قال تعالى : {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 5 - 8].
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
ضرب سبحانه لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلا فقال {مثل الذين حملوا التوراة} أي كلفوا القيام بها والعمل بما فيها {ثم لم يحملوها} حق حملها من أداء حقها والعمل بموجبها لأنهم حفظوها ودونوها كتبهم ثم لم يعلموا بما فيها {كمثل الحمار يحمل أسفارا} لأن الحمار الذي يحمل كتب الحكمة على ظهره لا يحس بما فيها فمثل من يحفظ الكتاب ولا يعمل بموجبه كمثل من لا يعلم ما فيما يحمله قال ابن عباس فسواء حمل على ظهره أو جحده إذا لم يعمل به وعلى هذا فمن تلا القرآن ولم يفهم معناه وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه كان هذا المثل لاحقا به وإن حفظه وهو طالب لمعناه فليس من أهل هذا المثل وأنشد أبوسعيد الضرير في ذلك :
زوامل للأسفار لا علم عندهم *** بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري المطي إذا غدا *** بأسفاره إذ راح ما في الغرائر(2)
{بئس مثل القوم الذين كذبوا ب آيات الله} معناه بئس القوم قوم هذا مثلهم لأنه سبحانه ذم مثلهم والمراد به ذمهم واليهود كذبوا بالقرآن والتوراة حين لم يؤمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) {والله لا يهدي القوم الظالمين} أي لا يفعل بهم من الألطاف التي يفعلها بالمؤمنين الذين بها يهتدون وقيل لا يثيبهم ولا يهديهم إلى الجنة وعن محمد بن مهران قال يا أهل القرآن اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم وتلا هذه .
ولما تقدم ذكر اليهود في إنكارهم ما في التوراة أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يخاطبهم بما يفحمهم فقال {قل} يا محمد {يا أيها الذين هادوا} أي سموا يهودا {إن زعمتم أنكم أولياء لله} أي إن كنتم تظنون على زعمكم أنكم أنصار الله وأن الله ينصركم {من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} إنكم أبناء الله وأحباؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه ثم أخبر سبحانه عن حالهم في كذبهم واضطرابهم في دعواهم وأنهم غير واثقين بذلك فقال {ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم} من الكفر والمعاصي {والله عليم بالظالمين} أي عالم بأفعالهم وأحوالهم وقد تقدم تفسير الآيتين في سورة البقرة وفيه معجزة للرسول لأنه أخبر أنهم لا يتمنون الموت أبدا لما يعرفون من صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكذبهم فكان الأمر كما قال وروي أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ((لو تمنوا لماتوا عن آخرهم)).
{قل} يا محمد {إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم} أي إنكم وإن فررتم من الموت وكرهتموه فإنه لا بد ينزل بكم ويلقاكم ويدرككم ولا ينفعكم الهرب منه وإنما قال فإنه ملاقيكم بالفاء سواء فروا منه أولم يفروا منه فإنه ملاقيهم مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه لأنه إذا كان الفرار بمنزلة السبب في ملاقاته فلا معنى للتعرض للفرار لأنه لا يباعد منه وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله كل امرىء لاق ما يفر منه والأجل مساق النفس والهرب منه موافاته وقال زهير :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه **** ولو نال أسباب السماء بسلم
ولا شك أنها تناله هابها أولم يهبها ولكنه إذا كانت هيبته بمنزلة السبب للمنية فالهيبة لا معنى لها وقيل إن التقدير قل إن الموت هو الذي تفرون منه فجعل الذي في موضع الخبر لا صفة للموت ويكون {فإنه} مستأنفا {ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة} أي ترجعون إلى الله الذي يعلم سركم وعلانيتكم يوم القيامة {فينبؤكم بما كنتم تعملون} في دار الدنيا ويجازيكم بحسبها .
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص8-12.
