قال ممثل المرجعية العليا، والمتولي الشرعي للعتبة العباسية المقدسة، سماحة السيد أحمد الصافي، إن فائدة المال الذي يحصل عليه الإنسان بإنفاقه وليس بتجميعه، مؤكداً أن تملك المال اعتباري وقد يزول في أي لحظة.
جاء ذلك في جانب من خطبته الأولى التي ألقاها في صلاة الجمعة من الصحن الحسيني الشريف بحضور حشد غفير من المصلين والزائرين.
وقال سماحته: "الله تبارك وتعالى إنّما أعطانا هذا المال ونحن في مقام أن ندبّر هذا المال ونحن خلفاء في هذا المال، هذا المال حقيقةً لا نملكهُ ملكيّةً غير زائلة وإنّما ملكيّتنا له ملكيّةٌ اعتباريّة سرعان ما ينتقل، أمّا المالكُ الحقيقيّ هو الذي لا ينتقل مُلكُه ولا يزول مُلكُه".
وأضاف "الملكيّة الحقيقيّة هي لله تبارك وتعالى، (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) المالكُ الحقيقيّ لها هو الله جلّ شأنه، بحيث لا يُمكن أن تزول هذه الملكيّة عنه جلّ وعلا، لكن الله تبارك وتعالى يسّر لنا أمورنا في الدنيا وهيّأ لنا كثيراً من الأسباب".
ولفت سماحته إلى أن المال إذا لم يُحسن استخدامُهُ قد يورد صاحبه النيران، واستشهد حول ذلك بقوله: "إنسانٌ عنده أموال ولا يملك عقلاً راجحاً فيُحاول أن يبدّد هذه الأموال ثمّ يأتي يوم القيامة أنّه يورثها الى من يدخل فيها الجنّة وهذا المسكين يتحسّر".
وتابع المتولي الشرعي: "إذا لم يُحسِنْ الإنسان الزينة البنين في المراعاة والتربية قد تكون وبالاً عليه".
وقال سماحته: "إن الإنسان يأنس والإنسان يطلب الآن في الدعاء نحن ندعو الله تعالى أن يطيل أعمارنا عادةً، لكن الإنسان الواعي يفترض أن يقيّد أنّ الله يطيل عمره في خيرٍ وعافيةٍ وفي سلامةٍ من دينه، الله تعالى يرزقه مالاً يتقوّى به على البِرّ والله يرزقه بنين أيضاً يتقوّى بهم على البِرّ على التعليم والتوجيه والإرشاد وإلّا ستكون هذه اللّذّة -لذّة الأنس بالمال والبنين- بمقدار متاع الدنيا".
ونبه ممثل المرجعية العليا إلى أن فائدة المال بإنفاقه وليست بتجميعه وجمعه وخزنه فهذه ليست فائدة للمال، وأشار إلى أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً لابُدّ أن يسعى له لابُدّ أن يبذل فتارةً البذل يكون ببدنه هو يمشي ويسعى، وتارةً البذل يكون بعقله فيفكّر الى أن يصل الى نتيجة وتارةً يبذل المال الذي هو تحت يده حتّى يحصل على المأرب.
إليكم النص الكامل للخطبة:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا خير خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين، الحمد لله الذي لم تسبقْ له حالٌ حالاً، فيكون أوّلاً قبل أن يكون آخراً، ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً، لم يَحْلُلْ في الأشياء فيُقال هو فيها كائن، ولم ينأَ عنها فيُقال هو منها بائن.. إخوتي أبنائي آبائي أهل السؤدد والفلاح سدّدكم اللهُ تعالى لكلّ خير، أخواتي بناتي أمّهاتي بنات العزّة والعفّة حفظكنّ اللهُ تعالى من كلّ مكروه، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.. أوصيكم جميعاً ونفسي الآثمة بتقوى الله تبارك وتعالى، وبادروا آجالكم بأعمالكم وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم، وترحّلوا فقد جُدّ بكم وكونوا قوماً صيح بهم فانتَبَهُوا، سائلين الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإيّاكم من المنتبهين من غفلات هذه الدنيا، وأخذ الله تعالى بأيدينا جميعاً الى ما يُحبّ ويرضى. بدءً نهنّئكم بولادة الحوراء زينب (صلوات الله وسلامه عليها) سائلين الله تبارك وتعالى أن يوفّقنا وإيّاكم لزيارتها وأن يحفظكم جميعاً من كلّ سوء.
