أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-9-2017
5368
التاريخ: 25-9-2017
1908
التاريخ: 25-9-2017
4769
التاريخ: 25-9-2017
6521
|
قال تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُو الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } [الذاريات: 15 - 30].
ذكر سبحانه ما أعده لأهل الجنة فقال {إن المتقين في جنات وعيون} مر تفسيره {آخذين ما آتاهم ربهم} أي ما أعطاهم من الخير والكرامة {إنهم كانوا قبل ذلك} يعني في دار التكليف {محسنين} يفعلون الطاعات ويحسنون إلى غيرهم بضروب الإحسان ثم ذكر إحسانهم في أعمالهم فقال {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون} أي كانوا يهجعون قليلا من الليل يصلون أكثر الليل عن الزهري وإبراهيم والهجوع النوم بالليل دون النهار وقيل معناه كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) والمعنى كان الذي ينامون فيه كله قليلا ويكون الليل اسما للجنس وقال مجاهد لا ينامون كل الليل وقيل إن الوقف على قوله {قليلا} على معنى كانوا من الناس قليلا ثم ابتدأ فقال {من الليل ما يهجعون} فيكون ما بمعنى النفي عن الضحاك ومقاتل وهذا على نفي النوم عنهم البتة أي كانوا يحيون الليل بالقيام في الصلاة وقراءة القرآن وأقول إن ما إذا كان نفيا لا يتقدم عليه ما كان في حيزه إلا أن يتعلق قوله {من الليل} بفعل محذوف يدل عليه قوله يهجعون كما تقوله في قوله {إني لكما لمن الناصحين} و{كانوا فيه من الزاهدين}.
{وبالأسحار هم يستغفرون} قال الحسن مدوا الصلاة إلى الأسحار ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار وقال أبوعبد الله (عليه السلام) كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرة في السحر وقيل إن معناه وبالأسحار هم يصلون وذلك أن صلاتهم بالأسحار طلب منهم للمغفرة عن مجاهد ومقاتل والكلبي.
ثم ذكر سبحانه صدقاتهم فقال {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} والسائل هو الذي يسأل الناس والمحروم هو المحارف(2) عن ابن عباس ومجاهد وقيل المحروم المتعفف الذي لا يسأل عن قتادة والزهري وقيل هو الذي لا سهم له في الغنيمة عن إبراهيم النخعي والأصل أن المحروم هو الممنوع الرزق بترك السؤال أو ذهاب المال أو خراب الضيعة أو سقوط السهم من الغنيمة لأن الإنسان يصير فقيرا بهذه الوجوه ويريد سبحانه بقوله {حق} ما يلزمهم لزوم الديون من الزكوات وغير ذلك أو ما ألزموه أنفسهم من مكارم الأخلاق قال الشعبي أعياني أن أعلم ما المحروم وفرق قوم بين الفقير والمحروم بأنه قد يحرمه الناس بترك الإعطاء وقد يحرم نفسه بترك السؤال فإذا سأل لا يكون ممن حرم نفسه بترك السؤال وإنما حرمه الغير وإذا لم يسأل فقد حرم نفسه ولم يحرمه الناس {وفي الأرض آيات} أي دلالات بينات وحجج نيرات {للموقنين} الذين يتحققون توحيد الله وإنما خص الموقنين لأنهم ينظرون فيها فيحصل لهم العلم بموجبها وآيات الأرض ما فيها من أنواع المخلوقات من الجبال والبحار والنبات والأشجار كل ذلك دال على كمال قدرته وحكمته :
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
{وفي أنفسكم} أي وفي أنفسكم أيضا آيات دالات على وحدانيته {أ فلا تبصرون} أي أ فلا ترون أنها مصرفة من حال إلى حال ومنتقلة من صفة إلى أخرى إذ كنتم نطفا فصرتم أحياء ثم كنتم أطفالا فصرتم شبابا ثم كهولا فهلا دلكم ذلك على أن لها صانعا صنعها ومدبرا دبرها ومصرفا فأصرفها على مقتضى الحكمة وقيل إن المراد بذلك اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع عن ابن عباس في رواية عطاء وقيل يريد سبيل الخلاء والبول والأكل والشرب من مدخل واحد والمخرج من سبيلين وتم الكلام عند قوله {وفي أنفسكم}.
ثم عنفهم فقال {أ فلا تبصرون} وقيل يعني أنه خلقك سميعا بصيرا تغضب وترضى وتجوع وتشبع وذلك كله من آيات الله تعالى عن الصادق (عليه السلام) وقيل إن المعنى أ فلا تبصرون بقلوبكم نظر من كأنه يرى الحق بعينه {وفي السماء رزقكم} ينزله الله إليكم بأن يرسل الغيث والمطر عليكم فيخرج به من الأرض أنواع ما تقتاتونه وتلبسونه وتنتفعون به {وما توعدون} من الثواب والعقاب عن عطاء وقيل من الجنة والنار عن مجاهد والضحاك وقيل معناه وفي السماء تقدير رزقكم أي ما قسمه لكم مكتوب في أم الكتاب وجميع ما توعدون في السماء أيضا لأن الملائكة تنزل من السماء لقبض الأرواح ولاستنساخ الأعمال ولإنزال العذاب ويوم القيامة للجزاء والحساب كما قال {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا}.
ثم قال سبحانه {فورب السماء والأرض إنه لحق} أقسم سبحانه بنفسه أن ما ذكر من أمر الرزق والآيات حق لا شك فيه عن الزجاج وقيل يعني أن ما قضي في الكتاب كائن عن الكلبي {مثل ما أنكم تنطقون} أي مثل نطقكم الذي تنطقون به فكما لا تشكون فيما تنطقون فكذلك لا تشكوا في حصول ما وعدتم به شبه الله تعالى تحقق ما أخبر عنه بتحقق نطق الآدمي ووجوده فأراد أنه لحق كما أن الآدمي ناطق وهذا كما تقول إنه لحق كما أنك هاهنا وإنه لحق كما أنك تتكلم والمعنى أنه في صدقه وتحقق وجوده كالذي تعرفه ضرورة .
ولما قدم سبحانه الوعد والوعيد عقب ذلك بذكر بشارة إبراهيم ومهلك قوم لوط تخويفا للكفار أن ينزل بهم مثل ما أنزل بأولئك فقال {هل أتيك} يا محمد وهذا اللفظ يستعمل إذا أخبر الإنسان بخبر ماض فيقال هل أتاك خبر كذا وإن علم أنه لم يأته {حديث ضيف إبراهيم المكرمين} عند الله وذلك أنهم كانوا ملائكة كراما ونظيره قوله بل عباد مكرمون وقيل أكرمهم إبراهيم فرفع مجالسهم وخدمهم بنفسه عن مجاهد(3). لأن أضياف الكرام مكرمون وكان إبراهيم أكرم الناس وأظهرهم فتوة وسماهم ضيفا من غير أن أكلوا من طعامه لأنهم دخلوا مدخل الأضياف واختلف في عددهم فقيل كانوا اثني عشر ملكا عن ابن عباس ومقاتل وقيل كان جبرائيل ومعه سبعة أملاك عن محمد بن كعب وقيل كانوا ثلاثة جبرائيل وميكائيل وملك آخر.
{إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما} أي حين دخلوا على إبراهيم فقالوا له على وجه التحية سلاما أي أسلم سلاما ف {قال} لهم جوابا عن ذلك {سلام} وقرىء سلم وهذا مفسر في سورة هود {قوم منكرون} أي قال في نفسه هؤلاء قوم لا نعرفهم وذلك أنه ظنهم من الإنس ولم يعرفهم عن ابن عباس والإنكار نفي صحة الأمر ونقيضه الإقرار والاعتراف {فراغ إلى أهله} أي ذهب إليهم خفيا وإنما راغ مخافة أن يمنعوه من تكلف مأكول كعادة الظرفاء {فجاء بعجل سمين} وكان مشويا لقوله في آية أخرى حينئذ قال قتادة وكان عامة مال إبراهيم (عليه السلام) البقر {فقربه إليهم} ليأكلوا فلم يأكلوا فلما رآهم لا يأكلون عرض عليهم ف {قال أ لا تأكلون} وفي الكلام حذف كما ترى {فأوجس منهم خفية} أي فلما امتنعوا من الأكل أوجس منهم خيفة والمعنى خاف منهم وظن أنهم يريدون به سوءا {قالوا} أي قالت الملائكة {لا تخف} يا إبراهيم {وبشروه بغلام عليم} أي يكون عالما إذا كبر وبلغ والغلام المبشر به هو إسماعيل عن مجاهد وقيل هو إسحاق لأنه من سارة وهذه القصة لها عن أكثر المفسرين وهذا كله مفسر فيما مضى {فأقبلت امرأته في صرة} أي فلما سمعت البشارة امرأته سارة أقبلت في ضجة عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وقيل في جماعة عن الصادق (عليه السلام) وقيل في رفقة عن سفيان والمعنى أخذت تصيح وتولول كما قالت يا ويلتي {فصكت وجهها} أي جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجبا عن مقاتل والكلبي وقيل لطمت وجهها عن ابن عباس والصك ضرب الشيء بالشيء العريض {وقالت عجوز عقيم} أي أنا عجوز عاقر فكيف ألد {قالوا كذلك قال ربك} أي كما قلنا لك قال ربك إنك ستلدين غلاما فلا تشكي فيه {إنه هو الحكيم العليم} بخفايا الأمور.
