النبي الأعظم محمد بن عبد الله
أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)
آبائه
زوجاته واولاده
الولادة والنشأة
حاله قبل البعثة
حاله بعد البعثة
حاله بعد الهجرة
شهادة النبي وآخر الأيام
التراث النبوي الشريف
معجزاته
قضايا عامة
الإمام علي بن أبي طالب
الولادة والنشأة
مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)
حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله
حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة
بيعته و ماجرى في حكمه
أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته
شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة
التراث العلوي الشريف
قضايا عامة
السيدة فاطمة الزهراء
الولادة والنشأة
مناقبها
شهادتها والأيام الأخيرة
التراث الفاطمي الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)
التراث الحسني الشريف
صلح الامام الحسن (عليه السّلام)
أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته
شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة
قضايا عامة
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)
الأحداث ما قبل عاشوراء
استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء
الأحداث ما بعد عاشوراء
التراث الحسينيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)
شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)
التراث السجّاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الباقر
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)
شهادة الامام الباقر (عليه السلام)
التراث الباقريّ الشريف
قضايا عامة
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)
شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)
التراث الصادقيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)
شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)
التراث الكاظميّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن موسى الرّضا
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)
موقفه السياسي وولاية العهد
شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة
التراث الرضوي الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الجواد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
التراث الجواديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن محمد الهادي
الولادة والنشأة
مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
التراث الهاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي العسكري
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
التراث العسكري الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن الحسن المهدي
الولادة والنشأة
خصائصه ومناقبه
الغيبة الصغرى
السفراء الاربعة
الغيبة الكبرى
علامات الظهور
تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى
مشاهدة الإمام المهدي (ع)
الدولة المهدوية
قضايا عامة
وجه الشبه بين أصحاب الكهف والإمام المهدي "عج"
المؤلف :
الشيخ محمد السند
المصدر :
الإمام المهدي "عج" والظواهر القرآنية
الجزء والصفحة :
ص199-230
2025-05-21
68
قال الله تعالى : ( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً * فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً ) ( الكهف : 12 10 ) .
كان عند أصحاب الكهف تمام التوجّه إلى الباري تعالى واستمدّوا منه الرشاد في مقابل طغيان النظام العاتي الدقيانوسي الذي كانوا يعيشون في ظلّه حيث يذكر القرآن الكريم ملخَّص القصَّة في ثلاث آيات بعد أن فرّوا من ذلك المجتمع الفاسد الظالم ، وبعدما انقرض وباد ملك دقيانوس وبادت معالم المجتمع الكافر وتبدَّل إلى مجتمع موحّد ، فكان البقاء والعاقبة للموحّدين وللمتّقين ، وهم الذين يورثهم الله العاقبة ، وهذه سُنّة الله أنَّ العاقبة للمتّقين ، العاقبة لأهل التقوى واليقين ، وليست العاقبة للجاحدين والمكذّبين والمنكرين والمفسدين والظالمين ، ثمّ تستعرض الآيات الأخرى بشكل مفصَّل تلك الواقعة . هذه الظاهرة نفسُها فيها أبعاد كثيرة ، فأوّل بُعد فيها يتراءى للنظّار وللقارئ لهذه الآيات أنَّ القرآن الكريم يتعرَّض إلى نمط الإرهاصات الغيبية غير المألوفة لدى البشر من وجود ثلّة فتية مؤمنة رشيدة تستمدّ من الله الهداية والرشاد ، وأنَّهم مجموعة أو طائفة من بين المجتمع كانت على هدى من ربّها على رغم أنَّ غالبية المجتمع كانت على نهج الضلال . ورغم هذا التفاوت والمفارقة في النسبة والقوّة والعدّة والعدد لم يُثنهم عن الثبات على نهج الحقّ ، هذه خصلة مهمّة يُطلعنا عليها القرآن الكريم وهذا درس للمؤمنين في وعد الله بإظهار هذا الدين على الدين كلّه ولو كره المشركون ، على يد المهدي من ولد رسول الله وذرّية فاطمة وعلي ، والمؤمنون بهذه العقيدة والحقيقة القرآنية يجب أن لا تضيرهم ولا تبئسهم القلّة في مقابل كثرة ممَّن لا يعتقد بالإسلام أو لا يعتقد ولا يؤمن بظهور الإمام المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلًا بعدما ملئت ظلماً وجوراً أو يكذب بهذه العقيدة .
المهمّة الأولى : الثبات والإيمان :
والمسؤولية والمهمّة الأولى التي تقع على حزب المؤمنين ، هي الثبات والإيمان وهم حزب علي ابن أبي طالب ، وحزب إمامة ولده المهدي عليه السلام وأنَّه سيظهره الله لإصلاح الأرض ليملأها قسطاً وعدلًا ، هذه الثلّة المؤمنة يجب أن لا يثنيها قلّتها في مقابل كثرة المكذّبين أو المنكرين أو الجاحدين أو الظالمين أو المفسدين ؛ لأنَّ نهج الحقّ يبقى والعاقبة لأهل التقوى ولأهل اليقين ، وهذا مثل الفتية في كيفية قيامهم بمسؤولية الثبات على الدين رغم أنَّهم ليسوا بحجج ، وإنَّما هم ثلّة مؤمنة من أهل الإيمان ، فهذه خصلة مهمّة أولى .
المهمّة الثانية : الغيبة والخفاء :
هناك المحور الثاني والعِظة والعبرة الثانية التي يسطرها لنا القرآن الكريم في أصحاب الكهف ، حيث يبيّن لنا نوعاً من الإرهاصات الخاصّة الغيبية التي لم يألف ويأنس بها البشر ، وربَّما يستنكرونها ويجحدونها ، وهي أنَّ الله عز وجل قد يغيّب ثلّة بشرية سنين ومئات السنين ثمّ يظهرها لهم ، وهذه ليست أسطوريات ، وحاشا للقرآن هذا العبث ، فهو ذكر وليس بشعر ، ( وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) ( يس : 69 ) ، ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) ( القمر : 17 ) ، هو ذكرى وذكر لمن يريد أن يبصر ويطَّلع على الحقيقة ، فسورة الكهف هي في الواقع كما يعبّر بعض المحقّقين كهف الأسرار وكهف المعارف ، اسم على مسمّى ، وهي شديدة الصلة بغيبة الإمام المهدي عليه السلام ، وكما مرَّ بنا أنَّ المصادر التاريخية تنقل قراءة سيّد الشهداء لمطلع آية في هذه السورة : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً ) ( الكهف : 9 ) ، إذ أنَّ صلة وطيدة ببقاء الدين والحفاظ على الدين ، كما قام به سيّد الشهداء ، وبإمامة أهل البيت عليهم السلام وكيفية مآل الأمور إلى ظفرهم بوراثة الأرض وتدبير زمام أمورها في العلن بيدهم ، وإلَّا فإنَّ الجهاز الإلهي والحكومة الإلهية في الخفاء بيدهم ، كما يقول الإمام الصادق عليه السلام للمفضَّل بن عمر : ( مقصرة شيعتنا تقول : إنَّ معنى الرجعة أن يرد الله إلينا ملك الدنيا فيجعله للمهدي . ويحهم ! متى سلبنا الملك حتَّى يرد علينا ؟ ) . قال المفضَّل : لا والله يا مولاي ما سلبتموه ولا تسلبونه لأنَّه ملك النبوّة والرسالة والوصيّة والإمامة . قال الصادق عليه السلام : ( يا مفضَّل لو تدبَّر القرآن شيعتنا لما شكّوا في فضلنا . . . )[1].
