أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-2-2018
5495
التاريخ: 11-2-2018
8292
|
قال تعالى : {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } [القيامة: 20 - 40].
{كلا} أي لا تتدبرون القرآن وما فيه من البيان {بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة} أي تختارون الدنيا على العقبي فيعلمون للدنيا لا للآخرة جهلا منهم وسوء اختيار.
ثم بين سبحانه حال الناس في الآخرة فقال {وجوه يومئذ} يعني يوم القيامة {ناضرة} أي ناعمة بهجة حسنة عن ابن عباس والحسن وقيل مسرورة عن مجاهد وقيل مضيئة بيض يعلوها النور عن السدي ومقاتل جعل الله سبحانه وجوه المؤمنين المستحقين للثواب بهذه الصفة علامة للخلق والملائكة على أنهم الفائزون {إلى ربها ناظرة} اختلف فيه على وجهين أحدهما: أن معناه نظر العين والثاني : أنه الانتظار واختلف من حمله على نظر العين على قولين أحدهما أن المراد إلى ثواب ربها ناظرة أي هي ناظرة إلى نعيم الجنة حالا بعد حال فيزداد بذلك سرورها وذكر الوجوه والمراد أصحاب الوجوه روي ذلك عن جماعة من علماء المفسرين من الصحابة والتابعين لهم وغيرهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى وجاء ربك أي أمر ربك وقوله وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار أي إلى طاعة العزيز الغفار وتوحيده وقوله إن الذين يؤذون الله أي أولياء الله.
والآخر: أن النظر بمعنى الرؤية والمعنى تنظر إلى الله معاينة رووا ذلك عن الكلبي ومقاتل وعطاء وغيرهم وهذا لا يجوز لأن كل منظور إليه بالعين مشار إليه بالحدقة واللحاظ والله يتعالى عن أن يشار إليه بالعين كما يجل سبحانه عن أن يشار إليه بالأصابع وأيضا فإن الرؤية بالحاسة لا تتم إلا بالمقابلة والتوجه والله يتعالى عن ذلك بالاتفاق وأيضا فإن رؤية الحاسة لا تتم إلا باتصال الشعاع بالمرئي والله منزه عن اتصال الشعاع به على أن النظر لا يفيد الرؤية في اللغة فإنه إذا علق بالعين أفاد طلب الرؤية كما أنه إذا علق بالقلب أفاد طلب المعرفة بدلالة قولهم نظرت إلى الهلال فلم أره فلو أفاد النظر الرؤية لكان هذا القول ساقطا متناقضا وقولهم ما زلت أنظر إليه حتى رأيته والشيء لا يجعل غاية لنفسه فلا يقال ما زلت أراه حتى رأيته ولأنا نعلم الناظر ناظرا بالضرورة ولا نعلمه رائيا بالضرورة بدلالة أنا نسأله هل رأيت أم لا وأما من حمل النظر في الآية على الانتظار فإنهم اختلفوا في معناه على أقوال أحدها: أن المعنى منتظرة لثواب ربها وروي ذلك عن مجاهد والحسن وسعيد بن جبير والضحاك وهو المروي عن علي (عليه السلام) ومن اعترض على هذا بأن قال إن النظر بمعنى الانتظار لا يتعدى بإلى فلا يقال انتظرت إليه وإنما يقال انتظرته فالجواب عنه على وجوه منها أنه قد جاء في الشعر بمعنى الانتظار معدي بإلى كما في البيت الذي سبق ذكره :
((ناظرات إلى الرحمن)) وكقول جميل بن معمر :
وإذا نظرت إليك من ملك *** والبحر دونك جدتني نعما(2)
وقول الآخر :
إني إليك لما وعدت لناظر *** نظر الفقير إلى الغني الموسر
ونظائره كثيرة ومنها أن تحمل إلى في قوله {إلى ربها ناظرة} على أنها اسم فهو واحد الآلاء التي هي النعم فإن في واحدها أربع لغات إلي وألى مثل معا وقفا وإلي وإلىً مثل جدي وحسي وسقط التنوين بالإضافة وقال أعشى وائل :
أبيض لا يرهب الهزال ولا *** يقطع رحما ولا يخون إلى
أي لا يخون نعمة من أنعم عليه وليس لأحد أن يقول إن هذا من أقوال المتأخرين وقد سبقهم الإجماع فإنا لا نسلم ذلك لما ذكرناه من أن عليا (عليه السلام) ومجاهدا والحسن وغيرهم قالوا المراد بذلك تنتظر الثواب ومنها أن لفظ النظر يجوز أن يعدى بإلى في الانتظار على المعنى كما أن الرؤية عديت بإلى في قوله تعالى أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل فأجرى الكلام على المعنى ولا يقال رأيت إلى فلان ومن إجراء الكلام على المعنى قول الفرزدق :
ولقد عجبت إلى هوازن أصبحت *** مني تلوذ ببطن أم جرير(3)
فعدي عجبت بإلى لأن المعنى نظرت وثانيها: أن معناه مؤملة لتجديد الكرامة كما يقال عيني ممدودة إلى الله تعالى وإلى فلان وأنا شاخص الطرف إلى فلان ولما كانت العيون بعض أعضاء الوجوه أضيف الفعل الذي يقع بالعين إليها عن أبي مسلم وثالثها: أن المعنى أنهم قطعوا آمالهم وأطماعهم عن كل شيء سوى الله تعالى ووجوده دون غيره فكنى سبحانه عن الطمع بالنظر أ لا ترى أن الرعية تتوقع نظر السلطان وتطمع في إفضاله عليها وإسعافه في حوائجها فنظر الناس مختلف فناظر إلى سلطان وناظر إلى تجارة وناظر إلى زراعة وناظر إلى ربه يؤمله وهذه الأقوال متقاربة في المعنى وعلى هذا فإن هذا الانتظار متى يكون فقيل إنه بعد الاستقرار في الجنة وقيل إنه قبل استقرار الخلق في الجنة والنار فكل فريق ينتظر ما هوله أهل وهذا اختيار القاضي عبد الجبار.
وذكر جمهور أهل العدل أن النظر يجوز أن يحمل على المعنيين جميعا ولا مانع لنا من حمله على الوجهين فكأنه سبحانه أراد أنهم ينظرون إلى الثواب المعد لهم في الحال من أنواع النعيم وينتظرون أمثالها حالا بعد حال ليتم لهم ما يستحقونه من الإجلال ويسأل على هذا فيقال إذا كان بمعنى النظر بالعين حقيقة وبمعنى الانتظار مجازا فكيف يحمل عليهما والجواب أن عند أكثر المتكلمين في أصول الفقه يجوز أن يراد بلفظة واحدة إذ لا تنافي بينهما وهو اختيار المرتضى قدس الله روحه ولم يجوز ذلك أبو هاشم إلا إذا تكلم به مرتين مرة يريد النظر ومرة يريد الانتظار.