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص258-
2- المحارف : المحروم المحدود اذا طلب فلا يُرزق ، خلاف مبارك.
3- [قيل].
4- وفي نستختين
قال تعالى :{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ}. يأخذ سبحانه من الصالحين أعمالهم ، ويثيبهم عليها ، كما قال :
{ويَأْخُذُ الصَّدَقاتِ} - 104 التوبة أي يتقبلها ويثيب عليها ، وأيضا يأخذ الصالحون ما آتاهم اللَّه من ثواب ويتقبلونه بغبطة وسرور ، وبتعبير الآية 188 من سورة المائدة : {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
{كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وبِالأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . كانوا ينامون في الليل ، ولكن قليلا ، وكثيرا ما اتصل تهجدهم بالأسحار ، فيأخذون فيها بالتسبيح والاستغفار .
قال الإمام علي ( عليه السلام) في وصفهم : (أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا . . فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلعت إليها أنفسهم شوقا . . وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا ان زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم وأكفهم وأطراف أقدامهم ، يطلبون إلى اللَّه في فكاك رقابهم) .
{وفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ والْمَحْرُومِ } . السائل هو الذي يطلب من الناس الحسنات والصدقات ، والمحروم الفقير الذي يستنكف عن السؤال ، ويصدق عليه قوله تعالى : {يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً} - 273 البقرة وكلمة فقير تعني وتؤكد شرعا ان الفقير شريك للغني في ماله ، وان هذا غاصب ظلوم إذا منع الفقير من حقه . وتكلمنا عن ذلك مفصلا بعنوان {الزكاة} في ج 1 ص 428 وبعنوان (الغني وكيل لا أصيل) في ج 2 .
ص 217 .
اللَّه والمعرفة الحسية :
{وفِي الأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} . من تأمل في أيّ كائن من الكائنات ونظر إليه نظرة الفاحص المدقق لا بد أن ينتهي إلى التساؤل :
من الذي دبّر وأحكم هذا الصنع ؟ . ولا يجد جوابا مقنعا وتفسيرا صحيحا إلا وجود قوة عالمة هادية . وإذا لم يقتنع بهذا الجواب فلا يجد أمامه إلا الصدفة والطبيعة العمياء ، وليس من شك انها تزيده جهلا وعمى .
وقال الماديون : لا طريق إلى المعرفة إلا الحس والتجربة ، واللَّه لا يقع تحت الحس ولا هو موضوع للتجربة ، فالإيمان به - إذن - لا يستند إلى دليل ، بل هو جهل وضلال .
الجواب أولا : لا نسلم ان أسباب المعرفة تنحصر بالحس والتجربة ، بل هناك أيضا معرفة عقلية نصل إليها عن طريق القوى الذهنية ، ومن أسقط العقل عن الاعتبار ونفى الحجة عنه فقد نفى الإنسانية من الأساس ، إذ لا إنسانية بلا عقل حاسم قاطع . . يضاف إلى ذلك إلى ان من نفى المعرفة عن العقل فقد ناقض نفسه بنفسه حيث نفى معرفة العقل بالعقل ، واستدل على عدم الشيء بوجوده .
ثانيا : لو سلمنا - جدلا - بأنه لا طريق إلى المعرفة إلا الحس والمشاهدة فإننا نثبت وجود اللَّه ونؤمن به عن هذا الطريق بالذات . . وهو موجود في كل مشهد من مشاهد الطبيعة ، وقد بلغت هذه المشاهد النهاية من البداهة والوضوح ، وأوصلتنا إلى العلم بالمبدع المصور بمجرد النظر إليها والتأمل فيها بدون الرجوع إلى المختبرات والمصانع . . ولو توقف العلم باللَّه على التحليل في المختبرات لا نحصر وجوب الايمان بالمتخصصين بهذا الفن وحدهم ، ولما صح منه تعالى علوا كبيرا أن يخاطب العموم بقوله : {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} مع العلم بأنه ، جلت عظمته ، أوجب الايمان به على جميع عباده . . ولكن بعد أن قدم لهم الدليل القاطع لكل معذرة على وجوده ، أقام سبحانه هذا الدليل من الفطرة والعقل ومن الحس أيضا عملا بالمبدأ العادل القائل : {البينة على من ادعى} .
وليس في قولنا هذا جرأة وسوء أدب لأنه جل جلاله هو القائل : {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} - 53 فصلت . ونفس الإنسان وما في الآفاق من الكائنات هي من المشاهد المحسوسة الدالة على وجوده تعالى ، وبها يظهر الحق الذي لا ريب فيه ، ومن تتبع آي الذكر الحكيم يجد نفسه أمام العديد من هذه الآيات الكونية التي تدعو إلى الايمان باللَّه عن طريق المعرفة التي هي ثمرة الحس والعقل ، من ذلك قوله تعالى : {أَولَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ والأَرْضِ وما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} - 184 الأعراف أي شيء محسوس وملموس .
ان الايمان باللَّه ايمان بما لا تراه العين ولا تلمسه اليد ، ولكن هذا الايمان تفرضه وتحتمه المرئيات والملموسات ، تماما كما يؤمن الطبيب العارف بوجود نوع من المرض في الجسم السقيم ، ويحدد ماهيته بمجرد أن يلمس الجسم أو ينظر إليه دون أن يرى الميكروب الذي تولد منه المرض . . وما من أحد مؤمنا كان أو ملحدا إلا وهو يؤمن ايمانا قاطعا بأشياء كثيرة لا تقع تحت الحس لأن هذا الايمان يحتمه الحس بالذات ، والذين يعتمدون على التجربة يعنون بها الاستدلال من شيء تدركه الحواس .
{وفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وما تُوعَدُونَ} . قوله : {رِزْقُكُمْ} على حذف مضاف أي أسباب رزقكم كالمطر وما إليه ، وقديما قيل : لولا السماء لما كان للناس بقاء .
واختلفوا في تفسير {وما تُوعَدُونَ} فمن القائل : ان المراد به الجنة والنار ، وقائل : انه الخير والشر ، وقال ثالث : بل المراد ان الرزق مقسوم ومكتوب . .
وفي رأينا ان المراد بما توعدون أسباب الرزق بالذات بدليل ان اللَّه سبحانه أشار في الآية إلى ان في الأرض وفي أنفسنا آيات محسوسة ملموسة تدل على وجود اللَّه وعظمته ، ثم عقب بعد ذلك بأن في السماء أيضا آيات محسوسة تدل عليه تعالى وعلى عظمته ، وبالبديهة ان الآيات السماوية المحسوسة هي المطر والكواكب وليست الجنة والنار وما إليهما .
{ فَوَرَبِّ السَّماءِ والأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} . قال الرازي : (الضمير في ( انه ) عائد إلى القرآن . فكأنه قال : ان القرآن لحق نطق به الملك نطقا مثل ما انكم تنطقون) . وليس من شك ان القرآن حق لا ريب فيه وان جبريل قد نطق به أيضا ، ولكن لم يسبق للقرآن ولا للملك ذكر من أول السورة إلى هنا ، والذي ذكر في الآية 12 هو يوم الدين ، ثم أشار سبحانه إلى ما في الأرض والسماء وأنفسنا من الدلائل على وجود المبدع ، فالأولى إرجاع الضمير إلى ذلك كله ، وعلى هذا يكون المعنى انه سبحانه قد أقسم بجلاله ان اللَّه حق والبعث حق ولا ينبغي الشك في ذلك بعد أن قامت عليه الدلائل تماما كما لا ينبغي للإنسان أن يشك فيما نطق به . . وروي ان أعرابيا قال حين سمع هذه الآية :
{من الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين} . وليس هذا ببعيد على من نشأ على الفطرة التي ولد عليها .
وبالمناسبة قال أهل اللغة : النطق نوعان : خارجي ، وهو اللفظ ، وداخلي ، وهو الفكر والإدراك ، وقال أهل المنطق في تعريف الإنسان : انه حيوان ناطق أي مفكر ، وقال (ديكارت) : (أنا أفكر وإذن فأنا موجود) وهذه حقيقة بديهية تنفي الشك في وجود المفكر لأنها خرجت منه بالذات ، وعلى هذا فلنا أن نفسر قوله تعالى : {مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} بمثل ما انكم تلفظون ، وأيضا لنا أن نفسره بمثل ما انكم تفكرون لأن كلا من وجود التفكير والتلفظ ينفي الشك عن وجود المفكر والمتلفّظ .
{هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} . كلمة ضيف تستعمل في المذكر والمؤنث والواحد والجماعة ، والمراد بضيف إبراهيم الملائكة الذين جاؤوا ليبشروه بإسحاق وإهلاك قوم لوط ، ووصفهم سبحانه بالمكرمين لأنهم كرام عنده وعند عباده المؤمنين { إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} .
حييوه فردّ التحية ، وقال : هؤلاء أناس لا نعرفهم { فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ }. أسرع إبراهيم إلى عياله وأمرهم أن يهيئوا لضيوفه عجلا سمينا ، وكان ما أراد ونضج العجل { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } ليأكلوا ، فأبوا{ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ} ؟
ولكنهم أصروا على الامتناع لأنهم ليسوا بشرا يأكلوا الطعام {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} لأنه فوجئ بأمر لا يعرف عواقبه ، ولما رأوا ما به {قالُوا لا تَخَفْ وبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} . أعلموه بحقيقة ما جاؤوا به من البشارة بإسحاق { فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ} سارة لما سمعت البشرى ( في صرة ) ارتفع صوتها من الدهشة {فَصَكَّتْ وَجْهَها} ضربته بيدها فرحا وتعجبا {وقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} فكيف ألد ؟ .
{قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُو الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} . اللَّه يعلم انك عجوز عقيم ، ولكن شاءت حكمته أن يهبك على الكبر غلاما كاملا ، وإذا أراد اللَّه شيئا فهو يقول له : كن فيكون . . وأوجزنا تفسير هذه الآيات لوضوحها ، ولأنها تقدمت في سورة هود الآية 9 - 73 ج 4 ص 247 وفي سورة الحجر الآية 1 - 56 ص 481 من المجلد المذكور .
______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص145-149.
قوله تعالى: {إن المتقين في جنات وعيون} بيان لحال المتقين يوم الدين بعد وصف حال أولئك الخراصين.
وتنكير جنات وعيون للإشارة إلى عظم قدرها كأنها بحيث لا يقدر الواصفون على وصفها، وقد ألحقت العيون بالجنات في ظرفيتها توسعا.
قوله تعالى: {آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين} أي قابلين ما أعطاهم ربهم الرءوف بهم راضين عنه وبما أعطاهم كما يفيده خصوص التعبير بالأخذ والإيتاء ونسبة الإيتاء إلى ربهم.
وقوله: {إنهم كانوا قبل ذلك محسنين} تعليل لما تقدمه أي إن حالهم تلك الحال لأنهم كانوا قبل ذلك أي في الدنيا ذوي إحسان في أعمالهم أي ذوي أعمال حسنة.
قوله تعالى: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون} الآيات تفسير لإحسانهم، والهجوع النوم في الليل وقيل: النوم القليل.
ويمكن أن تكون: ما زائدة و{يهجعون} خبر كانوا، و{قليلا} ظرفا متعلقا به أي في زمان قليل أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي هجوعا قليلا و{من الليل{ متعلقا بقليلا والمعنى: كانوا ينامون في زمان قليل من الليل أو ينامون الليل نوما قليلا.
وأن تكون موصولة والضمير العائد إليها محذوفا و{قليلا} خبر كانوا والموصول فاعله والمعنى: كانوا قليلا من الليل الذي يهجعون فيه.
وأن تكون مصدرية والمصدر المسبوك منها ومن مدخولها فاعلا لقوله: {قليلا} وهو خبر {كانوا}.
وعلى أي حال فالقليل من الليل إما مأخوذ بالقياس إلى مجموع زمان كل ليلة فيفيد أنهم يهجعون كل ليلة زمانا قليلا منها ويصلون أكثرها، وإما مأخوذ بالقياس إلى مجموع الليالي فيفيد أنهم يهجعون في قليل من الليالي ويقومون للصلاة في أكثرها أي لا يفوتهم صلاة الليل إلا في قليل من الليالي.
قوله تعالى: {وبالأسحار هم يستغفرون} أي يسألون الله المغفرة لذنوبهم، وقيل: المراد بالاستغفار الصلاة وهوكما ترى.
قوله تعالى: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} الآيتان السابقتان تبينان خاصة سيرتهم في جنب الله سبحانه وهي قيام الليل والاستغفار بالأسحار وهذه الآية تبين خاصة سيرتهم في جنب الناس وهي إيتاء السائل والمحروم.
وتخصيص حق السائل والمحروم بأنه في أموالهم - مع أنه لوثبت فإنما يثبت في كل مال - دليل على أن المراد أنهم يرون بصفاء فطرتهم أن في أموالهم حقا لهما فيعملون بما يعملون نشرا للرحمة وإيثارا للحسنة.
والسائل هو الذي يسأل العطية بإظهار الفاقة والمحروم هو الذي حرم الرزق فلم ينجح سعيه في طلبه ولا يسأل تعففا.
وقوله تعالى : {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ.... }:
تشير الآيات إلى عدة من آيات الله الدالة على وحدانيته في الربوبية ورجوع أمر التدبير في الأرض والسماء والناس وأرزاقهم إليه، ولازمه إمكان نزول الدين الإلهي من طريق الرسالة بل وجوبه، ولازمه صدق الدعوة النبوية فيما تضمنته من وعد البعث والجزاء وإن ما يوعدون لصادق وإن الدين لواقع، وقد مرت إشارة إلى خصوصية سلوك السورة في احتجاجها في البيان السابق.
قوله تعالى: {وفي الأرض آيات للموقنين} الاستنتاج الآتي في آخر هذه الآيات في قوله: {ففروا إلى الله - إلى أن قال - ولا تجعلوا مع الله إلها آخر} الآية، يشهد على أن سوق هذه الآيات والدلائل لإثبات وحدانيته تعالى في الربوبية لا لإثبات أصل وجوده أو انتهاء الخلق إليه ونحو ذلك.
وفي الآية إشارة إلى ما تتضمنه الأرض من عجائب الآيات الدالة على وحدة التدبير القائمة بوحدانية مدبره من بر وبحر وجبال وتلال وعيون وأنهار ومعادن ومنافعها المتصلة بعضها ببعض الملاءمة بعضها لبعض ينتفع بها ما عليها من النبات والحيوان في نظام واحد مستمر من غير اتفاق وصدفة، لائح عليها آثار القدرة والعلم والحكم دال على أن خلقها وتدبير أمرها ينتهي إلى خالق مدبر قادر عليم حكيم.
فأي جانب قصد من جوانبها وأية وجهة وليت من جهات التدبير العام الجاري فيها كانت آية بينة وبرهانا ساطعا على وحدانية ربها لا شريك له ينجلي فيه الحق لأهل اليقين ففيها آيات للموقنين.
قوله تعالى: {وفي أنفسكم أ فلا تبصرون} معطوف على قوله: {في الأرض} أي وفي أنفسكم آيات ظاهرة لمن أبصر إليها وركز النظر فيها أ فلا تبصرون.
والآيات التي في النفوس منها ما هي في تركب الأبدان من أعضائها وأعضاء أعضائها حتى ينتهي إلى البسائط وما لها من عجائب الأفعال والآثار المتحدة في عين تكثرها المدبرة جميعا لمدبر واحد، وما يعرضها من مختلف الأحوال كالجنينية والطفولية والرهاق والشباب والشيب.
ومنها ما هي من حيث تعلق النفوس أعني الأرواح بها كالحواس من البصر والسمع والذوق والشم واللمس التي هي الطرق الأولية لاطلاع النفوس على الخارج لتميز بذلك الخير من الشر والنافع من الضار لتسعى إلى ما فيه كمالها وتهرب مما لا يلائمها، وفي كل منها نظام وسيع جار فيه منفصل بذاته عن غيره كالبصر لا خبر عنده عما يعمله السمع بنظامه الجاري فيه وهكذا، والجميع مع هذا الانفصال والتقطع مؤتلفة تعمل تحت تدبير مدبر واحد هو النفس المدبرة والله من ورائهم محيط.
ومن هذا القبيل سائر القوى المنبعثة عن النفوس في الأبدان كالقوة الغضبية والقوة الشهوية وما لها من اللواحق والفروع فإنها على ما للواحد منها بالنسبة إلى غيره من البينونة وانفصال النظام الجاري فيه عن غيره واقعة تحت تدبير مدبر واحد تتعاضد جميع شعبها وتأتلف لخدمته.
ونظام التدبير الذي لكل من هذه المدبرات إنما وجد له حينما وجد وأول ما ظهر من غير فصل فليس مما عملت فيه خيرته وأوجده هو لنفسه عن فكر وروية أو بغيره فنظام تدبيره كنفسه من صانع صنعه وألزمه نظامه بتدبيره.
ومنها الآيات الروحانية الواقعة في عالم النفوس الظاهرة لمن رجع إليها وراقب الله سبحانه فيها من آيات الله التي لا يسعها وصف الواصفين وينفتح بها باب اليقين وتدرج المتطلع عليها في زمرة الموقنين فيرى ملكوت السماوات والأرض كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } [الأنعام: 75].
