أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-10-2014
4907
التاريخ: 2023-04-13
2282
التاريخ: 2023-08-27
882
التاريخ: 2-10-2014
4864
|
لما كان العفو والمغفرة يتعلق بالذنب الذي يستتبع نوعا من المجازاة والعقاب، وللجزاء كما عرفت عرض عريض ومراتب مختلفة متشتتة أتبعه العفو في اختلاف المراتب حسب اختلافه، وليس الاختلاف الواقع في نفس الذنب أعني التبعة السيئة التي يستتبعها العمل، فالاختلاف فيها مما لا سبيل إلى إنكاره، والجزاء سواء كان عقابا أو ثوابا إنما يوزن بزنتها.
فمما لا محيص عنه في بحثنا هذا هو البحث عن الذنب واختلاف مراتبه، والتأمل فيما يهدى إليه العقل الفطري فإن البحث وإن كان قرآنيا يراد به الحصول على ما يراه الكتاب الإلهي في هذه الحقائق غير أنه تعالى على ما بين في كلامه يكلمنا على قدر عقولنا وبالموازين الفطرية التي نزن بها الأشياء في مرحلتي النظر والعمل، وقد مرت الإشارة إليه في موارد من الأبحاث الموضوعة في هذا الكتاب، وقد استمد تعالى في موارد من بياناته بالعقل والفكر الانساني، وأيد به مقاصد كلامه فقال تعالى: (أفلا تعقلون). (أفلا تتفكرون)، وما في معناهما.
والذي يفيده الاعتبار الصحيح هو أن أول ما يتعلق به ويحترمه المجتمع الانساني هو الاحكام العملية والسنن المحترمة التي تحفظ بالعمل بها والمداومة عليها مقاصده الانسانية وتهديه إلى سعادته في الحياة، ثم تضع أحكاما جزائية يجازى على طبقها المتخلف العاصي عن القوانين الاجتماعية ويثاب المطيع الممتثل.
وفي هذه المرحلة لا يسمى باسم الذنب إلا التخلف عن متون القوانين العملية، وتحاذي الذنوب لا محالة في عددها عدد مواد الاحكام الاجتماعية، وهذا هو المغروز المركوز في أذهاننا معاشر المسلمين أيضا من معنى لفظ الذنب والألفاظ التي تقارنه في المعنى كالسيئة والمعصية والاثم والخطيئة والحوب والفسق ونحوها.
لكن الامر لا يقف على هذا الحد فإن الاحكام العملية إذا عمل بها وروقبت وتحفظ عليها ساق المجتمع إلى أخلاق وأوصاف مناسبة لها ملائمة لمقاصد المجتمع التي هي غاية اجتماعهم، وهذه الأخلاق هي التي يسميها المجتمع بالفضائل الانسانية ويحرص ويحرض عليها، وتقابلها الرذائل.
وهى وإن كانت مختلفة باختلاف السنن والمقاصد في المجتمعات إلا أن أصل إنتاج الاحكام الاجتماعية لها مما لا سبيل إلى سده وإعفائها عنه.
وبالجملة تتحقق بذلك مرتبة من مراتب الذنب فوق المرتبة السابق ذكرها، وهى مرتبة التخلف عن الاحكام الخلقية والأوامر العقلية المتعلقة بها.
ولم تعد هذه الأوامر العقلية أوامر إلا من جهة التلازم بين الأعمال الواجبة التي تسوق إليها وبينها، فهناك حاكم يحكم بالوجوب ويأمر به وهو العقل الانساني ونظيره القول في تسمية النواهي العقلية نواهي ، وهذا دأبنا في جميع موارد التلازم فإذا فرضنا العمل بأحد المتلازمين لا نلبث دون أن نأمر بإتيان الاخر ووجوبه، ونرى التخلف عن ذلك عصيانا لهذا الامر العقلي، وذنبا يستحق به نوع من المؤاخذة.
