أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-2-2018
10697
التاريخ: 8-2-2018
4995
التاريخ: 12-10-2017
10526
|
قال تعالى : {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 8 - 12].
{وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله} أي وكم من أهل قرية عتوا على الله وعلى أنبيائه يعني جاوزوا الحد في العصيان والمخالفة {فحاسبناها حسابا شديدا} بالمناقشة والاستقصاء باستيفاء الحق وإيفائه قال مقاتل حاسبها الله تعالى بعملها في الدنيا فجازاها بالعذاب وهو قوله {وعذبناها عذابا نكرا} فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة وهو عذاب الاستئصال وقيل هو عذاب النار فإن اللفظ ماض بمعنى المستقبل والنكر المنكر الفظيع الذي لم ير مثله وقيل إن في الآية تقديما وتأخيرا تقديره فعذبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر المصائب والبلايا وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا وقيل الحساب الشديد هو الذي ليس فيه عفو{فذاقت وبال أمرها} أي ثقل عاقبة كفرها {وكان عاقبة أمرها خسرا} أي خسرانا في الدنيا والآخرة وهو قوله {أعد الله لهم عذابا شديدا} يعني عذاب النار وهذا يدل على أن المراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا ثم قال {فاتقوا الله يا أولي الألباب} أي يا أصحاب العقول ولا تفعلوا مثل ما فعل أولئك فينزل بكم مثل ما نزل بهم ثم وصف أولي الألباب بقوله {الذين آمنوا} وخص المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك دون الكفار ثم ابتدأ سبحانه فقال {قد أنزل الله إليكم ذكرا} يعني القرآن وقيل يعني الرسول عن الحسن وروي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) .
{رسولا} إذا كان المراد به الوجه الأول وهو أن يكون بدلا من ذكرا والمراد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو جبرائيل (عليه السلام) فيجوز أن يكون المراد بالذكر الشرف أي ذا ذكر رسولا {يتلو عليكم آيات الله مبينات} أي واضحات {ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات} أي من ظلمات الكفر {إلى النور} أي نور الإيمان وقيل من ظلمات الجهل إلى نور العلم وإنما شبه الإيمان بالنور لأنه يؤدي إلى نور القبر والقيامة والجنة وشبه الكفر بالظلمة لأنه يؤدي إلى ظلمة القبر وظلمة جهنم {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا} أي يعطيه أحسن ما يعطي أحدا وذلك مبالغة في وصف نعيم الجنة {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن} أي وخلق من الأرض مثلهن في العدد لا في الكيفية لأن كيفية السماء مخالفة لكيفية الأرض وليس في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع مثل السماوات إلا هذه الآية ولا خلاف في السماوات أنها سماء فوق سماء وأما الأرضون فقال قوم إنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض كالسماوات لأنها لو كانت مصمتة لكانت أرضا واحدة وفي كل أرض خلق خلقهم الله كما شاء وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين ليس بعضها فوق بعض يفرق بينهن البحار ويظل جميعهن السماء والله سبحانه أعلم بصحة ما استأثر بعلمه واشتبه على خلقه وقد روى العياشي بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن (عليه السلام) قال بسط كفه ثم وضع اليمني عليها فقال هذه الأرض الدنيا والسماء الدنيا عليها قبة والأرض والثانية فوق السماء الدنيا والسماء الثانية فوقها قبة والأرض الثالثة فوق السماء الثانية والسماء الثالثة فوقها قبة حتى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة فقال والأرض السابعة فوق السماء السادسة والسماء السابعة فوقها قبة وعرش الرحمن فوق السماء السابعة وهو قوله {سبع سماوات ومن الأرض مثلهن}.
{يتنزل الأمر بينهن} وإنما صاحب الأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهو على وجه الأرض وإنما يتنزل الأمر من فوق بين السماوات والأرضين فعلى هذا يكون المعنى تتنزل الملائكة بأوامره إلى الأنبياء وقيل معناه يتنزل الأمر بين السماوات والأرضين من الله سبحانه بحياة بعض وموت بعض وسلامة حي وهلاك آخر وغنى إنسان وفقر آخر وتصريف الأمور على الحكمة {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير} بالتدبير في خلق السماوات والأرض والاستدلال بذلك على أن صانعهما قادر لذاته عالم لذاته وذلك قوله {وإن الله قد أحاط بكل شيء علما} ومعناه أن معلوماته متميزة له بمنزلة ما قد أحاط به فلم يفته شيء منها وكذلك قوله {ولا يحيطون به علما} معناه أنه ليس بمنزلة ما يحضره العلم بمكانه فيكون كأنه قد أحاط به .