من الموارد التي بيّنها القرآن الكريم بيّن أنّ هناك علقةً بين بعض النعم الإلهيّة التي منّ الله تبارك وتعالى بها علينا، وهذه العلقة هي أمرٌ مشروع، أوّلاً لكونها نعمة من الله تبارك وتعالى، وثانياً أنّ الإنسان يحبّ ويودّ هذه النعمة من خلال العيش معها في هذه الدنيا، لكن –في نفس الوقت- نبّهنا الى أنّ هذا ليس هو تمام الرّاحة وإنّما هناك شيءٌ آخر بعده قد يكون لنا خيراً من هذا، نقرأ هذا بشكلٍ واضح في بعض الآيات الشريفة من سورة الكهف، قال الله تبارك وتعالى في هذه السورة المباركة في الآية السادسة والأربعين بسم الله الرحمن الرحيم: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)، هذه النعم التي أنعم الله تبارك وتعالى بها علينا هي نعم كثيرة قد لا يلتفت لها الإنسان في بعض الحالات، لكن عندما يفقد هذه النعمة قد يتحسّر الإنسان، -مثلاً- نعمة القوّة عند الإنسان بما يسّره الله تعالى لِما خَلَقَه من أجله، الإنسان في شبابه عنده بعض القوّة وعنده بعض الاستعداد الى أن يعمل أعمالاً خيّرة وأعمالاً جيّدة، لكنّه غافل أنّ هذه النعمة سوف يأتي يومٌ يفقد فيها الإنسان هذه الطاقة إذا مشى به العمر وبدأ لا يقوى على حركته، فيبدأ يتحسّر على تلك الأيّام التي قضاها وكان يُمكن أن ينتفع منها وكان يُمكن أن يبني بناءً غير زائل، وكلّما التَفَتَ الى الوراء ازداد حسرةً على ما مضى من أيّامه، بعض النعم الله تعالى وهبها لنا ويسّرها لنا لكنْ هذه النعم أيضاً لا يُمكن أن تكون سبباً للغفلة، الله تعالى يُعطي للإنسان مالاً ومعنى المال ما يُتَمَوّل به، وكلّ شيءٍ له ماليّة وله قيمة عند العُرْف هو مال، النقدُ مالٌ والبيتُ والأراضي والبساتين والسيّارات والعقارات هذه كلّها أموال تُتَموَّل عادةً ويتنافس العقلاءُ على تحصيلها، الله تبارك وتعالى إنّما أعطانا هذا المال ونحن في مقام أن ندبّر هذا المال ونحن خلفاء في هذا المال، هذا المال حقيقةً لا نملكهُ ملكيّةً غير زائلة وإنّما ملكيّتنا له ملكيّةٌ اعتباريّة سرعان ما ينتقل، أمّا المالكُ الحقيقيّ هو الذي لا ينتقل مُلكُه ولا يزول مُلكُه، وهذا غير حاصل لا في آبائنا ولا عندنا ولا في أولادنا وإنّما الملكيّة الحقيقيّة هي لله تبارك وتعالى، (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) المالكُ الحقيقيّ لها هو الله جلّ شأنه، بحيث لا يُمكن أن تزول هذه الملكيّة عنه جلّ وعلا، لكن الله تبارك وتعالى يسّر لنا أمورنا في الدنيا وهيّأ لنا كثيراً من الأسباب.