ويظهر من هنا أمر آخر وهو أن هذه الفضائل لما كانت مشتملة على واجبات لا محيص عن التلبس بها - ومثله اشتمال الرذائل على المحرمات - وعلى أمور مندوبة مستحبة هي كالزينة والهيئة الجميلة فيها - وهى الآداب الحسنة التي تتعلق بها أوامر عقلية استحسانيه إلا أنها إذا فرضت ظرفا لاحد منا كان ما يلازمها من الآداب وهى مندوبة في نفسها - مأمورا به عقلا أمرا إيجابيا قضاء لحق الظرفية المفروضة، مثال ذلك أن البدوي العائش عيشة العشائر البدوية لما كان ظرف حياته بعيدا من المستوى المتوسط في الحياة الحضرية لا يؤاخذ إلا بالضروريات من أحكام المجتمع والسنن العامة التي يناله عقله وفهمه، وربما أتى بالوقيح من الأعمال أو الركيك من الأقوال فيغمض عنه الحضري معتذرا بقصور الفهم وبعد الدار من السواد الأعظم الذي تكرر مشاهدة الرسوم والآداب فيه أحسن معلم للناس القاطنين فيه.
ثم المتوسط من الناس الحضريين لا يؤاخذ بما يؤاخذ به الآحاد النوادر من المجتمع الذين هم أهل الفهم اللطيف والأدب الظريف، ولا عذر فيما يقع من المتوسط من الناس من ترك دقائق الأدب وظرائف القول والفعل إلا أن فهمه على قدر ما يأتي به، لا يشعر من لوازم الأدب بأزيد مما يأتي به وظرفه هو ظرفه.
وما يأتي به مما لا ينبغي هو مما يؤاخذ به الأوحديون من الرجال فربما يؤاخذون بلحن خفى في كلام أو بتبطؤ يسير في حركة أو بتفويت آن غير محسوس في سكون أو التفات أو غمض عين ونحو ذلك فيعد ذلك كله ذنبا منهم، وليس من الذنب بمعنى مخالفة المواد القانونية دينية كانت أو دنيوية، وقد اشتهر بينهم: أن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وكلما دق المسلك ولطف المقام ظهرت هنالك خفايا من الذنوب كانت قبل تحقق هذا الظرف مغفولا عنها لا يحس بها الانسان المكلف بالتكاليف، ولا يؤاخذ بها ولى المؤاخذة والمحاسبة.
وينتهى ذلك - فيما يعطيه البحث الدقيق - إلى الاحكام الناشئة في ظرفي الحب والبغض فترى عين المبغض - وخاصة في حال الغضب - عامة الأعمال الحسنة سيئة مذمومة، ويرى المحب إذا تاه في الغرام واستغرق في الوله أدنى غفلة قلبية عن محبوبه ذنبا عظيما وإن اهتم بعمل الجوارح بتمام أركانه، وليس إلا أنه يرى أن قيمة أعماله في سبيل الحب على قدر توجه نفسه و انجذاب قلبه إلى محبوبه فإذا انقطع عنه بغفلة قلبية فقد أعرض عن المحبوب و انقطع عن ذكره وأبطل طهارة قلبه بذلك.
حتى أن الاشتغال بضروريات الحياة من أكل وشرب ونحوهما يعد عنده من الاجرام والعصيان نظرا إلى أن أصل الفعل وإن كان من الضروري الذي يضطر إليه الانسان لكن كل واحد واحد من هذه الأفعال الاضطرارية من حيث أصله اختياري في نفسه، والاشتغال به اشتغال بغير المحبوب وإعراض عنه اختيارا وهو من الذنب، ولذلك نرى أهل الوله والغرام وكذا المحزون الكئيب ومن في عداد هؤلاء يستنكفون عن الاشتغال بأكل أو شرب أو نحوهما.
وعلى نحو من هذا القبيل ينبغي أن يحمل ما ربما يروى عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: " إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله كل يوم سبعين مرة "، وعليه يمكن أن يحمل بوجه قوله تعالى : { واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والابكار } (المؤمن: 55) وقوله { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } (النصر: 3) وعليه يحمل ما حكى تعالى عن عدة من أنبيائه الكرام كقول نوح : { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا } (نوح: 28) وقول إبراهيم : { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } (إبراهيم : 41) وقول موسى لنفسه وأخيه : { رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك } (الأعراف: 151) وما حكى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
{ سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } (البقرة: 285).
فإن الأنبياء عليهم السلام مع عصمتهم لا يتأتى أن تصدر عنهم المعصية، ويقترفوا الذنب بمعنى مخالفة مادة من المواد الدينية التي هم المرسلون للدعوة إليها، والقائمون قولا وفعلا بالتبليغ لها، و المفترض طاعتهم من عند الله، ولا معنى لافتراض طاعة من لا يؤمن وقوع المعصية منه، تعالى الله عن ذلك.