___________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص48-51.
تقدم مضمون هذه الآيات مرات ومرات ، لذا نفسرها بإيجاز {وكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها ورُسُلِهِ} . أرسل سبحانه رسله إلى كثير من الأمم الماضية يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر ، فأعرضوا عنادا واستكبارا {فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً} . أخذهم اللَّه بسوء العذاب بعد أن أعذر إليهم بحجج ظاهرة وبينات واضحة {فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً} .
الوبال والعاقبة بمعنى واحد ، ومن أجل هذا قد يتوهم بأن الجملة الثانية بمعنى الأولى . ولدى التأمل يتبين ان هذا مثل قول القائل لمن لاقى جزاء الشر . .
جوزيت بالشر لأن فاعل الشر لا يجزى إلا به {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً} . يكون هذا العذاب في الآخرة ، ودلت عليه كلمة {أعد} . وذاك الحساب والعذاب كان في الدنيا ، ودلت عليه كلمة {عذبناها} ويتلخص معنى الآيتين بقوله عز من قائل :
{لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ولَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ} - 114 البقرة .
{فَاتَّقُوا اللَّهً يا أُولِي الأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا} . ان كنتم تعقلون معنى الايمان حقا وتزعمون انكم من أهله فاقرنوا القول بالفعل والعلم بالعمل ، وإلا فما أنتم بمؤمنين {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} . أرسل رسوله محمدا بالقرآن ليتلوه على الناس ويهتدي به أهل العقول ويخرجوا من ظلمات الكفر والآثام إلى نور الحق والايمان {ومَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ويَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} . للمؤمنين الصالحين عند ربهم أجر عظيم ، ورزق كريم . وتكرر هذا المعنى مجملا ومفصلا في العديد من الآيات ، والقصد هو الترغيب في الصالحات وعمل الخيرات .
سبع سماوات ومن الأرض مثلهن :
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} . تعددت الأقوال حول السماوات السبع والأرضين السبع ، والمعقول منها ما يلي :
القول الأول : يجب أن نؤمن - على سبيل الإجمال - بوجود سبع سماوات وسبع أرضين وندع التفصيل لعلم اللَّه .
القول الثاني : ان الكون الأكبر يضم سبعة أكوان ، ولكل كون منها كواكب لا يحصى عددها ، ومن جملتها كوكب أرضي ، وبين كل كون وآخر ملايين الملايين من السنين الضوئية . . وقد عبّر سبحانه عن هذه الأكوان السبعة بالسماوات السبع ، أما قوله تعالى : {ومِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} فهو يشير إلى ان في كل كون من السبعة كوكبا أرضيا . . وقد أشرنا إلى هذا القول عند تفسير الآية 17 من سورة المؤمنون ج 5 ص 362 .
القول الثالث : ان ذكر السبع لا يفيد الحصر بها ، وانما خصها الوحي بالذكر لأن الذين خوطبوا بالقرآن آنذاك كانوا يسمعون عن الأفلاك السبعة وكواكبها دون غيرها . قال المؤرخون : ان الكلدانيين اشتهروا بعلم الهيئة ، وتوصلوا إلى معرفة الكواكب السبعة السيارة ، وتوارثت الأمم هذه المعرفة عن الكلدانيين جيلا بعد جيل حتى زمن العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ، فخاطبهم عن السماء بما اعتادوا أن يتخاطبوا به فيما بينهم . . وقد أشرنا إلى هذا القول عند تفسير الآية 29 من سورة البقرة ج 1 ص 78 . ويظهر لنا الآن ان هذا أرجح الأقوال ، فقد أطلعنا - ونحن ننقب في المصادر لتفسير الآية التي نحن بصددها - على حديث نبوي وقول لابن عباس يرجحان ان ذكر السبع لا يراد به الحصر ، أما الحديث فقد نقله الشيخ المراغي عن الصحابي ابن مسعود ، وهو(ما السماوات السبع وما فيهن وما بينهن ، والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة) .
وقد أثبت العلم الحديث هذه الحقيقة ، انظر تفسير الآية 47 من سورة الذاريات . .