قوله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} قيل: المراد بالسماء جهة العلو فإن كل ما علاك وأظلك فهو سماء لغة، والمراد بالرزق المطر الذي ينزله الله على الأرض فيخرج به أنواع ما يقتاتونه ويلبسونه وينتفعون به وقد قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الجاثية: 5] ، فسمي المطر رزقا فالمراد بالرزق سببه أو بتقدير مضاف أي سبب رزقكم.
وقيل: المراد أسباب الرزق السماوية من الشمس والقمر والكواكب واختلاف المطالع والمغارب الراسمة للفصول الأربعة وتوالي الليل والنهار وهي جميعا أسباب الرزق فالكلام على تقدير مضاف أي أسباب رزقكم أوفيه تجوز بدعوى أن وجود الأسباب فيها وجود ذوات الأسباب.
وقيل: المراد بكون الرزق فيها كون تقديره فيها، أو أن الأرزاق مكتوبة في اللوح المحفوظ فيها.
ويمكن أن يكون المراد به عالم الغيب فإن الأشياء ومنها الأرزاق تنزل من عند الله سبحانه وقد صرح بذلك في أشياء كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] ، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] ، وقوله على نحو العموم: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] ، والمراد بالرزق كل ما ينتفع به الإنسان في بقائه من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومنكح وولد وعلم وقوة وغير ذلك.
وقوله: {وما توعدون} عطف على {رزقكم} الظاهر أن المراد به الجنة لقوله تعالى: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } [النجم: 15] ، وقول بعضهم: إن المراد به الجنة والنار أو الثواب والعقاب لا يلائمه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40].
نعم تكرر في القرآن نسبة نزول العذاب الدنيوي إلى السماء كقوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ } [البقرة: 59] ، وغير ذلك.
وعن بعضهم أن قوله: {وما توعدون} مبتدأ خبره قوله: {فورب السماء والأرض إنه لحق} والواو للاستئناف وهو معنى بعيد عن الفهم.
قوله تعالى: {فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} النطق التكلم وضمير {إنه} راجع إلى ما ذكر من كون الرزق وما توعدون في السماء والحق هو الثابت المحتوم في القضاء الإلهي دون أن يكون أمرا تبعيا أو اتفاقيا.
والمعنى: أقسم برب السماء والأرض أن ما ذكرناه من كون رزقكم وما توعدونه من الجنة – وهو أيضا من الرزق فقد تكرر في القرآن تسمية الجنة رزقا كقوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الأنفال: 74] ، وغير ذلك - في السماء لثابت مقضي مثل نطقكم وتكلمكم الذي هو حق لا ترتابون فيه.
وجوز بعضهم أن يكون ضمير {إنه} راجعا إلى {ما توعدون} فقط أو إلى الرزق فقط أو إلى الله أو إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو إلى القرآن أو إلى الدين في قوله: {وإن الدين لواقع} أو إلى اليوم في قوله: {أيان يوم الدين} أو إلى جميع ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا، ولعل الأوجه رجوعه إلى ما ذكر في قوله: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} كما قدمنا.
كلام في تكافؤ الرزق والمرزوق :
الرزق بمعنى ما يرتزق به هوما يمد شيئا آخر في بقائه بانضمامه إليه أو لحوقه به بأي معنى كان كالغذاء الذي يمد الإنسان في حياته وبقائه بصيرورته جزء من بدنه وكالزوج يمد زوجه في إرضاء غريزته وبقاء نسله وعلى هذا القياس.
ومن البين: أن الأشياء المادية يرتزق بعضها ببعض كالإنسان بالحيوان والنبات مثلا فما يلحق المرزوق في بقائه من أطوار الكينونة ومختلف الأحوال كما أنها أطوار من الكون لاحقة به منسوبة إليه كذلك هي بعينها أطوار من الكون لاحقة بالرزق منسوبة إليه وإن كان ربما تغيرت الأسماء فكما أن الإنسان يصير بالتغذي ذا أجزاء جديدة في بدنه كذلك الغذاء يصير جزءا جديدا من بدنه اسمه كذا.
ومن البين أيضا: أن القضاء محيط بالكون مستوعب للأشياء يتعين به ما يجري على كل شيء في نفسه وأطوار وجوده، وبعبارة أخرى سلسلة الحوادث بما لها من النظام الجاري مؤلفة من علل تامة ومعلولات ضرورية.
ومن هنا يظهر أن الرزق والمرزوق متلازمان لا يتفارقان فلا معنى لموجود يطرأ عليه طور جديد في وجوده بانضمام شيء أو لحوقه إلا مع وجود الشيء المنضم أو اللاحق المشترك معه في طوره ذلك فلا معنى لمرزوق مستمد في بقائه ولا رزق له، ولا معنى لرزق متحقق ولا مرزوق له كما لا معنى لزيادة الرزق على ما يحتاج إليه المرزوق، وكذا لبقاء مرزوق من غير رزق فالرزق داخل في القضاء الإلهي دخولا أوليا لا بالعرض ولا بالتبع وهو المعنى بكون الرزق حقا.
قوله تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين} إشارة إلى قصة دخول الملائكة المكرمين على إبراهيم (عليه السلام) وتبشيرهم له ولزوجه ثم إهلاكهم قوم لوط، وفيها آية على وحدانية الربوبية كما تقدمت الإشارة إليه.
وفي قوله: {هل أتاك حديث} تفخيم لأمر القصة و{المكرمين} - وهم الملائكة الداخلون على إبراهيم - صفة {ضيف} وإفراده لكونه في الأصل مصدرا لا يثنى ولا يجمع.
قوله تعالى: {إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون{ الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: {حديث} و{سلاما} مقول القول والعامل فيه محذوف أي قالوا: نسلم عليك سلاما.
وقوله: {قال سلام} قول ومقول و{سلام} مبتدأ محذوف الخبر والتقدير سلام عليكم، وفي إتيانه بالجواب جملة اسمية دالة على الثبوت تحية منه (عليه السلام) بما هو أحسن من تحيتهم بقولهم: سلاما فإنه جملة فعليه دالة على الحدوث.
وقوله: {قوم منكرون} الظاهر أنه حكاية قول إبراهيم في نفسه، ومعناه أنه لما رآهم استنكرهم وحدث نفسه أن هؤلاء قوم منكرون، ولا ينافي ذلك ما وقع في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [هود: 70] حيث ذكر نكره بعد تقريب العجل الحنيذ إليهم فإن ما في هذه السورة حديث نفسه به وما في سورة هود ظهوره في وجهه بحيث يشاهد منه ذلك.
وهذا المعنى أوجه من قول جمع من المفسرين: إنه حكاية قوله (عليه السلام) لهم والتقدير أنتم قوم منكرون.
قوله تعالى: {فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين} الروغ الذهاب على سبيل الاحتيال على ما قاله الراغب وقال غيره: هو الذهاب إلى الشيء في خفية، والمعنى الأول يرجع إلى الثاني.
والمراد بالعجل السمين المشوي منه بدليل قوله: {فقربه إليهم} أو الفاء فصيحة والتقدير فجاء بعجل سمين فذبحه وشواه وقربه إليهم.
قوله تعالى: {فقربه إليهم قال أ لا تأكلون} عرض الأكل على الملائكة وهو يحسبهم بشرا.
قوله تعالى: {فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إلخ} الفاء فصيحة والتقدير فلم يمدوا إليه أيديهم فلما رأى ذلك نكرهم وأوجس منهم خيفة، والإيجاس الإحساس في الضمير والخيفة بناء نوع من الخوف أي أضمر منهم في نفسه نوعا من الخوف.
وقوله: {قالوا لا تخف} جيء بالفصل لا بالعطف لأنه في معنى جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فما ذا كان بعد إيجاس الخيفة فقيل: قالوا: لا تخف وبشروه بغلام عليم فبدلوا خوفه أمنة وسرورا والمراد بغلام عليم إسماعيل أو إسحاق وقد تقدم الخلاف فيه.
قوله تعالى: {فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم} في المجمع، الصرة شدة الصياح وهومن صرير الباب ويقال للجماعة صرة أيضا.
قال: والصك الضرب باعتماد شديد انتهى.
والمعنى فأقبلت امرأة إبراهيم (عليه السلام) - لما سمعت البشارة - في ضجة وصياح فلطمت وجهها وقالت: أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ أو المعنى هل عجوز عقيم تلد غلاما؟ وقيل: المراد بالصرة الجماعة وأنها جاءت إليهم في جماعة فصكت وجهها وقالت ما قالت، والمعنى الأول أوفق للسياق.
قوله تعالى: {قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم} الإشارة بكذلك إلى ما بشروها به بما لها ولزوجها من حاضر الوضع هي عجوز عقيم وبعلها شيخ مسه الكبر فربها حكيم لا يريد ما يريد إلا بحكمه، عليم لا يخفى عليه وجه الأمر.
_________________
1- الميزان ، الطباطبائي، ج18، ص300- 308.
ثواب المستغفرين بالأسحار
تعقيباً على الكلام المذكور في الآيات آنفة الذكر الذي كان يدور حول الكذبة والجهلة ومنكري القيامة وعذابهم، في الآيات محلّ البحث يقع الكلام عن المؤمنين المتّقين وأوصافهم وثوابهم لتتجلّى بمقارنة الفريقين ـ كما هو عليه اُسلوب القرآن ـ الحقائق أكثر فأكثر.