وهكذا يحمل على هذا الباب ما حكى عن بعضهم عليهم السلام من الاعتراف بالظلم ونحوه كقول ذي النون : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } (الأنبياء: 87) إذ كما يجوز عدهم بعض الأعمال المباحة الصادرة عنهم ذنبا لأنفسهم وطلب المغفرة من الله سبحانه، كذلك يجوز عده ظلما من أنفسهم لان كل ذنب ظلم.
وقد مر أن هنالك محملا آخر وهو أن يكون المراد بالظلم هو الظلم على النفس كما في قول آدم وزوجته : { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } (الأعراف: 23).
وإياك أن تتوهم أن معنى قولنا في آية: إن لها محملا كذا ومحملا كذا هو تسليم أن ذلك من خلاف ظاهر الكلام ثم الاجتهاد في اختلاف معنى يحمل عليه الكلام، وتطبق عليه الآيات القرآنية تحفظا على الآراء المذهبية، واضطرارا من قبل التعصب.
وقد تقدم البحث الحر في عصمة الأنبياء عليهم السلام بالتدبر في الآيات أنفسها من غير اعتماد على المقدمات الغريبة الأجنبية في الجزء الثاني من الكتاب.
وقد بينا هناك وفي غيره أن ظاهر الكلام لا يقتصر في تشخيصه على الفهم العامي المتعلق بنفس الجملة المبحوث عنها بل للقرائن المقامية والكلامية المتصلة والمنفصلة - كالآية المتعرضة لمعنى آية أخرى - تأثير قاطع في الظواهر، وخاصة في الكلام الإلهي الذي بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ويصدق بعضه بعضا.
والغفلة عن هذه النكتة هي التي أشاعت بين عدة من المفسرين وأهل الكلام إبداع التأويل بمعنى صرف الكلام إلى ما يخالف ظاهره، وارتكابه في الآيات المخالفة لمذهبهم الخاص على زعمهم، فتراهم يقطعون القرآن قطعا ثم يحملون كل قطعة منها على ما يفهمه العامي السوقي من كلام سوقي مثله فإذا سمعوه تعالى يقول : { فظن أن لن نقدر عليه } حملوه على أنه عليهم السلام - وحاشاه - زعم أو أيقن أن الله سبحانه يعجز عن أخذه مع أن ما في الآية التالية : { وكذلك ننجي المؤمنين } يعده من المؤمنين، ولا إيمان لمن شك في قدرة الله فضلا عن أن يرجح أو يقطع بعجزه.
وإذا سمعوه تعالى يقول : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر تفهموا منه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أذنب فغفر الله له كما يذنب الواحد منا بمخالفة أمر أو نهى مولوي من الله تنعقد بهما مسألة فرعية فقهية.
ولم يهدهم التدبر حتى بمقدار أن يرجعوا إلى سابقة الآية : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } حتى ينجلي لهم أن هذا الذنب والمغفرة المتعلقة به لو كانا كالذنوب التي لنا والمغفرة التي تتعلق بها لم يكن وجه لتعليق المغفرة على فتح مكة تعليق الغاية على ذي الغاية وكذا لم يكن وجه لعطف ما عطف عليه أعني قوله : { ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيزا } (الفتح: 2-3).
وكذا إذا سمعوا سائر الآيات التي تشتمل على عثرات الأنبياء بزعمهم كالتي وردت في قصص آدم ونوح وإبراهيم ولوط ويعقوب ويوسف وداود وسليمان وأيوب ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم بادروا إلى الطعن في ساحة نزاهتهم، ولم ينقبضوا عن إساءة الأدب إليهم وهم أنفسهم أولى بما رموا ولا شين كسوء الأدب.