2- قائله مروان بن سليمان .وزامل جمع الزاملة : البعير الذي يُحمل عليه الطعام والمتاع . وفي اللسان : (للأشعار) بدل (للأسفار) . و(بأر ساقه)مكان (بأسفاره) وقال : انه هجا قوما من روات الشعر .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً} . قال اليهود : نحن أهل التوراة وهي كتابنا المقدس ، ومع هذا ينكرون محمدا الذي نصت عليه التوراة ، فكان حالهم في ذلك تماما كحال الحمار يحمل كتب العلم على ظهره ، ولا يعقل ما فيها وينتفع بشيء منها ! . . لقد حرّف اليهود توراة موسى وغيرها من الأسفار المقدسة عندهم ، ما في ذلك ريب ، انظر تفسير الآية 6 من سورة الصف فقرة (تحريف التوراة والإنجيل ، ثم عملوا بما حرفوا وزيفوا ، ونذكر من باب المثال لا الحصر السفر الذي نسبوه إلى النبي حزقيال ، فقد جاء في اصحاح 9 من هذا السفر ما نصه بالحرف الواحد : {لا تشفق أعينكم ولا تغفروا الشيخ والشباب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك} . وهذه هي إسرائيل تطبق - بعد أن سنحت لها الفرصة - هذا المبدأ نصا وروحا . . وتقتل الشيخ والشباب والعذراء والطفل والنساء لا لشيء إلا للهلاك والفناء .
وتسأل : ان أكثر المسلمين لا يعملون بالقرآن ، فينبغي ان يكون مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا ؟ .
الجواب : ان المسلمين لم يحرّفوا القرآن ويحذفوا منه الآيات التي تعترف بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل الأصيلين الصحيحين كما حرّف اليهود التوراة والنصارى الإنجيل : {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وما أُنْزِلَ إِلَيْنا وما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وإِسْماعِيلَ وإِسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأَسْباطِ وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى وما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} - 136 البقرة . إذن ، فلا وجه للنقض والقياس .
{بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ} . كل من كذب بالحق فقد أعطى مثلا من نفسه على كفرها وفسادها ، وجاز لكل إنسان ان يقول له : قبحا لك وترحا . {واللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وكيف يهتدون وقد ران الضلال على قلوبهم ؟ .
{قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ولا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} . زعم اليهود انهم شعب اللَّه الخاص ، وانهم أولياء اللَّه وأحباؤه ، وان الجنة خالصة لهم وحدهم ، فرد سبحانه عليهم بأنهم كاذبون في هذا الزعم . . ولو صدقوا فيما قالوا لتمنوا لقاء اللَّه لأن الذي عنده خير وأبقى مما هم فيه من الخزي والهوان . . كلا ، انهم يكرهون الموت ، ويخافون منه لكثرة ذنوبهم . . والغريب انهم يداومون ويصرون على هذه الذنوب والآثام التي يكرهون الموت من أجلها . وتقدم مثله في الآية 94 من سورة البقرة ج 1 ص 154 .
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ والشَّهادَةِ} .
لا مفر لكم من الموت والبعث والحساب والجزاء لدى عادل عليم بما تسرون وما تعلنون {فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من تحريف الكتاب وغيره من الإفساد والجرائم ، ويجازيكم بعذاب الجحيم الأليم .
_____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص324-325.
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} إلخ، قال الراغب: السفر - بالفتح فالسكون - كشف الغطاء ويختص ذلك بالأعيان نحو سفر العمامة عن الرأس والخمار عن الوجه - إلى أن قال - والسفر - بالكسر فالسكون - الكتاب الذي يسفر عن الحقائق قال تعالى: {كمثل الحمار يحمل أسفارا} انتهى.
