كثيراً ما تسلط الأضواء على أماكن التلوث بمخلفات البلاستيك في بحارنا ومحيطاتنا. لكن هناك أدلة على أن هذا التلوث مشكلة تتعرض لها أيضاً المياه العذبة، والتي يمكن أن تكون المصدر الأول لهذا النوع من التلوث.
في عام 2016، جاب فريق من العلماء 12 شاطئاً حول سواحل بحيرة جنيف في سويسرا، ليس بحثاً عن الحيوانات أو النباتات، لكن بحثاً عن القمامة، وتحديداً المخلفات البلاستيكية.
لم يكن من العسير عليهم جمع المهملات المعروفة التى تلقى يومياً في البحيرة. واشتمل ذلك على أغطية العبوات، وعيدان تنظيف الأذنين القطنية، والأقلام، ولعب الأطفال، والماصات البلاستيكية التي تستعمل في شرب السوائل. كما جمعوا أشياء متفرقة غير معروف أصلها بالضبط، مثل قطع البوليستيرين، التي تستعمل لحماية الأشياء الهشة من الكسر عند شحنها من مكان لآخر.
كن جمع هذه البقايا لم يكن هو الهدف الرئيسي للفريق، كما يقول مونتسيرات فيليلا، الباحث بجامعة جنيف. فقد أراد وفريقه معرفة ما إذا كانت المواد الكيماوية التي تنبعث من هذه المواد البلاستيكية ضارة.
ويأتي تحليلهم في وقت يضيق العالم فيه ذرعاً بالتلوث البلاستيكي الذي يسببه الإنسان، من أكوام البلاستيك الضخمة المتراكمة في المحيطات، إلى المواد البلاستيكية متناهية الصغر في مجاري الأنهار.
لقد وصلت بنا الأمور إلى مرحلة وصفتها الأمم المتحدة بأنها "أزمة كوكبية" تخرب نظامنا البيئي وتضر بالحياة على كوكب الأرض. وعلى الرغم من زيادة الوعي بضرر التلوث البلاستيكي، إلا أنه منتشر في كل مكان.
ورغم أن الحلول المحتملة لهذه المعضلة، مثل ابتكار أنزيمات تتغذي على البلاستيك، والتي أعلن عنها في شهر أبريل/نيسان الماضي هذا العام، ربما تساعدنا في يوم ما على التقليل من هذه النفايات، إلا أنه ليس هناك ضمانة أنها ستحل مشكلة الأطنان المكدسة من هذه القمامة، الموجودة حالياً في الطبيعة.
لكن التلوث البحري بمواد البلاستيك يمكن دراسته وفهمه بشكل أفضل بكثير من دراسة وفهم أنواع التلوث الأخرى الموجودة في مصادر المياه العذبة.
يقول فيليلا: "تتزايد الدراسات المتعلقة بنظم المياه العذبة، لكنها مازالت على نطاق أصغر بكثير من دراسة البحار والمحيطات". ويمكن أن يرجع السبب في ذلك ببساطة إلى حقيقة أن الدراسات الأولية ركزت على المحيطات، وبالتالي جاءت مواضيع البحث المقترحة، والمنح المتوفرة لتمويلها، لتركز على هذا المجال بصورة أكبر.
ولم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل أن يبلغ فريق دراسة الشواطىء في جنيف مراده. فقد جمع فيليلا وزملاؤه أكثر من 3000 عينة. ومضوا قدماً لتحليل 670 من هذه العينات، كاشفين اللثام عن بعض النتائج المثيرة للقلق.
وقد احتوت الكثير من هذه العينات على مواد سامة تشكل خطراً على الصحة، بما في ذلك الرصاص والزئبق و الكَدْمُيوم، وفي بعض الأحيان "بدرجات تركيز عالية"، كما ورد في بحث منشور بمجلة فرونتيرز لعلوم البيئة.