فمن أين أخذ هذا العلم محمد الذي نشأ في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب ؟ كما قال : هل أخذه من بحيرة الراهب أم من رهبان الأديرة الآخرين ؟ وهل يفتري محمد على اللَّه ، وهو يدعو إلى كتاب يقول بلسان صريح فصيح : {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوقالَ أُوحِيَ إِلَيَّ ولَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} - 93 الأنعام ويقول : {وقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى} - 61 طه ؟ .
وفي تفسير الطبري ان ابن عباس تلميذ الإمام علي سئل عن قوله تعالى :
{سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ؟ . فقال : {لو حدثتكم عن تفسيرها لكفرتم بتكذيبكم بها} لأن عقولهم لا تحتمل ، فيشكّون في صدق القرآن .
{يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} يدبر السماوات والأرضين وما فيهن وبينهن بحكمته ، ويمسكهن بقدرته ، ويتقنهن بعلمه {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهً عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأَنَّ اللَّهً قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} . من الحكم البالغة في خلق السماوات والأرض أن تعلموا ان اللَّه قادر على كل شيء حتى البعث بعد الموت ، وانه عالم بكل شيء حتى مقاصدكم وأفعالكم ، فتطيعوه وتخافوا من غضبه وعذابه .
___________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص357-359.
موعظة وإنذار وتبشير تؤكد التوصية بالتمسك بما شرع الله لهم من الأحكام ومن جملتها ما شرعه من أحكام الطلاق والعدة ولم يوص القرآن الكريم ولا أكد في التوصية في شيء من الأحكام المشرعة كما وصى وأكد في أحكام النساء، وليس إلا لأن لها نبأ.
قوله تعالى: {وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا} قال الراغب: العتو النبوء عن الطاعة انتهى.
فهو قريب المعنى من الاستكبار، وقال: النكر الدهاء والأمر الصعب الذي لا يعرف انتهى.
والمراد بالنكر في الآية المعنى الثاني، وفي المجمع، النكر المنكر الفظيع الذي لم ير مثله انتهى.
والمراد بالقرية أهلها على سبيل التجوز كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف: 82] ، وفي قوله: {عتت عن أمر ربها ورسله} إشارة إلى أنهم كفروا بالله سبحانه بالشرك وكفروا كفرا آخر برسله بتكذيبهم في دعوتهم.
على أنهم كفروا بالله تعالى في ترك شرائعه المشرعة وكفروا برسله فيما أمروا به بولايتهم لهم كما مر نظيره في قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [التغابن: 12].
وشدة الحساب المناقشة فيه والاستقصاء لتوفية الأجر كما هو عليه، والمراد به حساب الدنيا غير حساب الآخرة والدليل على كونه حساب الدنيا قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى: 30] ، وقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف: 96] .
فما يصيب الإنسان من مصيبة - وهي المصيبة في نظر الدين – هو حاصل محاسبة أعماله والله يعفو عن كثير منها بالمسامحة والمساهلة في المحاسبة غير أنه تعالى يحاسب العاتين المستكبرين عن أمره ورسله حسابا شديدا بالمناقشة والاستقصاء والتثريب فيعذبهم عذابا نكرا.
والمعنى: وكم من أهل قرية عتوا واستكبروا عن أمر ربهم ورسله فلم يطيعوا الله ورسله فحاسبناها حسابا شديدا ناقشنا فيه واستقصيناه، وعذبناهم عذابا صعبا غير معهود وهو عذاب الاستئصال في الدنيا.
وما قيل: إن المراد به عذاب الآخرة، والتعبير بالفعل الماضي للدلالة على تحقق الوقوع غير سديد.
وفي قوله: {فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها} التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، ونكتته الدلالة على العظمة.
قوله تعالى: {فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا} المراد بأمرها عتوها واستكبارها، والمعنى: فأصابتهم عقوبة عتوهم وكان عاقبة عتوهم خسارا كأنهم اشتروا العتو بالطاعة فانتهى إلى أن خسروا.
قوله تعالى: {أعد الله لهم عذابا شديدا} هذا جزاؤهم في الأخرى كما كان ما في قوله: {فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها} جزاؤهم في الدنيا.
والفضل في قوله: {أعد الله لهم} إلخ، لكونه في مقام دفع الدخل كأنه لما قيل: {وكان عاقبة أمرها خسرا{، قيل: ما المراد بخسرهم؟ فقيل: {أعد الله لهم عذابا شديدا}.
