أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-5-2017
3644
التاريخ: 22-11-2015
4372
التاريخ: 4-5-2017
3746
التاريخ: 22-4-2017
2673
|
قد يكون بين القرّاء من يودُّ التعرف على اسطورة الغرانيق الّتي رواها بعض مؤرّخي السنّة ومعرفة جذورها كما يودّ التعرف على الأيادي الخفية الّتي كانت وراء اختلاق هذه الاسطورة وأمثالها من الأكاذيب والمفتريات.
كان اليهودُ وبخاصّة أحبارهم ولا يزالون العدوّ رقم واحد للإسلام.
وقد عَمَد فريقٌ منهم ـ مثل كعب الاحبار وغيره ـ ممّن تظاهروا باعتناق الإسلام إلى تحريف الحقائق باختلاق الأكاذيب وجعل الأخبار المفتراة على لسان الانبياء .
ولقد أدرج بعضُ المؤلفين المسلمين بعض هذه المفتريات في مؤلفاتهم وجعلوها في عداد الحديث والتاريخ الصحيح من دون تمحيصها والتحقيق فيها ثقة بكل من أظهر الإسلام وتظاهر بالإيمان وانضم إلى صفوف المسلمين!!
ولكنَّ اليوم حيث يجد العلماء فرصة اكبر للتحقيق في هذا النوع من الأحاديث والاخبار والمنقولات والنصوص وبخاصة بعد أن توفّرت لديهم بفضل جهود طائفة من المحققين المسلمين القواعد والضوابط الكفيلة بتمييز الحسن عن القبيح والصحيح عن السقيم وفرز الحقائق التاريخية عن القصص الخياليّة والروايات الاسطورية.
من هنا لا ينبغي لكاتب مسلم ملتزم أن يعتبر كل ما يراه في مصنّف تاريخيّ أو غير تاريخيّ متقدِّم أمراً صحيحاً مقطوعاً بسلامته ويرويه في كتابه من دون دراسة وتحقيق وتمحيص وتقييم.
ما هي اُسطورة الغرانيق؟!
يقولون : إن الأسود بن المطلب و الوليد بن المغيرة و اُمية بن خلف و العاص بن وائل وهم من زعماء قريش واسيادها قالو لرسول اللّه (صـلى الله علـيه وآله) : يا محمَّد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبدُ فنشترك نحن وانت في الأمر!!
وقالوا ذلك رفعاً للاختلاف وتضييقاً لشقّة الخلاف فأنزلَ اللّه سبحانه سورة الكافرين الّتي امر فيها نبيّه أن يقول في جوابهم : {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 2، 3] .
ومع ذلك كان رسول اللّه (صـلى الله علـيه وآله) يرغب في أن يساوم قريشاً ويجاربهم وكان يقول في نفسه : ليت نزل في ذلك أمر يقرّبنا من قريش.
وذات يوم وبينما كان (صـلى الله علـيه وآله) يتلو القرآن عند الكعبة ويقرأ سورة النجم فلما بلغ قوله تعالى : {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20].
أجرى الشيطان على لسانِه الجُمْلتين التاليتين : تِلْكَ الْغَرانِيقُ الْعُلى مِنْها الشفاعَةُ تُرْتَجى .
فقرأهما من دون إختيار وقرأ ما بعدها من الآيات ولمّا بلغ آية السجدة سجد هو ومن حضر في المسجد من المسلمين والمشركين أمام الاصنام إلاّ الوليد الّذي عاقه كبر سنه عن السجود!!
وفرح المشركون وارتفعت نداءاتهم يقولون : لقد ذكر محمَّد آلهتنا بخير.