تقول الآيات هنا: {إنّ المتّقين في جنّات وعيون} وصحيح أنّ البستان بطبيعته يكون ذا سواق وروافد، لكن ما ألطف أن تتدفّق مياه العيون في داخل البستان نفسه وتسقي أشجاره .. فهذا هوما تمتاز به بساتين الجنّة .. فهي ليست ذات عين واحدة بل فيها عيون ماء متعدّدة تجري متدفّقه هناك(2).
ثمّ يضيف القرآن مشيراً إلى نعم الجنّات الاُخر فيتحدّث عنها بتعبير مغلق فيقول: {آخذين ما آتاهم ربّهم}.
أي أنّهم يتلقّون هذه المواهب الإلهيّة بمنتهى الرضا والرغبة والشوق .. ويعقّب القرآن في ختام الآية بأنّ هذه المواهب وهذا الثواب كلّ ذلك ليس إعتباطاً بل {إنّهم كانوا قبل ذلك محسنين}(3) و«الإحسان» هنا يحمل معنى وسيعاً بحيث يشمل طاعة الله والأعمال الصالحة الاُخر أيضاً.
والآيات التالية تبيّن كيفية إحسانهم، فتعرض ثلاثة أوصاف من أوصافهم فتقول: أوّلا: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون}.
كلمة «يهجعون» مشتقّة من الهجوع: ومعناه النوم ليلا .. قال بعضهم المراد من هذا التعبير أنّهم كانوا يقظين يحيون أكثر الليل أو يحيون الليل .. وينامون قليلا منه.
ولكن حيث أنّ هذا الحكم والدستور الشرعي بصورته العامّة والكليّة للمحسنين والمتّقين يبدوبعيداً، فلا يناسب هذا التّفسير المقام، بل المراد أنّهم قلّ أن يناموا تمام الليل، وبتعبير آخر إنّ الليل هنا المراد منه العموم والجنس.
فعلى هذا فهم كلّ ليلة يحبّون قسماً منها بالعبادة وصلاة الليل. أمّا الليالي التي يرقدون فيها حتّى مطلع الفجر .. وتفوت عليهم العبادة فيها كليّاً .. فهي قليلة جدّاً.
وهذا التّفسير منقول عن الإمام الصادق في بعض أحاديثه أيضاً(4) وهناك تفاسير اُخر لهذه الآية أعرضنا عن ذكرها لأنّها(5) بعيدة.
والوصف الثاني من أوصافهم يذكره القرآن بهذا البيان: {وبالأسحار هم يستغفرون}.
فحيث أنّ عيون الغافلين هاجعة آخر الليل والمحيط هادىء تماماً، فلا صخب ولا ضجيج ولا شيء يشغل فكر الإنسان ويقلق باله .. ينهضون ويقفون بين يدي الله ويعربون له عن حاجتهم وفاقتهم، ويصفّون أقدامهم، ويصلّون ويستغفرون عن ذنوبهم خاصّة.
ويرى الكثير من المفسّرين أنّ المراد من «الإستغفار» هنا هو «صلاة الليل» لأنّ «الوتر» منها مشتمل على الإستغفار.
و«الأسحار» جمع سحر على زنة «بشر» ومعناه في الأصل الخفي أو المغطّى، وحيث أنّه في الساعات الأخيرة من الليل يغطّي كلّ شيء خفاء خاصّ، فقد سمّى آخر الليل سحراً.
وكلمة «سحر» ـ بكسر السين ـ تطلق أيضاً على ما يُغطّي وجه الحقائق أو يخفي أسرارها عن الآخرين!.
وقد جاء في رواية في تفسير «الدرّ المنثور» أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إنّ آخر الليل في التهجّد أحبّ إليّ من أوّله، لأنّ الله يقول: وبالأسحار هم يستغفرون»(6).
ونقرأ حديثاً آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرّة في السحر»(7).
ثمّ يذكر القرآن الوصف الثالث لأهل الجنّة المتّقين فيقول: {وفي أموالهم حقّ للسائل والمحروم}.
كلمة «حقّ» هنا هو إمّا لأنّ الله أوجب ذلك عليهم: كالزكاة والخمس وسائر الحقوق الشرعية الواجبة، أو لأنّهم التزموه وعاهدوا أنفسهم على ذلك، وفي هذه الصورة يدخل في هذا المفهوم الواسع حتّى غير الحقوق الشرعية الواجبة.
ويعتقد بعض المفسّرين أنّ هذه الآية ناظرة إلى القسم الثاني فحسب، فهي لا تشمل الحقوق الواجبة .. لأنّ الحقوق الواجبة واردة في أموال الناس جميعاً، المتّقين وغير المتّقين حتّى الكفّار.
فعلى هذا حين يقول القرآن:{وفي أموالهم حقّ} فإنّما يعني أنّه إضافة إلى واجباتهم وحقوقهم أوجبوا على أنفسهم حقّاً ينفقونه من مالهم في سبيل الله للسائل والمحروم.
إلاّ أنّه يمكن أن يقال أنّ الفرق بين المحسنين وغيرهم هو أنّ المحسنين يؤدّون هذه الحقوق، في حين أنّ غيرهم ليسوا مقيدين بذلك.
كما يمكن أن يقال في تفسير الآية أنّ المراد بالسائل في ما يخصّ الحقوق الواجبة، لأنّه يحقّ له السؤال والمطالبة بها .. والمراد بالمحروم في ما يخصّ الحقوق المستحبّة إذ ليس له حقّ المطالبة بها.
ويصرّح «الفاضل المقداد» في كتابه «كنز العرفان» أنّ المراد من قوله: (حقّ معلوم) هو الحقّ الذي ألزموه أنفسهم في أموالهم ويرون أنفسهم مسؤولين عنه(8).
وجاء نظير هذا المعنى في سورة المعارج الآيتين 24 و25 إذ يقول سبحانه: {والذين في أموالهم حقّ معلوم للسائل والمحروم}.
ومع ملاحظة أنّ حكم وجوب الزكاة نزل في المدينة وآيات هذه السورة جميعها مكيّة، فيتأيّد الرأي الأخير.
وما وصلنا من روايات عن أهل البيت (عليهم السلام) يؤكّد أيضاً أنّ المراد من «حقّ معلوم» شيء غير الزكاة الواجبة. إذ نقرأ حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول(9): «لكنّ الله عزّوجلّ فرض في أموال الأغنياء حقوقاً غير الزكاة فقال عزّوجلّ (والذين في أموالهم حقّ معلوم للسائل)، فالحقّ المعلوم غير الزكاة وهو شيء يفرضه الرجل على نفسه في ماله ... إن شاء في كلّ يوم وإن شاء في كلّ جمعة وإن شاء في كلّ شهر».
وفي هذا المجال أحاديث متعدّدة اُخر منقولة عن الإمام علي بن الحسين والإمام الباقر والإمام الصادق أيضاً(10).
وهكذا فإنّ تفسير الآية واضح بيّن.
وهناك كلام في الفرق بين «السائل» و«المحروم»، فقال بعضهم «السائل» هومن يطلب العون من الناس، أمّا «المحروم» فمن يحافظ على ماء وجهه ويبذل قصارى جهده ليعيش دون أن يمدّ يده إلى أحد، أو يطلب العون من أحد، بل يصبّر نفسه.
وهذا هوما يعبّر عنه بالمحارف، لأنّه قيل في كتب اللغة في معنى «المحارف» بأنّه الشخص الذي لا ينال شيئاً مهمّاً سعى وجدّ فكأنّ سبل الحياة مغلقة بوجهه!
وعلى كلّ حال، فهذا التعبير يشير إلى هذه الحقيقة وهي لا تنتظروا أن يأتيكم المحتاجون ويمدّوا أيديهم إليكم، بل عليكم أن تبحثوا عنهم وتجدوا الأفراد المحرومين الذين يعبّر عنهم القرآن بأنّهم { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273].. لتساعدوهم وتحفظوا ماء أوجههم، وهذا دستور مهم لحفظ حيثية المسلمين المحرومين وينبغي الإهتمام به.
وهؤلاء الأشخاص يمكن معرفتهم ـ كما صرّح بذلك القرآن «تعرفهم بسيماهم».
أجل فبرغم سكوتهم إلاّ أنّ في عمق وجوههم آثار الهموم وما تحمله أنفسهم من آلام يعرفها المطّلعون، ويخبر لون وجههم عن كربتهم.