وقد حُظر استخدام الكثير من هذه العناصر السامة الآن، أو قُيد استعمالها. يقول فيليلا: "هذا يعكس طول مدة تراكم المواد البلاستيكية في البحيرة. فالبلاستيك يتراكم فيها منذ عدة عقود. وكما نعلم، فإن البلاستيك يحتاج إلى مئات السنوات لكي يتحلل.
هذه الأنواع من البلاستيك تتوافق مع ما تلفظه الأمواج على الكثير من الشواطىء. ويبدو أن المواد التي تشكل خطراً والتي كشف الفريق عن أنها "موجودة في المواد البلاستيكية التي استخرجت من بحيرة جنيف بنسب أكثر من العينات التي استخرجت من البحار والمحيطات"، كما يقول فيليلا.
ولذلك، فإن تأثيرها على الحياة البرية يظل مصدر قلق كبير. فانتشار المواد البلاستيكية في المياه وعلى سواحل وشواطىء الأنهار والبحيرات يعني أنه يمكن أن تبتلعها الأحياء والكائنات الأخرى الموجودة في البرية.
فإذا ابتعلت الأحياء البرية هذه المواد البلاستيكية، فإن الأحماض الموجودة في أحشائها تسرع من تحلل البلاستيك، مما يساعد على إطلاق تلك المواد الخطيرة والضارة بسرعة أكبر. ثم أن هناك التأثير على الحيوان أو الطائر نفسه. فنظراً لقلة وجود دراسات عن هذا الموضوع، ليس معروفاً بعد بشكل واضح كيف تتكيف الكائنات الحية في المياه العذبة عندما تبتلع النفايات البلاستيكية.
ويقضي مارتن واغنر من الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا كثيراً من وقته في البحث عن آثار ذلك. وكان من دواعي سعادته أن يتوصل إلى أن الكائنات الموجودة في المياه العذبة والتي فحصها في دراسته لا تعاني إلا عندما تتعرض لتركيز أكبر من المواد البلاستيكية متناهية الصغر مما هو موجود حالياً في البحيرات والأنهار.
لكنه مازال يشعر بالقلق. فدراسته أجريت على كائن لا فقاري واحد، ونحن نعرف أنه توجد آثار أخرى كثيرة لابتلاع البلاستيك على الكائنات البحرية جرى توثيقها. فالدراسات تشير إلى أن السلاحف البحرية تنفق بشكل روتيني عندما تسد المواد البلاستيكية جهازها الهضمي على سبيل المثال.
ويمكن أن يدمر البلاستيك أيضاً بطانات المعدة، ويغلق قنوات الهضم، أو يمكن أن يسبب اضطرابات بالمعدة.
ويعتقد فيليلا أن هذا يحدث في المياه العذبة أيضاً. ويقول: "ربما احتجنا إلى كثير من البلاستيك للقضاء على برغوث الماء، لكن ذلك لا ينبئنا بالنتائج طويلة الأمد، والآثار البيئية المترتبة عليه. البلاستيك لن يختفي. فهو موجود في البيئة وسيبقى فيها لعقود طويلة".
بحيرة جنيف ليست وحيدة في هذا المجال. فهناك بحيرات أخرى توجد بها مستويات مشابهة من التلوث. بحيرة غاردا الإيطالية على سبيل المثال، بها مستويات عالية من النفايات البلاستيكية. فقد ظهر في عينة أخذت من الجزء الشمالي من البحيرة أنها تحتوي على 1000 جسيم بلاستيكي كبير، و450 جسيم بلاستيكي صغير (بلاستيك متناهي الصغر) لكل متر مربع.
النفايات البلاستيكية متناهية الصغر مؤذية بشكل خاص، كما أثبتت دراسة في عام 2015. وهي عبارة عن مواد صغيرة تبلغ نصف سنتيمتر أو أقل، وهي غالباً الأجزاء المتكسرة من قطع بلاستيكية أكبر.