وانتشر نبأ هذه المصالحة والتقارب بين رسول اللّه (صـلى الله علـيه وآله) والمشركين المهاجرين إلى الحبشة فعاد على أثرها جماعة منهم إلى مكة ولكنّهم ما أن كانوا على مشارف مكة إلاّ وعرفوا بأن الأمر تغير ثانية وأن ملك الوحي نزل على النبيّ وأمره مرة اُخرى بمخالفة الاصنام ومجاهدة الكفار والمشركين وأخبره بأن الشيطان هو الَّذي أجرى تينك الجملتين على لسانه وانه لم يقله وأنه ليس من الوحي في شيء أبداً.
وعندئذ نزلت الآيات ( 52 ـ 54 ) من سورة الحج الّتي يقول اللّه تعالى فيها : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
هذه هي خلاصة اُسطورة الغرانيق الّتي أوردها الطبري في تاريخه ويذكرها ويردّدها المستشرقون المغرضون بشيء كبير من التطويل والتفصيل!!
محاسبة بسيطة لهذه الاسطورة
لنفترض أن محمّداً لم يكن نبياً مرسلا ولكن هل يمكن لأحد أن ينكر ذكاءه وحنكته وفطنته وعقله.
فهل لعاقل فَطِن محنَّك لبيب مثله أن يفعل مثل هذا؟
ان الذكيّ اللبيب الّذي يجد انصاره يتكاثرون ويتزايدون يوماً بعد يوم وتقوى صفوفهم اكثر فاكثر بينما تتفرقُ صفوفُ أعدائه ومناوئيه ويتناقص معارضوه وخصومُه هل يقدم في مثل هذه الحالة على عمل يوجب ان يسيء الجميعُ ظنَهم به ويشك الصديق والعدوُ في أمره؟!
هل تصدّق أنت أيها القارئ الكريم أن رجلا ترك جميع الأموال والمناصب الّتي عرضتها قريش عليه في سبيل دينه الحنيف وعقيدة التوحيد أن يصبح مرة اُخرى من دعاة الشرك ومروّجي الوثنية؟؟!
إننا لن نصدّق بمثل هذا الاحتمال في حق مصلح أو سياسي عادي من الساسة والمصلحين فكيف برسول الله ونبيّه العظيم.
رأي العقل في هذه القصة :
1 ـ إن العقل يحكم بان المرشدين الذين يبعثهم اللّه تعالى إلى البشرية لهدايتها وارشادها وتزكيتها وتعليمها مصونون عن أي خطأ وزلل بقوة ( العصمة ) الّتي اُوتوها إذ لو تعرض مثل هؤلاء إلى الخطأ والزلل في اُمور الدين لزالت ثقة الناس بهم وبكلامهم.
يجب علينا ان نقارن بين أمثال هذه القصص وبين هذا الأصل العقائديّ المنطقي ونعالج بواسطة معتقداتنا القوية المبرهَنة متشابهات التاريخ ومعضلاته.
إنّ من المسلَّم أن عصمة رسول اللّه (صـلى الله علـيه وآله) كانت تمنعه وتحفظه من أي نوع من هذه الحوادث في تبليغ رسالته السماوية.
2 ـ ان هذه الاسطورة تقوم أساساً على أن النبيّ قد تعب من أداء مهمَّته الّتي ألقاها اللّه سبحانه عليه وقد شقَّ عليه ابتعاد الوثنيّين عنه فكان يبحث عن مخلَص من هذا الوضع المتعِب يكون طريقاً ـ حسب تصوره ـ إلى إصلاح وضعهم!!
ولكن العقل يقضي بأن على الانبياء أن يكونوا صابرين حلماء أكثر ممّا يتصور وأن يكونوا مضرب المثل عند الجميع في ذلك فلا يُحدّثوا أنفسَهم بالتهرّب من المسؤولية وترك الساحة مطلقاً مهما اشتدّت الظروف وتأزّمت الأحوال.