وأما قولهم المنتظر لا يكون نعيمه خالصا فكيف يوصف أهل الجنة بالانتظار فالجواب عنه أن من ينتظر شيئا لا يحتاج إليه في الحال وهو واثق بوصوله إليه عند حاجته فإنه لا يهتم بذلك ولا يتنغص سروره به بل ذلك زائد في نعيمه وإنما يلحق الهم المنتظر إذا كان يحتاج إلى ما ينتظره في الحال ويلحقه بفوته مضرة وهو غير واثق بالوصول إليه وقد قيل في إضافة النظر إلى الوجوه إن الغم والسرور إنما يظاهران في الوجوه فبين الله سبحانه أن المؤمن إذا ورد يوم القيامة تهلل وجهه وأن الكافر العاصي يخاف مغبة أفعاله القبيحة فيكلح وجهه وهو قوله {ووجوه يومئذ باسرة} أي كالحة عابسة متغيرة {تظن أن يفعل بها فاقرة} أي تعلم وتستيقن أنه يعمل بها داهية تفقر ظهورهم أي تكسرها وقيل إنه على حقيقة الظن أي يظنون حصولها جملة ولا يعلمون تفصيلها وهذا أولى من الأول لأنه لوكان بمعنى العلم لكان أن بعده مخففة من أن الثقيلة على ما ذكر في غير موضع وذكر سبحانه هذه الوجوه الظانة في مقابلة الوجوه الناظرة فهؤلاء يرجون تجديد الكرامة وهؤلاء يظنون حلول الفاقرة فيكون حال الوجوه الراجية للأحوال السارة على الضد من حال الوجوه الظانة للفاقرة .
ثم بين سبحانه حالهم عند النزع فقال {كلا} أي ليس يؤمن الكافر بهذا وقيل معناه حقا {إذا بلغت} النفس أو الروح ولم يذكره لدلالة الكلام عليه كما قال ما ترك على ظهرها من دابة يعني على ظهر الأرض {التراقي} أي العظام المكتنفة بالحلق وكنى بذلك عن الإشفاء على الموت {وقيل من راق} أي وقال من حضره من أهله هل من راق أي طبيب شاف يرقيه ويداويه فلا يجدونه عن أبي قلابة والضحاك وقتادة وابن زيد قال قتادة التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من عذاب الله شيئا وقيل إن معناه قالت الملائكة من يرقى بروحه أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب عن ابن عباس ومقاتل قال أبو العالية تختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أيهم يرقي روحه وقال الضحاك أهل الدنيا يجهزون البدن وأهل الآخرة يجهزون الروح.
{وظن أنه الفراق} أي وعلم عند ذلك هذا الذي بلغت روحها تراقيها أنه الفراق من الدنيا والأهل والمال والولد والفراق ضد الوصال وهو بعاد الألاف وجاء في الحديث أن العبد ليعالج كرب الموت وسكراته ومفاصله يسلم بعضها على بعض يقول عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة {والتفت الساق بالساق} قيل فيه وجوه أحدها: التفت شدة أمر الآخرة بأمر الدنيا عن ابن عباس ومجاهد والثاني : التفت حال الموت بحال الحياة عن الحسن والثالث : التفت ساقاه عند الموت عن الشعبي وأبي مالك لأنه يذهب القوة فيصير كجلد يلتف بعضه ببعض وقيل هو أن يضطرب فلا يزال يمد إحدى رجليه ويرسل الأخرى ويلف إحداهما بالأخرى عن قتادة وقيل هو التفاف الساقين في الكفن والرابع: التف ساق الدنيا بساق الآخرة وهو شدة كرب الموت بشدة هول المطلع والمعنى في الجميع أنه تتابعت عليه الشدائد فلا يخرج من شدة إلا جاءه أشد منها.
{إلى ربك يومئذ المساق} أي مساق الخلائق إلى المحشر الذي لا يملك فيه الأمر والنهي غير الله تعالى وقيل يسوق الملك بروحه إلى حيث أمر الله تعالى به إن كان من أهل الجنة فإلى عليين وإن كان من أهل النار فإلى سجين والمساق موضع السوق {فلا صدق ولا صلى} أي لم يتصدق بشيء ولم يصل لله {ولكن كذب} بالله {وتولى} عن طاعته عن الحسن وقيل معناه لم يصدق بكتاب الله ولا صلى الله ولكن كذب بالكتاب والرسول وأعرض عن الإيمان عن قتادة {ثم ذهب إلى أهله يتمطى} أي يرجع إليهم يتبختر ويختال في مشيته وقيل إن المراد بذلك أبو جهل بن هشام.
{أولى لك فأولى} وهذا تهديد من الله له والمعنى وليك المكروه يا أبا جهل وقرب منك وجاءت الرواية أن رسول الله أخذ بيد أبي جهل ثم قال له أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى فقال أبو جهل بأي شيء تهددني لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا وإني لأعز أهل هذا الوادي فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقيل معناه الذم أولى لك من تركه إلا أنه حذف وكثر في الكلام حتى صار بمنزلة الويل لك وصار من المحذوف الذي لا يجوز إظهاره وقيل هو وعيد على وعيد عن قتادة ومعناه وليك الشر في الدنيا وليك ثم وليك الشر في الآخرة وليك والتكرار للتأكيد وقيل بعدا لك من خيرات الدنيا وبعدا لك من خيرات الآخرة عن الجبائي وقيل أولى لك ما تشاهده يا أبا جهل يوم بدر فأولى لك في القبر ثم أولى لك يوم القيامة فلذلك أدخل ثم فأولى لك في النار .
{أ يحسب الإنسان} يعني أبا جهل {أن يترك سدى} مهملا لا يؤمر ولا ينهى عن ابن عباس ومجاهد والألف للاستفهام والمراد الإنكار أي لا ينبغي أن يظن ذلك وقيل أنه عام أي أ يظن الإنسان الكافر بالبعث الجاحد لنعم الله أن يترك مهملا من غير أمر يؤخذ به فيكون فيه تقويم له وإصلاح لما هو أعود عليه في عاقبة أمره وأجمل به في دنياه وآخرته {أ لم يك نطفة من مني يمنى} أي كيف يظن أن يهمل وهو يرى في نفسه ومن تنقل الأحوال ما يمكنه أن يستدل به على أن له صانعا حكيما أكمل عقله وأقدره وخلق فيه الشهوة فيعلم أنه لا يجوز أن يخليه من التكليف ومعنى قوله {يمنى} أي يقدر وقيل معناه يصب في الرحم {ثم كان علقة فخلق} منها خلقا في الرحم {فسوى} خلقه وصورته وأعضاءه الباطنة والظاهرة في بطن أمه وقيل فسواه إنسانا بعد الولادة وأكمل قوته وقيل معناه فخلق الأجسام فسواها للأفعال وجعل لكل جارحة عملا يختص بها.
