اشار ممثل المرجعية الدينية العليا في الخطبة الأولى من صلاة الجمعة في الصحن الحسيني الشريف بتاريخ (2 /6 /2017) ان من المناسب ان يعيش الصائم في بداية شهر رمضان الاجواء العبادية والروحية التي وصفها الامام السجاد (عليه السلام) في دعاء دخول شهر رمضان الذي استهله بالحمد ثم التمهيد للصائمين ببيان فضيلة ومكانة ومنزلة هذا الشهر العظيم وخصائصه وافضاله واحسانه على المؤمنين لتنبعث لديهم الهمة والرغبة والنشاط والاندفاع نحو الالتزام بما يفرضه هذا الشهر من تكاليف خاصة تهذب الانسان وتدربه للوصول الى التقوى.
وقال الشيخ عبد المهدي الكربلائي ان الامام (عليه السلام) يضع الصائمين في اجواء خاصة معرفية وروحية للتنبه واليقظة من الغفلة والاستعداد للقيام بالتكاليف المهمة جداً في حياة الصائم، موضحا ان الامام (عليه السلام) يقول: (وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي حَبَانَا بِدِينِهِ، وَاخْتَصَّنَا بِمِلَّتِهِ، وَسَبَّلَنَا فِي سُبُلِ إحْسَانِهِ، لِنَسْلُكَهَا بِمَنِّهِ إلَى رِضْوَانِهِ، حَمْدَاً يَتَقَبَّلُهُ مِنَّا، وَيَرْضَى بِهِ عَنَّا، وَالْحَمْدُ لِلّه الَّذِي جَعَلَ مِنْ تِلْكَ السُّبُلِ شَهْرَهُ شَهْرَ رَمَضَانَ، شَهْرَ الصِّيَامِ، وَشَهْرَ الإِسْلاَم، وَشَهْرَ الطَّهُورِ، وَشَهْرَ التَّمْحِيْصِ، وَشَهْرَ الْقِيَامِ، الَّذِي أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَبَيِّنَات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ...)
واضاف ان الله تعالى نسب هذا الشهر الى نفسه (شهر الله) وفيه رعاية الله تعالى لعباده بالرحمة والبركة والمغفرة والانفتاح الكبير له تعالى على عباده بما لم يجعله الله تعالى في بقية الازمنة حتى حوّل فيه نومه الى عباده وانفاسه الى تسبيح وقبول الاعمال واستجابة الدعاء بما لم يمنحه الله تعالى في بقية الازمنة، مبينا ان الانسان في الاجواء الرمضانية يعيش ضيفاً مكرماً على الله تعالى وعليه ان لا ينس انسانيته مع الآخرين وحفظ كرامتهم واعتبارهم، لانه اراد منه ان يكون انساناً يستحق خلافة الله في الارض.
وتابع ان الله تعالى اراد من الصائم ان يسمو عن الاجواء المادية والشهوية والشيطانية وان يخفف ويضعف ثقل وقيود الجسد والمادة والشهوة على ارادة الانسان المؤمن الذي استخلفه في الارض، موضحا ان هذه القيود تسقط الشخص امام الاخرين وتفقد استقامته وتسحق انسانيته، موضحا ان قضية الصيام تهدف الى ان يكون انساناً وعبداً لله تعالى لا ان يكون انساناً وعبداً للشهوات والغرائز والشيطان.
واستدرك ممثل المرجعية في ايضاح مضامين دعاء الامام السجاد عليه السلام، قائلا:
(وَشَهْرَ الإِسْلاَم): شهر تتجسد فيه الانقياد والطاعة والخضوع لله تعالى بكل ما في هذه الكلمات من معان ومضامين واسعة لا تنحصر بالصيام والامتناع عن المفطرات بل ان تعيش مناهج الاسلام قاطبة فكراً ومعرفة وثقافة وروحاً وممارسة وسلوكاً واقوالاً.. فتجد ان الاسلام بكل ما فيه من حياة متجسدة في هذا الشهر على عباده الصائمين..