والمراد بتحميل التوراة تعليمها، والمراد بحملها العمل بها على ما يؤيده السياق ويشهد به ما في ذيل الآية من قوله: {بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله}، والمراد بالذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها اليهود الذين أنزل الله التوراة على رسولهم موسى (عليه السلام) فعلمهم ما فيها من المعارف والشرائع فتركوها ولم يعملوا بها فحملوها ولم يحملوها فضرب الله لهم مثل الحمار يحمل أسفارا وهولا يعرف ما فيها من المعارف والحقائق فلا يبقى له من حملها إلا التعب بتحمل ثقلها.
ووجه اتصال الآية بما قبلها أنه تعالى لما افتتح الكلام بما من به على المسلمين من بعث نبي أمي من بين الأميين يتلو عليهم آيات كتابه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة فيخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهدى ومن حضيض الجهل إلى أوج العلم والحكمة وسيشير تعالى في آخر السورة إشارة عتاب وتوبيخ إلى ما صنعوه من الانفضاض والانسلال إلى اللهو والتجارة والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم يخطبهم يوم الجمعة وهومن الاستهانة بما هومن أعظم المناسك الدينية ويكشف أنهم لم يقدروها حق قدرها ولا نزلوها منزلتها.
فاعترض الله سبحانه بهذا المثل وذكرهم بحال اليهود حيث حملوا التوراة ثم لم يحملوها فكانوا كالحمار يحمل أسفارا ولا ينتفع بما فيها من المعرفة والحكمة، فعليهم أن يهتموا بأمر الدين ويراقبوا الله في حركاتهم وسكناتهم ويعظموا رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويوقروه ولا يستهينوا بما جاء به، وليحذروا أن يحل بهم من سخطه تعالى ما حل باليهود حيث لم يعملوا بما علموا فعدهم الله جهلة ظالمين وشبههم بالحمار يحمل أسفارا.
وفي روح المعاني،: وجه ارتباط الآية بما قبلها تضمنها الإشارة إلى أن ذلك الرسول المبعوث قد بعثه الله تعالى بما نعته به في التوراة وعلى السنة أنبياء بني إسرائيل كأنه قيل: هو الذي بعث المبشر به في التوراة المنعوت فيها بالنبي الأمي المبعوث إلى أمة أميين، مثل من جاءه نعته فيها وعلمه ثم لم يؤمن به مثل الحمار.
انتهى.
وأنت خبير بأنه تحكم لا دليل عليه من جهة السياق.
قوله تعالى: {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} احتجاج على اليهود يظهر به كذبهم في دعواهم أنهم أولياء الله وأحباؤه، وقد حكى الله تعالى ما يدل على ذلك عنهم بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18] ، وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ } [البقرة: 94] ، وقوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا} [البقرة: 111].
ومحصل المعنى: قل لليهود مخاطبا لهم يا أيها الذين تهودوا إن كنتم اعتقدتم أنكم أولياء لله من دون الناس إن كنتم صادقين في دعواكم فتمنوا الموت لأن الولي يحب لقاء وليه ومن أيقن أنه ولي لله وجبت له الجنة ولا حاجب بينه وبينها إلا الموت أحب الموت وتمنى أن يحل به فيدخل دار الكرامة ويتخلص من هذه الحياة الدنية التي ما فيها إلا الهم والغم والمحنة والمصيبة.
قيل: وفي قوله: {أولياء لله} من غير إضافة إشارة إلى أنه دعوى منهم من غير حقيقة.
قوله تعالى: {ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين} أخبر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم لا يتمنونه أبدا بعد ما أمره أن يعرض عليهم تمني الموت.
وقد علل عدم تمنيهم الموت بما قدمت أيديهم وهو كناية عن الظلم والفسوق، فمعنى الآية: ولا يتمنون الموت أبدا بسبب ما قدمته أيديهم من الظلم فكانوا ظالمين والله عليم بالظالمين يعلم أنهم لا يحبون لقاءه لأنهم أعداؤه لا ولاية بينه وبينهم ولا محبة.
والآيتان في معنى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } [البقرة: 94، 95].