{فجعل منه} أي من الإنسان {الزوجين الذكر والأنثى} وقيل من المني وهذا إخبار من الله سبحانه أنه لم يخلق الإنسان من المني ولم ينقله من حال إلى حال ليتركه مهملا فإنه لا بد من غرض في ذلك وهو التعريض للثواب بالتكليف {أ ليس ذلك} الذي فعل هذا {بقادر على أن يحيي الموتى} هذا تقرير لهم على أن من قدر على الابتداء قدر على البعث والإحياء فإن من قدر على جعل النطفة علقة والعلقة مضغة إلى أن يجعلها حيا سليما مركبا فيه الحواس الخمس والأعضاء الشريفة التي يصلح كل منها لما لا يصلح له الآخر وخلق الزوجين الذكر والأنثى الذين يصح بهما التناسل فإنه يقدر على إعادته بعد الموت إلى ما كان عليه من كونه حيا وجاء في الحديث عن البراء بن عازب قال لما نزلت هذه الآية {أ ليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((سبحانك اللهم وبلى)) وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) وفي الآية دلالة على صحة القياس العقلي فإنه سبحانه اعتبر النشأة الثانية بالنشأة الأولى .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص198-205.
2-قوله : البحر دونك اي اقل منك في الجود ، والمعنى : اذا رجوت عطائك ، وانت من الملوك. والحال ان البحر اقل جودا منك زدتني نعما.
3- البيت من قصيدة يهجو فيها جريرا . وفي بعض النسخ بنظر ام جرير ، والبظر – بفتح.
{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وتَذَرُونَ الآخِرَةَ} . الخطاب في تحبون لمن باع دينه بدنياه ، وآثر الفانية على الباقية مسلما كان أم غير مسلم ، والآية صريحة بذلك ولا تقبل التأويل .
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ} . قال الإمامية والمعتزلة : ان اللَّه سبحانه لا تجوز عليه الرؤية البصرية في الدنيا ولا في الآخرة ، وقالوا أيضا : ان ناظرة هنا من رؤية البصيرة لا البصر ، أومن الانتظار بمعنى ان النفس تنتظر وتترقب نعمة اللَّه وكرامته ، وأجاز الأشاعرة الرؤية البصرية عليه تعالى ، وسبق لنا الكلام عن ذلك مفصلا في ج 1 ص 107 بعنوان {رؤية اللَّه} . . على ان البحث في هذا الموضوع وما إليه لا جدوى منه عامة ولا خاصة ، وربما أدى إلى توسيع الشقة بين المسلمين ، واللَّه سبحانه لم يكلف به أحدا ، ومهما يكن فإن المتقين يحشرون غدا في طلعة بهية مشرقة مستبشرين بما آتاهم اللَّه من فضله {ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ} . أما المجرمون فعلى العكس تماما من المتقين ، يحشرون في وجوه عابسة كالحة ، وقلوب تهتز رعبا وهلعا من غضب اللَّه وعذابه . وتقدم مثله في الآية 106 من سورة آل عمران ج 2 ص 128 .
{كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وقِيلَ مَنْ راقٍ وظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ} . هذه الآيات تصف حال المحتضر ، ونزول الموت به الذي لا ينجو منه نبي ولا شقي ولا صغير أو كبير . وابتدأ سبحانه بكلمة {كلا} حيث تقدم قوله : {بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وتَذَرُونَ الآخِرَةَ} فناسب الردع والزجر عن ذلك ، وفي بلغت ضمير يعود إلى الروح التي دل عليها سياق الكلام ، والمعنى كف أيها المجرم عن الجرائم والآثام وإيثار الفانية على الباقية ، واذكر الموت هادم اللذات وقاطع الأمنيات ، اذكر نفسك الأخير حين تبلغ الروح الحلقوم ، وتشرف على الخروج من جسدك ، ويقول أهلك بعد العجز عن علاجك : هل من راق يرقيه ، أو طبيب يداويه ؟
وأنت على يقين من أمرك وانه الموت الذي لا يغني منه علاج ولا دواء .
{والْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} . تلتوي إحدى ساقي المحتضر على الأخرى من شدة الهول . وقيل : هذا كناية عن الأمر الشديد جريا على طريقة العرب ، فإنهم يقولون عمن دهمته شدة : شمّر لها عن ساق {إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ} . من مات فإلى اللَّه منقلبه ، ولا طريق له إلا إليه .
ومن كلام للإمام علي (عليه السلام) يصف حال المتحضر : (فبينا هو يضحك إلى الدنيا ، وتضحك إليه في ظل عيش غفول إذ وطئ الدهر به حسكه ، ونقضت الأيام قواه ، ونظرت إليه الحتوف عن كثب . . وفتر معلله ، وذهل ممرضه ، وتعايا أهله بصفة دائه ، وخرسوا عن جواب السائلين عنه . . وان للموت لغمرات هي أفظع من ان تستغرق بصفة أو تعتدل على قلوب أهل الدنيا) . معنى تعتدل تستقيم بالإدراك .
{فَلا صَدَّقَ ولا صَلَّى ولكِنْ كَذَّبَ وتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} . قال كثير من المفسرين : هذه الآية نزلت في أبي جهل ، وهي صورة طبق الأصل لصفاته ، لأنه ما صدق الرسول الكريم (صلى الله عليه واله وسلم) ولا صلى للَّه ولو بطرفة عين ، بل كذب الحق وشاغب عليه ، وأعرض عنه واستهزأ به ، وكان يذهب إلى مجلس النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ويستمع إلى القرآن ، ثم يعود إلى أهله متكبرا متبخترا في مشيته . .
وأيا كان سبب النزول فإن ظاهر الآيات على عمومه يشمل كل من عاند الحق وتعالى عليه لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
{أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى} . الغرض من هذا التكرار الزيادة في التهديد والوعيد ، والمعنى الويل والعذاب أحق بك وأجدر أيها الأثيم . . وفي كثير من التفاسير : ان رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) أخذ بيد أبي جهل وقال له : {أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى} . فقال اللعين : أتهددني يا محمد ؟ واللَّه ما تستطيع أنت ولا ربك شيئا ، واللَّه لأنا أعز أهل هذا الوادي . . وكان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) يقول :
لكل أمة فرعون ، وفرعون هذه الأمة أبو جهل . . وقد قتل يوم بدر شر قتلة .
{أَيَحْسَبُ الإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} . لا نعرف أحدا يحسب ويظن انه غير مسؤول عن شيء بالغا ما بلغ من الجهل والضلال . . ومن ظن هذا فقد ازرى بنفسه ، وأنزلها منزلة الحشرات والحيوانات . . ولوترك سبحانه الإنسان سدى لكان عابثا في خلقه لا عبا في أفعاله . . تعالى علوا كبيرا : {وما خَلَقْنَا السَّماءَ والأَرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ} - 16 الأنبياء .