وقوله تعالى : {وَفِي الاْرْضِ ءَايَتٌ لِلْمُوقِنِينَ ( 20 ) وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ( 21 ) وَفِى السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( 22 ) فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالاْرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}:
آيات الله وآثاره في أنفسكم:
تعقيباً على الآيات المتقدّمة التي كانت تتحدّث عن مسألة المعاد وصفات أهل النار وأهل الجنّة، تأتي هذه الآيات ـ محلّ البحث ـ لتتحدّث عن آيات الله ودلائله في الأرض وفي وجود الإنسان نفسه ليطّلع على مسألة التوحيد ومعرفة الله وصفاته التي هي مبدأ الحركة نحو الخيرات كلّها من جهة، وعلى قدرته على مسألة المعاد والحياة بعد الموت من جهة اُخرى، لأنّ خالق الحياة على هذه الأرض وما فيها من عجائب قادر على تجديد الحياة بعد الموت كذلك! تقول هذه الآية أوّلا: {وفي الأرض آيات للموقنين}.
والحقّ أنّ دلائل الله وقدرته غير المتناهية وعلمه وحكمته التي لا حدّ لها في هذه الأرض كثيرة ووفيرة إلى درجة أنّ عمر أي إنسان مهما كان لا يكفي لمعرفتها جميعاً.
فحجم الأرض وبعدها عن الشمس وحركتها حول نفسها وحركتها حول الشمس والقوى الجاذبة والدافعة التي تنتج عن حجمها وحركتها وهي متعادلة فيما بينها تماماً ومتناسقة فجميع هذه الاُمور مجتمعةً توفّر الحياة على سطح الأرض وكلّ ذلك من آيات الله الكبرى.
في حين أن لو تغيّرت حركة من هذه الحركات وإختلفت الخصائص أقل إختلاف، لأضطربت الموازين وتبدلّت ظروف الحياة على سطح الأرض.
فالمواد التي تتشكّل منها الأرض والمنابع التي هي فوق سطح الأرض وداخلها ـ المعدّة للحياة ـ كلّ منها آية من آيات الله ودلائله.
الجبال والسهول والهضاب والأنهار والعيون التي كلّ منها له أثره في إستمرار الحياة واتّساق ظروفها دلائل اُخرى من دلائله وآياته.
مئات الآلاف من أنواع النباتات والحشرات والحيوانات .. أجل، مئات الآلاف كلّ منها بخصائصه وعجائبه عند مطالعة كتب الأحياء و «البايلوجيا» وكتب الجيولوجيا والتربة وعلم النبات وعلم الحيوان تدع الإنسان يستغرق في حيرة مذهلة!.
وفي كلّ زاوية أو جانب من هذه الكرة الأرضية أسرار مثيرة قلّ أن يلتفت إليها أحد، إلاّ أنّ الباحثين والعلماء كشفوا النقاب عن جزء منها وأظهروا عظمة الخالق وقدرته.
ولا بأس أن ننقل هنا جانباً من كلمات بعض العلماء المعروفين في العالم الذين لهم دراسات كثيرة في هذا الصدد: إنّه «كرسي موريسين» فلنصغ إليه قائلا:
«لقد روعي منتهى الدقّة في تنظيم العوامل الطبيعية فلو تضخّمت القشرة الخارجية للكرة الأرضية أكثر ممّا كانت عليه عشر مرّات لأنعدم الأوكسجين الذي هو المادّة الأصلية للحياة، ولو أنّ أعماق البحار كانت أكثر عمقاً ممّا هي عليه قليلا أو كثيراً، لأنجذب جميع الأوكسجين والكربون من سطح الأرض ولم يعد أي إمكان لحياة النبات أو الحيوان على سطح الأرض»!
ويقول في مكان آخر في الغلاف الجوّيى الذي يحيط بالأرض: لو أنّ هذا الغلاف الذي يحيط بالأرض من الهواء كان رقيقاً لخرقته الشهب الثواقب التي تأتي كلّ يوم بنحو عدّة ملايين فتصيب الأرض حيث ما وقعت، إلاّ أنّ هذا الغلاف الجوّي يمنعها لكثافته فتتلاشى وتحترق عنده فلا تصل إلى الأرض.
ولوأنّ الشهب الثواقب خفّت سرعتها لما إحترقت عند إصطدامها بالهواء ولوقعت على الأرض ودمّرت الكثير.
ويقول في مكان آخر أنّ نسبة الأوكسجين في الهواء هي إحدى وعشرين بالمائة فحسب، فلو كانت هذه النسبة خمسين بالمائة لأحترق به كلّ ما من شأنه الإشتعال في هذا العالم .. ولو وصلت شظية صغرى من النار إلى شجرة في غابة لأحترقت الغابة جمعاء»!
إنّ نسبة كثافة الهواء المحيط بالأرض إلى درجة بحيث يوصل الأشعّة المناسبة لرشد النباتات ونموّها وتعدم المكروبات الضارّة في الفضاء نفسه وتنتج الفيتامينات النافعة.
ومع وجود الأبخرة المختلفة التي خرجت من باطن الأرض خلال القرون المتمادية وإنتشرت في الهواء وأغلبها أبخرة سامّة فمع ذلك فإنّ الهواء المحيط بالأرض لم يتلوّث وما يزال باقياً على حالته الطبيعية المناسبة للحياة الإنسانية.
والجهاز الذي يوجد هذه الموازنة ويحفظ هذا التعادل هو البحر والمحيط الذي منه تستمدّ المواد الحياتية والغذاء والأمطار وإعتدال الهواء والنباتات وأخيراً فإنّ وجود الإنسان نفسه يستمدّ منه أيضاً.
فكلّ من يدرك هذه المعاني فعليه أن يطأطىء رأسه للبحر تعظيماً وأن يشكر مواهبه وخالق البحر»(11).
ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} أي أفلا تبصرون هذه الآيات في أنفسكم أيضاً؟!
ولا شكّ أنّ الإنسان أعجوبة عالم الوجود وما هو في العالم الأكبر موجود في عالم الإنسان الأصغر أيضاً، بل في الإنسان عجائب لا توجد في أي مكان من العالم!
والعجب أنّ هذا الإنسان على عظمته وعقله وعلمه وهذا الإبتداع والإبتكار والصنع العجيب كان أوّل يومه على صورة نطفة صغرى لا قيمة لها!! لكن ما أن استقرّت في الرحم حتّى تكاملت بسرعة وتبدلّت يوماً بعد يوم ولحظة بعد اُخرى فإذا هذه النطفة التي لا قيمة لها تغدو إنساناً كاملا سويّاً!
خليّة واحدة التي هي أصغر جزء في بدن الإنسان تشكّل بناية ضخمة متداخلة عجيبة فهي على حدّ تعبير بعض العلماء تعادل «مدينة صناعية».
يقول أحد علماء «علم الأحياء» إنّ هذه المدينة العظمى مع آلاف الأبواب أو البوابات المثيرة وآلاف المعامل والمخازن وشبكات المجاري والتأسيسات الكثيرة والإرتباطات والأعمال الحياتية المختلفة كلّ ذلك في مساحة صغيرة جدّاً بمقدار خلية من أكثر الاُمور تعقيداً وإثارة، إذ لو أردنا أن نهيىء تأسيسات مثلها ولن نستطيع أبداً ـ لكان علينا أن نشغل مساحة آلاف الهكتارات من الأرض وعليها البنايات والماكنات المختلفة المعقّدة لنصل إلى مثل هذه الخطّة!! إلاّ أنّ الطريف أنّ جهاز الخلقة جعل كلّ ذلك في مساحة تعدل خمسة عشر ميلونيم الميلميمتر فحسب(12).
إنّ الأجهزة الموجودة في بدن الإنسان كالقلب والكلية والرئة وخاصّة عشرات آلاف الكيلومترات من الأعصاب الرقيقة أو الكبيرة والأعصاب الدقيقة التي لا ترى بالعين المجرّدة وجميعها مسؤولة عن إيصال الغذاء والماء والتهوية إلى عشرة مليون مليارد خلية، والحواس المختلفة كالسمع والبصر والحواس الاُخر كلّ منها آية عظمى من آيات الله.
وأهمّ من كلّ ذلك لغز الحياة التي لم تعرف أسرارها وبناء الروح أو العقل الإنساني الذي يعجز عن إدراكه عقول جميع الناس وهنا ـ ينحني الإنسان ويتمتم بالتسبيح والحمد والثناء لله دون إختياره ويترنّم بهذه الأشعار:
فيك ياأ عجوبة الكون *** غدا الفكر كليلا
أنت حيّرت ذوي اللـ *** ـلبّ وبلبلت العقولا
كلّما قدّم فكري *** فيك شبراً فرّ ميلا
ناكصاً يخبط في عمـ *** ـياء لا يُهدى سبيلا(13)
وقد ورد في حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه»(14).
أجل إنّ معرفة النفس في جميع المراحل طريق لمعرفة الله والتعبير: «أفلا تبصرون» تعبير لطيف: أي إنّ هذه الآيات حولكم وفي داخلكم وفي تمام وجودكم بحيث لو فتحتم أعينكم ولو قليلا لأبصرتم آيات الله ولارتوت أرواحكم من إدراك عظمته!.
وفي الآية الثالثة من الآيات ـ محلّ البحث ـ إشارة إلى القسم الثالث من دلائل عظمة الخالق وقدرته على المعاد إذ تقول: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}.