بينما لو صحّت هذه الرواية ـ الاسطورة ـ لكانت دليلا على أنَّ بَطلَ حديثنا قد فَقَد عنان الصبر وأفلت منه زمام الثبات والاستقامة وانه بالتالي تعب وملّ وضني وكلّ وهو أمرٌ لا ينسجم مع ما يحكم به العقل السليمُ في حق الأنبياء كما لا يتفق كذلك مع ما عهدناه من سوابق رسول اللّه (صـلى الله علـيه وآله) ومن مستقبله أبداً.
إن مختلق هذه الاسطورة لم يمرّ بخاطره وباله أنَّ القرآن الكريم شهد ببطلان هذه القصة إذ يعد اللّه تعالى نبيه الكريم بأن لا يتسرّب إلى القرآن أي شيء من الباطل إذ قال : لا يَاتِيه الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَديْه ولا مِنْ خَلفِه .
كما وعده أيضاً بأن يَصونه عبَر جميع أدوار البشرية من أي حادث سيّء إذ قال سبحانه : إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِكْرَ وَاِنّا لَهُ لَحافِظُونَ .
ومع ذلك كيف يستطيع الشيطان الرجيم عدو اللّه أن ينتصر على رسول اللّه (صـلى الله علـيه وآله) ويسرّب إلى القرآن شيئاً باطلا ويصبح القرآنُ الّذي تقوم معارفه وتعاليمه على أساس معاداة الوثنية ومحاربتها داعياً إلى الوثنية؟؟!!
إنه لأمر عجيبٌ جداً أن يفتري مختلِقُ هذه الاسطورة أمراً ضدَّ التوحيد في موضع قد كذّبه القرآنُ قبل هذا المكان بقليل إذ قال اللّه تعالى : وَما يَنْطِقُ عَنْ الْهَوى. إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوْحى .
فكيف يترك اللّه نبيّه ـ وقد وعده بهذا الوعد ـ من دون حفيظ ويسمح للشيطان بأن يتصرف في قلبه وعقله ولسانه؟؟
إن هذه الأدلة العقلية إنما تفيد من يكون مؤمناً بنبوة محمَّد (صـلى الله علـيه وآله) ورسالته.
واما المستشرقون الذين لا يعتقدون بنبوته ويعمدون إلى شرح ونقل وترديد أمثال هذه الأساطير للحطّ من شأن دينه ورسالته فلا تكفيهم هذه الدلائل فلابدّ أن ندخل معهم في البحث من باب آخر.
تكذيب القِصَّة من طريق آخر
إنّ النصّ التاريخيّ يقول : إن رسول اللّه (صـلى الله علـيه وآله) قرأ هذه السورة وكبار قريش واكثرهم من عمالقة الكلام وأبطال الفصاحة والبلاغة العربية حضور في المسجد ومنهم الوليد بن المغيرة متكلم العرب ومنطيقها المفوّه المعروف بينهم بالذكاء وحصافة العقل والنباهة وقد سمعوا جميعاً هذه السورة إلى ختامها حيث سجد الجميع بسجدتها.
فكيف اكتفى هذا الجمعُ المؤسسُ للفصاحة والبلاغة الذين كانوا ينقدون كل ما يعرض عليهم نقداً دقيقاً؟
كيف اكتفوا بتينك الجملتين اللتين امتدحتا آلهتهم وقد تضمنت الآيات السابقة عليهما واللاحقة لهما على شتم آلهتم وتفنيدها والازدراء بها بصورة صارخة وصريحة؟!
كيف تصور مختلق هذه الاكذوبة الفاضحة تلك الجماعة أصحاب اللغة العربية وآباءها ونقّاد الكلام المعدودين عند العرب كلّها من عمالقة الفصاحة والبلاغة بلا منازع والذين كانوا أعرف من غيرهم باشارات تلك اللغة وكناياتها ( فضلا عن تصريحاتها ).