قوله تعالى: {فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا} استنتاج مما تقدم خوطب به المؤمنون ليأخذوا حذرهم ويقوا أنفسهم أن يعتوا عن أمر ربهم ويطغوا عن طاعته فيبتلوا بوبال عتوهم وخسران عاقبتهم كما ابتليت بذلك القرى الهالكة.
وقد وصف المؤمنين بأولى الألباب فقال: {اتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا} استمدادا من عقولهم على ما يريده منهم من التقوى فإنهم لما سمعوا أن قوما عتوا عن أمر ربهم فحوسبوا حسابا شديدا وعذبوا عذابا نكرا وكان عاقبة أمرهم خسرا ثم سمعوا أن ذلك تكرر مرة بعد مرة وأباد قوما بعد قوم، قضت عقولهم بأن العتو والاستكبار عن أمر الله تعرض لشديد حساب الله ومنكر عذابه فتنبههم وتبعثهم إلى التقوى وقد أنزل الله إليهم ذكرا يذكرهم به ما لهم وما عليهم ويهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
قوله تعالى: {رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات} إلخ، عطف بيان أو بدل من {ذكرا} فالمراد بالذكر الذي أنزله هو الرسول سمي به لأنه وسيلة التذكرة بالله وآياته وسبيل الدعوة إلى دين الحق، والمراد بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يؤيده ظاهر قوله: {يتلوا عليكم آيات الله مبينات} إلخ.
وعلى هذا فالمراد بإنزال الرسول بعثه من عالم الغيب وإظهاره لهم رسولا من عنده بعد ما لم يكونوا يحتسبون كما في قوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25].
وقد دعي ظهور الإنزال في كونه من السماء بعضهم كصاحب الكشاف إلى أن فسر {رسولا} بجبريل ويكون حينئذ معنى تلاوته الآيات عليهم تلاوته على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه متبوع لقومه ووسيلة الإبلاغ لهم لكن ظاهر قوله: {يتلوا عليكم} إلخ، خلاف ذلك.
ويحتمل أن يكون {رسولا} منصوبا بفعل محذوف والتقدير أرسل رسولا يتلو عليكم آيات الله، ويكون المراد بالذكر المنزل إليهم القرآن أو ما بين فيه من الأحكام والمعارف.
وقوله: {ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور} تقدم تفسيره في نظائره.
وقوله: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا} وعد جميل وتبشير.
وقوله: {قد أحسن الله له رزقا} وصف لإحسانه تعالى إليهم فيما رزقهم به من الرزق والمراد بالرزق ما رزقهم من الإيمان والعمل الصالح في الدنيا والجنة في الآخرة، وقيل المراد به الجنة.
قوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن} إلخ، بيان يتأكد به ما تقدم في الآيات من حديث ربوبيته تعالى وبعثة الرسول وإنزاله الذكر ليطيعوه فيه وأن في تمرده ومخالفته الحساب الشديد والعذاب الأليم وفي طاعته الجنة الخالدة كل ذلك لأنه قدير عليم.
فقوله: {الله الذي خلق سبع سماوات} تقدم بعض الكلام فيه في تفسير سورة حم السجدة.
وقوله: {ومن الأرض مثلهن} ظاهره المثلية في العدد، وعليه فالمعنى: وخلق من الأرض سبعا كما خلق من السماء سبعا فهل الأرضون السبع سبع كرات من نوع الأرض التي نحن عليها والتي نحن عليها إحداها؟ أو الأرض التي نحن عليها سبع طبقات محيطة بعضها ببعض والطبقة العليا بسيطها الذي نحن عليه؟ أو المراد الأقاليم السبعة التي قسموا إليها المعمور من سطح الكرة؟ وجوه ذهب إلى كل منها جمع وربما لاح بالرجوع إلى ما تقدم في تفسير سورة حم السجدة محتمل آخر غيرها.
وربما قيل: إن المراد بقوله: {ومن الأرض مثلهن} أنه خلق من الأرض شيئا هو مثل السماوات السبع وهو الإنسان المركب من المادة الأرضية والروح السماوية التي فيها نماذج سماوية ملكوتية.
وقوله: {يتنزل الأمر بينهن} الظاهر أن الضمير للسماوات والأرض جميعا والأمر هو الأمر الإلهي الذي فسره بقوله: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} [يس: 82] ، وهو كلمة الإيجاد، وتنزله هو أخذه بالنزول من مصدر الأمر إلى سماء بعد سماء حتى ينتهي إلى العالم الأرضي فيتكون ما قصد بالأمر من عين أو أثر أو رزق أو موت أو حياة أو عزة أو ذلة أو غير ذلك قال تعالى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12] ، وقال: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5].