القرآن الكريم يعبّر بهذا التعبير الراقي يقول: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وهذه الزينة الإنسان يبحث عنها لأنّه يحبّ أن يتزيّن ويحبّ أن يتجمّل، والزينة حالةٌ من حالات التكامل عند الإنسان وحالةٌ يسعى لأن يكون دائماً متزيّناً، والزينة إنّما تكون لحالة الفرح (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ...) كما في قضيّة فرعون وموسى (عليه السلام) إشارة الى حالة من حالات الابتهاج والفرح، القرآن الكريم يقول: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) لا تتعدّى ما بعدها، وأمير المؤمنين (عليه السلام) له تعبيرٌ من الآية الشريفة -لاحظوا عبارته- يقول: (إنّ المال والبنين حرثُ الدنيا والعملَ الصالحَ حرثُ الآخرة، وقد يجمعهما الله لأقوامٍ..)، أيضاً ما كان في الدنيا يُعينه على ما يحتاج الى الآخرة، فلنرَ هذه المقابلة التي عقدها القرآنُ الكريم بين ما يكون زينةً للحياة الدنيا وبين ما نحتاجه للآخرة، طبعاً الحديث الشريف لأمير المؤمنين (عليه السلام) يؤكّد هذا المعنى -أنّ المال والبنين حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة- والله قد يجمع حرث الدنيا والآخرة لأقوام، هذه الـ"قد" تُفيد التقليل باعتبارها دخلتْ على فعلٍ مضارع هذا أمرٌ آخر، الآن هذه الآية الشريفة تريد أن تبيّن لنا جميعاً أنّ هناك حالة وهناك حالة أخرى، أنّ الإنسان يزيّن نفسه يتزيّن يتقوّى ويسعى الى أن يحصل على هذه الزينة التي هي بين الأموال وبين البنين، هل هذا شيء مقبول؟ نعم.. مقبول، نعمةٌ من نعم الله تعالى، ولذلك الإنسان يأنس بولده ويأنس بماله لكن المشكلة هنا أنْ هل هذه الزينة هي نهايةُ المطاف أو لا؟!! لا شكّ أنّ هذه الزينة ليست نهاية المطاف بل -والعياذ بالله- قد تنقلب الى شيءٍ آخر، المال إذا لم يُحسن استخدامُهُ قد يورد صاحبه النيران، إنسانٌ عنده أموال ولا يملك عقلاً راجحاً فيُحاول أن يبدّد هذه الأموال ثمّ يأتي يوم القيامة -كما ذكرنا في الجمعة الماضية- أنّه يورثها الى من يدخل فيها الجنّة وهذا المسكين يتحسّر، وكذلك البنون إذا الإنسان لم يُحسِنْ هذه الزينة في المراعاة والتربية قد تكون وبالاً عليه، الإنسان يأنس والإنسان يطلب -لاحظوا إخواني- الآن في الدعاء نحن ندعو الله تعالى أن يطيل أعمارنا عادةً، لكن الإنسان الواعي يفترض أن يقيّد أنّ الله يطيل عمره في خيرٍ وعافيةٍ وفي سلامةٍ من دينه، الله تعالى يرزقه مالاً يتقوّى به على البِرّ والله يرزقه بنين أيضاً يتقوّى بهم على البِرّ على التعليم والتوجيه والإرشاد وإلّا ستكون هذه اللّذّة -لذّة الأنس بالمال والبنين- بمقدار متاع الدنيا.
ثمّ يأتي بعد ذلك متاعٌ آخر، الآيةُ الشريفة تقول: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ) -لاحظوا المقارنة- قطعاً الحياة الدنيا من الله تعالى لكن ما عبّر عنها أنّها عند ربّك، لم يقل: المال والبنون زينة الحياة الدنيا عند ربّك مع أنّ الدنيا عند الله تعالى هو المالك، باعتبار أنّ هذا أمرٌ مؤقّت، ثمّ نأتي الى الباقيات الصالحات، نعم.. من المال والبنين قد نحصل على الباقيات الصالحات، أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (قد يجمعهما الله لأقوام) فهذا المال يفرح الإنسانُ به، لاحظوا إخواني النكتة في المال وهي أنّ المال فائدته بإنفاقه وليست بتجميعه وجمعه وخزنه فهذه ليست فائدة للمال، أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً لابُدّ أن يسعى له لابُدّ أن يبذل فتارةً البذل يكون ببدنه هو يمشي ويسعى، وتارةً البذل يكون بعقله فيفكّر الى أن يصل الى نتيجة وتارةً يبذل المال الذي هو تحت يده حتّى يحصل على المأرب، إذا أراد أن يتصدّق أو أراد أن يصل رحمه أو أراد أن يقضي حوائج الآخرين هذا كلّه يأتي بالإنفاق لا يأتي بالتمنّي، البنون كذلك إنّ هؤلاء الرحمة التي يُعطيها الله تعالى للإنسان، والإنسان أيضاً عندما يجعلها نعمةً من الله تعالى لابُدّ أن يعلم أنّ هذه النعمة يُنتَظَرُ من ورائها شيءٌ ألا وهو الشكر لله تبارك وتعالى، أن هذه نعمة وهذه رحمة أعطاها الله تبارك وتعالى للإنسان فهي لا تعدو أن تكون زينة الحياة الدنيا، يُمكن للإنسان أن يرتّب هذه النعمة بشكلٍ يسعى فيها لنيل ثواب الآخرة.