كيف اكتفى هؤلاء بتينك العبارتين في امتداح آلهتهم وغفلوا عما سبقها ولحقها من الذمّ لها والطعن الصارخ فيها؟
إنه لا يمكن قط أن نخدع العادّيين من الناس بهاتين الجملتين المحفوفتين بكلام مطوَّل يذم عقائدهم وسلوكهم فكيف بمن عُرف باللب والحصافة والحكمة والذكاء؟
وها نحن ندرج هنا الآيات المتعلّقة بالمقام ونترك أصفاراً ( وفراغاً ) في مكان الجملتين اللتين اُدّعي اضافتهما ثم نترك للقارئ نفسه أن يقيم بنفسه هل لتينَك الجملتين مكانٌ بين هذه الآيات ( الّتي وردت في ذمّ الاصنام والقدح فيها ) : وإليك هذه الآيات : {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 19 - 23] .
ثم هل يسمحُ إنسانٌ عاديّ لنفسه أن يكفَّ عن معاداة نبيٍّ هاجَمَ عقائدهُ طيلة عَشرة اعوام وهدر إستقلاله وكيانه وجرَّ عليه الشقاء بتسفيه أحلامه وشتم آلهته لعبارات متناقضة وكلام خليط من الذّم الكبير والمدح العابر.
دَليلٌ لغَويٌّ على تفنيد هذه الاسطورة
يقول العلامةُ الجليلُ الشيخ محمَّد عبده : لم يُستعمَل لفظ الغرانيق في الآلهة أبداً لا في اللغة ولا في الشعر العربي .
و غرنوق و غَرنيق اللذان جاءا في اللغة استعملا في نوع من طيور الماء أو الشابّ الجميل ولا يَنطبق أىُ واحد من هذه المعاني على الآلهة.
وقد اعتبر احدُ المستشرقين يدعى السيروليم مويير قصة الغرانيق هذه من مسلَّمات التاريخ واستدل لها بقوله : لم يكن يمض على هجرة المهاجرين الاول إلى الحبشة اكثر من ثلاثة أشهر يوم صالح محمَّدٌ قريشاً فعادوا إلى مكة.
إن المسلمين الذين هاجَروا إلى تلك الأَرض وكانوا يعيشون في أمن وطمأنينة في جوار النجاشيّ إذا لم يكونوا يبلغهم نبأ مصالحة النبيّ لقريش لما عادوا إلى مكة للقاء بذويهم.
فاذن لابدَّ أَنَّ محمَّداً قد تذرَّع بشيء لمصالحة قريش والتقرّب اليها وهذا الشيء هو قصة الغرانيق !! .
ولكن يجب أن نسأل هذا المستشرق المحترم :
أولاً : لماذا يجب أن تكون عودة المهاجرين ناشئة عن نبأ صحيح حتماً.
إن النفعيين وذوي الأهواء والأغراض يسعون دائماً إلى بثّ عشرات بل مئات الأخبار الكاذبة بين جماعتهم لتحقيق مارب خاصّة لهم فما الّذي يمنع من أن نحتمل أن هناك من افتعل خبر مصالحة النبيّ لقريش بهدف إرجاع المهاجرين من الحبشة إلى مكة . وقد صدق بعض اُولئك المهاجرين هذا الخبر الكاذب فعادوا إلى أرض الوطن بينما لم ينخدع الآخرون بها وبقوا في الحبشة ولم يعودوا إلى مكة؟؟
ثانياً : لنفترض أن النبيّ (صـلى الله علـيه وآله) كان يريد أن يصالح قريشاً فهل يكونُ الطريق إلى السلام والمصالحة منحصراً في افتعال هاتين الجملتين.
ألم يكن إعطاء مجرَّد وَعد مناسب أو مجرّد السكوت عن عقائدهم كافياً لتهدئة خواطرهم واجتذاب قلوبهم نحوه؟
وعلى كلّ حال فان عودة المهاجرين لا يكونُ دليلا على صحّة هذه الاُسطورة كما أن المصالحة والتقارب غير متوقفين على النُطق بهاتين الجملتين.