وقيل: المراد بالأمر الأمر التشريعي يتنزل ملائكة الوحي به من السماء إلى النبي وهو بالأرض.
وهو تخصيص من غير مخصص وذيل الآية {لتعلموا أن الله} إلخ، لا يلائمه.
وقوله: {إن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} من الغايات المترتبة على خلقة السماوات السبع ومن الأرض مثلهن وتنزيله الأمر بينهن، وفي ذلك انتساب الخلق والأمر إليه واختصاصهما به فإن المتفكر في ذلك لا يرتاب في قدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء فليتق مخالفة أمره أولوا الألباب من المؤمنين فإن سنة هذا القدير العليم تجري على إثابة المطيعين لأوامره، ومجازاة العاتين المستكبرين وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
__________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص285-289.
العاقبة المؤلمة للعاصين :
في كثير من الموارد يأتي القرآن على ذكر الأمم السابقة بعد إيراد سلسلة من الأحكام والتكاليف ، لكي يرى المسلمون بأعينهم عاقبة كل من ( الطاعة والعصيان ) في تجارب الماضي وتأخذ القضية طابعا حسيا .
ولم يخرج القرآن الكريم في هذه السورة عن هذا النهج ، فبعد ذكر وظائف كل من الرجال والنساء عند الطلاق ، يحذر العاصين والمتمردين من العواقب الوخيمة التي تنتظرهم بقوله في البداية : {وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا} (2) .
والمقصود ب " القرية " هو محل إجتماع الناس ، وهو أعم من المدينة والقرية ، والمراد هو أهلها .
" عتت " من مادة " عتو " على وزن " غلو " بمعنى التمرد على الطاعة .
و " نكر " على وزن " شكر " ويعني العمل الصعب الذي لم يسبق له مثيل .
" حسابا شديدا " أي الحساب الدقيق المقرون بالشدة والصرامة ، ويعني العقاب الشديد الذي هو نتيجة الحساب الدقيق . وهو على كل حال إشارة إلى عاقبة الأقوام السابقة المتمردة العاصية في هذه الدنيا ، التي هلكت بعضها بالطوفان ، وبعضها بالزلازل ، وآخرون بالصواعق والعواصف ، وأمثالهم حل بهم الفناء وبقت ديارهم وآثارهم عبرة للأجيال بعدهم .
لذلك يضيف تعالى في الآية اللاحقة : {فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا} .
وأي خسارة أفدح من خسران رأس المال الذي وهبه الله ، والخروج من هذه الدنيا - ليس فقط بعدم شراء المتاع - وإنما بالانتهاء إلى العذاب الإلهي والدمار .
ويرى البعض أن " حسابا شديدا " و " عذابا نكرا " يشيران إلى " يوم القيامة " واعتبروا الفعل الماضي من باب الماضي المراد به المستقبل ، ولكن لا داعي لهذا التكلف ، خاصة أن السورة تحدثت عن يوم القيامة في الآيات اللاحقة ، فذلك يدل على أن المراد بالعذاب هنا هو عذاب الدنيا .
ثم يشير تعالى إلى عقابهم الأخروي بقوله : {أعد الله لهم عذابا شديدا} عذابا مؤلما ، مخيفا ، مذلا ، فاضحا ، دائما أعده لهم منذ الآن في نار جهنم .
والآن {فاتقوا الله يا اولي الألباب الذين آمنوا} .
إن الفكر والتفكر من جهة ، والإيمان والآيات الإلهية من جهة أخرى ، تحذركم وتدعوكم لملاحظة مصائر الأقوام السابقة المتمردة التي عصت أمر ربها ، والاعتبار بذلك والحذر من أن تكونوا مثلهم ، فقد ينزل عليكم الله غضبه وعذابه الذي لم يسبق له مثيل إضافة إلى عذاب الآخرة .
وبعد ذلك يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين يتفكرون في آيات الله بقوله : {قد أنزل الله إليكم ذكرا وهو الشيء الذي يوجب تذكركم} .
وأرسل لكم رسولا يتلو عليكم آيات الله الواضحة {رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور} .