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى} ألم يكن منكر البعث ماء يصب في الرحم {ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} . تطورت النطفة خلقا بعد خلق داخل ظلمات ثلاث ، ثم خرج منها إنسانا في أحسن تقويم بعد أن كان في أسفل سافلين {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثى} . ضمير منه يعود إلى الإنسان ، والمعنى ان اللَّه سبحانه بعد ان جعل النطفة إنسانا كاملا أخرج منه أولادا ذكورا وإناثا {أَلَيْسَ ذلِكَ} الإله الذي جعل من الماء المهين إنسانا عجيبا في صورته وعقله ومواهبه ، وأخرج منه الذكور والإناث {بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى} بلى انه على كل شيء قدير . . وما من شيء في الوجود إلا وهو ينطق بقدرته ويسبح بحمده ، وليس خلق الإنسان بشيء إذا قيس بخلق الكون : {لَخَلْقُ السَّماواتِ والأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} - 57 غافر . تقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية 5 من سورة الحج ج 5 ص 310 .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص472-475.
قوله تعالى: {كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة} خطاب للناس وليس من تعميم الخطاب السابق في شيء لأن خطاب {لا تحرك} اعتراضي غير مرتبط بشيء من طرفيه.
وقوله: {كلا} ردع عن قوله السابق: {يحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} وقوله: {بل تحبون العاجلة} - أي الحياة العاجلة وهي الحياة الدنيا - {وتذرون الآخرة} أي تتركون الحياة الآخرة، وما في الكلام من الإضراب إضراب عن حسبان عدم الإحياء بعد الموت نظير الإضراب في قوله: {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه}.
قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة و باسرة، ونضرة الوجه واللون والشجر ونحوها ونضارتها حسنها وبهجتها.
والمعنى: نظرا إلى ما يقابله من قوله: {ووجوه يومئذ باسرة} إلخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهللة ظاهرة المسرة والبشاشة قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24] ، وقال: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11].
وقوله: {إلى ربها ناظرة} خبر بعد خبر لوجوه، و{إلى ربها} متعلق بناظرة قدم عليها لإفادة الحصر أو الأهمية.
والمراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسي المتعلق بالعين الجسمانية المادية التي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقه تعالى بل المراد النظر القلبي ورؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان ويدل عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمة (عليهم السلام) وقد أوردنا شطرا منها في ذيل تفسير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ } [الأعراف: 143] ، وقوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11].
فهؤلاء قلوبهم متوجهة إلى ربهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطع الأسباب يومئذ، ولا يقفون موقفا من مواقف اليوم ولا يقطعون مرحلة من مراحله إلا والرحمة الإلهية شاملة لهم {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } [النمل: 89] ولا يشهدون مشهدا من مشاهد الجنة ولا يتنعمون بشيء من نعيمها إلا وهم يشاهدون ربهم به لأنهم لا ينظرون إلى شيء ولا يرون شيئا إلا من حيث إنه آية لله سبحانه والنظر إلى الآية من حيث إنها آية ورؤيتها نظر إلى ذي الآية ورؤية له.
ومن هنا يظهر الجواب عما أورد على القول بأن تقديم {إلى ربها} على {ناظرة} يفيد الحصر والاختصاص، إن من الضروري أنهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنة.
والجواب أ لما لم يحجبوا عن ربهم كان نظرهم إلى كل ما ينظرون إليه إنما هو بما أنه آية، والآية بما أنها آية لا تحجب ذا الآية ولا تحول بينه وبين الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلا إلى ربهم.
وأما ما أجيب به عنه أن تقديم {إلى ربها} لرعاية الفواصل ولو سلم أنه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعد نظرا، ولو سلم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها.
فلا يخلو من تكلف التقييد من غير مقيد على أنه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الأبصار ووجوه أهل الجنة إلى ربهم دائما من غير أن يواجهوا بها غيره.
قوله تعالى: {ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة} فسر البسور بشدة العبوس والظن بالعلم و{فاقرة} صفة محذوفة الموصوف أي فعله فاقرة، والفاقرة من فقره إذا أصاب فقار ظهره، وقيل: من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار.
والمعنى: ووجوه يومئذ شديدة العبوس تعلم أنه يفعل بها فعلة تقصم ظهورها أو تسم أنوفها بالنار، واحتمل أن يكون تظن خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه سامع والظن بمعناه المعروف.
قوله تعالى: {كلا إذا بلغت التراقي} ردع عن حبهم العاجلة وإيثارها على الآخرة كأنه قيل: ارتدعوا عن ذلك فليس يدوم عليكم وسينزل عليكم الموت فتساقون إلى ربكم وفاعل {بلغت} محذوف يدل عليه السياق كما في قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ } [الواقعة: 83] والتقدير إذا بلغت النفس التراقي.
والتراقي العظام المكتنفة للنحر عن يمين وشمال جمع ترقوة، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: {وقيل من راق} اسم فاعل من الرقى أي قال من حضره من أهله وأصدقائه من يرقيه ويشفيه؟ كلمة يأس، وقيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقى بروحه من الملائكة أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟.
قوله تعالى: {وظن أنه الفراق} أي وعلم الإنسان المحتضر من مشاهدة هذه الأحوال أنه مفارقته للعاجلة التي كان يحبها ويؤثرها على الآخرة.
قوله تعالى: {والتفت الساق بالساق} ظاهره أن المراد به التفاف ساق المحتضر بساقه ببطلان الحياة السارية في أطراف البدن عند بلوغ الروح التراقي.
وقيل: المراد به التفاف شدة أمر الآخرة بأمر الدنيا، وقيل: التفاف حال الموت بحال الحياة، وقيل: التفاف ساق الدنيا وهي شدة كرب الموت بساق الآخرة وهي شدة هول المطلع.
ولا دليل من جهة اللفظ على شيء من هذه المعاني نعم من الممكن أن يقال: إن المراد بالتفاف الساق بالساق غشيان الشدائد وتعاقبها عليه واحدة بعد أخرى من حينه ذلك إلى يوم القيامة فينطبق على كل من المعاني.
قوله تعالى: {إلى ربك يومئذ المساق} المساق مصدر ميمي بمعنى السوق، والمراد بكون السوق يومئذ إليه تعالى أنه الرجوع إليه، وعبر بالمساق للإشارة إلى أن لا خيرة للإنسان في هذا المسير ولا مناص له عنه فهو مسوق مسير من يوم موته وهو قوله، {إلى ربك يومئذ المساق} حتى يرد على ربه يوم القيامة وهو قوله: {إلى ربك يومئذ المستقر} ولوكان تقديم {إلى ربك} لإفادة الحصر أفاد انحصار الغاية في الرجوع إليه تعالى.