والأعجب من هذا أن البعضَ تصوَّر الآيات ( 52 ـ 54 من سورة الحج ) قد نزلت في قصة الغرانيق.
وحيث أن هذه الآيات قد وقعت ذريعة بأيدي المستشرقين ومرتكبي جريمة التحريف في التاريخ فاننا نعمدُهنا إلى توضيح مفاد هذه الآيات ونبين للقارئ بأنها تنظر إلى امر آخر ولا ترتبط بهذه القصة بتاتاً.
وها هو نصُّ الآيات المشار إليها : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
والآن يجب أن نبين مفاد الآيات ولنبدأ بالآية الاُولى :
انّ الآية الاُولى تذكِّرُ بثلاثة اُمور هي :
1 ـ انَّ الأنبياء والرسل يتمنون.
2 ـ انَّ الشيطانَ يتدخّل في تمنياتهم.
3 ـ انّ اللّه يمحي آثار ذلك التدخّل.
وبتوضيح هذه النقاط الثلاث يتضح مفاد الآية والمراد منها.
واليك توضيح تلكم النقاط الثلاث :
1ـ ما هو المقصود من تمني الانبياء والرُسل
لقد كان الأنبياء والرسل يحبّون هداية اُممهم ونشر دينهم وتعاليمهم فيها وكانوا يدبّرون اُموراً ويخطّطون خططاً لتحقيق أهدافهم هذه كما كانوا يتحملون في هذا السبيل كل المتاعب والمصاعب ويثبتون في جميع المشكلات والمحن.
ولم يكن رسول الإسلام (صـلى الله علـيه وآله) مستثنى عن هذه القاعدة فقد كان (صـلى الله علـيه وآله) يخطط لتحقيق أهدافه كثيراً ويهيّئ مقدمات ويبيّن القرآن هذه الحقيقة بقوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ رَسُول وَلا نبيّ إلاّ إذا تَمَنّى .
فاتّضح إلى هنا المراد من لفظ تمنّى ولنشرح الآن النقطة الثانية.
2 ـ ما هو المقصود من تدخّل الشيطان؟
إن تدخُّل الشيطان يمكن أن يتم على نحوين :
1 ـ أن يوجد الشك والترديد في عزم الانبياء ويوحي إليهم بأنَّ هناك عوائق كثيرة تحول بينهم وبين أهدافهم ولذلك لن يحرزوا نجاحاً في تحقيق تلك الأهداف.
2 ـ بأن الأنبياء كلما مهّدوا لأمر وهيَّاوا له مقدّماته وَظهرت منهم أمارات تدلُ على أنهم مقدِمون على تنفيذه فعلا أقام الشيطان ومن تبعه من شياطين الانس العراقيل والموانع في طريقهم ليمنعوهم من الوصول إلى غاياتهم.
أما الاحتمالُ الأول فلا ينسجم لا مع الآيات القرآنية الاُخرى ولا مع الآية اللاحقة.
أمّا مِن جهة الآيات الاُخرى فلأنّ القرآن ينفي بصراحة لا صراحة فوقها أنه لا سلطان للشيطان على أولياء اللّه وعباده الصالحين ( ولو بأن يصوّروا لهم بأنهم لن يقدروا على تحقيق آمالهم وأهدافهم ) إذ يقول : إن عِبادي لَيْسَ لك عَلَيْهِمْ سُلطانٌ . ويقول أيضاً : إنَّه لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذيْنَ امَنُوا وَعَلى رَبّهم يَتَوكَّلُونَ .
إن هذه الآيات والآيات الاُخرى الّتي تنفي سلطان الشيطان على أولياء اللّه وعباده الصالحين وتأثيره في قلوبهم ونفوسهم لخيرُ شاهد وأفضل دليل على أنَّ المقصودَ من تدخّل الشيطان في تمنيات الأنبياء لَيس بمعنى إضعاف عزيمتهم وإرادتهم وتكبير الموانع والعراقيل في نظرهم.