وبالرغم من أنّ بعض الرّوايات الإسلامية تفسّر «الرزق» في هذه الآية بـ «المطر» الذي يمنح الحياة وهو مصدر الخير والبركة في الأرض جميعاً، والآية (5) من سورة الجاثية أيضاً توافق هذا التّفسير إذ تقول: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الجاثية: 5] إلاّ أنّ هذا المعنى يمكن أن يكون مصداقاً جليّاً من مصاديق الآية، في حين أنّ سعة مفهوم الرزق تشمل حبّات المطر وغيرها كنور الشمس الذي يأتي من السماء وله أثره الفاعل في الحياة، والهواء الذي هو أساس حياة الموجودات.
كلّ هذا لو أخذنا مفهوم السماء بالمعنى اللغوي أي السماء التي فوقنا، إلاّ أنّ بعضهم فسّرها بعالم الغيب وما وراء الطبيعة أو اللوح المحفوظ الذي تقدّر منه أرزاق العباد!
وبالطبع فإنّ الجمع بين التّفسيرين ممكن، وإن كان التّفسير الأوّل أنسب وأوضح!.
وأمّا جملة و(ما توعدون) فيمكن أن تكون تأكيداً على مسألة الرزق ووعد الله في هذا المجال، أو أنّ المراد منها الجنّة الموعودة، لأنّنا نقرأ الآية 15 من سورة النجم {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } [النجم: 15] أو أنّها إشارة إلى كلّ خير وبركة أو عذاب ينزل من السماء! أو أنّ «ما توعدون» ناظر إلى جميع هذه المعاني، لأنّ مفهوم «ما توعدون» واسع جدّاً.
وعلى كلّ حال، فهذه الآيات الثلاث فيها ترتيب لطيف، فالآية الاُولى تتحدّث عن أسباب وجود الإنسان وحياته، والآية الثانية تتحدّث عن الإنسان نفسه، والآية الثالثة تتحدّث عن أسباب بقائه ودوامه!.
وجدير بالإلتفات أيضاً أنّ ما يمنع البصيرة ويصدّها عن مطالعة أسرار الخلق وأسرار الأرض وعجائب وجود الإنسان هو «الحرص على الرزق»، فالله سبحانه يطمئن الإنسان في الآية الأخيرة بأنّ رزقه مضمون، ليستطيع أن ينظر إلى عجائب العالم ويتحقّق فيه قوله: {أفلا تبصرون}؟!
لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تُقسم فتقول: {فوربّ السماء والأرض إنّه لحقّ مثل ما أنكم تنطقون}.
وقد بلغ الأمر حدّاً أن يقسم الله على ما لديه من عظمة وقدرة ليُطمئِنَ عباده الشاكّين ضعاف الأنفس الحريصين إنّ ما توعدون في مجال الرزق والثواب والعقاب والقيامة جميعه حقّ ولا ريب في كلّ ذلك(15).
والتعبير بـ (مثل ما أنّكم تنطقون) تعبير لطيف ودقيق إذ يتحدّث عن أكثر الأشياء لمساً، لأنّه قد يخطىء الإنسان في الباصرة أو السمع بأن يتوهّم أنّه سمع أو رأى، إلاّ أنّه لا يمكن أن يتوهّم أنّه قال شيئاً مع أنّه لم يقله .. لذلك فإنّ القرآن يقول: كما أنّ ما تنطقون محسوس عندكم وله واقع، فإنّ الرزق والوعد الإلهي عنده كذلك!
ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ النطق بنفسه واحد من أكبر الأرزاق والمواهب الإلهيّة التي لم يتمتّع بها أي موجود حيّ سوى الإنسان، وليس بخاف أثر الكلام والنطق في الحياة الإجتماعية وتعليم الناس وتربيتهم وإنتقال العلوم وحلّ مشاكل الحياة على أحد.
وقوله تعالى : {هَلْ أَتَكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( 24 ) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَماً قَالَ سَلَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( 25 ) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْل سَمِين ( 26 ) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ ( 27 ) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَم عَلِيم ( 28 ) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّة فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالِتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ( 29 )قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُو الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}:
ضيوف إبراهيم (عليه السلام)
من هذا المقطع ـ فما بعدُ ـ يتحدّث القرآن في هذه السورة عن قصص الأنبياء الماضين والاُمم المتقدّمة تأكيداً وتأييداً للموضوع آنف الذكر وما حواه من مسائل، وأوّل جانب يثيره هذا المقطع هو قصّة الملائكة الذين جاءوا لعذاب قوم لوط، ومرّوا على إبراهيم (عليه السلام) على صورة بشر، ليبشّروه بالولد، مع أنّ إبراهيم بلغ سنّاً كبيراً فهو في مرحلة المشيب وامرأته كانت عقيماً كذلك!
فمن جهة .. يعدّ إعطاء هذا الولد لإبراهيم وزوجه وهما في مرحلة الكبر واليأس من الإنجاب تأكيداً على كون الأرزاق مقدّرة كما اُشير إلى ذلك في الآيات المتقدّمة.
ومن جهة اُخرى يُعدّ دليلا آخر على قدرة الحقّ وآية من آيات معرفة الله التي ورد البحث عنها في الآيات آنفاً.
ومن جهة ثالثة يُعدّ بُشرى للاُمم المؤمنة بأنّها في رعاية الحقّ ـ كما أنّ الآيات التالية تتحدّث عن عذاب قوم لوط وهي في الوقت ذاته تهديد للمجرمين.
ففي البدء يوجّه الله سبحانه الخطاب لنبيّه فيقول: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين}(16).
والتعبير بـ «المكرمين» إمّا لأنّ هؤلاء الملائكة كانوا مأمورين من قبل الحقّ، وقد ورد التعبير عنهم في الآية (26) من سورة الأنبياء أيضاً بمثل هذا ـ {بل هم عباد مكرمون} أول أنّ إبراهيم (عليه السلام) أكرمهم، أو للوجهين معاً.
ثمّ يبيّن القرآن حالهم فيقول: {إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون}(17).
قال بعضهم: جملة أنّهم «قوم منكرون» لم يصرّح بها إبراهيم، بل حدّث بها نفسه لأنّ هذا الكلام لا ينسجم مع وافر الإحترام للضيف الكرام.
إلاّ أنّه كما هو المعتاد قد يقول المضيّف للضيف في حال الإحترام والترحيب: «لا أدري أين التقيت بك من قبل ـ أو يبدو انّك غريب ..»
فبناءً على هذا يمكن التمسّك بظاهر الآية وأنّ إبراهيم قال هذا الكلام صراحةً وإن كان الإحتمال الأوّل غير بعيد. خاصّة أنّ «الضيف» لم يردّوا على هذا الكلام، ولوكان إبراهيم قال مثل هذا الكلام صراحةً، فلابدّ أن يجيبوه.
وعلى كلّ حال فإنّ إبراهيم أدّى ما عليه من حقّ الضيافة {فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين}.
والفعل «راغ» كما يقول الراغب في مفرداته مشتقّ من «روغ» ـ على وزن «شوق» ـ ومعناه التحرّك مقروناً بخطّة خفيّة، لأنّ إبراهيم فعل «كذلك» وقام بذلك خفاء لئلاّ يلتفت الضيف فلا يقبلوا بضيافته التي تستلزم نفقة كثيرة! إلاّ أنّه لِمَ هيّأ إبراهيم طعاماً كثيراً؟ مع أنّ ضيفه كانوا كما يقول بعض المفسّرين «ثلاثة» وقال بعضهم: كانوا إثني عشر ـ وهذا أقصى ما قاله بعض المفسّرين(18)ـ .
فذلك لأنّ الكرماء لا يهيّؤون الطعام بمقدار الضيف فحسب، بل يهيّؤون طعاماً يستوعب حتّى العمّال ليشاركوهم في الأكل، وربّما أخذوا بنظر الإعتبار حتّى الجار والأقارب فعلى هذا لا يعدّ مثل هذا الطعام الذي هيّأه إبراهيم إسرافاً، ويلاحظ هذا المعنى في يومنا هذا عند بعض العشائر التي تعيش على طريقتها القديمة.
و«العجل» على وزن «طفل» معناه ولد البقر «وما يراه بعضهم أنّه الخروف فلا ينسجم مع متون اللغة»!.. وهذه الكلمة مأخوذة في الأصل من العجلة، لأنّ هذا الحيوان في هذه السنّ وفي هذه المرحلة يتحرّك حركة عجلى، وحين يكبر تزول عنه هذه الصفة تماماً.
و«السمين» معناه المكتنز لحمه، وإنتخاب مثل هذا العجل إنّما هو لإكرام الضيف وليسع المتعلّقين والأكلة الآخرين!
وفي الآية التاسعة والستّين من سورة هود جاء وصف هذا العجل بأنّه «حنيذ» أي مشويّ، وبالرغم من أنّ الآية محلّ البحث لم تذكر شيئاً عن هذا العجل، إلاّ أنّه لا منافاة بين التعبيرين.
ثمّ تضيف الآية بالقول عن إبراهيم وضيفه (فقرّبه إليهم) إلاّ أنّه لاحظ أنّ أيديهم لا تصل إلى الطعام فتعجّب و(قال ألا تأكلون).