وقيل: الكلام على تقدير مضاف وتقديم {إلى ربك} لإفادة الحصر والتقدير إلى حكم ربك يومئذ المساق أي يساق ليحكم الله ويقضي فيه بحكمه، أو التقدير إلى موعد ربك وهو الجنة والنار، وقيل: المراد برجوع المساق إليه تعالى أنه تعالى هو السائق لا غير، والوجه ما تقدم.
قوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى} الضمائر راجعة إلى الإنسان المذكور في قوله: {أ يحسب الإنسان} إلخ، والمراد بالتصديق المنفي تصديق الدعوة الحقة التي يتضمنها القرآن الكريم، وبالتصلية المنفية التوجه العبادي إليه تعالى بالصلاة التي هي عمود الدين.
والتمطي - على ما في المجمع، - تمدد البدن من الكسل وأصله أن يلوي مطاه أي ظهره، والمراد بتمطيه في ذهابه التبختر والاختيال استعارة.
والمعنى: فلم يصدق هذا الإنسان الدعوة فيما فيها من الاعتقاد ولم يصل لربه أي لم يتبعها فيما فيها من الفروع وركنها الصلاة ولكن كذب بها وتولى عنها ثم ذهب إلى أهله يتبختر ويختال مستكبرا.
قوله تعالى: {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى} لا ريب أنه كلمة تهديد كررت لتأكيد التهديد، ولا يبعد - والله أعلم - أن يكون قوله: {أولى لك} خبرا لمبتدأ محذوف هو ضمير عائد إلى ما ذكر من حال هذا الإنسان وهو أنه لم يصدق ولم يصل ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله متبخترا مختالا، وإثبات ما هو فيه من الحال له كناية عن إثبات ما هو لازمه من التبعة والعقاب.
فيكون الكلام وهي كلمة ملقاة من الله تعالى إلى هذا الإنسان كلمة طبع طبع الله بها على قلبه حرم بها الإيمان والتقوى وكتب عليه أنه من أصحاب النار، والآيتان تشبهان بوجه قوله تعالى: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 20].
والمعنى: ما أنت عليه من الحال أولى وأرجح لك فأولى ثم أولى لك فأولى لتذوق وبال أمرك ويأخذك ما أعد لك من العذاب.
وقيل: أولى لك اسم فعل مبني ومعناه وليك شر بعد شر.
وقيل: أولى فعل ماض دعائي من الولي بمعنى القرب وفاعل الفعل ضمير مستتر عائد إلى الهلاك واللام مزيدة والمعنى أولاك الهلاك.
وقيل: الفاعل ضمير مستتر راجع إليه تعالى واللام مزيدة، والمعنى أولاك الله ما تكرهه، أو غير مزيدة والمعنى أدناك الله مما تكرهه.
وقيل: معناه الذم أولى لك من تركه إلا أنه حذف وكثر في الكلام حتى صار بمنزلة الويل لك وصار من المحذوف الذي لا يجوز إظهاره.
وقيل: المعنى أهلكك الله هلاكا أقرب لك من كل شر وهلاك.
وقيل: أولى أفعل تفضيل بمعنى الأحرى، وخبر لمبتدأ محذوف يقدر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحق بها وأهل لها فأولى.
وهي وجوه ضعيفة لا تخلو من تكلف والوجه الأخير قريب مما قدمنا وليس به.
قوله تعالى: {أ يحسب الإنسان أن يترك سدى} مختتم فيه رجوع إلى ما في مفتتح السورة من قوله: {أ يحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه}.
والاستفهام للتوبيخ، والسدي المهمل، والمعنى أ يظن الإنسان أن يترك مهملا لا يعتنى به فلا يبعث بإحيائه بعد الموت ولازمه أن لا يكلف ولا يجزى.
قوله تعالى: {أ لم يك نطفة من مني يمنى} اسم كان ضمير راجع إلى الإنسان، وإمناء المني صبه في الرحم.
قوله تعالى: {ثم كان علقة فخلق فسوى} أي ثم كان الإنسان – أو المني - قطعة من دم منعقد فقدره فصوره بالتعديل والتكميل.
قوله تعالى: {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} أي فجعل من الإنسان الصنفين: الذكر والأنثى.
قوله تعالى: {أ ليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} احتجاج على البعث الذي ينكرونه استبعادا له بعموم القدرة وثبوتها على الخلق الابتدائي والإعادة لا تزيد على الابتداء مئونة بل هي أهون، وقد تقدم الكلام في تقريب هذه الحجة في تفسير الآيات المتعرضة لها مرارا.
_________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص97-101.
الوجوه الضاحكة والوجوه العابسة في ساحة القيامة:
ترجع هذه الآيات مرّة أُخرى لتكمل البحوث المتعلقة بالمعاد. وخصوصيات أُخرى من القيامة، وكذلك تبيّن علل إنكار المعاد فيقول تعالى {كلاّ بل تحبّون العاجلة}(2) فليس الأمر كما يتصور من أن دلائل المعاد خفيّة ولا يمكنكم الاطلاع عليها، بل إنّكم عَشِقَتْكُمُ الدنيا. ولهذا السبب تركتم الآخرة (وتذرون الآخرة).
إنّ الشك في قدرة الله تعالى وجمع العظام وهي رميم ليس هو الدافع لإنكار المعاد، بل إنّ حبّكم الشديد للدنيا والشهوات والميول المغرية هي التي تدفعكم الى رفع الموانع عن طريق ملذاتكم، وبما أنّ المعاد والشريعة الإلهية توجد موانع وحدوداً كثيرة على هذا الطريق، لذا تتمسكون بإنكار أصل الموضوع، وتتركون الآخرة بتمامها.
وكما ذكرنا سابقاً أنَّ إحدى العلل المهمّة للميول الى المادية وإنكار المبدأ والمعاد هو كسب الحرية المطلقة للانجراف وراء الشهوات واللذات والذنوب، ولا ينحصر هذا في العهود السابقة، بل يتجلّى هذا المعنى في عالم اليوم بصورة أوضح.
وهاتان الآيتان تؤكّدان ما ورد في الآيات السابقة والتي قال فيها تعالى شأنه: {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} وقال أيضاً: {يسأل أيّان يوم القيامة}.
ثمّ ينتهي إلى تبيان أحوال المؤمنين الصالحين والكفّار المسيئين في ذلك اليوم، فيقول تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة}.
«ناضرة»: من مادة (نضرة) وتعني البهجة الخاصّة التي يحصل عليها الإنسان عند وفور النعمة والرفاه، ووفورها يلازم السرور والجمال والنورانية، أي أنَّ لون محياهم تحكي عن أحوالهم، كيف أنّهم أغرقوا في النعم الإلهية، وهذا شبيه لما جاء في الآية (24) من سورة المطفّفين: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24].