أمّا من جِهَة الآيات المبحوثة فانَ الآية الثانية والثالثة تفسِّر وتشرح علّة التدخّل على النحو الآتي : إننا نختبر بهذا العمل فريقين من الناس :
الفريق الأول : الَّذين في قلوبهم مرض والفريق الثاني : الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر.
يعني أنَّ تدخُّل الشيطان في أعمال الأنبياء عن طريق تحريك الناس ضِدَّهم وضدَّ أهدافهم يوجب مخالفة الفريق الأوّل ومعارضتهم للأنبياء في حين يكون الأمر على العكس من ذلك في الفريق الثاني فانه يزيد من ثباتهم وصمودهم.
وان بيان أن لتدخل الشيطان في تمنيات الانبياء مثل هذين الاثرين المختلفين ( أي يحمل فريقا على المخالفة وفريقا آخر على الثبات والصمود ) يفيد أن المراد بالتدخل هنا هو المعنى الثاني يعني ان التدخل يحصل عن طريق تحريك الناس ضدّهم وإلقاء الوساوس في قلوب أعدائهم وخلق الموانع والعراقيل في طريقهم لا أنهم يتصرفون في نفوس الأنبياء وقلوبهم ويضعفون ارادتهم وعزمهم.
إلى هنا اتضح معنى تدخّل الشيطان في تمنيات الانبياء والرسل.
والآن حان الحين لتوضيح المطلب الآخر يعني محو آثار هذا التدخل.
3 ـ ما هو المقصود من محو آثار التدخل؟
إذا كان معنى تدخّل الشيطان هو تحريك الناس وتأليبهم ضد الانبياء ليمنعوا الأنبياء والرسل من التقدم في أهدافهم فان محو آثار التدخّل الشيطاني من قبل اللّه ـ حينئذ ـ يكون بمعنى ان اللّه يدفع عن أنبيائه ورسله كيد الشيطان ليتضح الحقُ للمؤمنين ويكون إختباراً لمرضى القلوب كما يقول تعالى في آية اُخرى.
{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: 51] .
وخلاصة القول : أن القرآن يخبر ـ في هذه الآيات ـ عن سنة للّه قديمة في مجال الأنبياء وهي :
إن تَمنّي التقدم في الأهداف وتمنّي التوفيق في هداية الناس هو فعل الانبياء دائماً.
ثم يأتي الدور لتدخّل الشيطان وأتباعه من شياطين الإنس والجنّ وذلك بايجاد الموانع والعقبات في طريق الأنبياء والرسل.
ثم يأتي من بعد ذلك حلول المدد الالهي الغيبيّ بمحو وفسخ كلّ التدابير الشيطانية المضادّة لأهداف الانبياء المعرقِلة لتحقيق أمانيّهم.
وهذه هي إحدى السنن الالهية الثابتة الّتي جرت في جميع الاُمم السالفة.
إن تاريخ الأنبياء والرسل وقصصهم من نوح وإبراهيم وأنبياء بني إسرائيل وبخاصّة موسى وعيسى (عليهما السلام) وتاريخ حياة الرّسول الاكرم (صـلى الله علـيه وآله) خير شاهد على هذا المطلب.
وينبغي استكمالا لهذا البحث أن نقول : ولأجل ما ورد على هذه القصة الاُسطوية من مؤاخذات رفضها وفنّدها بعض المحققين من أهل السنة إذ قال بعد ذكرها على النحو الّذي ادرجها الطبري في تاريخه وأرسله ارسال المسلّمات : وأهل الاُصول يدفعون هذا الحديث بالحجة.
ومن صحَّحهُ قال فيه أقوالا : منها : ان الشيطان قال ذلك وأذاعه والرسول عليه الصلاة والسَّلام لم ينطق به.
( وذكر وجوهاً اُخرى ثم قال : ) والحديث على ما خيّلت غير مقطوع بصحته .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|