فساقهم سوء الحظ ورداءة النظر إلى أن أبدلوا ربهم رب العالمين برب تنعته التوراة والأناجيل المحرفة قوة غيبية متجسدة تدير رحى الوجود كما يدير جبار من جبابرة الانسان مملكته لأهم له إلا إشباع طاغية شهوته وغضبه فجهلوا مقام ربهم ثم سهوا عن مقام النبوة وعفوا مدارجهم العالية الشريفة الروحية ومقاماتهم السامية الحقيقية فعادت بذلك هاتيك النفوس الطاهرة المقدسة تماثل النفوس الرديئة الخسيسة التي ليس لها من شرف الانسانية إلا التسمي باسمها، تهلك من (1) هذا نفسه وتخون من ذاك عرضه ، وتطمع من ذلك في ماله مع أنهم على ما لهم من الجهل لا يرضون بهذه الفضائح فيمن يتقلد أمرا من أمور دنياهم أو يتصدى يوما للقيام بمصلحة بيتهم وأهلهم فكيف يرضون بنسبة هذه الفضائح إلى الله سبحانه وهو العليم الحكيم الذي أرسل رسله إلى عباده لئلا يكون لهم حجة بعدهم؟ وليت شعري أي حجة تقوم على كافر أو فاسق إذا جاز للرسول أن يكفر أو يفجر أو يدعو إلى الشرك والوثنية ثم يتبرأ منه وينسبه إلى الشيطان؟.
وإذا ذكروا ببعض ما لأنبياء الله عليهم السلام من العصمة الإلهية، والمقامات الموهوبة والمواقف الروحية عدوا ذلك شركا بالله، وغلوا في حق عباد الله، وأخذوا في تلاوة قوله : { قل إنما أنا بشر مثلكم}.
وقد أصابوا في ردهم بوجه فإن ما يتصورونه من الرب عز اسمه وينعتونه بها من النعوت في ذاته وفعله دون ما يذكرون به من مقامات الأنبياء عليهم السلام وأخفض منها منزلة وقدرا، وهذا كله من المصائب التي لقيتها الاسلام وأهله مما دسته أهل الكتاب وخاصة اليهود في الروايات وعملته أيديهم، وحركوا بها الرحى على غير محوره، واعتقدوا في الله سبحانه الذي ليس كمثله شيء أنه مثل الانسان المتجبر الذي يرى لنفسه أنه حر غير مسؤول فيما يفعل وهم المسؤولون، وأن ترتب المسببات على أسبابها واستيلاد المقدمات نتائجها، واقتضاء الخصائص الوجودية صورية أو معنوية لأثارها كل ذلك جزافي لا لرابطة حقيقية.
وأن الله تعالى ختم بمحمد النبوة وأنزل عليه القرآن، وخص موسى بالتكليم، وعيسى بالتأييد بالروح لا لخصوصية في نفوسهم الشريفة بل لأنه أراد أن يخصهم بكذا وبكذا، وأن ضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت كضرب أحدنا بعصاه الحجر غير أن الله يفجر ذاك ولا يفجر هذا، وأن قول عيسى للموتى: قوموا بإذن الله مثل أن ينادى أحدنا بين المقابر: قوموا بإذن الله إلا أن الله يحيى أولئك ولا يحيى هؤلاء وهكذا.
فإن الله سبحانه يكرر في كلامه أن له عبادا يسميهم بالمخلصين مصونين عن المعصية لا مطمع فيهم للشيطان فلا ذنب - بالمعنى المعروف - لهم ولا حاجة إلى المغفرة المتعلقة بذلك الذنب، وقد نص في حق عدة من أنبيائه كإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى أنهم مخلصون كقوله في إبراهيم وإسحاق ويعقوب : { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } (ص : 46) وقوله في يوسف : { إنه من عبادنا المخلصين } (يوسف : 24) وقوله في موسى: { إنه كان مخلصا } (مريم : 51) وقد حكى عنهم سؤال المغفرة كقول إبراهيم عليه السلام : { ربنا اغفر لي ولوالدي } (إبراهيم : 41) وقول موسى عليه السلام : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} (الأعراف : 151) ولو كانت المغفرة لا يتعلق إلا بالذنب بالمعنى المعروف لم يستقم ذلك.
نعم ربما قال القائل : إنهم عليه السلام يعدون أنفسهم مذنبين تواضعا لله سبحانه ولا ذنب لهم لكن ينبغي لهذا القائل أن يتنبه إلى أنهم عليهم السلام لم يخطأوا في نظرهم هذا، ولم يجازفوا في قولهم فلشمول المغفرة لهم معنى صحيح والمسألة جدية.
