّى : ( صاحب المرأى والمسمع ) ، فله نور يرى به الأشياء من بعيد كما يرى من قريب ، ويسمع من بعيد كما يسمع من قريب ، وإنَّه يسيح في الدنيا كلّها على السحاب مرَّة ، وعلى الريح أخرى ، وتطوى له الأرض مرَّة ، فيدفع البلايا عن العباد والبلاد شرقاً وغرباً ) ، ( الخرائج والجرائح 930 : 2 ) .
[4] راجع : الكافي 205 : 1 / باب أنَّ الأئمّة عليهم السلام ولاة الأمر وهم المحسودون / ح 1 - 5 .