علما أن هناك خلافا بين المفسرين في معنى كلمة " ذكر " ولكلمة " رسولا " اعتبر بعضهم أن " الذكر " يعني القرآن ، بينما فسرها البعض الآخر بأنها تعني ( رسول الله ) لأن الرسول هو سبب تذكر الناس ، وطبقا لهذا التفسير فإن كلمة " رسولا " التي تأتي بعدها تعني شخص الرسول ، وليس في البين كلام محذوف .
ولكن يصبح معنى " الإنزال " هنا هو وجود الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الأمة وبعثه فيها من قبل الله تعالى .
ولكن إذا أخذنا " الذكر " بمعنى " القرآن " فإن كلمة " رسولا " لا يمكن أن تكون بدلا ، وفي الجملة محذوف تقديره " أنزل الله إليكم ذكرا وأرسل إليكم رسولا " .
قال البعض : أن " الرسول " يقصد به " جبرائيل " وبهذا يكون النزول نزولا حقيقيا ، نزل من السماء ، غير أن هذا التفسير لا ينسجم مع عبارة {يتلو عليكم آيات الله} لأن جبرائيل لم يقرأ الآيات القرآنية بصورة مباشرة على المسلمين .
وبصورة عامة ، فإن كل أي من هذه الآراء يحتوي على نقاط قوة ونقاط ضعف ، ويبقى التفسير أو الرأي الأول أفضل الآراء أي أن " الذكر " يقصد به " القرآن " و " رسولا " يقصد به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . وذلك لأن القرآن الكريم أطلق على نفسه " الذكر " في آيات كثيرة ، خصوصا أنها كانت مقرونة بكلمة " إنزال " إلى الحد الذي أصبح كلما جاءت عبارة " إنزال الذكر " تداعى إلى الأذهان القرآن الكريم .
ثم نقرأ في الآية ( 44 ) من سورة النحل {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: 44].
وجاء في الآية ( 6 ) من سورة " الحجر {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] .
وإذا جاء في بعض الروايات عن أهل البيت ( عليهم السلام ) أن المقصود من " الذكر " هو رسول الله و " أهل الذكر " هم " الأئمة " ، فقد يكون المقصود هو المعنى الباطني للآية ، لأننا نعلم أن " أهل الذكر " في آية {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل: 43] ليس خصوص أهل البيت ( عليهم السلام ) ، بل إن شأن نزولها هو علماء أهل الكتاب ، ولكن نظرا لإتساع معنى الذكر فإنه يشمل رسول الله كأحد مصاديقه .
على أي حال فإن الهدف النهائي من إرسال الرسول وإنزال هذا الكتاب السماوي ، هو لإخراج الناس من الظلمات والكفر والجهل وارتكاب الذنوب والمآثم والمفاسد الأخلاقية ، إلى نور الإيمان والتوحيد والتقوى .
والواقع أن تمام أهداف بعثة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونزول القرآن يمكن تلخيصها
بهذه الجملة ، وهي الخروج من الظلمات إلى النور .
وتجدر الإشارة إلى أن " الظلمات " ذكرت بصيغة الجمع بينما ذكر النور بصيغة المفرد ، لأن الكفر والشرك والفساد تؤدي إلى الفرقة والاختلاف ، بينما يؤدي الإيمان والتوحيد والتقوى إلى الوحدة والتلاحم .
وفي ختام الآية يشير إلى أجر العاملين المخلصين بقوله : {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا} .
وأشار بالفعل المضارع " يؤمن " و " يعمل " إلى أن إيمانهم وعملهم الصالح ليسا محدودين بحدود الزمان والمكان ، وإنما لهما استمرار وديمومة (3) .
والتعبير ب ( خالدين ) دليل على كون الجنة خالدة ، وبذلك تكون كلمة " أبدا " التي جاءت بعدها تأكيد لهذا الخلود .
والتعبير ب " رزقا " بصيغة نكرة إشارة إلى عظمة وأهمية الأرزاق الطيبة التي يهيؤها الله لهذه الجماعة ، وقد يتسع معناها ليشمل كل النعم الإلهية في الدنيا والآخرة ، لأن الصالحين والمتقين لهم حياتهم الكريمة حتى في الحياة الدنيا .