هذا من ناحية العطايا المادية، وأمَّا عن العطايا الروحية فيقول تعالى: {إلى ربّها ناظرة} نظرة بعين القلب وعن طريق شهود الباطن، نظرة تجذبهم إلى الذات الفريدة وإلى ذلك الكمال والجمال المُطْلَقَيْن، وتهبهم اللذة الروحانية والحال الذي لا يوصف، إذ أنَّ لحظة منها أفضل من الدنيا وما فيها. والجدير بالذكر أن تقديم (إلى ربّها) على (ناظرة) تفيد الحصر، أي ناظرة إلى الله فقط لا إلى غيره.
وإذا قيل إنَّ أهل الجنان ينظرون إلى غير الله تعالى أيضاً، فإنّنا نقول: إذا نظروا إلى غيره فإنّهم سوف يرون آثار الله فيها، والنظر إلى الأثر هو نظرٌ إلى المؤثر، وبعبارة أُخرى أنَّهم يرونه في كلّ مكان. ويرون تجلي قدرته وجلاله وجماله في كل شيء، ولذا فإنَّ نظرهم إلى نعم الجنان لايجرهم إلى الغفلة عن النظر إلى ذات الله.
ولهذا السبب ورد في بعض الرّوايات في تفسير هذه الآية: (إنّهم ينظرون الى رحمة الله ونعمته وثوابه)(3) لأن النظر إلى ذلك هو بمثابة النظر إلى ذاته المقدّسة.
قال بعض الغافلين: إن هذه الآية تشير إلى شأنه في يوم القيامة، ويقولون: إنَّ الله سوف يُرى بالعين الظاهرة في يوم القيامة. والحال إنّ مشاهدتهُ بالعين الظاهرة تستلزم جسمانيتهُ. والوجود في المكان، والكيفية والحالة الخاصّة وجود جسماني، ونعلم أنَّ ذاتهُ المقدّسة منزَّهة عن مثل هذا الإعتقاد الملوث، كما اعتمد القرآن هذا المعنى في آياتهِ مرات عديدة، منها ما في الآية (103) من سورة الأنعام: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } [الأنعام: 103] وهذه الآية مطلقة لا تختص في الدنيا.
على كل حال فإنّ عدم النظر الحسي إلى الله تعالى أمرٌ واضح لا يحتاج البحث فيه أكثر من هذا، ويقُرُّ بذلك من لهُ أدنى اطلاع على القرآن والمفاهيم الأسلامية.
وقال البعض في معنى الناظرة أقوالاً أُخرى مثلاً: ناظرة من مادة الإنتظار، أي أنَّ المؤمنين لا ينتظرون شيئاً إلاّ من الله تعالى، وحتى أنّهم لا يعتمدون على أعمالهم الصالحة وأنَّهم ينتظرون رحمة الله ونعمته بشكل دائم.
وإذا قيل إنَّ هذا الإنتظار سيكون مصحوباً مع نوع من الإنزعاج، والحال أنَّ المؤمن لا شيء يزعجهُ في الجنان؟ فيقال: إنّ ذلك الإنتظار المصحوب بالانزعاج هوما لا يُطمأن عقباه، أما إذا ما وُجد الاطمئنان. فسيكون مثل هذا الإنتظار مصحوباً بالهدوء(4).
والجمع بين معنى (النظر) و(الإنتظار) غير بعيد، لجواز استعمال اللفظ الواحد في المعاني المتعددة. وإذا كان المراد هو أحد المعنيين، فإن الأرجح هو المعنى الأوّل.
وننهي هذا الكلام بحديث مسند إلى النّبي (صلى الله عليه وآله) إذ قال: «إذا دخل أهل الجنّة الجنّة يقول الله تعالى تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنّة وتنجينا من النّار»؟
قال: (فيكشف الله تعالى الحجاب فما أعطوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر الى ربّهم)!(5)
والظريف هوما ورد في حديث عن أَنس بن مالك، عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «ينظرون إلى ربّهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة»(6)، وهذا الحديث تأكيد على المشاهدة الباطنية لا العينية.
وفي النقطة المقابلة لهذه الجماعة المؤمنة، هناك جماعة تكون وجوههم مقطبة. {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذ بَاسِرَةٌ}.
«باسرة»: من مادة (بسر) على وزن (نصر)، وهو الشيء غير الناضج والعمل الذي لم يأت حينه، ولذا يقال لفاكهة النخل غير الناضجة (بسر) على وزن (عسر) ويطلق على عبوس الوجه. وهذا الوصف هو ردّ فعل الإِنسان قبل وصول العذاب والاذى إليه.
فعندما ينظر الكافرون إلى علامات العذاب وصحائف أعمالهم الخالية من الحسنات والمملوءة بالسيئات، يصيبهم الندم والحسرة والحزن ويعبسون وجوههم لذلك.
{تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}.
يرى الكثير من المفسّرين بأنَّ (الظن) هنا بمعنى العلم. أي أنَّهم يوقنون بمثل هذا العذاب، والحال أنَّ بعضهم يرى أنَّ (ظن) هنا بمعناها المعروف أي الاحتمال القوي، ومن الطبيعي أنَّهم يوقنون إجمالاً بأنّهم سوف يعذبون، ولكن ليس بمثل هذا العذاب الشديد(7).
«فاقرة»: من مادة (فقرة) على وزن (ضربة) وجمعها (فقار) وتعني حلقات الظهر، ويقال للحادثة الثقيلة التي تكسر حلقات الظهر «فاقرة»، «والفقير» قيل له ذلك لهذا الوجه، أي أنّهُ مكسور الظهر(8).
على كل حال فإنّ هذا التعبير كناية للعقوبات الثقيلة والتي تنتظر هذه الجماعة في جهنّم، إنّهم ينتظرون عذاباً قاصماً، والحال إنَّ الجماعة السابقة منتظرون لرحمة الله تعالى ومستعدون للقاء المحبوب. هؤلاء لهم أسوأ العذاب. وأولئك لهم أسمى النِعَمِ الجسمانية والمواهب واللذات الروحانية.
وقوله تعالى : {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ(26) وَقِيلَ مَنْ رَاق(27) وَظَنَّ أَنَهُ الْفِرَاقُ(28) والْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ(29) إلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذ المَسَاقُ}:
إتماماً للأبحاث المرتبطة بالعالم الآخر ومصير المؤمنين والكفّار يأتي الحديث في هذه الآيات عن لحظة الموت المؤلمة والتي تعتبر باباً إلى العالم الآخر فيقول تعالى: {كلاّ إذا بلغت التراقي}(9) أي كلاّ إنّه لا يؤمن حتى تصل روحه التراقي.
هوذلك اليوم الذي تنفتح فيه عينهُ البرزخية، وتزال عنها الحجب، ويرى فيها علامات العذاب والجزاء، ويوقف على أعماله، ففي تلك اللحظة يقرّ بالإيمان ولكن إيمانه لا ينفعهُ ولا يفيد حاله أبداً.