على أن في دعاء إبراهيم عليه السلام : { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } دعاء لكافة المؤمنين - وفيهم المخلصون - بالمغفرة، وكذا في دعاء نوح عليه السلام :
{ رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات } (نوح: 28) شمول بإطلاقه للمخلصين، ولا معنى لطلب المغفرة على من لا ذنب له يحتاج إلى المغفرة.
فهذا كله ينبهنا إلى أن من الذنب المتعلق به المغفرة ما هو غير الذنب بالمعنى المتعارف وكذا من المغفرة ما هي غير المغفرة بمعناها المتعارف، وقد حكى الله تعالى عن إبراهيم قوله : {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين }(الشعراء : 82) ولعل هذا هو السبب فيما نشاهد أنه تعالى في موارد من كلامه إذا ذكر الرحمة أو الرحمة الأخروية التي هي الجنة قدم عليه ذكر المغفرة كقوله : {وقل رب اغفر وارحم } (المؤمنون: 118) وقوله : { واغفر لنا وارحمنا } (البقرة : 286) وقوله حكاية عن آدم وزوجته : { وإن لم تغفر لنا وترحمنا } (الأعراف : 23) وقوله عن نوح عليه السلام : { وإلا تغفر لي وترحمني } (هود : 47).
فتحصل من البيان السابق : أن للذنب مراتب مختلفة مترتبة طولا كما أن للمغفرة مراتب بحذائها، تتعلق كل مرتبة من المغفرة بما يحاذيها من الذنب، وليس من اللازم أن يكون كل ذنب وخطيئة متعلقا بأمر أو نهى مولوي فيعرفه ويتبينه الافهام العامية الساذجة، ولا أن يكون كل مغفرة متعلقة بهذا النوع من الذنب.
فالذي تبين لنا من مراتب الذنب والمغفرة بحسب البحث السابق العام مراتب أربع :
أولاها : الذنب المتعلق بالأمر والنهى المولويين وهو المخالفة لحكم شرعي فرعى أو أصلى وإن عممت التعبير قلت: مخالفة مادة من المواد القانونية دينية كانت أو غير دينية، وتتعلق به مغفرة تحاذيه مرتبة.
والثانية : الذنب المتعلق بالحكم العقلي الخلقي والمغفرة المتعلقة به.
والثالثة : الذنب المتعلق بالحكم الأدبي ممن ظرف حياته ظرف الأدب والمغفرة المتعلقة به، وهذان القسمان ربما لم يعدا بحسب الفهم العامي من الذنوب والمغفرات، وربما حسبوهما منها مجازا، وليس من المجاز في شيء لما عرفت من ترتب الآثار الحقيقية عليهما.
والرابعة : الذنب الذي يحكم به ذوق الحب والمغفرة المتعلقة به، وفى ظرف البغض أيضا ما يشبههما، وهذا النوع لا يعده الفهم العامي من الأقسام، وقد أخطأوا في ذلك لا لجور منهم في الحكم والقضاء بل لقصور فهمهم عن تعقله وتبين معناه.
وربما قال القائل منهم : إنه من أوهام العشاق والمبرسمين أو تخيل شعري لا يتكئ على حقيقة عقلية، وقد غفل عن أن هذه التصورات على أنها أوهام وتخيلات في طريق الحياة الاجتماعية هي بعينها تعود حقائق - وأي حقائق - في طريق العبودية عن حب إلهي يذيب القلب ويوله اللب، ولا يدع للإنسان شعورا يشعر بغير ربه، ولا إرادة يريد بها إلا ما يريده.
وحينئذ يلوح له أن التفاتة يسيرة منه إلى نفسه أو إلى مشتهاها من شيء ذنب عظيم وحجاب غليظ لا ترفعه إلا المغفرة الإلهية، وقد عد الله سبحانه الذنب حجابا للقلب عن التوجه التام إلى ربه إذ قال : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون }(المطففين: 14-15).
فهذا ما يعطيه البحث الجدي الذي لا يلعب فيه بالحقائق، وربما أمكن أن يلوح لأولياء الله السالكين في عبوديتهم سبيل حبه تعالى دقائق من الذنب ولطائف من المغفرة لا تكاد تناله أيدي الأبحاث الكلية العامة.
___________________
1- راجع ما رووه في داود وسليمان وفى إبراهيم ولوط وغيرهم عليهم السلام.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|