وكان إبراهيم يتصوّر أنّهم من الآدميين {فأوجس منهم خيفةً} لأنّه كان معروفاً في ذلك العصر وفي زماننا أيضاً بين كثير من الناس الملتزمين بالتقاليد العرفية، أنّه متى ما أكل شخص من طعام صاحبه فلن يناله أذى منه ولا يخونه .. ولذلك فإنّ الضيف إذا لم يأكل من طعام صاحبه، يثير الظنّ السيء بأنّه جاء لأمر محذور، وقد قيل على سبيل المثل في لغة العرب: من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك»!
و«الإيجاس» مشتقّ من وجس ـ على وزن مكث ـ ومعناه في الأصل الصوت الخفي ومن هنا فقد أطلق الإيجاس على الإحساس الداخلي والخفي، فكأنّ الإنسان يسمع صوتاً داخله وحين يقترن الإيجاس بالخيفة يكون معناه الإحساس بالخوف.
وهنا قال له الضيف كما ورد في الآية (70) من سورة هود طمأنةً له فـ (قالوا لا تخف).
ويضيف القرآن: (وبشّروه بغلام عليم).
وبديهي أنّ الغلام عند ولادته لا يكون عليماً، إلاّ أنّه من الممكن أن يكون له إستعداد بحيث يكون في المستقبل عالماً كبيراً .. والمراد به هنا هو ذلك المعنى!.
وهذا الغلام من هو؟ هل هو إسحاق أم إسماعيل؟! هناك أقوال بين المفسّرين وإن كان المشهور أنّه إسحاق وإحتمال كونه إسماعيل ـ مع ملاحظة الآية (71) من سورة هود التي تقول فبشّرناها بإسحاق ـ يبدو غير صحيح، فبناءً على ذلك ليس من شكٍّ أنّ المرأة التي يأتي ذكرها في الآيات التالية هي سارة زوج إبراهيم وولدها هذا هو إسحاق!
(فأقبلت امرأته في صرّة فصكّت وجهها وقالت عجوز عقيم) ونقرأ في الآية (72) من سورة هود قوله تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]!؟
فبناءً على هذا فصراخها كان صراخ تعجّب مقرون بالسرور، وكلمة «صرّة» مشتقّة من الصرّ على وزن الشرّ، ومعناه في الأصل الشدّ والإرتباط، كما يطلق على الصوت العالي والصراخ والجماعة المتراكمة لأنّها ذات شدّة وإرتباط.
ويطلق على الريح الباردة «صرصر» لأنّها تصرّ الإنسان و«الصرورة» كلمة تطلق على من لم يحجّ رجلا كان أو امرأة! كما تطلق على من لم يرغب في الزواج
[منهما] لأنّ في ذلك نوعاً من الإمتناع أوالإرتباط، والصرّة في الآية محلّ البحث معناها هو الصوت العالي الشديد.
أمّا «صكّت» فمشتقّة من مادّة صكّ على وزن شكّ ـ ومعناها الضرب الشديد أو الضرب، والمراد منها هنا هوأنّ امرأة إبراهيم حين سمعت بالبشرى ضربت بيدها على وجهها ـ كعادة سائر النساء ـ تعجّباً وحياءً!
وطبقاً لما يقول بعض المفسّرين وما ورد في سفر التكوين فإنّ امرأة إبراهيم كانت آنئذ في سنّ التسعين وإبراهيم نفسه كان في سنّ المئة عاماً .. أو أكثر.
إلاّ أنّ الآية التالية تنقل جواب الملائكة لها فتقول: {قالوا كذلك قال ربّك إنّه هو الحكيم العليم}.
فبالرغم من كونك امرأةً عجوزاً وبعلك مثلك شيخاً إلاّ أنّ أمر الله إذا صدر في شيء ما فلابدّ أن يتحقّق دون أدنى شكّ!.
حتّى خلق العالم الكبير كعالمنا هذا إنّما هو عليه سهل إذ تمّ بقوله: كن فكان!
والتعبير بـ «الحكيم» و«العليم» إشارة إلى أنّه لا يحتاج إلى الإخبار بكونك امرأة عقيماً عجوزاً وبعلك شيخاً، فالله يعرف كلّ هذه الاُمور، وإذا لم يرزقك حتّى الآن ولداً وأراد أن يهبك في هذه السنّ ولداً فإنّما هو لحكمته!
الطريف أنّنا نقرأ في الآية (73) من سورة هود أنّ الملائكة قالوا لها: {أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنّه حميد مجيد}.
ووجود الفرق بين هذين التعبيرين هو لأنّ الملائكة قالوا كلّ ذلك لسارة .. منتهى الأمر أنّ قسماً منه أشارت إليه سورة هود، وهنا إشارة إلى القسم الآخر، ففي سورة هود جاء الكلام عن «رحمة الله وبركاته» وهما يتناسبان مع كونه حميداً مجيداً.
أمّا هنا فالكلام على علمه بعدم إستعداد هذين الزوجين للإنجاب والولد ويأس المرأة بحسب الأسباب الطبيعية «الظاهرية» ويتناسب مع هذا الكلام أن يقال أنّه هو العلم، وإذ سئل لِمَ لم يرزقهما في فترة الشباب ولداً. فيقال: أنّ في ذلك حكمةً وهو الحكيم سبحانه.
_______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13 ، ص205-223.
2 ـ كلمة «في» بدخولها على الجنّات واضحة المعنى، لأنّ المتّقين داخل الجنان إلاّ أنّ دخولها على العيون بالعطف ليس معناه أنّ المتّقين داخل العيون بل تعني أنّهم في جنّات تتخلّلها العيون ..
3 ـ المراد من «قبل ذلك» .. كما قلنا سابقاً يعني قبل يوم القيامة والدخول إلى الجنّة أي في عالم الدنيا، إلاّ أنّ بعض المفسّرين قال بأنّ قبل ذلك يعني قبل ورود الشرع، وهو إشارة إلى تمسكّهم بالمستقّلات العقلية حتّى قبل نزول الوحي إلاّ أنّ هذا المعنى يبدو بعيداً ..
4 ـ أشار العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان إلى هذا الحديث ج9 ص155، كما أنّ هذا الحديث منقول في تفسير الصافي عن الكافي بهذه الصورة: كانوا أقلّ الليالي تفوتهم لا يقومون فيها (تفسير الصافي: ذيل الآية محلّ البحث).
5 ـ كلمة «ما» في قوله ما يهجعون يمكن أن تكون زائدة وللتأكيد أو موصولة أو مصدرية كما ورد ذلك في تفسير الفخر الرازي والميزان، وقال بعضهم بأنّها زائدة أو مصدرية فحسب كما جاء في تفسير القرطبي وروح البيان، وما احتمله بعضهم بأنّها نافية فهو بعيد.
6 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص113.
7 ـ مجمع البيان ذيل الآيات محلّ البحث.
8 ـ مؤدّى ما ورد في كنز العرفان، ج1، ص226.
9 ـ وسائل الشيعة، ج6، 27 باب ما تجب فيه الزكاة الباب السابع الحديث الثاني.وج9، ص46 ، ح11487 ، (باب الحقوق في المال سوى الزكاة وجملة من احكامها) [طبعة ال البيت]
10 ـ المصدر السابق
11 ـ الكاتب كرسي موريسين في كتابه (أسرار خلق الإنسان) من ص33 إلى 36.
12 ـ سفرة في أعماق وجود الإنسان قسم الخلايا.
13- شرح نهج البلاغة ، ج13 ، ص51.
14 ـ سفينة البحار، ج2، ص603 مادّة نفس.
15 ـ هناك كلام بين المفسّرين في أنّ مرجع الضمير في «أنّه» على أي شيء يعود؟ قال بعضهم يعود على الرزق، وقال بعضهم يعود على ما توعدون وقال بعضهم يعود على النّبي والقرآن إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أنسب.
16 ـ «الضيف» له معنى وصفي، ويطلق على المفرد كما يطلق على الجمع أيضاً .. ولذلك فقد وصف بالمكرمين، وما قاله بعضهم إنّه مصدر ولا يثنّى ولا يجمع فلا يبدو صحيحاً. ولكن كما يقول الزمخشري في الكشّاف حيث إنّه كان في الأصل مصدراً وبعد أن أصبح ذا معنى وصفي فإنّه إستعمل في المفرد والجمع معاً، فلاحظوا بدقّة.
17 ـ سلاماً منصوب بفعل محذوف وتقديره: نسلّم عليكم سلاماً: أمّا سلامٌ فهو مبتدأ وخبره محذوف وأصله عليكم سلام أو سلام عليكم فكأنّ إبراهيم أراد أن يحيّهم بأحسن من تحيّتهم، لأنّ الجملة الإسمية تدلّ على الثبات والدوام تفسير الكشّاف، ج4، ص401.
18 ـ إقتباس عن روح البيان وحاشية تفسير الصافي ذيل الآيات محلّ البحث.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|