وكأنَّ الإمام الصادق عليه السلام يشير إلى ما أشار إليه القرآن الكريم في آل إبراهيم الذين أوتوا الإمامة : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) ( النساء : 54 ) ، الملك العظيم هو الخلافة الإلهية التي يُطوع الله عز وجل عليها كلَّ الملائكة ، وأيضاً ملك في الجانب المادي وهو الذي استعرضته لنا سورة الكهف مثل وجود جهاز خفي وشبكة خفية تقوم بأدوار مفصلية هي أقوى الحكومات بالقياس إلى الحكومات البشرية الأخرى ؛ لأنَّها تخترق تلك الحكومات .
وجود الخليفة في الأرض :
إنَّ المُلك والحكومة للخليفة في الأرض تترافق مع طاعة جميع الملائكة ، وخلفاء الله في الأرض هم خلفاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الاثني عشر ، وثاني عشرهم الإمام المهدي ، هذه الطاعة هي قدرة ونفوذ يصوّرها لنا القرآن الكريم كحقائق قرآنية في سورٍ قرآنية سبع عن شأن الخلافة الإلهية والاستخلاف الإلهي[2] ، وجعل ثلّة من البشر المستضعفين أئمّة ، كما في قوله تعالى لإبراهيم : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) ( البقرة : 124 ) ، وقوله تعالى في شأن يعقوب وإسحاق من ذرّية إبراهيم : ( وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) ( السجدة : 24 ) ، مع أنَّ التاريخ لم يحدّثنا بأنَّ آل إبراهيم ملكوا ملكاً أو حكموا حكماً ظاهرياً ، ورغم ذلك تصف سورة النساء أنَّ آل إبراهيم أوتوا إلى جانب الكتاب والحكمة وهي النبوّة أوتوا الملك العظيم : ( فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) ( النساء : 54 ) ، فأيّ ملك عظيم هذا ؟ في بُعده الملكوتي وفي بعده المادي والملكي ، في بعده الملكوتي : ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) ، أي أطيعوا واخضعوا ، ( فَسَجَدُوا ) ( البقرة : 34 ) ، كلّ الملائكة بكلّ طبقاتهم من مقرّبين ومن ملائكة السماء ومن ملائكة الأرض وما شابه ذلك ، لما فضَّل الله وزوَّد به خليفته في الأرض من علم يتقاصر عنه علم جميع الملائكة ، ومن ثَمَّ هو الذي علَّمهم الأسماء كلّها ، فالخليفة يعلّم الملائكة تلك الأسماء وهم يتَّبعونه في ذلك : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) ( البقرة : 33 31 ) ، هذا بعد وجناح وذراع من أذرع الحكومة التي يتولّاها ويتصدّى لها خلفاء الله في الأرض المنصوبون أئمّة على الخلائق ، وهو مقام ومنصب إلهي . وما تذكره لنا سورة الكهف من وجود شبكة بشرية كما في مثال الخضر وظاهرة الخضر مزودون بالعلم اللدني ، ويقومون بأدوار مفصلية حساسة في مسار النظام البشري ، وتهيمن هذه الحكومة الخفيّة على أدوار الأنظمة البشرية الأخرى ، وتكون تلك الأنظمة والحكومات البشرية الأخرى وحتَّى الكبرى أو العظمى منها حكومات صغيرة بالقياس وبالمقارنة إلى نفوذ ونفاذ وقدرة تلك الحكومة والجهاز الإلهي الخفي .
فهذا هو الملك الذي لا يسلب من خلفاء الله في الأرض ، وإن سُلب في السطح المكشوف الظاهر غير العميق في إبصار ورؤية حقيقة مسلسل الأحداث في النظام البشري ، ففي ظاهر الحال الدول العظمى الموجودة ودول العالم الثاني ودول العالم الثالث كلّها تدبّر وتدير شؤون أرجاء الكرة الأرضية ، هذا في ظاهر الحال في النظرة غير الثاقبة ، أمَّا النظرة القرآنية فتقول : كلَّا ، إنَّما هناك جهاز إلهي حكومي بيد خليفة الله يتغلغل في الأنظمة الأخرى ، وله أدوار حاسمة في درء الفساد ولو في درجة السقف الأدنى أي الحدّ الخطير من الفساد ، ويبثون العدالة والقسط بدرجة السقف الأدنى ، ويحولون دون قطع النسل البشري بسبب نزوات تلك الأنظمة التي تحكم الأرض ، ويحولون دون ذلك إلى أدنى درجة من الصلاحية إلى أن يحين الوقت المعلوم للظهور ، أي للبروز على المكشوف لإرساء تلك الحكومة الإلهية في العلن ، بدلًا من أن تكون في مرحلة الخفاء .
نعم هذا هو الملك الذي يقول عنه صادق آل محمّد عليه السلام : ( متى سُلبنا الملك حتَّى يرد علينا ؟ ) .
لماذا تكابد البشرية المصائب وبيد الخليفة إصلاحها ؟
ربَّما يقول قائل : إذا كان هذا المُلك بهذه العظمة ، وأنَّ الخليفة لله في الأرض والإمام هو منصوب من قِبَل الله تعالى : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) ( البقرة : 124 ) ، كما هو في شأن إبراهيم وشأن أهل البيت عليهم السلام ، فلماذا لا يصلحون الأرض في ليلة وضحاها وفي ساعة وفي لمح البصر ، ولماذا تكابد البشرية هذه المحن والامتحانات ؟
هذا السؤال في الحقيقة يغفل عن أوّليات حكمة القضاء والقدر والسنن الإلهية ، من أنَّ الله أبى أن يجري الأمور بالجبر والإرجاء ، كما أبى أن يجري الأمور بالتفويض والإيكال إلى مشيئة البشر يعيثون في الأرض كما يشاءون فساداً وإفساداً وظلماً ، بل سُنّة الله جرت على أن يكون الحال أمراً بين أمرين ، لا جبر ولا تفويض ، لا بنحو قهر وإلجاء وجبر ، ولا بنحو إيكال وانعزال لليد الإلهية ولقدرة التصرّف الإلهية ، بل أمر بين أمرين .
إذن سُنّة الله في الظاهرة الاجتماعية والظاهرة البشرية والظاهرة الخلقية أن تجري الأمور بالاختيار والامتحان ، لأنَّ ذلك هو سرُّ الخلقة ، ليفوز الفائزون بالتقوى في مرابح أخروية وتجارة لن تبور في الدار الآخرة ، ومن ثَمَّ يكون هذا الجهاز وهذا الملك الذي بيد خليفة الله ، لا يجبر البشرية على الإصلاح ، كما أنَّه لا يترك الأمور ويلقي الحبل على الغارب ، وإنَّما أمر بين أمرين .
وهذه فلسفة اجتماعية وسُنّة إلهية وحقائق قرآنية أنَّ الأمور تجري بأسبابها ، أمر بين أمرين ، لا هو تفويض ولا هو جبر ، وإنَّما هو اختيار وامتحان ، وهنا يكون تشاطر في المسؤولية ، بين لطف إلهي بإقامة خليفة وإمام للبشر وجهاز خفي يدبّر ويكون يداً حاسمة أمام الإفساد والظلم وقطع النسل البشري كسقف أدنى طبعاً وفي غيبة الخفاء في الأدوار ، وبين شطر آخر تقع المسؤولية والعاتق عليه من البشر .
الظاهرة الأولى في أصحاب الكهف تبيّن لنا دروساً وعظاةً عقائدية مهمّة حساسة ، هذا البعد الأوّل هو ثبات أصحاب الكهف والرقيم الفتية المؤمنة رغم قلّتهم في مجتمع الضلال ، إلَّا أنَّهم مع ذلك ثبتوا على نهج الحقّ ، وهذه عظة للأمّة الإسلاميّة ، أنَّه رغم وجود أهل الضلالة والمكذّبين وهم الأكثرية المكذّبون بعقيدة وجود خليفة الله في الأرض والإمام ، وأنَّ الدين سيظهر ويُظهره الله على يده ليملأ الأرض قسطاً وعدلًا ، لم يثنهم تكذيب المكذّبين وجحود الجاحدين وإنكار المنكرين والمفسدين والظالمين عن الثبات على عقيدتهم .