وقوله تعالى : { الله الذي خلق سبع سموت ومن الأرض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما }
الهدف من خلق العالم :
هذه الآية هي آخر آية من سورة الطلاق ، وفيها إشارة معبرة وصريحة إلى عظمة وقدرة البارئ جل شأنه في خلق السماوات والأرض وبيان الهدف النهائي للخلق ، ثم تكمل الآية الأبحاث التي وردت في الآيات السابقة حول الثواب العظيم الذي أعده الله للمؤمنين المتقين ، والعهود التي قطعها على نفسه لهم فيما يخص حل مشاكلهم المعقدة . إذ من الطبيعي أن الذي أوجد هذا الخلق العظيم له القدرة على الوفاء بالعهود سواء في هذا العالم أو العالم الآخر .
يقول تعالى أولا : {الله الذي خلق سبع سماوات} .
{ومن الأرض مثلهن} .
بمعنى أن الأرضين سبع كما السماوات سبع ، وهذه هي الآية الوحيدة التي تشير إلى الأرضين السبع في القرآن الكريم .
والآن لنر ما هو المقصود من السماوات السبع والأرضين السبع ؟
مرت أبحاث مطولة في هذا المجال في ذيل الآية ( 29 ) من سورة البقرة ، وفي ذيل الآية ( 12 ) من سورة فصلت ، لذا نكتفي هنا بإشارة مقتضبة وهي : إنه من الممكن أن يكون المراد من عدد ( 7 ) هو الكثرة ، فكثيرا ما ورد هذا التعبير للإشارة إلى الكثرة في القرآن الكريم وغيره ، فنقول أحيانا للمبالغة لو أتيت بسبعة أبحر لما كفت .
وبناء على هذا فسيكون المقصود بالسموات السبع والأرضين السبع هو الإشارة إلى العدد العظيم والهائل للكواكب السماوية والكواكب التي تشبه الأرض .
أما إذا اعتبرنا العدد سبعة هو لعدد السماوات وعدد الأرضين ، فإن مفهوم هذه الآية مع الالتفات إلى الآية ( 6 ) من سورة الصافات التي تقول : { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6] سيكون شيئا آخر ، وهو أن علم البشر ومعرفته مهما اتسعت فهي محدودة ومتعلقة بالسماء الأولى التي توجد وراءها ثوابت وسيارات ستة هي عبارة عن العوالم الأخرى التي لا تتسع لها معرفتنا المحدودة ولا ينالها إدراكنا الضيق .
أما الأرضين السبع وما حولها ، فربما تكون إشارة إلى طبقات الأرض المختلفة ، لأن الأرض تتكون من طبقات مختلفة كما ثبت اليوم علميا . أو لعلها تكون إشارة إلى المناطق السبع التي تقسم بها الأرض في السابق وحاليا . علما أن هناك اختلافا بين التقسيم السابق والتقسيم الحالي ، فالتقسيم الحالي يقسم الأرض إلى منطقتين : منطقة المنجمد الشمالي ، والمنجمد الجنوبي . ومنطقتين معتدلتين ، وأخريين حارتين ، ومنطقة استوائية . أما سابقا فكان هناك تقسيم آخر
لهذه المناطق السبع .
ويمكن أن يكون المراد هنا من العدد " سبعة " المستفاد من تعبير ( مثلهن ) هو الكثرة أيضا التي أشير بها إلى الكرات الأرضية العديدة الموجودة في العصر الراهن ، حتى قال بعض علماء الفلك : إن عدد الكرات المشابهة للأرض التي تدور حول الشموس يبلغ ثلاثة ملايين كرة كحد أدنى (4)(5) .
ونظرا لقلة معلوماتنا حول ما وراء المنظومة الشمسية ، فإن تحديد عدد معين حول هذا الموضوع يبقى أمرا صعبا . ولكن على أي حال فقد أكد علماء الفلك الآخرون أن هناك ملايين الملايين من الكواكب التي وضعت في ظروف تشبه ظروف الكرة الأرضية ، ضمن مجرة المجموعة الشمسية ، وهي تمثل مراكز للحياة والعيش .
وربما ستكشف التطورات العلمية القادمة معلومات أوسع وأسرار أخرى حول تفسير مثل هذه الآيات .
ثم يشير تعالى إلى إدارة هذا العالم الكبير وتدبيره بقوله جل شأنه يتنزل الأمر بينهن .
وواضح أن المراد من " الأمر " هنا هو الأمر التكويني لله تعالى في خصوص إدارة وتدبير هذا العالم الكبير ، فهو الهادي وهو المرشد وهو المبدع لهذا المسار الدقيق المنظم ، والحقيقة أن هذه الآية تشبه الآية (4) من سورة السجدة حيث تقول : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض .
