للمخطوطات أهمّيةٌ كبيرة في حياة أبناء الأمّة، فهي الوعاء الذي حفظ لنا العلوم والمعارف والفنون والآداب وأخبار التاريخ وأحداثه، وكلّ نتاجات العقل المسلم المبدع، وكان لها دورٌ فاعل في التواصل الحضاريّ للأمّة، ورفدها بأسباب النهوض في كلّ العصور. كما كان لها تأثير مهمّ في تقديم الحضارة الإنسانيّة، إضافةً إلى قوامها المادّي المتمثّل بصناعتها من الورق والكتابة والتجليد والزخرفة والتزويق، فهي من الآثار المنقولة التي تفرّدت بها الحضارة الإسلاميّة.
يقول الدكتور أسامة النقشبندي في مقالٍ له كان قد نشـره في مجلّة تراثيّات القاهريّة: (وقد عرف الغزاة الأجانب أهميّة المخطوطات في حياة الأمّة في كلّ المجالات، لذلك استُهدِفت المخطوطات وتعرّضت خزائنها إلى الدمار والسرقة خلال الغزو الأجنبيّ، وكان من أشهر السـرّاق الذي تفاخر بنقله أكثر من (1200) مخطوطة من العراق ونقلها إلى مكتبة المتحف البريطاني هو الرحّالة البريطاني (ولسنبتج) الذي طبع رحلته وختمها بقائمةٍ تضمّنت عناوين المخطوطات التي هرّبها إلى بريطانيا وأودعها المتحف البريطاني، وذكر أرقامها في ذلك المتحف. وقد رفعت تقريرًا بذلك في الثمانينيّات، معزّزًا بالقوائم التي صوّرتها من الرحلة المطبوعة والموجودة نسخة منها في مكتبة المتحف العراقيّ، وعلمت أنّ الهيأة العامّة للآثار والتراث طالبت باسترجاعها استنادًا إلى هذه الوثيقة دون فائدة. كما أنّ شركة الهند الشـرقيّة قد اشترت المخطوطات التي جمعها المستشـرق ”ريتشارد جونسون”، ونقلت إلى مكتبة المتحف البريطانيّ، وتحتلّ مجموعته مكانةً في تلك المكتبة، كما قام السويدي “ف. ر. مارتن” في أواخر القرن التاسع عشـر بنقل مجموعة من المخطوطات والمنمنمات، ووصلت بعضُ المخطوطات التي جمعها إلى بوسطن في الولايات المتّحدة الأمريكيّة عن طريق “جاردنر”. ونشطت أسواق بيع المخطوطات والمنمنمات والآثار والتحف في أوربا مطلع القرن العشـرين، وأقيمت لها معارض في باريس سنة 1992م. وميونيخ 1910م، وباريس 1912م وغيرها).
ومن الخزائن المعرفيّة الكبيرة في العصر الحديث خزانة مخطوطات العتبة العبّاسية المقدّسة، وكان زمن تأسيسها يعود إلى 1382هـ، إذ حوت آنذاك على كتب ومصادر مهمّة تربو على الخمسة آلاف، وكانت تضمّ بين دفّتيها مخطوطاتٍ يصل تعدادها إلى نحو الألف مخطوطة، وقد صُودرت هذه النفائس الخطيّة من قبل عصابة البعث المقبور.
أمّا الكتب فصُودر الكثير منها، وأُتلف بعضها الآخر، وما بقي استُخدم كوقود للتدفئة ولصنع الشاي لجنود النظام عند احتلاله للعتبة المقدّسة إبّان الانتفاضة الشعبانيّة المباركة سنة 1411هـ.