ما هي الباقياتُ الصالحات؟ -لاحظوا التعبير- القرآن عبّر عنها بـ"باقية" أي أنّها لا تزول وهذا هو الشيءُ الذي يبقى، الصالح أو الباقياتُ الصالحات قال هي (خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ..) عبّر عنها (خيرٌ)، و"خير" صفة للتفضيل تعني أكثر خيراً، المال والبنون خيرٌ لكنّ هذه الباقيات الصالحات أكثر خيريّةً من المال ومن البنين، وأيضاً عندما تقع من الله تعالى موقع القبول قال: (..خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) ما يؤمّل الإنسان فيه قطعاً سيكون في الباقيات الصالحات، لاحظوا إخواني في بعض الحالات الإنسان يعقد آمالاً وبعضُ الآمال تأتي قهراً الى ذهنه، يأمل بهذا المال أن يفعل به كذا وكذا ويأمل بالأولاد أن يكونوا كذا وكذا، آمالٌ تُعقد على ماله أو على بنيه لكن ليس من المعلوم أن تتحقّق هذه الآمال، إمّا هو تتبدّل رؤيته –مثلاً- إنسانٌ فقير لم يكن عنده مال فيتمنّى أن يكون عنده مال حتّى يفعل البِرّ، وعندما يفتح الله تعالى له أبواب الخير ويكون عنده مال لا يفعل البرّ، تتبدّل نيّته لأنّ المال قد يغيّر قناعة الإنسان إذا لم تكنْ عنده نفسيّة راقية ويعرف أنّ ما بيده هو عبارة عن وديعة سرعان ما تذهب وسرعان ما يأخذها صاحبها، فالآمال لا تتحقّق بالعكس قد يحنّ الى أيّام ما كان حين كان سليم النيّة طاهر القلب يتمنّى البِرّ والآن عندما توسّعت أو توسّع ما في يده أصبح على العكس من ذلك، والقصص أمثال هذه القصص قصصٌ كثيرة جدّاً قديماً وحديثاً وستأتي، الإنسان بالنتيجة ينسى وتُغيّره بعض النعم، جاء في الحديث القدسيّ –ما مضمونه- (إنّ من عبادي ما لا يُصلحه إلّا الفقر، وإنّ من عبادي ما لا يُصلحه إلّا الغنى)، وهذه الأمنية لا تتحقّق، يتمنّى لو كان في سابق عهده لكان أفضل، كان أكثر صلةً لرحمه وكان أكثر تواضعاً أمام الناس وكان أكثر إقبالاً على الله تعالى، أمّا الآن فما بينه وبين الأرحام بونٌ بعيد وبينه وبين الله تعالى هو يبتعد عن الله تعالى كثيراً، القرآن الكريم يقول (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ) لاحظوا دقّة القرآن الكريم (الباقيات الصالحات خيرٌ عند ربّك) هو أنّه قد تكون بعض الباقيات التي يرتكبها الإنسان هنا لا تقع موقع القبول من بقيّة الناس، فقد يرون أنّ هذا الفعلَ هو فعلٌ خلاف التعقّل، الناس إذا فقدت الموازين الدقّيّة قد تتصرّف وفق مشتهياتها ووفق ما عندها وهو أمرٌ خاطئ، يرون أنّ هذا التصرّف هو تصرّف خاطئ لأنّ الموازين الحقيقيّة غير موجودة، أنّ الإنسان يحاول أن يدافع عن الحقّ، أو الإنسان يوقّر الفقير لإيمانه أو الإنسان يحترم الكبير ويعطف على الصغير ويتواضع، قد يرى بعض الناس أنّ هذا الأمر غير صحيح، الإنسان قد يسعى ويقطع عشرات الفراسخ من أجل أن يحقّق عبادة، القرآن يقول هذه هي الباقيات الصالحات، الإنسان يعطف على اليتيم يُحاول أن يُشاطر اليتيم في ماله، بعضُ الناس الذين لم يستضيئوا بنور العلم والهداية قد يرى أنّ تصرّفك هذا فيه هدرٌ لمالِكَ وهكذا تتصوّر ذلك بعض النفوس المريضة، بل قد تجد لها جوّاً من هذا الكلام والله تعالى يقول هذه هي الباقيات الصالحات.