على أي حال فإن هذا العالم سيفنى ويتلاشى إذا ما رفعت عنه يد التدبير والهداية الإلهية لحظة واحدة .
وأخيرا يشير تعالى إلى الهدف من وراء هذا الخلق العظيم حيث يقول : لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما .
كم هو تعبير لطيف ، إذ يعتبر الهدف من هذا الخلق العظيم هو تعريف الإنسان بصفات الله في علمه وقدرته ، وهما صفتان كافيتان لتربية الإنسان .
ومن ثم يجب أن يعلم الإنسان أن الله محيط بكل أسرار وجوده ، عالم بكل أعماله ما ظهر منها وما بطن . ثم يجب أن يعلم الإنسان أن وعد الله في البعث والمعاد والثواب والعقاب وحتمية انتصار المؤمنين ، كل ذلك غير قابل للتخلف والتأخر .
نعم ، إن هذا الخالق العظيم الذي له هذه " القدرة والعلم " والذي يدير هذا العالم بأجمعه ، لابد أن أحكامه على صعيد تنظيم علاقات البشر وقضايا الطلاق وحقوق النساء ستكون بمنتهى الدقة والإتقان .
أوردنا بحثا مفصلا حول موضوع " الخلقة " في ذيل الآية ( 56 ) من سورة الذاريات .
الجدير بالذكر أن هناك إشارات وردت في آيات عديدة من القرآن الكريم تبين الهدف من خلق الإنسان أو الكون ، وقد تبدو مختلفة ، ولكن بالنظرة الدقيقة نلاحظ أنها ترجع إلى حقيقة واحدة .
1 - في الآية ( 56 ) من سورة الذاريات يعتبر " العبادة " هي الهدف من خلق الجن والإنس وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
2 - وفي الآية ( 7 ) من سورة هود يضع امتحان الإنسان وتمحيصه كهدف لخلق السماوات والأرض : هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا .
3 - في الآية ( 119 ) من سورة هود يقول : إن الرحمة الإلهية هي الهدف " ولذلك خلقهم " .
4 - وفي الآية مورد البحث اعتبر العلم والمعرفة بصفات الله هي الهدف " . . . لتعلموا . . " .
إن تدقيقا بسيطا في هذه الآيات يرينا أن بعضها مقدمة للبعض الآخر ، فالعلم والمعرفة مقدمة للعبودية ، والعبادة هي الأخرى مقدمة للامتحان وتكامل الإنسان ، وهذا مقدمة للاستفادة من رحمة الله " فتأمل ! "
_______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ،ص 269-276.
2 - " كأين " على الرأي المشهور لعلماء الأدب اسم مركب من " كاف " التشبيه و " أي " مع التنوين الذي دخل في بناء هذا الاسم ، ويقرأ مع الوقف كذلك ، وكتب أيضا في كتابة المصاحف ومعناها كمعنى " كم " الخبرية ، رغم وجود فرق بسيط بينهما .
وعلى الرأي غير المشهور فإنها اسم بسيط وكافها ونونها جزء من الكلمة .
3 - ينبغي الالتفات إلى أن الضمائر في الآية بعضها بصيغة الجمع وبعضها الآخر بصيغة المفرد ، وهذا يعني انه في الموارد
التي جاء بصيغة المفرد يكون بمعنى الجنس والجمع أيضا .
4 - تفسير " المراغي " ، ج 28 ، ص 151 ، في حديث نقل عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه قال : " لهذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض . ( تفسير البرهان ، ج 4 ، ص 15 ) .
5- وهنالك احتمال رابع في تفسير هذه الاية ايضا اوسع من المعنى الوارد اعلاه ، وهو اننا لو نظرنا الى اطراف الكرة الارضية من كل جهة لرأينا مجرات ونجوم كثيرة جدا . وعليه فكما توجد نجوم كثيرة فوقنا في السماء ، فكذلك توجد نجوم كثيرة اسفل اقدامنا ، اي لو اننا وقفنا في القسم الجنوبي من الكرة الارضية لرأينا مجرات ونجوم كثيرة ايضا ، فيكون المعنى ان السماء التي فوقنا والارض التي تحت اقدامنا تحتوي في كل ابعادها وجوانبها على عوالم كثيرة ، وبعضها سماء بالنسبة لنا ، وبعضها ارض بالنسب لنا كذلك.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|