«تراقي»: جمع «ترقوة»، وهي العظام المكتنفة للنحر عن يمين وشمال، وبلوغ الروح إلى التراقي كناية عن اللحظات الأخيرة من عمر الإنسان، وذلك عندما تخرج الروح من البدن، تتوقف الأعضاء البعيدة عن القلب (كاليدين والرجلين) قبل غيرها، كأن الروح تطوي نفسها في البدن تدريجياً حتى تصل إلى الحلقوم.
وفي هذه الفترة يسعى أهله وأصدقائه مستعجلين قلقين لإنقاذه، يقول تعالى: (وقيل من راق) أي هل هناك من منقذ يأتي لإنقاذ هذا المريض؟
ويقولون هذا الحديث عن وجه العجز واليأس، والحال أنّهم يعلمون أنَّه قد فات الأوان ولا ينفع معه طبيب.
«راق»: من مادة (رقي) على وزن (نهي) و(رقيه) على وزن (خفيه) وهو الصعود، ولفظة (رقيه) تطلق على الأوراد والأوعية التي تبعث على نجاة المريض، وقيل للطبيب الذي ينجي المريض ويخلصه مما هو فيه «راقي»، فيكون مفهوم الآية: ينادي أهل المريض، وأحياناً المريض نفسه من شدّة الضجر: ألا هل من داع يدعو بدعاء لينجي هذا المريض؟
وقال البعض: إنّ المعنى قول الملائكة بعضها لبعض: من يرقي بروحه من الملائكة، أ ملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب؟
وأضاف البعض إنّ ملائكة الله تكره قبض روح غير المؤمن، ولذا يقول ملك الموت: من يرقي بروحه، والمعنى الأوّل أوجه وأنسب.
وفي الآية التالية إشارة إلى اليأس الكامل للمحتضر فيقول تعالى: (وظن أنّه الفراق) أي في هذه الحالة يصاب باليأس من الحياة واليقين بالفراق، ثمّ:(والتفت الساق بالساق) وهذا الالتفاف إمّا لشدّة الأذى لخروج الروح، أو لتوقف عمل اليدين والرجلين وتعطيل الروح منها.
وذكرت تفاسير أُخرى لهذه الآية، منها ما نقرأ في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام)قال: (التفت الدنيا بالآخرة)(10) ومثله عن علي بن إبراهيم(11).
ونقل عن ابن عباس كذلك من المراد من الآية: التفاف أمر الآخرة بأمر الدنيا.
وقال البعض: هو التفاف شدائد الموت بشدائد القيامة.
والظاهر رجوع جميع هذه المعاني إلى ما أوردناه في قول الباقر(عليه السلام)، واتخذ هذا التفسير لكون أحد معاني «الساق» في لغة العرب هو الحادثة الشديدة والمصيبة والبلاء العظيم.
وقال آخرون هو التفاف الساق في الكفن. ويمكن جمع هذه التفاسير في معنى الآية إذ لا منافاة بينها.
ثمّ يقول تعالى في آخر آية من آيات البحث: {إلى ربّك يومئذ المساق}. أجل إلى الله تعالى المرجع حيث يحضر الخلائق عند محكمة العدل الإلهية، وهكذا ينتهي المطاف إليه، وهذه الآية أيضاً تأكيد على مسألة المعاد والبعث الشامل للعباد، ويمكن أن تكون إشارة إلى الحركة التكاملية للخلائق وهي متجهة نحو الذات المقدّسة واللامتناهية.
وقوله تعالى : {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى(31) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى(32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى(33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى(34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى(35) أَيَحْسَبُ الاْنسَنُ أَن يُتْرَكَ سُدىً(36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى(37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى(39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَدِر عَلَى أَن يُحِىَ الْمَوْتَى}:
خلق الإنسان من نطفة قذرة:
استمراراً للبحوث المتعلقة (بالموت) الذي يعتبر الخطوة الأولى في السفر إلى الآخرة يتحدث القرآن في هذه الآيات عن خواء أيدي الكفّار من الزاد لهذا السفر.
فيقول أوّلاً: {فلا صدّق ولا صلّى}(12) أي إنَّ هذا الانسان المفكر للمعاد لم يؤمن اطلاقاً ولم يصدِّق بآيات الله ولم يصلّ له.
وقال تعالى: {ولكن كذّب وتولى}.
المراد من جملة (فلا صدّق) عدم التصديق بالقيامة والحساب والجزاء والآيات الإلهية والتوحيد ونبوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال البعض: إنَّها إشارة إلى ترك الكافرين للانفاق والصدقة بقرينة ذكرها مع الصلاة، ولكن الآية الثانية تشهد جيداً على أن النقطة المقابلة لهذا التصديق هو التكذيب، ولذا يكون التفسير الأوّل هو الأصح.
ويضيف تعالى في الآية الأُخرى: (ثمّ ذهب الى أهله يتمطى).
إنَّه يظنُّ بعدم اهتمامه للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتكذيبهُ إيّاه وللآيات الإلهية قد حقق نصراً باهراً، إنّهُ كان ثملاً من خمرة الغرور، واتجه إلى أهله لينقل لهم كالعادة ما كان قد حدث وليفتخر بما صدر منه، وكان سيره وحركته تشيران إلى الكبر والغرور.
«يتمطى»: من مادة (مطا) وأصله الظهر، و(تمطى) مدَّ الظهر عن غرور ولا مبالاة. أوعن كسل، والمراد هنا هو المعنى الأوّل.
وقيل هومن مادة (مط) على وزن (خط) أي مَدَّ الإنسان رجله أو بقية أعضاء البدن عندما يريد إظهار اللامبالاة أو الكسل، ولكن اشتقاقه من (مطا) أنسب مع ظاهر اللفظ(13).
على كل حال فإنَّ ذلك يشابه ما ورد في الآية (31) من سورة المطففين: {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ } [المطففين: 31].
ثمّ يخاطب القرآن أفراداً كهؤلاء ويهددهم فيقول تعالى:
{أولى لك فأولى، ثمّ أولى لك فأولى}.
هناك تفاسير أُخرى متعددة ذكرت لهذه الآية منها:
إنّها تهديد بمعنى لك العذاب ثم لك العذاب.
وقيل: ما أنت عليه من الحال أولى وأرجح لك فأولى.
وقيل: الذم أولى لك وأحسن ثم أحسن.
وقيل: الويل لك ثمَّ الويل لك.
وقيل: يُراد به بعداً لك من خيرات الدنيا وبعداً لك من خيرات الآخرة.
وقيل: وليك وصاحبَك شرٌ وعذاب ثمّ وليك شرّ وعذاب.
وقيل: أولى لك ما تشاهده يوم بدر فأولى لك في القبر ثمّ أولى لك يوم القيامة(14).
