أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-04-08
1392
التاريخ: 2024-08-12
501
التاريخ: 2024-02-17
1167
التاريخ: 2023-07-04
1252
|
إجلاء الأجانب وتكوين الإمبراطورية:
نجح كاموزا في كسر شوكة الهكسوس، ومع ذلك فقد ظلت الأوضاع في وادي النيل على ما هي عليه؛ إلا فيما يختص بإقدام المصريين على مناوأة النفوذ الأجنبي وإعلاء شأن مملكتهم في الجنوب؛ حتى أصبحت المملكة الطيبية دولة ذات سيادة بعد أن كانت تعترف بنفوذ الهكسوس، أي أنه من الممكن القول بأن عهد "كاموزا" وسلفه "سقنن رع" كان تمهيدًا للنهضة التي بدأت بعدئذٍ والتي يوضع على رأسها "أحمس الأول" خليفة "كاموزا" ومؤسس الأسرة الثامنة عشرة، وقد تمكنت مصر في نهضتها هذه من أن تكون إمبراطورية مترامية الأطراف بعد أن تمكنت من إجلاء الأجانب عن أراضيها, وأصبحت أقوى أمم الشرق الأدنى القديم نفوذًا وسلطانًا.
الأسرة الثامنة عشرة:
أحمس الأول:
لا ندري كيف انتهت حياة "كاموزا" وهل لقي مصرعه أثناء كفاحه ضد الهكسوس كما حدث لسلفه من قبل أم أنه مات ميتة طبيعية قبل أن يتمكن من إخراج الهكسوس من مصر؟ ومهما يكن من أمر فقد برز اسم أحمس الأول فجأة في النصوص المصرية على أنه هو الذي طرد الهكسوس نهائيًّا من مصر.
وأحمس وإن كان من نسل ملوك الأسرة السابعة عشرة؛ إلا أنه يعتبر مؤسسًا للأسرة الثامنة عشرة، وقد استأنف الجهاد بعد سلفه "كاموزا" ومضى في حربه ضد الهكسوس إلى أن سقطت عاصمتهم "أواريس" في يده، ثم طاردهم إلى فلسطين؛ حيث تحصنوا في "شاروهن" ولكن حاصرهم فيها ثلاثة أعوام إلى أن سقطت هي الأخرى في يده, وبهذا تم انتصاره عليهم وقضى على قواتهم نهائيًّا.
ومن المصادر المهمة عن الأسرة الثامنة عشرة في شطرها الأول بصفة عامة وعن عهد أحمس بصفة خاصة نصوص مقبرتين لضابطين معمرين اشتركا مع أحمس في حروبه ضد الهكسوس واستمرا في الخدمة العسكرية في عهد خلفائه, وكان كل منهما يدعى أحمس كذلك؛ ولكن أحدهما كان يعرف باسم "أحمس بن نخب" أما الآخر فكان اسمه "أحمس بن أبانا"(1)، وهذه النصوص تصف لنا بعض تفصيلات المعارك التي خاضها الملك أحمس في كفاحه ضد الهكسوس كما تشير إلى حروبه في النوبة، وقد وجدت آثار أخرى من عهده تثبت أنه أخضع شمال النوبة وشيد هناك إحدى القلاع وبدأ وضع سياسة لإدارة هذه البلاد بتعيين حاكم عسكري عليها وإسناد شئونها المالية والإدارية إلى أمير نخن "إقليم الكاب".