الانقطاع عن الخليفة وأثره في الإيمان :
البعد الثاني في أصحاب الكهف والرقيم أنَّ القرآن الكريم يستعرض لنا ظاهرة غيابهم وغيبتهم عن البشرية التي هي ليست غيبة زوال عن وجه الأرض ، ولكن هي نوع من الغيبة كانت مدّتها مئات السنين ثلاثمائة . لأنَّه لم يحدّد لنا القرآن الكريم هنا العدد المرصود لغيبة أصحاب الكهف ، هذه الظاهرة من غيبة أصحاب الكهف ثمّ بعث الله عز وجل لهم وإظهارهم للبشر ، رغم وجود تلك الثلّة البشرية بين أيدي وظهراني المجتمع ، ولم يزايلوا موقعهم من مواقع قريبة من مجتمعهم في الكهف الذي أووا إليه ، لكن رغم ذلك كانوا غائبين عن معرفة البشر لهم وعن الشعور بهم ، بعد ذلك أظهرهم الله عز وجل ، هذه الظاهرة يذكرها لنا القرآن الكريم لتكون عبرة وعظة ، يقول القرآن الكريم : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً ) ( الكهف : 13 ) ، وليس أسطورة أو خرافة والعياذ بالله أو ثرثرة قصص أو سحر وخيال ، القرآن ذكر حقّ وبصيرة وبصائر ، هذا الحقّ والحقيقة الموجودة في غيبة أصحاب الكهف ثمّ عودهم إلى البشرية وظهورهم وتعرّف البشر عليهم ، يريد القرآن الكريم أن يرمز أو يومئ أو يلوح كما يقول هو عن مغزى ذلك وحكمة ذلك : ( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ ) ( الكهف : 21 ) ، كانوا موجودين ، لكن لم تتفطَّن الأجيال البشرية المعاصرة لولادة أصحاب الكهف ولا الأجيال التي أتت بعد ذلك ولا الأجيال بعده ، كم ظهر من النسل والجيل البشري حتَّى أصبحت قصَّة أصحاب الكهف ومناوءة الملك دقيانوس الظالم لهم واستضعافه لهم قصَّة فيما غبر في التاريخ بالنسبة للأجيال البشرية .
هذا الدرس القرآني في السُنّة الإلهية يريد من الإمّة الإسلاميّة أن تتَّعظ وأن لا تكذب ولا تجحد ولا تنكر وجود الإمام الخليفة الثاني عشر للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من ذرّية فاطمة وذرّية علي عليهما السلام ، وأنَّ عقيدة الحقّ والحقيقة يجب أن يثبت عليها أهل الحقّ ، وأنَّ غياب الإمام المهدي بالرغم من تطاول الأمد والسنين لا يدعوننا إلى التكذيب بآيات الله ، لأنَّ وعد الله حقّ . وسيظهر الدين على يد الإمام المهدي فيملأها قسطاً وعدلًا .
إذن المغزى الثاني الذي ينوّه ويركّز عليه القرآن الكريم في قصَّة أصحاب الكهف هو : ( ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً ) ( الكهف : 12 ) ، من هو الذي تكون العاقبة له ؟ العاقبة هي لأهل التقوى .
عاقبة أصحاب الحقّ والإيمان :
إنَّ جملة من المنكرين والجاحدين لعقيدة الإمام المهدي يوصمون أهل الحقّ المعتقدين والمتيقّنين بحياة الإمام المهدي ، والمؤمنين بأنَّ غيبته غيبة خفاء بأنَّهم ( كهوفيون ) ، نعم نحن من الذين نعتقد بسورة الكهف وبما فيها من حقائق وعقائد قرآنية ، فسورة الكهف تتعرَّض إلى إرهاص غريب بالنسبة للبشر ، لكنَّه ليس غريباً في السُنّة الإلهية من إخفاء جماعة الحقّ الذين رغم زوال أجيال وأجيال لم يُبادوا وأعثر الله عليهم وبعثهم لينجزوا الوعد الإلهي الذي هو وعد الحقّ ، و ( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( الأعراف : 128 ) ، و ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) ( الأنبياء : 105 ) ، هذا وعد الله الحقّ ، وإنَّ الذي يظهر الدين يجعله الله إماماً كما ذكرت لنا سورة القصص : ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) ( القصص : 5 ) .
إذن سُنّة الله أن يجعل المستضعفين أهل الحقّ الذين هم دائماً في حالة استضعاف من قِبَل الظالمين والمفسدين ، المنكرين والجاحدين ، وهم فئة قليلة في قبال الفئة الكثيرة من أهل الضلال والعتو والفساد ، لكن الله يأبى إلَّا أن تكون سُنّته بأن يظهر هذا الدين ويجعل العاقبة لأهل التقوى ، ولأهل اليقين وأهل الحقّ ، ويجعل منهم الإمام للأرض .
وقد ورد في الروايات الإسلاميّة أنَّ أصحاب الكهف سيكونون من أصحاب المهدي عليه السلام يبعثهم الله لينصروه[3] .
فهذه العبرة والدرس الكبير الذي يريد أن يبيّنه لنا القرآن الكريم هو أنَّه سيجري في هذه الأمّة ما جرى لمن سبقهم من الأمم ، وذلك بأن يغيّب جماعة من أهل الحقّ عن معرفتنا وشعورنا وفيما يقومون به من أدوار ، ولكن لا يدعوَنَّكم ذلك إلى إنكارهم وجحودهم ، أو إنكار القدرة الإلهية في ذلك ، وأنَّ الله عز وجل سيبعثهم أو يظهرهم لكم ولو بعد أجيال وأجيال من الأمّة الإسلاميّة .
بحقّ لو تسمّى سورة الكهف بأنَّها سورة الإمام المهدي لكانت جديرة بهذه التسمية ، بعد ذلك في الحقيقة تستعرض الآيات الكريمة تفصيل هذين البعدين ، بالإضافة إلى أبعاد أخرى ، فالحري بنا أن نتابع بقيّة الآيات لنتعرَّف على ظاهرة أصحاب الكهف والرقيم[4].
الثبات على الإيمان والفيض الإلهي :
الثبات على الإيمان أوجد من قبل الباري زيادةَ فيض الهدى منه تعالى على الفتية المؤمنة والثلّة المؤمنة ، رغم عيشها في غربة ، بلحاظ الأكثرية المخالفة لهم من أهل الضلال ، ولكن ثباتهم ورباطة جأشهم ، وإن لم يلتقوا بنبيّ زمانهم أو برسول زمانهم أو بخليفة الله في الأرض ، ولم يتعرَّفوا عليه ، ولم يرتبطوا به ، إلَّا أنَّه كان على علم بهم ، فإنَّ لله عز وجل خليفة في الأرض في كلّ زمان ، وهذا درس لأهل الإيمان ، أنَّهم رغم احتجاب معرفتهم وشعورهم بشخص ومصداق من يعتقدونه بحقائق القرآن وحقائق السُنّة القطعية بأنَّه إمام للبشرية ومنصوب من قبل الله وهو الإمام المهدي الثاني عشر من خلفاء خاتم الأنبياء ، هذا لا يزلزلهم عن ثباتهم . ولا يزلزلهم عن الاستقامة في طريق الحقّ . اتّعاظاً بما يذكره لنا.
القرآن الكريم من أصحاب الكهف : ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ ) ( الكهف : 13 و 14 ) .
وعندما يستقيم الإنسان يفرغ الله عليه صبراً ورباطاً ، ( وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا ) ( الكهف : 14 ) ، قاموا من براثن الضلال ، استيقظوا من غفلة الانحراف إلى طريق الاستقامة والهداية ؛ لأنَّ التعبير بالقيام في القرآن الكريم : ( قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ) ( سبأ : 46 ) ، ليس المراد منه القيام البدني بقدر ما يراد منه الصحوة واليقظة وعدم الغفلة وسبات الضلالة ، ( إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً * هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ) ( الكهف : 14 و 15 ) .