وهي توجد بشكل عام في البحيرات ومجاري الأنهار، خصوصاً في الرواسب، ومن السهل أن تظنها الأحياء المائية طعاماً عن طريق الخطأ.
بعض هذه القطع الصغيرة يأتي من أنسجة بلاستيكية تدخل في صناعة ملابسنا، وبعضها الآخر يأتي من مستحضرات التجميل التي تدخل في صناعتها الميكروبيدات، والتي هي جسيمات بلاستيكية مصنعة حجم الواحدة منها أقل من ملليميتر. (والتي أصبحت محظورة في بريطانيا الآن).
وتوصلت إحدى الدراسات إلى أن قطع البلاستيك متناهية الصغر موجودة أيضاً في مياه الشرب. ودراسة أخرى اكتشفت وجود آثار البلاستيك في منتجات مثل البيرة والعسل.
لكن "ليس معروفاً بعد مدى علاقة و تأثير هذه المواد على الحياة المائية"، كما ورد في دراسة عام 2015.
كما أنه ليس واضحاً كيف يمكن أن يؤثر ذلك على صحة الإنسان، وهو الأمر الذي يقول معدو الدراسة إنه "مثير للقلق".
وتوضح قائدة فريق الباحثين دافنا إركيس-ميدرانو أنه عندما يتعلق الأمر بالمياه العذبة، سنجد تلوثا أكبر كلما بحثنا عن التلوث بالبلاستيك.
حتى في بحيرة هوفسغول المنغولية النائية، فإن بقايا البلاستيك متناهية الصغر موجودة بوفرة. فقد كشف فحص لعينات أخذت من البحيرة عن حد أقصى يبلغ 44,435 قطعة بلاستيك صغيرة في كل كيلومتر مربع، أي ما يساوي تقريباً الكميات الموجودة في بحيرة جنيف، والتي تحتوي على 48,146 قطعة لكل كيلومتر مربع. بعض هذه البقايا البلاستيكية تنتشر بفعل الرياح في البحيرة، كما توصل لذلك أحد التحليلات.
وبات الآن أكثر وضوحاً أن الكثير من البلاستيك الذي ينتهي به المطاف في البحار والمحيطات يبدأ رحلته من مصادر المياه العذبة كالأنهار والبحيرات، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن كميته التي تأتي من هذه المصادر تصل إلى 10-80 في المئة. ويمكن أن يكون مصدرها المصانع القريبة من الأنهار، كما يقول واغنر.
ولا يوجد حل واحد لمشكلة البلاستيك، خصوصاً أن البلاستيك موجود بوفرة في كثير من المنتجات التي نستخدمها يومياً. وهذا هو السبب في أن واغنر يحثنا جميعاً على "العودة إلى أصل المشكلة" للتفكير بشكل أكثر عمقاً في كيفية تقليل استعمالنا للبلاستيك، من تغليف طعامنا، إلى أكواب القهوة والشاي التي نستخدمها لمرة واحدة.
ويقول واغنر: "ينبغي أن نتخلى عن منطق الإنتاج والاستعمال ومن ثم الإلقاء في المهملات، وعلينا محاولة ابتكار نظام اقتصادي يمكن فيه إعادة استخدام كل المواد المستعملة".
إن خفض استخدامنا للبلاستيك من شأنه التقليل من النفايات البلاستيكية التي تلفظها الأمواج على الشواطىء، حتى لو كان البلاستيك الذي نستخدمه اليوم أقل سمية وضرراً من الذي كنا نستخدمه في السابق. لكن كما توضح الدراسات التي جرت على بحيرة جنيف، فإنه ولعقود طويلة، على الأقل، سيبقى البلاستيك الموجود في قاع البحيرة يطلق المواد السامة.
ويقول فيليلا: "ربما يستغرق الأمر عقوداً للتخلص من هذه المشكلة".