ويبدو من نصوص خلفها أحمس أن ثلاث سيدات كان لهن أكبر الأثر في حياته بصفة خاصة وفي تاريخ مصر في تلك الآونة بصفة عامة. وأولى هذه السيدات هي "تتي شري" جدة أحمس التي ظل وفيًّا لذكراها وبنى لها قبرًا رمزيًّا في أبيدوس وضع به وضع به لوحة تذكارية، وثانيتهن هي والدته "اعح حتب" التي لعبت دورًا خطيرا في الكفاح ضد الهكسوس يشير إليه ولدها أحمس في لوحة أقامها بالكرنك بقوله: "امدحوا سيدة البلاد وسيدة جزر البحر المتوسط, فاسمها مبجل في جميع البلاد الأجنبية, وهي التي تضع الخطط للناس، زوجة ملك وأخت ملك وأم ملك وهي العظيمة القديرة، وهي التي تهتم بشئون مصر ... جمعت جيشها وهيأت الحماية للناس وأعادت الهاربين وجمعت شتات المهاجرين, وهدأت ما حل بالصعيد من خوف, وأخضعت من كان فيه من العصاة ز.. إلخ"(2). ونظرًا لما يبدو من تأثر بعض حلي هذه الملكة وخنجرها ببعض المظاهر الفنية التي سادت جزر بحر إيجة؛ فإن نفرا من المؤرخين يميل إلى الاعتقاد بأن هذه الملكة تنتمي أصلًا إلى جزيرة كريت؛ ولكن لا يوجد ما يؤيد ذلك؛ وإنما يحتمل أن تلك المؤثرات كانت ترجع إلى وجود علاقات بين مصر وكريت في ذلك الوقت؛ بل ولا يستبعد أنهما كانا متحالفين، وبمقتضى هذا التحالف قدم أهل كريت بعض المعاونة للمصريين في كفاحهم ضد الهكسوس وأن "اعح حتب" لعبت دورًا هامًّا في هذا التحالف.
أما السيدة الثالثة فهي "أحمس نفرتاري" التي كانت زوجة لكل من أخويها "كاموزا" و"أحمس" على التوالي وقد عبدت منذ أواخر الأسرة الحادية والعشرين؛ حيث أقيم لها معبد في طيبة واعتبرت هي وولدها "أمنحتب الأول" الإلهين الحارسين للجبانة.
أمنحتب الأول:
تولى العرش وهو صغير؛ ولكنه كان خبيرًا بالملك ومقدامًا كأسلافه, فنصوص الضابطين المشار إليهما فيما سبق "أحمس بن أبانا وأحمس بن نخب(3)" تشير إلى أنه ذهب في حملة إلى النوبة وتوغل فيها إلى سمنة "جنوب الشلال الثاني" على الأقل حيث ترك "ثوري" الحاكم المصري على النوبة في عهده نصين أحدهما في سمنة والثاني في أورونارتي "جزيرة الملك"، وهما مؤرخان بالسنة السابعة والسنة الثامنة من عهد أمنحتب على التوالي، ومن المرجح أن السبب في قيام الملك بهذه الحملة يرجع إلى حدوث ثورة في النوبة. ويبدو أنه تعقب زعيم الثورة إلى الصحراء أو أن الثائرين كانوا من القبائل التي تعيش على حافتها؛ لأن "أحمس بن أبانا" يشير في نصوص مقبرته إلى أنه قاد الملك في عودته إلى مصر من منطقة "البئر العلوي" في يومين فقط؛ فالإشارة إلى "البئر العلوي" تجعل من المحتمل وصول هذا الملك إلى منطقة صحراوية حينما قام بحملته هذه، ويذكر أحد كهنة آمون أن نفوذ الملك وصل إلى منطقة "كاروي" أي: إلى قرب "نبتة" عند الشلال الرابع؛ ولكن لا يوجد لدينا من الأدلة ما يؤيد وصول نفوذه إلى مثل هذا المكان البعيد، ولا تقتصر جهوده الحربية على النوبة وحدها فقد أشارت نصوص "أحمس بن نخب" إلى قيامه بغزوة ليبية؛ ولكنه لم يذكر سبب هذه الحملة أو المكان التي وصلت إليه.
والظاهر أن الأمن كان مستتبًّا في داخلية البلاد كما أن الحالة هدأت فيها؛ فلم يعد الملك في حاجة إلى مزاولة النشاط العسكري وتفرغ للأعمال السليمة؛ حيث قام بتشييد بعض المباني وعم الرخاء في عهده، ويعد معبده الجنزي من أشهر مبانيه وقد شيده على الضفة الغربية للنيل أمام الأقصر، كذلك ترك هيكلًا من المرمر عثر على أحجاره ملقاة في أنقاض مباني الكرنك فجمعت وأعيد تركيبها، وهو يعد من أجمل ما عثر عليه من هياكل الدولة الحديثة.
وقد مات دون أن يترك من يخلفه على العرش فخلفه "تحتمس الأول" الذي يرجح أنه كان من الأمراء, وإنه اكتسب حق ولاية العرش عن طريق زواجه بابنة "أمنحتب الأول" وكان اسمها "أحمس".