ولا يخفى أنَّ غالبية هذه المعاني تعود إلى معنىً كلي وجامع، وتأخذ طابع التهديد بالعذاب، والذمّ والشرّ والعقاب أعم من عذاب الدنيا والبرزخ والقيامة.
وورد في الرّوايات أنَّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ بيد أبي جهل ثم قال لهُ: {أولى لك فأولى ثمّ أولى لك فأولى} فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني لا تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئاً، وإنّي لأعزّ أهل هذا الوادي، فأنزل الله سبحانه كما قال لهُ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم ينتهي القرآن في هذا البحث إلى استدلالين لطيفين حول المعاد وأحدهما عن طريق (الحكمة الإلهية وهدف الخلقة)، والآخر عن طريق بيان قدرة الله في تحول وتكامل نطفة الإنسان في المراحل المختلفة لعالم الجنين، فيقول تعالى عن المرحلة الأُلى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى}.
«سدى»: على وزن (هدى) وهو المهمل الذي لا هدف لهُ، وجاء قول العرب (إبل سدى) في الإِبل السائبة التي تترك بلا راع.
والمراد من (الإنسان) في هذه الآية هو المنكر للمعاد والبعث، فيكون معنى الآية: كيف يخلق الله هذا العالم العظيم للإنسان ولا يكون له هدف ما؟ كيف يمكن ذلك والحال أنَّ كل عضو من أعضاء الإنسان خلق لهدف خاص، فالعين للنظر، والأذن للسمع، والقلب لإيصال الغذاء والأوكسجين والماء إلى جميع الخلايا، حتى أنَّ لخطوط أطراف أصابع الإنسان حكمة، ولكن يحسب أن لا هدف في خلق كلّ ذلك، وهو مهمل لا تخطيط فيه وليس له من أمر ونهي ومهام ومسؤولية، فلو صنع شخص ما صنعة صغيرة لا فائدة فيها فإنَّ الناس سوف يشكلون عليه ذلك ويحذفون اسمهُ من زمرة العقلاء. فكيف يمكن لله الحكيم المطلق أن يخلق خلقاً لا هدف لهُ؟!
وإذا قيل أنَّ الهدف من هذه الحياة هو قضاء أيّام الدنيا، هذا الأكل والنوم المكرر الممزوج بآلاف الأنواع من الآلام والعذاب، فإنَّ هذا لا يمكن أن يكون مبرراً لذلك الخلق الكبير. ولذا فإنّنا نستنتج من أن الإنسان قد خلق لهدف أكبر، أي الحياة الخالدة في جوار رحمة الله والتكامل المستمر والدائم(15).
ثم انتهى إلى تبيان الدليل الثّاني، فيضيف تعالى: {ألم يك نطفة من مني يمنى} وبعد هذه المرحلة واستقرار المني في الرحم يتحول الى قطعة متخثرة من الدم، وهي العلقة، ثمّ أنَّ الله تعالى يخلقها بشكل جديد ومتناسب وموزون {ثمّ كان علقة فخلق فسوى}.
ولم يتوقف على ذلك: {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى}.
أليس من يخلق النطفة الصغيرة القذرة في ظلمة رحم الأم ويجعله خلقاً جديداً كلّ يوم، ويلبسهُ من الحياة لباساً جديداً ويهبهُ شكلاً مستحدثاً ليكون بعد ذلك إنساناً كاملاً ذكراً أو أُنثى ثم يولد من اُمّه، بقادر على إعادته: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}؟!
وهذا البيان في الواقع هو لمن ينكر المعاد الجسماني ويعدهُ محالاً، وينفي العودة إلى الحياة بعد الموت والدفن، ولإثبات ذلك أخذ القرآن بيد الإنسان ليرجعه إلى التفكر ببداية خلقه، والمراحل العجيبة للجنين ليريه تطورات هذه المراحل، وليعلم أنَّ الله قادر على كلِّ شيء، وبعبارة أُخرى إن أفضل دليل لحدوث الشيء هو وقوعه.
_____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص594-605.
2 ـ قال البعض إن (كلاّ) إشارة الى نفي تدبرهم للقرآن المجيد، وليس هذا المعنى صحيحاً لأن المخاطب هو نفس النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولها جانب اعتراضي كما قلنا في الآيات
المتعلقة بالقرآن، وأمّا الآيات التي نحن بصدد البحث فيها فإنّها تتميم للآيات السابقة حول القيامة.
3 ـ تفسير روح الثقلين، ج 5، ص 464 و465.
4 ـ يعتقد البعض أنّ (النظر) الذي يعني الإنتظار لا يتعدى بـ (إلى) بل يتعدى بدون حرف الجر، ولكن هنا شواهد من أشعار العرب تشير إلى أن (النظر) الذي يعني الإنتظار يتعدى كذلك بـ (إلى) (راجع مجمع البيان، ج 10، ص 398; وتفسير القرطبي، ج 10، ص 6900).
5 ـ روح المعاني، ج 29، ص 145.
6 ـ تفسير الميزان، ج 20، ص 204.
7 ـ من جملة الشواهد التي جاءوا بها لهذا الموضوع هو أنّ الظن إذا كان بمعنى العلم فيجب أن يكون (أن) بعد (تظن) مخففة من الثقيلة والحال هو(أن) مصدر بقرينة إعمالها النصب.
8 ـ «فاقرة»: صفة الموصوف محذوف وتقديرهُ (داهية فاقرة) و(تظن) فعلٌ و(وجوه) فاعله، وفي التقدير (أرباب الوجوه) أو(ذوات الوجوه).
9 ـ «إذا»: أداة شرطية وجزاؤه محذوف، والتقدير (إذا بلغت التراقي انكشف لهُ حقيقة الأمر، ووجد ما عمله)، والفاعل في (بلغت) هو(النفس) وهو محذوف ويعرف بقرينة الكلام.
10 ـ نور الثقلين، ج 5، ص 465.
11 ـ المصدر السابق.
12 ـ الضمير في (صدق وصلى) يعود إلى الإنسان المنكر للمعاد، وهوما يستفاد منه في سياق الكلام، وقد أُشير إلى ذلك في صدر السورة.
13 ـ لأنه إذا اعتبر من مادة (مطا) فإن ظاهر اللفظ لم يظهر عليه تغيير، والحال إذا كان من مادة (مط) فيكون أصل جملة (يتمطى) هو(يتمطط) حيث بدلت الطاء الآخر بالياء.
14 ـ المطابق لبعض التفاسير أن (أولى) هنا هو(أفعل تفضيل) وطبقاً للتفاسير الأُخرى فإن (أولى) فعل ماض من باب أفعال من مادة (ولى) فيكون المعنى (قاربك الله العذاب) وقيل (أولى) من (أسماء الأفعال) وتعني (قارب) والأولى هو الأوجه.
15 ـ كان لنا بحث آخر في هذا الإطار في ذيل الآية (115) من سورة المؤمنين.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|