(وَشَهْرَ الطَّهُورِ): الشهر الذي يتطهر فيه الصائم ويحقق فيه نقاء الروح..نقاء الفكر والثقافة.. نقاء القلب وتطهيره من مذام الاخلاق.. ونقاء السلوك ونقاء القول والكلام..فالانسان الطاهر بكل ما في الانسان من عقل وروح وقلب وفكر ومشاعر وعواطف هو الهدف..
(َشَهْرَ التَّمْحِيْصِ): التمحيص: تخليص الشيء مما فيه من غيب او بمعنى الابتلاء والاختبار.. ان يكون هذا الشهر المبارك مدخلا ً للنفاذ الى داخل الانسان ليقتلع جذور الفساد فيه ليحصل على خلاصه الروحي من كل ذلك.. وذلك من خلال المراقبة والمحاسبة بتلاوة كتاب الله تعالى والدعاء والصلاة والصوم والصوم الروحي والقلبي ونحوه.. فلا يترك الانسان لنفسه ان تتحكم به نوازعه الخبيثة وغرائزه الشيطانية بل يلاحق هذه النوازع والغرائز والمشاعر الدنية ليقلعها ويبدلها بما هو خير وصلاح..
(وَشَهْرَ الْقِيَامِ): الشهر الذي تتواصل فيه حركة العبادة ليلا ً ونهاراً بما شرعه الله تعالى من كثرة العبادات والصلاة والذكر ليكون هذا التواصل حافظاً لعلاقة العبودية..
(الَّذِي أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) تنبيه الى ضرورة الانفتاح على كتاب "الله تعالى" انفتاحاً واعياً يتلمسون من خلاله الهدى والتمييز بين الحق والباطل.
(اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَلْهِمْنَا مَعْرِفَةَ فَضْلِهِ وَإِجْلاَلَ حُرْمَتِهِ وَالتَّحَفُّظَ مِمَّا حَظَرْتَ فِيهِ) الالهام لغة: الاعلام مطلقاً، واصطلاحاً: القاء الخبر في قلب الغير بلا استفاضة فكرية فيه (أي القاه في روعه).
فان حمل هنا على معناه اللغوي فالمراد بمعرفة فضله العلم به ولو بالتعلّم والاستفاضة وان حمل على الاصطلاحي فالمراد بها ادراكه على ما هو عليه.. والغرض من سؤال الهام معرفة فضله.. ايفاؤه حقه من الاحترام والاحتراز عما لا يحل فيه كما ينبغي ويجب كي لا يكون مقصّراً او متوانياً... واجلال الشيء: تعظيمه، والحرمة: ما لا يحل انتهاكه، والتحفّظ: التحرّز..
(وَأَعِنَّـا عَلَى صِيَامِـهِ بِكَفِّ الْجَـوَارِحِ عَنْ مَعَاصِيْكَ): ان فريضة الصوم قوامها تطويع الارادة وفق ارادة الله تعالى، وتهذيب الشهوات والرغبات ابتغاء مرضاته، وغايتها ترويض النفس على تقوى الله تعالى، والتخلق باخلاق الله تعالى، فالصوم لا يراد منه مقاطعة المفطرات واجتنابها ولاجل ان يشعر الصائم بالجوع والعطش المجردين.. نعم يراد له ان يشعر بالجوع والعطش لاجل نقله الى اجواء الاخرة والى مشاعر الفقراء والمساكين وهم يتضورون جوعاً وعطشاً لتنبعث الرحمة من قلوب الصائمين ويتحركوا لنجدة واغاثة الجائعين والملهوفين فيقضوا حوائجهم ويسدوا رمقهم.. والصوم وسيلة والغاية التقوى فهو منهج تربية ووسيلة فوز وسبب للاستكمال والرقي والعبودية ولا يكون ذلك الا بمراقبة وتطهير الجوارح من مذام الصفات وقبيح الافعال.. لذلك اخذ الامام (عليه السلام) يبين هذه الغاية والوسيلة.. ومن ذلك كف الجوارح أي منعها من المعاصي..
عن ابي عبدالله (عليه السلام): (ان الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، فاذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم وغضوا أبصاركم ولا تنازعوا ولا تحاسدوا).