تحتمس الأول:
بدأ حكمه بإصدار مرسوم ينبئ عن اعتلائه للعرش، وقد أرسل هذا المرسوم إلى "ثوري" حاكم النوبة ليعلنه على الملأ، ونكاد نلمس في هذا المرسوم ما يشير إلى حدوث بعض النزاع على العرش قبل أن تستقر الأمور لتحتمس الأول الذي ما كاد ينتهي من ذلك حتى قام في السنة الثانية من حكمه بحملة إلى شمال السودان مد حدوده فيها إلى "كورجوس(4) Kurugus" "جنوب أبو أحمد" أو إلى "مروي" أي أنه توغل إلى أبعد من الأماكن التي وصل إليها أسلافه، ولا بد أنه كان يهدف إلى ضمان بقاء النوبة تحت سيطرة مصر وخضوعها تمامًا لسيادتها وأراد أن يتصل اتصالًا مباشرًا بالمناطق الغنية التي كانت تمد مصر بكثير من الحاصلات, وأن يضمن بقاء الطريق التجاري إليها في يده سواء كان ذلك عن طريق النيل أو الطريق البري، ولهذا استولى على تلك الأماكن التي إلى جنوب الشلال الثالث وأمر بتطهير مجرى النيل عند الشلال الأول.
وقد اهتم تحتمس الأول كذلك بالجهات الواقعة في شمال مصر, وتوغل في فتوحاته كثيرًا؛ حيث يرجح أنه وصل إلى منحنى الفرات الذي عرفه المصريون بأنه النهر ذو المياه المعكوسة "أي: الذي يجري في عكس الاتجاه الذي يسير فيه نهر النيل"، وفي هذه البقعة التي وصل إليها انصرف إلى الصيد بعض الوقت وترك هناك لوحة لبيان حدود مملكته، ومن ذلك يتضح أنه كان يحكم إمبراطورية تمتد من منطقة الشلال الرابع إلى شمال سورية عند منحنى نهر الفرات، وقد درج بعض فراعنة الدولة الحديثة فيما بعد على الذهاب لصيد الفيلة في منطقة منحنى الفرات؛ مما يدل على أن هذه المنطقة كانت حافلة بالأحراش في تلك العصور.
ويحدثنا المهندس إنيني الذي عاش ابتداء من عهد أمنحتب الأول بأن سيده تحتمس الأول كلفه ببناء مقبرته وأن هذه المقبرة نحتت في الصخر في بقعة لا يعلمها غيره(5)، والظاهر أن تحتمس الأول كان أول فرعون يقرر عدم وجود بناء هرمي أو غير هرمي يعلو سطح الأرض فوق مقبرته حتى يخفي مكانها؛ فلا تمتد إليها أيدي اللصوص، وهذه البقعة التي نحتت فيها مقبرة تحتمس الأول أصبحت جبانة لملوك الدولة الحديثة, وهي المعروفة حاليًا باسم "وادي الملوك"، وتقع على الضفة الغربية للنيل أمام مدينة الأقصر، ومن المباني التي شيدها تحتمس كذلك معبده الجنزي الذي بناه على حافة الوادي بالقرب من مقبرته، كما شيد معبدًا كبيرًا في منطقة الكرنك أقام أمامه مسلتين كبيرتين وبنى بهوا عظيمًا به أعمدة مربعة على واجهاتها تماثيل أوزيرية(6).