فالوسيط بين الله عز وجل وبين البشر لا بدَّ أن يكون منصوباً من قبل الله ، والنصب عليه بيّنات شرعية وبيّنات إلهية وآيات ربّانية ، وهو معنى السلطان ، فكلّ من نتَّخذه وسيلة ووسيطاً بين البشر وبين الله عز وجل لا بدَّ أن يكون عليه سلطان بيّن ، أنظر هذه المعرفة الفطرية الصائبة المستقيمة عند أصحاب الكهف ، ( لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ) ، لا بدَّ من سلطان بيّن ، ومن يتَّخذه البشر واسطة بينهم وبين ربّهم خليفة وباباً يتوجَّهون به إلى الباري تعالى لا بدَّ أن تقوم عليه البيّنات والبراهين الإلهية على جعله ونصبه وسيلة بين الله وخلقه ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ) ( الكهف : 15 ) ، فلا يمكن جعل شخصية وجعل أشخاص بشريين وسطاء ووسائل توجّه إلى الله عز وجل إلَّا بنصب من الله ، كما يقول الباري تعالى لإبراهيم : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) ( البقرة : 124 ) ، وكما في قوله تعالى لخاتم المرسلين : ( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) ( الأنبياء : 107 ) ، وكما في قوله تعالى أيضاً في شأن خاتم النبيّين وأهل بيته : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ ) ، يعني توجَّهوا بك ولاذوا بحضرتك أوّلًا ، ثمّ : ( فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) ، لا بدَّ أن يضمّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شفاعتهم إلى عبادة العباد واستغفار العباد وتوبتهم ، ( لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) ( النساء : 64 ) ، وكما في قوله تعالى في شأن خاتم المرسلين : ( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا ) يعني إلى رسول الله ، ( يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ) ( المنافقون : 5 ) ، اجعلوه وسيلة ، اجعلوه واسطة ، فهذا منصوب من قبل الله ، وهو المبعوث رحمة ، وأنتم تنفرون عن من نصبه الله رحمة للعالمين ! تبتعدون عنه ! تتنكَّرون عن التوسّل به ! تتنكَّرون عن التوجّه به ! يا للجاحد من الحظّ الأوكس[5] ، ومن السقوط ومن سلب التوفيق ، لماذا ؟ لأنَّ الله عز وجل جعله باب رحمة للعالمين ، وهو خاتم الأنبياء ، فأنت تأنف عن التوسّل به والتوجّه به إلى الله ، هذا على أيّة حال من كما يقال سلْب التوفيق ، وانتكاس الفطرة ، يتنكَّرون للتوجّه والتوسّل بسيّد الأنبياء وأهل بيته عليهم السلام الذين جعلهم وسيلة أيضاً في قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ( الشورى : 23 ) ، وفي قوله الآخر : ( قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( سبأ : 47 ) ، فيستنتج المسلم من هذه الآيات المتعدّدة أنَّ مودّة أهل البيت هي السبيل إلى الله عز وجل بنصّ القرآن الكريم .
الاعتزال عن المجتمع الظالم :
( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) ، الاعتزال هنا اعتزال المسار واعتزال المنهاج ، وقد كان نهج التقيّة واضحاً فيهم ، والتقيّة تعني البرنامج الأمني لأهل الحقّ لأن يحافظوا على أنفسهم في قِبال أهل الضلال ، فسُنّة التقيّة هي سُنّة إخفاء ، والمسايرة في الظاهر مع أهل الضلال ، هذه سُنّة قرآنية يستعرضها لنا القرآن الكريم في أصحاب الكهف ، وهو عبارة عن البرنامج الأمني للحفاظ على إيمانهم وثباتهم على الحقّ ، فالتقيّة في الواقع على طرف النقيض مع النفاق ، النفاق هو إضمار الباطل وإظهار الحقّ ، وأمَّا التقيّة فهي إضمار الحقّ خوفاً من الظالمين والمفسدين والعتاة ، وإظهار مسايرتهم ومداهنتهم مع ما عليه الظالمون من الباطل .
العناية الإلهية في الحفاظ على حجج الله :
بعد ذلك يستعرض لنا القرآن الكريم بقيّة ظاهرتهم : ( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً ) ( الكهف : 17 ) .
وفيها تفاصيل مكث أصحاب الكهف في خفائهم ، وكيف أنَّ الله عز وجل يبيّن ويهيّئ ويمكّن لهم من أسباب العيش مدّة طويلة في خفاء من شعور الناس وعدم معرفتهم بموضعهم ، لماذا ؟ ما هو المغزى وما هي الحكمة من هذه التفاصيل ؟ ليبيّن الله عز وجل أنَّ تغيّب ثُلّة بشرية عن معرفة البشر وعن الشعور بهم ، هذا من سنن الله الجارية ، فإذا كان أهل الصلاح يغيّبهم الله عن الشعور البشري بهم ، فكيف بك بالحجج المنصوبين من قبله ليكونوا في فسحة وأمان وسعة نشاط ، وحيوية في الحركة من دون أن يحول بين قيامهم بالأدوار والمسؤولية ، فالذي يحول بينهم وبين تلك الأدوار والمسؤولية هم قوى الظلم وقوى الظلام والشرّ ، فهذا إذن أمر معهود في القرآن وهو سُنّة إلهية وليس بدعاً .
التشابه بين غيبة أصحاب الكهف والإمام الحجّة عليه السلام :
وقوع الغيبة في هذه الأمّة الإسلاميّة وهي غيبة خفاء لتتسنّى للإمام المهدي عليه السلام الحركة بشكل أوسع ممَّا لو كان معروفاً مكانه ومعروفاً شخصه ومعروفة هويّته ، فمن ثَمَّ حينئذٍ تصل إليه أيدي البطش وأيدي الظالمين لتصفيته وإبادته ، فهذه سُنّة إلهية من وجود برنامج أمني إلهي تؤكّد وتشدّد عليه سورة الكهف ، أو يمكّن للبشر أن يتَّخذ مثل هذه النظم كأسباب قوّة ، والباري تعالى الذي زوَّدهم بهذا العلم لا يخفى عليه استخدام هذه الآلية بنحو يفوق البشر . والإمام المهدي منصوب من قِبَل الله تعالى إماماً ليدير البشرية ويأخذ بيدها إلى سبيل الإصلاح والعدل والقسط ، ولو بنحو السقف الأدنى ، في ظلّ غيبته عليه السلام يمنع به سقوط البشرية في سحيق الهاوية ، سحيق الإبادة ، سحيق الظلم والفساد الأخلاقي والانحلال ، أو الفساد البيئوي .
إنكار الغيبة أسباب ونتائج :
بعد اتّضاح أنَّ غيبة الإمام المنصوب من قبل الله تعالى تمثّل العقيدة الحقّة قرآنياً قبل أن تكون عقيدة مأخوذة من السُنّة القطعية ، فيكون الهجوم والعداء والجحود لهذه العقيدة بهذه الألفاظ الخاوية الرخيصة تنكّراً من هذه الجماعات المكذّبة والجاحدة والمنكرة لحقائق قرآنية عديدة ، فالقرآن يؤكّد كما مرَّ بنا في ظاهرة النبيّ موسى في غيبته وفي خفاء ولادته ثمّ ظهوره للإصلاح والمجابهة للأنظمة الفرعونية ، وكذلك في غيبة النبيّ يوسف ومن ثَمَّ ظهوره وإصلاحه للنظام البشري والقيام بما يحفظ أمن البشرية من الجانب الاقتصادي ، حيث عصفت بهم حالات المجاعة والقحط الشديد ، فلولا النبيّ يوسف الذي كان حجّة من قبل الله وفي ظلّ غيبته ، لعصف بالبشرية حينئذٍ ذلك القحط الشديد ويكون الإقليم المهمّ من أرجاء الأرض يعيش حالة قطع النسل البشري والإبادة ، فتشبّ حينئذٍ الجرائم ، ويشبّ الفساد الخلقي ، وإنَّ الفقر أينما حلَّ يقول للكفر : خذني معك ، وبالتالي يسبّب نوعاً من الوباء الفسادي في شتّى المجالات ، وبالتالي إلى سفك الدماء ، وهذا هو المحذور الذي خافت منه الملائكة ، وطمأن الله مخافة الملائكة من خلق الطبيعة البشرية بجعل خليفة له في الأرض : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة : 30 ) ، فالخليفة يحول دون سوخ الأرض بالفساد ، ودون سوخ الأرض وتفشّي ظاهرة قطع النسل البشري عبر مجالات الفساد المختلفة .