–إخواني- أنتم تعلمون لعلّه من مجموع الآيات والروايات أنّ الإنسان يندم يوم القيامة، حتّى الإنسان المؤمن يندم، على ماذا يندم المؤمن؟ نعرف أنّ الفاسق يندم على ما فرّط من عمره عندما تنكشف الحقائق ويرى هذه الأعمال، قطعاً سيصرخ بملء فمه (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا)، القرآن يُبيّن هذا المقطع (ارجعونِ لعلّي أعمل صالحاً) لأنّه بالنتيجة لا يرى شيئاً أمامه في الآخرة، والمؤمن أيضاً عندما يرى تلك النّعم الإلهيّة وجزاءات الأعمال أيضاً يندم ويقول: يا ليتني أفنيتُ عمري في قضاء هذه الحوائج أو في الطاعات لأنّي أرى هذه النتيجة بأمّ عيني، والمؤمن مَنْ يتّعظ لا أن يكون هو عضةً للآخرين، بل هو يتّعظ من الوقائع ويتّعظ من الآخرين، عندما يقرأ القرآن وتمرّ به آيةٌ يعرف أنّ هذه الآية ليست آية مجاملة وليست آية للبلاغة فقط وإنّما آية جعل الله تعالى في كلّ حرفٍ منها مقصداً مهمّاً، طبعاً وأنا أعدّ هذه الخطبة (المال والبنون) إنّما أذكر هذه الحالة ولا أملك لصاحبها إلّا الدعاء، حقيقة طَرَق الباب أو طرقت الباب امرأة، وهذه المرأة من قضاء تلّعفر وهي امرأةٌ مسنّة، وكانت تأنس ببنيها الى أن اختطف الإرهابُ -بكلّ مسمّياته- اختطف منها عشرة من بنيها -وهذه الأسماء كلّها عندي-، وواقعاً هي امرأةٌ مؤمنةٌ سلَّمَتْ أمرها الى الله تبارك وتعالى، وهذا الآن أمامي الملفّ كاملاً يبدأ من اسم الشهيد الأوّل (علي أصغر مصطفى قاسم) -ولا بأس أن أذكر الاسم- وينتهي بالشهيدة (منى مصطفى قاسم)، تسلسل عشرة أسماء من بنيها وطبعاً هي امرأةٌ تحمد الله تعالى على كلّ حال، ماذا تريد هذه المرأة؟ عندما طرقت الباب ماذا تريد؟ قطعاً هي لا تريد الأولاد أن يرجعوا فهي مؤمنةٌ تعلم أنّ البنين بالنتيجة وديعةٌ وهم قد ذهبوا الى الله تعالى بجُرْم هؤلاء الإرهابيّين، لكن كلّ ما تطلبه قالت: عندنا معاملة قد وعدونا قبل سنة أن تُنجَزَ والى الآن لم تُنْجَز المعاملة، أنا أريد قطعة أرض أريد مسكناً فقط، طبعاً –إخواني- لاحظوا نحن لا نستجدي عطفاً من أحدٍ إنّما أنا أتكلّم وأقول أنّ هذه الآية الشريفة عندما تقول: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الله تبارك وتعالى أيضاً يُعطى ويأخذ لأسباب، نعم.. هذا الأجل أجلٌ قد خُرِم نتيجةَ فعل هؤلاء الإرهابيّين لكن في المقابل عندما تجد امرأةً صامدةً صابرةً مسلّمةً أمرها الى الله تعالى واقعاً هذه امرأةٌ نفتخر بها وبأمثالها، طبعاً لا تنسوا أنّ عشرة من الشهداء ليس أمراً قليلاً إنّما هو بيتٌ بكامله، لكن هي قطعاً عندما تتأمّل تتذكّر سيّد الشهداء (عليه السلام) –مثلاً- وتتذكّر زينب (عليها السلام) التي نحتفي اليوم بولادتها ستخفّ عليها هذه المأساة، والحقيقة عندما أقول أمّهاتي –في بداية كلّ خطبة- أنا أقصد أمثال هذه المرأة العفيفة الطاهرة النبيلة الصابرة المحتسبة التي فقدت خيرة أبنائها شباباً وفتاتين، ويبدو أنّ عندها أكثر من فتاة، نعم.. التسلسل ثمانية شهيدة والتسلسل عشرة شهيدة.
على كلّ حال أسال الله سبحانه وتعالى أن يُديم علينا النعم وأن يرزق الله تعالى هذه المرأة الجلد والصبر ونكون إن شاء الله تعالى بخدمتها وخدمة أمثالها، لكن المقصود إخواني أنّ الإنسان عندما يكون مؤمناً وعندما يتحسّس لذّة الإيمان ستهون عليه المصائب، القرآن أيضاً يقول (والباقيات الصالحات..)، نسأل الله تعالى أن يكون هذا الصبر لهذه المرأة وهذه الهمّة أيضاً هي من الباقيات الصالحات لها ولنا.. نسأل الله سبحانه وتعالى دوام التوفيق والتسديد وأرانا الله تعالى كلّ خيرٍ وأراكم كلّ خير، سائلين الله تعالى أن يدفع عنّا وعنكم كلّ سوء وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.