وقد حكم هذا الملك نحو ثلاثين عامًا كانت البلاد فيها قوية يمتد نفوذها في الجنوب والشمال؛ ولكن أحوال القصر الداخلية كان يسودها الغموض؛ مما دعا إلى الظن بأن أفراد البيت المالك قد انقسموا بعضهم على البعض الآخر، وربما كان سبب ذلك أن الملكة "أحمس" التي تزوجها تحتمس الأول -واكتسب بذلك حق اعتلاء العرش- لم تنجب ولدًا؛ بل أنجبت ابنتين كبراهما حتشبسوت أي: إنها لم تنجب وليًّا للعهد، في حين أن زوجات أخريات قد أنجبن له أبناء من الذكور كان أكبرهم "تحتمس الثاني" الذي يرجح أنه كان ضعيفًا إزاء أخته حتشبسوت ابنة الزوجة الشرعية لتحتمس الأول؛ ولذا بدأت سلسلة من المؤامرات فانقسم موظفو القصر وكبار موظفي الدولة ورجالاتها إلى طوائف تؤيد كل منها أحد الطرفين, ثم انتقل هذا النزاع بين حتشبسوت وبين تحتمس الثالث؛ مما أدى إلى اختلاف المؤرخين في شأنهم وخرجوا بعدة آراء ونظريات عن صلة القرابة بين هؤلاء الملوك وترتيب حكمهم وخلقوا من ذلك مشكلة تعرضوا لها بالبحث بعض الوقت؛ نظرًا لأن اسم حتشبسوت أزيل من بعض الآثار وكتب بدلًا منه اسم تحتمس الأول أو الثاني أو الثالث، ومهما كان الأمر؛ فقد أصبح من المتفق عليه أن تحتمس الأول كان والد كل من حتشبسوت وهي من الزوجة الشرعية وتحتمس الثاني وهو من زوجة غير شرعية، وأن تحتمس الثالث كان بالمثل ابنًا لتحتمس الثاني من زوجة غير شرعية أيضًا(7), وأنه تزوج من أميرة من البيت المالك كانت تدعى حتشبسوت "مريت رع" هي الأخرى، وقد بدأ حكمه تحت وصاية عمته "حتشبسوت الكبرى" ثم انفرد بالحكم بعد ذلك.
تحتمس الثاني:
تزوج من أخته حتشبسوت واعتلى العرش؛ ولكن سرعان ما دَبَّ الخلاف بينهما واضطربت الأمور، وربما كان لذلك أثره الملموس في مستعمرات مصر الجنوبية؛ فأراد الأمراء المحليون أن ينفضوا عنهم سلطان مصر, وقامت الثورة في السودان؛ إلا أن تحتمس الثاني أرسل حملة إلى هناك قامت بإخضاع الثورة وأحضرت بعض الرهائن ومن بينهم أحد الزعماء، وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أن جيوش تحتمس الثاني وصلت إلى جبل البرقل عند الشلال الرابع ولكن من العسير تأكيد ذلك، كذلك يحتمل أن ثورة أخرى قامت أثناء حكمه في شرق مصر فأدبها الجيش المصري.
ورغم قصر المدة التي حكمها؛ فإننا نجد اسمه منقوشًا على كثير من الآثار؛ مما يدل على أنه كان شديد الاهتمام بالمباني، وقد نعمت البلاد بشيء من الاستقرار في جزء من عهده على الأقل.
حتشبسوت:
بموت تحتمس الثاني بدأت فترة صراع بين حتشبسوت وأنصارها من جهة وبين تحتمس الثالث وأنصاره من جهة أخرى؛ إذ ترك المهندس "إنيني"(8) المشار إليه نقوشًا يفهم منها أن تحتمس الثالث تولى الملك بعد والده تحتمس الثاني؛ ولكن حتشبسوت هي التي تدير شئون البلاد وصاحبة الأمر "لأنها البذرة الممتازة التي خرجت من الإله"، ويبدو أن تحتمس الثالث الذي يرجح أنه كان ابنًا لتحتمس الثاني من زوجة أخرى غير حتشبسوت, كان صبيًّا يشغل وظيفة كهنوتية صغيرة في معبد الكرنك حينما توفي والده، واشتد النزاع بين أنصاره وبين أنصار حتشبسوت؛ فاستعان أنصاره بكبار كهنة آمون, الذين أعلنوا أن الإله آمون "المعبود الرسمي للإمبراطورية" قد اختاره ليجلس على العرش، وتم اختياره فعلًا ولكنه كان طوال حياة عمته حتشبسوت "وزوجة أبيه" مجرد شريك لا نفوذ له في الحكم؛ بينما وضعت حتشبسوت كل مقاليد الأمور في يدها ثم أصبحت هي كل شيء, ولم يرد له ذكر إلى أن ماتت وانفرد هو بالحكم.