إذن إخفاء الخليفة فيما يقوم به من أدوار ومسؤوليات وغيبته هي ظاهرة متكرّرة في الظواهر القرآنية بتأكيد قرآني وإصرار قرآني في سور عديدة جدَّاً ، وفي أمثلة ونماذج عديدة جدَّاً ، عظةً وعبرةً لهذه الأمّة بما سيجري عليها في تاريخها الأخير وفي عمرها الأكبر الآن من غياب أئمّة أهل البيت عليهم السلام وخفاء الإمام المهدي عن ظهراني المسلمين ، وإن كان حاضراً بين أيديهم ولكن لا يشعرون به ولا يعرفونه ، أي غيبة شعور وغيبة خفاء أكثر من عشرة قرون ، ودخلنا في القرن الثاني عشر .
وحقّ لمن يسائل : أين الآيات حول ظاهرة الإمام المهدي وغيبته ؟
نقول له : هذا سؤال حقّ وحري أن يُجاب عنه ، فعندما كانت هذه العقيدة حقّة ، فلا بدَّ أن يتكفَّل القرآن لمعالجة شؤونها وشجونها في سور عديدة وببيانات عديدة وبنماذج وبزوايا مختلفة ومتنوّعة ، وهذا الذي نجده في القرآن الكريم ، من غيبة لأولياء الله وحججه يستعرضها ويسطرها القرآن الكريم ويبيّن زوايا عديدة وجهات أخرى مختلفة ومتنوّعة ومتعدّدة ، لتصحيح عقائد المسلمين ، وجذبهم نحو مسار ومنهاج الحقّ ، وهو منهاج القرآن ومنهاج النبيّ وأهل بيته ، فلذلك نراه هنا يستعرض قدرة الله في تغييب أهل الكهف عن البشرية ، تغييبهم وليس استئصالهم من وجه الأرض ، بل هم كانوا على صعيد البسيطة والنشأة الأرضية ، ولكن البشرية لم تشعر بهم ولم تعرف موضعهم .
الأسباب الكونية في خفاء الحجج :
يستعرض القرآن الكريم تفاصيل فترة الخفاء لهم ، وكيف أنَّ الأسباب التكوينية التي هيَّأها الله والتي هي خفيّة وخافية على البشر مهَّدها الله وهيَّأها ليعيشوا ويبقوا قروناً من دون أن تشعر بهم البشرية ، ( وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ ) ( الكهف : 14 ) ، كما يقول القرآن الكريم في دعاء أهل الكهف : ( وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً ) ( الكهف : 10 ) ، فهيَّأ لهم عز وجل رحمة ومرفقاً للعيش ، ( يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ) ( الكهف : 16 ) ، بيئات للعيش ترفق بهم وتحول دون بطش الظالمين بهم ، ( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ) اعتزلوا أهل الضلال ، وهم أكثرية البشرية آنذاك ، حينئذٍ ( فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ) ، كهف الخفاء ، ( يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ) ( الكهف : 16 ) ، لذلك يستعرض القرآن الكريم تفاصيل هذه الظاهرة وهذه الحالة ، ويؤكّد ويبيّن بصريح البيان للمسلمين وللمؤمنين أنَّ هذه سُنّة إلهية في التغييب ، أي الإخفاء ، والتغييب بمعنى الخفاء ، لا الإبادة والاستئصال والإبعاد عن وجه الأرض وعن الكرة الأرضية مدّة قرون لأهل الكهف ، أهل الكهف عاشوا فيها بقدرة من الله ، والقرآن يستعرض تفاصيل هذه الأحاديث ، ( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ ) ، لأسباب العيش وحاجة الإنسان إلى العيش في ظلّ الأجواء الطبيعية ، ( وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ ) ( الكهف : 17 ) ، ذلك من سنن الله وآياته التي يجب أن يعتقد بها المسلمون والمؤمنون في إبصار هدى القرآن لعقائدهم التي سيعيشون فيها ، فليس من الاعتباط وليس من المصادفة والاتّفاق تكرار القرآن في سورة بعد سورة غيبة أولياء الله التي هي بمعنى الخفاء ، ذلك لكي لا يحيدوا عن مسار الحقّ ، ولكي لا يحيدوا ولا يعطّلوا عن المسؤولية ؛ لأنَّ الباري تعالى يعلم أنَّ الأمّة الإسلاميّة ستعيش قروناً من عدم الشعور بإمامها وبالخليفة المنصوب من قبله تعالى ، رغم قيامه بالأدوار والمسؤولية بنحو فاعل حيوي ، لكن البشرية لا تشعر به لظروف ولمكايدة ومصارعة الظالمين ، إلى أن تتأهَّل البشرية إلى النضج الكامل فيما يقوم به خليفة الله من تربية البشرية على ذلك بنحو خفي مستتر ليهيّئها إلى ساعة الصفر من ساعات الظهور .
فليس من العبط أو الصدفة أو الاتّفاق غير المحسوب أن يستعرض القرآن الكريم عدّة ظواهر في الغيبة ، فالغيبة هي ظاهرة قرآنية متكرّرة متعدّدة ؛ لأجل أن يبيّن الباري تعالى أنَّ هذا من سُنّة الله ، ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) ( فاطر : 43 ) ، إنَّ إخفاءهم وتمكين الله عز وجل وتهيئته لهم مرفقاً من العيش ليعيشوا في ظلّه من دون أن يحتاجوا إلى الظهور على المكشوف والعلن ذلك من آيات الله ومن هدى الله ؛ لأنَّ هذه هداية ، فإذا آمنت بهذه الآية آمنت بهذه السُنّة الإلهية من الحفاظ وبناء السياج الحفاظي وضمانة الحراسة الإلهية لأوليائه من قِبَل الله ، وليس ذلك بعزيز على الله لذلك . وسوف تهتدي إلى العقيدة الحقّة أنت أيّها المسلم ، أنت أيّها القاري للقرآن ، ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) ( القمر : 17 ) ، ( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) ( محمّد : 24 ) .
التقيّة ودورها في الحفاظ على أولياء الله :
وهم موجودون بين أيدي البشر في الأجيال اللاحقة ، وانقرضت تلك الأجيال التي عاصرتهم سابقاً ، ورغم ذلك هم يتعاطون مع تلك الأجيال اللاحقة بعد قرون بنحو خفي ، أصحاب الكهف يشعرون بالآخرين ، والآخرون لا يشعرون بهوية أصحاب الكهف ، ( وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ) ، هذا هو معنى التقيّة أو معنى الخفاء أو معنى البرنامج الإلهي ، ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ) ، هنا تبيّن الآية على لسان أصحاب الكهف فلسفة التقيّة وفلسفة الخفاء والغيبة ، يستعرضها لنا القرآن الكريم على لسان أهل الكهف ، ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ ) ، أو يلجئوكم على الضلالة ، ( أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ) ( الكهف : 20 ) ، هذه هي فلسفة تشريع التقيّة ، التي يهرّج بها الجاحدون والمنكرون لها ، وكأنَّهم لا يتفطَّنون إلى مثل هذه التعاليم القرآنية ، ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ) ، ( يَظْهَرُوا ) أي يطَّلعوا ، يعلموا ، يشعروا بكم ، هذا هو الغيب .