جاء في تاريخ الحركة العلميّة في كربلاء، وهو يتحدّث عن خزانة مخطوطات العتبة العبّاسية خلال القرن الماضي: (تحتوي هذه الخزانة على 109 مخطوطة في غايه النفاسة والقدم والقيمة، وهي في مجملها مصاحف قديمة ونادرة جدّاً، وقد نوّه الكاتب المؤرّخ ناصر النقشبندي بثلاثة مصاحف بينها وهي مكتوبة بالخطّ الكوفي، واعتبرها ذات قيمة تاريخيّة وأثريّة، ولم تسلم خزانة الروضة العبّاسية الشريفة كنظيرتها خزانة الروضة الحسينيّة المقدّسة من السلب والنهب في فترات زمنيّة مختلفة، لكونها كانت تضمّ مجوهرات ومفروشات وطنافس وأشياء ثمينة جدّاً، أثارت طمع وحرص المهاجمين والمتطاولين على حرمة كربلاء المقدّسة).
وجاء ذكرُها في كتاب تراجيديا كربلاء للحيدريّ إذ قال: (وفي حضرة العبّاس خزانةٌ فيها ذخائر وأشياء نفيسة جدّاً)، ويوجد في خزانة الروضة العبّاسيّة آنذاك مصحفٌ كبير بالخطّ الكوفي ومذهّب، ومصاحف كبيرة يربو عددها على ستّة عشر مصحفًا، ومصحفان صغيران بالخطّ الكوفيّ.
وقُدّر لهذا الصرح الثقافيّ الكبير أن ينبض بالحياة من جديد، وتسطع منه أشعّةُ الثقافة والمعرفة، وتلوح في الآفاق آمالٌ جديدة لغدٍ مشرق.
وكان من توفيقات الله تعالى ومنّه تأهيل مكتبة ودار مخطوطات العتبة العبّاسيّة المقدّسة، وإعادة افتتاحها بعد سقوط النظام البائد، واستحداث وحداتها بما يتناسب مع ثقافة العصر، وتماشيها مع تطوّرات المسيرة العلميّة والثقافيّة في بلدنا الحبيب، بعد أن عانت هذه المسيرة من مراحل صعبة وخطرة في تلك السنين العجاف، حيث كان الظلام فيها قد غطّى كلّ أفق، والثقافة صُودرت بكلّ أبعادها ومعانيها، والأصوات خُنقت جميعها.
وقد فُتحت بحمد الله تعالى بحلّتها الجديدة، مشمّرةً عن سواعدها، متّكلةً على الله تعالى ومستعينةً به، ومتنسّمةً ألطاف المولى أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين(عليهما السلام).
وكان للعناية الكبيرة التي أولاها سماحة المرجع الدينيّ الأعلى الإمام السيد السيستاني(دام ظلّه الشريف) الأثر الكبير في إعادة تأهيل مكتبات العتبات المقدّسة، فرُفدت المكتبة بآلاف المصادر، واستُحدثت فيها الوحدات الجديدة؛ كوحدة التزويد، والمكتبة الإلكترونيّة، والفهرسة، والتحقيق، والاستنساخ.
وبعد مضيّ أقلّ من ثلاث سنين على إعادة التأهيل حدثت قفزةٌ نوعيّة فيها، فتمّ تفعيل جملةٍ من الوحدات المهمّة؛ كوحدة ترميم المخطوطات، ووحدة تصوير المخطوطات وفهرستها، ووحدة التأليف والدراسات، حتى صارت بحمد الله تعالى متكاملةً متماشيةً مع واقع الثقافة، ملبّيةً لطموح الباحثين والقرّاء بمشاربهم الفكريّة المختلفة.
واليوم توجد في خزانة المخطوطات التابعة للروضة العبّاسية آلافُ المخطوطات كما يحدّثنا السيّد نوري الموسوي المشرف على دار المخطوطات: "إنّ حصيلة الجهود المبذولة لهذا العمل الكبير هو إيداعُ ما يقرب من (خمسة آلاف) مخطوطة في (خزانة مكتبة العتبة المقدّسة) تُعدّ من جواهر التراث الإنسانيّ الفكريّ والأدبيّ، والحصول على ما يقرب من (150 ألف) مخطوطة مصوّرة بأحدث التقنيّات وفق معاهدات واتّفاقات تعاون مشترك للتبادل الثقافيّ مع أهمّ وأبرز المكتبات ودور المخطوطات".