قوله تعالى: {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون} الفاء في قوله: {فإنه ملاقيكم} في معنى جواب الشرط، وفيه وعيد لهم بأن الموت الذي يكرهونه كراهة أن يؤاخذوا بوبال أعمالهم فإنه سيلاقيهم لا محالة ثم يردون إلى ربهم الذي خرجوا من زي عبوديته بمظالمهم وعادوه بأعمالهم وهو عالم بحقيقة أعمالهم ظاهرها وباطنها فإنه عالم الغيب والشهادة فينبؤهم بحقيقة أعمالهم وتبعاتها السيئة وهي أنواع العذاب.
ففي الآية إيذانهم أولا: أن فرارهم من الموت خطأ منهم فإنه سيدركهم ويلاقيهم، وثانيا: أن كراهتهم لقاء الله خطأ آخر فإنهم مردودون إليه محاسبون على أعمالهم السيئة، وثالثا: أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ظاهرها وباطنها ولا يحيق به مكرهم فإنه عالم الغيب والشهادة.
ففي الآية إشارة أولا: إلى أن الموت حق مقضي كما قال: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [الأنبياء: 35] ، وقال: { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة: 60].
وثانيا: أن الرجوع إلى الله لحساب الأعمال حق لا ريب فيه.
وثالثا: أنهم سيوقفون على حقيقة أعمالهم فيوفونها.
ورابعا: أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وللإشارة إلى ذلك بدل اسم الجلالة من قوله: {عالم الغيب والشهادة}.
____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص235-237.
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
الحمار الذي يحمل الأسفار :
جاء في بعض الروايات أن اليهود قالوا : {إذا كان محمد قد بعث برسالة فإن رسالته لا تشملنا} فردت عليهم الآية مورد البحث في أول بيان لها بأن رسالته قد أشير إليها في كتابكم السماوي لو أنكم قرأتموه وعملتم به .
يقول تعالى : {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها} أي نزلت عليهم التوراة وكلفوا بالعمل بها ولكنهم لم يؤدوا حقها ولم يعملوا بآياتها فمثلهم {كمثل الحمار يحمل أسفارا} .
لا يشعر هذا الحيوان بما يحمل من كتب إلا بثقلها ، ولا يميز بين أن يكون المحمول على ظهره خشب أو حجر أو كتب فيها أدق أسرار الخلق وأحسن منهج في الحياة .
لقد اقتنع هؤلاء القوم بتلاوة التوراة واكتفوا بذلك دون أن يعملوا بموجبها .
هؤلاء مثلهم كمثل الحمار الذي يضرب به المثل في الغباء والحماقة .
وذلك أوضح مثال يمكن أن يكشف عن قيمة العلم وأهميته .
ويشمل هذا الخطاب جميع المسلمين الذين يتعاملون بألفاظ القرآن دون إدراك أبعاده وحكمه الثمينة . (وما أكثر هؤلاء بين المسلمين) .
وهناك تفسير آخر هو أن اليهود لما سمعوا تلك الآيات والآيات المشابهة في السور الأخرى التي تتحدث عن نعمة بعث الرسول قالوا : نحن أهل كتاب أيضا ، ونفتخر ببعثة سيدنا موسى (عليه السلام) كليم الله ، فرد عليهم القرآن أنكم جعلتم التوراة وراء ظهوركم ولم تعملوا بما جاء فيها .
على أي حال يعتبر ذلك تحذيرا للمسلمين كافة من أن ينتهوا إلى ما انتهى إليه اليهود فقد شملتهم الرحمة الإلهية ونزل عليهم القرآن الكريم ، لا لكي يضعوه على الرفوف يعلوه الغبار ، أو يحملوه كما تحمل التعاويذ أو ما إلى ذلك . وقد لا يتعدى اهتمام بعض المسلمين بالقرآن أكثر من تلاوته بصوت جميل في أغلب
الأحيان .