إذن غيبة الإمام المهدي تعني غيبة شعورنا به ، لا غيبة وجوده ، غيبة علمنا به ، لا غيبة بدنه الشريف ، غيبة معرفتنا به ، لا غيبة دوره ووجوده بين أيدينا وأداء ما عليه من مسؤوليات آلية ، ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ) ، هذه فلسفة الخفاء والغيبة التي يعرضها القرآن على لسان أهل الكهف ، ليبيّن لنا أنَّه ستكون غيبة لإمامكم التي هي غيبة شعوركم أنتم أيّتها الأمّة الإسلاميّة ، شعوركم بإمامكم ، معرفتكم بإمامكم بشخصه وهويَّته ، وإن كان موجوداً بين ظهرانيكم وبين أيديكم ويمارس دوره الملقى عليه من قبل الله تعالى ، وذلك لكي لا تعاوقه قوى الشرّ والضلال والبطش عن أداء مسؤوليته وأدواره الإلهية ، لكنَّه هنا حانت ساعة ظهور أصحاب الكهف ، وانظر لهذا الظهور كيف يعبّر عنه القرآن الكريم ، يقول : ( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) ( الكهف : 21 ) .
هو وعد من الله عز وجل لنصرة أوليائه ، ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) ( القصص : 5 ) ، ( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( الأعراف : 128 ) .
فالوعد الإلهي في الظهور والغلبة للمصلحين يأتي بعد دور خفاء ، هذه سُنّة إلهية ، ( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا ) ، يعني بعد ما يئس الناس من وجودهم وقالوا : إنَّ أصحاب الكهف بادوا أو ماتوا أو انقرضوا لا يُدرى في أيّ وادٍ هم ، ( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ ) يعني أطلع الله البشر عليهم في ساعة ظهورهم ، ( لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) ، وهذه سُنّة الله ، أن يظهر المصلحين في نهاية المطاف ، ( لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها ) ، لماذا ذكره القرآن الكريم لنا في سورة نتلوها دائماً في ختمات القرآن ؟ لأنَّ هذا ما سوف تبتلي وتمتحن به الأمّة الإسلاميّة ، وكي لا تنكر وعد الله ، ولا تعجل وعد الله ، ولا تكذّب بعقيدة الإيمان بخليفة الله في الأرض ، ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة : 30 ) ، هذا الدين بدأ بأهل البيت وسيختم بأهل البيت عليهم السلام ، مضافاً إلى أنَّ هذا مثل ضربه الله أيضاً حتَّى للمعاد ، وأنَّ انطباق الساعة يأتي أيضاً بمعنى ساعة الوعد الإلهي ، فهناك عدّة تفسيرات كلّها تتلائم مع سياق الآية ، بأنَّ المراد من الساعة سواء ساعة القيامة الكبرى أو الساعة الموعودة فيها بإنجاز الوعد الإلهي والضمانة الإلهية .
البناء على القبور :
( وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) ( الكهف : 21 ) ، هنا محطّة لطيفة يذكرها القرآن الكريم ، أنَّ المساجد تتَّخذ على قبور أولياء الله ، وهذه سُنّة يستعرضها القرآن ويقرّها ، ( قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) ، اتّخاذ المساجد لعبادة الله وذكر الله عند قبور أوليائه أمر قد ورد في القرآن الكريم وشرّع في نصّ القرآن الكريم لأصحاب هدى ، فهذا الذي يُمارس من قبل فِرَق المسلمين كافّة عدا الذين يجحدون مثل هذه الشعيرة الإسلاميّة الأصيلة ، أو هذا الشعار القرآني الأصيل ، ففِرَق المسلمين كافّة هي على هذا النهج ؛ لأنَّها مواضع لعبادة الله ، وأقرب لاستجابة الدعاء ، كما ورد في نصّ الحديث النبوي المتواتر : ( ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة )[6]، أي عند قبره الشريف يتَّخذ مصلّى وعبادة لله ويستجاب الدعاء تحت قبّته ، كيف والقرآن الكريم قد أخبرنا بذلك أيضاً : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ ) ، لاذوا بحضرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وبعد ذلك يتأهَّلون ويستعدّون لاستغفار الله ، ( فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) ( النساء : 64 ) ، وكذلك في قوله تعالى : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ) ( البقرة : 125 ) ، آيات عديدة تدلّل على هذا الأصل القرآني ، يبثّ القرآن الكريم هذه التعاليم لمن هم أصحاب هدى ، هم أصحاب الكهف الذين مدحهم القرآن الكريم أيّ مديح ، والحرّ وذو اللبّ تكفيه الإشارة ، ( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً ) ( الكهف : 22 ) ، لا يعرفون هذه المجموعة ، إنَّما هم مجموعة رجال الغيب ، مجموعة شبكة الغيب ، شبكة ظاهرة الخضر ، الأبدال والأوتاد والسيّاح والأركان ، مجموعة الخضر التي تحوط خليفة الله الإمام المهدي ، والله تعالى أعلم بعدَّتهم .
ظاهرة أصحاب الكهف ودورها في حفظ الدين :
دأبت السُنّة الإلهية على إخفاء أولياء الله ومجموعاتهم المجهولة عدَّتُهم ، هؤلاء الذين يخفي الله عز وجل عن شعور البشر أشخاصهم أو معرفة شخصياتهم ومعرفتهم بالهوية ، تلك المجاميع والمجموعات البشرية التي تعدّ للقيام بمسؤوليات إلهية خفيّة في العدد والعدّة ، فهذه سُنّة من الله عز وجل ، ولا يوجب ذلك اللحود والإنكار والاستهزاء بسنن الله تعالى في أوليائه ، لاسيّما المصلحين ، وفي هذه الآية الكريمة تعبير رائع جدَّاً وذو مغزى عميق ، حيث تقول الآية : ( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) ، أطلق عليهم القرآن الغيب ، ممَّا يدلّل على أنَّ المراد من كلمة الغيب في استعمال القرآن الكريم هو كلّ ما كان خافياً شعوره ومعرفته وعلمه عن البشر ، ويساعده المعنى اللغوي أيضاً حيث يعبّر عنه بالغيب ، ومن ثَمَّ ورد في جملة من الروايات عن أهل البيت عليهم السلام تعبير بالغيب عنه عليه السلام .
الإيمان بالحقيقة المهدوية من مصاديق الغيب :
إنَّ أحد مصاديق الغيب هو الإيمان بالإمام المهدي عليه السلام وظهوره فربَّما يتقاصر ذهن الكثير عن الالتفات إلى معنى الغيب ، ويظنّ أنَّ المراد من كلمة الغيب هو ما وراء الموت من النشأة الآخرة مثلًا كالبرزخ ، والقيامة ، أو ما شابه ذلك من العوالم العلوية السماوية وغيرها ، والحال أنَّ القرآن الكريم لا يقصر ولا يحبس استعمال الغيب على ذلك فقط ، بل كلّ ما غاب عن شعور البشر وعن معرفتهم ودرايتهم ، وإن كان في دار الدنيا فإنَّه يكون غيباً بالنسبة إليهم لأنَّه تحت تنفيذ قدرة الله وقضائه ، هذه القدرة الفائقة على قدرة البشر ومُكنتهم ، فمن ثَمَّ يُسمّى غيباً ، قال تعالى : ( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) ( البقرة : 2 ) ، وتتابع الآيات : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ( البقرة : 3 ) ، الغيب فُسّر أيضاً بالإمام المهدي عليه السلام ، وهذا التفسير معهود ويؤنسنا به نفس القرآن الكريم ، أنَّ الغيب كلّ ما كان بتدبير وقضاء وقدرة من الله عز وجل وتتصاعد وتتعالى على قدرة البشر ومكنتهم ومعرفتهم وشعورهم ، يكون حينئذٍ في دائرة الغيب عن البشر ، وبالتالي فالغيب غيبة وليّ الله وغيبة أولياء الله وغيبة المصلحين عن شعور البشر ومعرفتهم بهم بتقدير من الله يكون غيباً ومن الأمور الغيبية التي افترض الله الإيمان بها على المؤمنين ، فهنا تطبيق واضح من القرآن الكريم على غيبة أصحاب الكهف ، غيبة شعور البشر بأصحاب الكهف ، غيبة معرفة البشر بأصحاب الكهف ، مع وجودهم في دار الدنيا وعبَّر عنه القرآن بالغيب .
ظاهرة أصحاب الكهف والإيمان بالحقيقة المهدوية :
هناك نوع من التشابه الوطيد الصلة جدَّاً بين ظاهرة أصحاب الكهف من جانب ، والإمام المهدي وغيبته من جانب آخر ، فقد ابتلي أصحاب الكهف بالملك دقيانوس رأس الضلالة وقومه وأصحابه ، وكانوا هم ثلّة مستضعفة ، فحماها الله وحرسها بالخفاء والغيبة ، هكذا نجد في عهد الإمام الهادي والإمام العسكري عليهما السلام ، كانوا مسجونين في قاعدة عسكرية تدعى ب - ( سُرَّ من رأى ) وهي سامراء حالياً ، وكانت أكبر قاعدة عسكرية في العالم الإسلامي حينذاك ، بل حتَّى ربَّما على وجه الأرض ، وسجن فيها الإمام الهادي والإمام العسكري كسجينين عسكريين تخوّفاً من دور الإمامين عليهما السلام ومن تولّد ابنهم الموعود على لسان النبيّ ولسان جميع الأنبياء بأن يكون المصلح المنقذ المنجي للبشرية والذي يملأها قسطاً وعدلًا ، فالبشارة بالإمام المهدي لم تقتصر على القرآن الكريم فقط : ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) ( التوبة : 33 ) ، ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) ( القصص : 5 ) ، إلى غيرها من الآيات العديدة التي مرَّت بنا ، وأنَّ القرآن وعد بأنَّ الإصلاح سيكون على يد من نصَّبهم الله أئمّة يرثون الأرض ، وإن كانوا في فترة طويلة جدَّاً متطاولة مستضعفين من قبل الظالمين المفسدين ، بل هذا قد ورد في الزبور والتوراة والإنجيل وكتب السماء السابقة : ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) ( الأنبياء : 105 ) ، وقد فسّر الزبور هنا بزبر الكتب السماوية . فجملة الكتب السماوية قد تعرَّضت إلى البشارة بسيّد الأنبياء وبالأئمّة الاثني عشر ، وكذلك بالبشارة بالإمام المهدي عليه السلام وظهوره وإصلاح الأرض على يديه ، وكأنَّه هو خاتمة وثمرة سلسلة مسار الأنبياء والمرسلين أجمع والأئمّة في كلّ حقبة ، فمن ثَمَّ وردت البشارة به وبغيبته في الصحف الأولى .
هنا نلاحظ أنَّ ظاهرة أصحاب الكهف قد وردت فيها جملة من العناوين العقائدية استعملها القرآن الكريم مشاكلة ومشابهة للعقيدة بالإمام المهدي وغيبته الواردة في آيات أخر وسور أخر ، فضلًا عن الأحاديث النبوية الواردة ، مثلًا التعبير : ( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) ( الكهف : 21 ) ، أنَّ هناك وعداً من الله عز وجل ، وهذا الوعد قد فُسّر من قِبَل المفسّرين بالمعاد والبعث ، ولا ضير في هذا التفسير ، لكنَّه لا ينحصر في ذلك ، ففي الحقيقة أنَّ الإعادة والوعد كما استعملها القرآن الكريم في القيامة الكبرى والمعاد الأكبر ، استعملها أيضاً على ما وعد به الله عز وجل البشرية من وعود أخرى قطعها الباري تعالى في القرآن على نفسه ، مثلًا إظهار هذا الدين كلّه على جميع أجزاء الأرض ، هذا وعد أيضاً ومعاد ، وليس المعاد المصطلح المراد منه الآخرة ، فذلك هو المعاد الأكبر ، وذلك هو القيامة الكبرى ، ولكن قد عبَّر القرآن الكريم أيضاً عن كلّ وعد بيوم معيَّن فيه من ظهور الآيات الربّانية وآيات القضاء والقدر الإلهي والحكمة الإلهية البارزة العظيمة ، هو ذاك اليوم ، يوم العدل ، يوم وعد يتحقَّق فيه إنجاز الوعد الإلهي ، وبالتالي فكلّ وعود الله حقّ .
حقيقة الرجعة بين القبول والرفض :
إنَّ ظاهرة أصحاب الكهف ظاهرة خفاء وغيبة ورجعة ، والرجوع ليس كما يقوله التناسخية وبعض الفِرَق الباطلة من حلول روح في بدن آخر ، وما شابه ذلك من هذه الأمور الباطلة الواهية ، وإنَّما هي رجوع هذه الأرواح إلى نفس هذه الأبدان الدنيوية ، كما هو في النوم ، فالنوم كما ورد في الحديث الشريف وكما ورد في الآية الكريم : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ) ( الزمر : 42 ) ، فعبَّر عن النوم أيضاً بأنَّه نوع توفّي للأنفس ، فهو صنف شبيه يشاكل الموت ، فرجوع أصحاب الكهف في الحقيقة ظاهرة بيّنة على عقيدة الرجعة التي تؤمن بها مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، من رجوع الأئمّة الاثني عشر إلى دار الدنيا ، طبعاً في أبدانهم لا في أبدان أخرى ، كي يكون هنا فرز وتمييز بين قول الرجعة وأقوال باطلة أخرى من أقوال التناسخية والمخمّسة وغيرهما من الفِرَق الباطلة ، بل هو رجوع الأرواح إلى نفس أبدانها ، كما في النفس البشرية عندما تنام ، هي نوع توفّ للأنفس شبيه للموت ، فالاستيقاظ نوع من الرجوع ، لكن هذه في فترة قصيرة ستّ ساعات أو ثماني ساعات ، أمَّا في نوع أصحاب الكهف فكان قروناً ، ثمّ بعثهم الله كما عبَّر القرآن الكريم في قصَّة أصحاب الكهف : ( وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ ) ( الكهف : 19 ) ، لكنَّه ليس هو البعث الأكبر ، فذلك في يوم القيامة ، وإنَّما هذا بعث آخر ، كما ورد أيضاً أنَّ الإيقاظ من النوم وإيلاج الروح بعد مفارقتها للبدن في المقام ليس مفارقة كلّية طبعاً هو نوع من البعث الإلهي ، ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ ) ( الأنعام : 60 ) ، فإذن عنوان البعث ورد في القرآن الكريم لليقظة من المنام ، وكذلك ورد في أصحاب الكهف ، وهذا غير التناسخ الباطل ، أو ما تقوله الفِرَق الباطلة ، وإنَّما هو في نفس بدنه وليس في بدن آخر ، علقة بين الروح ونفس البدن ، كما هي في الآخرة حيث تُبعث الأرواح في أبدانهم وليس بأبدان أخرى ، ولا صلة له بالمقولة التناسخية الباطلة .
إذن هناك بعث أكبر ومعاد أكبر وقيامة كبرى ، ويبيّن لنا القرآن الكريم أنَّ هناك عدّة حقب من البعث أيضاً ، ورجعة الأرواح إلى الأبدان نفسها لا أبدان غيرها في دار الدنيا مهما تطاولت القرون ، هذه ظاهرة موجودة في أصحاب الكهف ، وتقع في هذه الأمّة ، وهي عقيدة الرجعة التي تشيّدها مدرسة أهل البيت عليهم السلام .