ثم يقول تعالى : {بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله} إذ لم يكتفوا بمخالفة القرآن عملا ، بل أنكروه بلسانهم أيضا ، حيث نصت الآية (87) من سورة البقرة وهي تصف اليهود قائلة : {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] .
ويقول تعالى في آخر الآية في عبارة وجيزة : والله لا يهدي القوم الظالمين .
صحيح أن الهداية شأن إلهي ، ولكن ينبغي أن تهيأ لها الأرضية اللازمة ، وهي الروح التواقة لطلب الحق والبحث عنه ، وهي أمور يجب أن يهيئها الإنسان نفسه ، ولا شك أن الظالمين يفتقدون مثل هذه الأرضية .
وأوضحنا سابقا أن اليهود اعتبروا أنفسهم أمة مختارة ، أو نسيجا خاصا لا يشبه غيره ، وذهبوا إلى أبعد من ذلك حينما ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه المنتقمون ، وهذا ما أشارت إليه الآية {18} من سورة المائدة : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18] (رغم أنهم يقصدون الأبناء المجازيين) .
ولكن القرآن شجب هذا التعالي مرة أخرى بقوله : {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} (2) .
فالأحباء يتمنون اللقاء دائما ، ولا يتم اللقاء المعنوي بالله يوم القيامة إلا عندما تزول حجب عالم الدنيا وينقشع غبار الشهوات والهوى ، وحينئذ سيرى الإنسان جمال المحبوب ويجلس على بساط قربه ، ويكون مصداقا ل {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} فيدخل إلى حرم الحبيب .
إن خوفكم وفراركم من الموت دليل قاطع على أنكم متعلقون بهذه الدنيا وغير صادقين في إدعائكم .
ويوضح القرآن الكريم هذا المعنى بتعبير آخر في سورة البقرة آية (96) عندما يقول تعالى : {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون} .
ثم يشير القرآن إلى سبب خوفهم من الموت بقوله : {ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين} .
لأن خوف الإنسان من الموت ناشئ من عاملين أساسيين :
الأول : عدم إيمان الإنسان بالحياة بعد الموت واعتقاده أن الموت زوال وفناء .
والثاني : أعماله السيئة التي يعتقد أنه سيواجهها بعد مماته في عالم الآخرة عندما تقام المحكمة الإلهية .
وإنما يخاف اليهود من الموت لسوء أعمالهم إذ أنهم يعتقدون - أيضا – بيوم الحساب .
وقد وصفهم القرآن الكريم بالظالمين ، وذلك لأن الظلم يتسع ليشمل جميع الأعمال السيئة والجرائم التي ارتكبوها ، من قتلهم الأنبياء وقول الزور وغصب الحقوق وتلوثهم بمختلف المفاسد الأخلاقية .
غير أن هذا الخوف وذلك الفرار لا يجدي شيئا ، فالموت أمر حتمي لابد أن يدرك الجميع ، إذ يقول تعالى : {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} .
الموت قانون عام يخضع له الجميع بما فيهم الأنبياء والملائكة وجميع الناس {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} .
وكذلك المثول أمام محكمة العدل الإلهي لا يفلت منها أحد ، إضافة إلى علم الله تعالى بأعمال عباده بدقة وبتفصيل كامل .
وبهذا سوف لا يكون هناك طريق للتخلص من هذا الخوف سوى تقوى الله وتطهير النفس والقلب من المعاصي ، وبعد أن يخلص الإنسان لله تعالى فإنه لن يخاف الموت حينئذ .
ويعبر الإمام أمير المؤمنين {عليه السلام} عن هذه المرحلة بقوله : " هيهات بعد اللتيا والتي ، والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امه " (3) .
________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص186-188.
2 - اعتبر بعض المفسرين {من دون الناس} حالا لاسم إن ، بينما قال آخرون : إنها صفة لأولياء .
3 - نهج البلاغة ، خطبة 5 .