والجانب المهمّ في مقام حديثنا الذي نحن فيه هو ظاهرة غيبة الإمام المهدي عليه السلام ، وأنَّها قد استُعمل فيها عناوين في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي ، ووردت بنفسها أيضاً في ظاهرة أصحاب الكهف ، إنَّما هي ظاهرة خفاء مجموعة طالت عدّة قرون ، وأنَّ الله وعدهم بأن يظفرهم ولو بإلهام الفطرة وبيقين الفطرة ، أو أنَّ الله وعد في منشور كتبه بأنَّ العاقبة تكون للمتّقين ، وهؤلاء متّقون ، فأنجز الله هذا الوعد ، كما أنَّ هناك وعداً إلهياً أيضاً في الآخرة بالمعاد والقيامة الكبرى ، فهاهنا استعمل الظهور كمصداق من مصاديق تحقّق الوعد الإلهي .
الوعد القرآني في ظهور الإمام الحجّة عليه السلام :
كذلك الحال في ظاهرة الإمام المهدي وغيبته ، هناك وعد قرآني لإظهاره ، وعود في آيات قرآنية وبألسن مختلفة وببيانات قرآنية متنوّعة ، وببيانات في الحديث النبوي المتواتر متعدّدة ، أن يظهر الله المهدي من ذرّية الرسول وذرّية فاطمة وعلي عليهم السلام ليملأها قسطاً وعدلًا .
والتعبير الآخر الثاني المشاكل لما ورد في العقيدة بالإمام المهدي وغيبته بالساعة ، مع أنَّ الساعة هنا أريد بها الساعة الكبرى ، وهي يوم القيامة الكبرى ، ولكن في سياق آخر طبق على ساعة ظهور أصحاب الكهف ، حيث إنَّ هناك نوعاً من المشاكلة بين إظهار الله عز وجل لأصحاب الكهف حيث هو مقدَّر في القضاء الإلهي مع تلك الساعة الكبرى ، وهذا هو الذي ورد أيضاً ، أنَّ أحد معاني الساعة ظهور المهدي ، وإن كان هذا لا ينافي الساعة الكبرى وهي القيامة الكبرى ، وربَّما أطلق على ظهور المهدي القيامة الصغرى ، والرجعة القيامة الوسطى ، وهي رجعة أئمّة أهل البيت عليهم السلام إلى الدنيا .
المتّقون والإيمان بالغيب :
( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) ( البقرة : 2 ) ، من هم المتّقون ؟ أوّل صفة بارزة في المتّقين أنَّهم يؤمنون بالغيب ، يدركونه بحقيقة عقولهم وبإيمان قلوبهم ، وعندما نقول : من أبرز صفاتهم الإيمان بالغيب إنَّما نريد ما قامت عليها البراهين والأدلّة ، كما أنَّ مجرَّد غيبية الحقيقة عن الشعور وعن المعرفة البشرية ليس مدعاة وسبباً للجحود وللإنكار وللاستهزاء وللتهريج ، فهذا أمر عامّ يشمل الإيمان بالله تعالى والإيمان بالنشأة الآخرة وبالمعاد وبأمور غائبة عن شعور وإدراك الإنسان الحسّي وهي كثيرة جدَّاً ، فمن ضمن تلك الأمور التي قام عليها البرهان القرآني وبرهان السُنّة القطعية النبوية والبراهين العقلية قوله تعالى : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة : 30 ) ، إنَّ الاعتقاد بإمامة أهل البيت وبانتهاء هذه الإمامة بالإمام المهدي قامت عليه الأدلّة العامّة القرآنية والأدلّة في الأحاديث النبوية بعنوان عامّ عموم العترة أو بعنوان عامّ عموم جعل الخليفة في الأرض ، وبعنوان خاصّ خصوص الإمام المهدي الثاني عشر ، وما شابه ذلك ، فالأدلّة متنوّعة ومتعدّدة ، وعندما يعجز الشعور والإدراك الحسّي البشري عن الوصول إلى مثل هذا الإمام مع وجوده ما بين أيدينا ، وما بين ظهرانينا ومع ما يقوم به من أدوار عصيبة حساسة في نظام البشر ، ومع قيام البراهين القرآنية والبراهين النبوية على وجوده وعلى قيامه بالمسؤولية .
مع كلّ ذلك لا تكون غيبته عن الشعور الحسّي البشري مدعاة للإنكار والجحود ، فأبرز صفة في المتّقين عقيدتهم بالأدلّة التي تقوم على الحقائق العقائدية ، وإن كانت غائبة عن قوّة وقدرة شعورهم الحسّي ، وليس المراد خصوص الإمام المهدي وغيبته ، ولكن من ضمن ثوابت الغيب التي يؤمن بها المتّقون ، هو الاعتقاد بإمامة الإمام المهدي وغيبته ، هذا التعبير مشاكلته كما مرَّ بنا في القرآن الكريم في ظاهرة أصحاب الكهف والرقيم ، فقد كانت لهم غيبة قرون متطاولة ، ثمّ بعثهم الله وأظهرهم إلى البشرية بعد مرور أجيال وأجيال وقرون .
فنرى استعمال القرآن الكريم عن أمر موجود في نشأة دار الدنيا وعلى وجه الأرض ، إلَّا أنَّه لكونه غائباً عن شعور البشر وقدرة إحساسهم فقد سمّاه القرآن الغيب ، لكن قامت عليه الحقيقة البرهانية القرآنية والأديانية ، ومن ثَمَّ عبَّر عنه بالغيب كما في هذه الآية الكريمة : ( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ ) ( الكهف : 22 ) ، التعبير إذن ورد : ( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) ، قد عبَّر عن هذه الظاهرة بأنَّها غيب ، كذلك في الآيات اللاحقة عندما يقول الباري تعالى : ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ( الكهف : 25 و 26 ) .
[1] الهداية الكبرى : 419 ؛ بحار الأنوار 25 : 53 و 26 .
[2] كقوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ . . ( الأنعام : 165 ) ، ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ . . . ( يونس : 14 ) ، وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ . . . ( يونس : 73 ) ، هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ . . . ( فاطر : 39 ) ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ . . . ( النمل : 62 ) ، وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ . . . ( الأعراف : 69 ) ، وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ . . . ( الأعراف : 74 ) ، يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً . . . ( ص : 26 ) ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ . . . ( النور : 55 ) .
[3] من ذلك ما روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام ، قال : ( إذا قام قائم آل محمّد استخرج من ظهر الكعبة سبعة وعشرين رجلًا خمسة عشر من قوم موسى الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون ، وسبعة من أصحاب الكهف ، ويوشع وصىّ موسى ، ومؤمن آل فرعون ، وسلمان الفارسي ، وأبا دجانة الأنصاري ، ومالك الأشتر ) ، ( تفسير العياشي 32 : 2 ) .
ومن ذلك ما ذكره الثعلبي في تفسيره ( ص 157 ) ، في قصَّة أصحاب الكهف ، وفيه : . . . وأخذوا مضاجعهم ، فصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي عليه السلام ، يقال : إنَّ المهدي يسلّم عليهم فيحييهم الله عز وجل ، ثمّ يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون إلى يوم القيامة .
[4] الرقيم ، قيل : هو القرية ، وقيل : هو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف ، وقيل : هو لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثمّ وضعوه على باب الكهف ، وقيل : هو الجبل الذي فيه الكهف . راجع : ( تفسير الطبري 247 : 15 - 249 ) .
[5] الوكس : النقص ، ( الصحاح 989 : 3 / وكس ) .
[6] معاني الأخبار : 267 / ح 1 ؛ من لا يحضره الفقيه 568 : 2 / ح 3158 .