والظاهر أن الحرب كانت عنيفة بين حتشبسوت وزوجها تحتمس الثاني ثم بينها وبين ابن زوجها تحتمس الثالث؛ حتى إنها لجأت إلى اختراع القصص التي تشير إلى حقها المقدس في الملك, مع أن حكم الملكات في مصر والشرق القديم لم يكن مستساغًا بصفة عامة، ووصلت في ذلك إلى أبعد مدى فنقشت مناظر تفصيلية على جدران معبد الدير البحري الذي شيدته في البر الغربي لطيبة "الأقصر" تمثل فيها قصة مولدها التي ادعت فيها بأنها ليست ابنه تحتمس الأول بل ابنة الإله آمون نفسه الذي تشكل في صورة أبيها وأنجبها من صلبه, كما بينت في بعض هذه المناظر أن أباها تحتمس الأول بايعها بالملك في حياته, وأن كبار الكهنة وكبار رجال الدولة قد وافقوه على ذلك, أي أن كلًّا من تحتمس الثاني وتحتمس الثالث كانا طبقًا لتلك النقوش مغتصبين لحقها المشروع, أو على الأقل لم يكن حكمهما شرعيًّا كحكمها.
ومن المرجح أن هذه الفكرة كانت بإيحاء من أنصارها؛ حيث يبدو أنها تمكنت من أن تحيط نفسها بحاشية من الرجال الأقوياء الذين تمكنت بفضلهم من الاستمرار صاحبة السلطة في البلاد، ومن أهم هؤلاء المهندس "سنموت" الذي أشرف على تربية ابنتها "نفرورع" التي كانت تعدها لأن تخلفها على العرش؛ ولكنها ماتت وهي صغيرة.
ومهما كان الأمر فإن عهدها كان عهد رخاء وطمأنينة، ولا جدال في أنها كانت قديرة في الحكم استطاعت أن توجه نشاط الدولة إلى التجارة والأعمال الإنشائية؛ إذ أرسلت حملة إلى بلاد بونت جلبت البخور وأشجار المر وبعض حاصلات المناطق الاستوائية وكميات كبيرة من الذهب من أجل معابد الإله آمون، وقد صورت مناظر هذه البعثة على جدران معبدها في الدير البحري المشار إليه، كذلك شيدت كثيرًا من المباني أهمها معبد من الجرانيت في الكرنك وصالة كبيرة أمامها حسلتان عظيمتان في نفس المنطقة, كما أنها أصلحت كثيرًا من المباني المتهدمة.
ويبدو أنها كانت من قوة العزيمة والنفوذ طوال مدة حكمها التي بلغت نحو ثمانية عشر عامًا؛ بحيث أصبح تحتمس الثالث في عهدها منزويًا ويكاد يكون منسيًّا، ولذا ينسب إليه أنه بعد وفاتها صب جام غضبه على ذكراها فمحا اسمها من معظم آثارها, وحطم الكثير من تلك الآثار ومن آثار أنصارها ومعاونيها.
تحتمس الثالث:
يبدو أن العهد السلمي الطويل الذي نعمت به مصر في ظل حكم حتشبسوت قد أطمع البلاد الأجنبية الخاضعة لمصر في أن تتخلص من سيادتها؛ لأن عدم رؤية تلك البلاد للجيوش المصرية خلال هذه الفترة جعلها تتوهم أن مصر ضعيفة تعجز عن المحافظة على مستعمراتها؛ ولذا أخذت تميل إلى الثورة بغية التحرر ولكن -لحسن حظ مصر- شاءت الأقدار أن يكون على عرشها تحتمس الثالث الذي لم يتوانَ عن توطيد سلطانها, ولم يدخر في سبيل ذلك جهدًا على الإطلاق؛ فما أن انفرد بالحكم حتى خرج في حملة إلى فلسطين؛ حيث كانت جيوش بعض الإمارات بزعامة أمير "قادش" قد تجمعت عند مدينة "مجدو"، وبعد أن سار حوالي 11 يومًا وصل إلى بلدة "يحم Yehem"، وهناك كانت أمامه ثلاثة طرق ليصل إلى مجدو حيث تجمع هؤلاء الأعداء؛ وأحد هذه الطرق قصير ضيق محصور بين سلسلة من التلال ولا يتسع لأكثر من عربة حربية واحدة, أما الطريقان الآخران فطويلان يدوران حول سفح جبال الكرمل، عندئذٍ
جمع تحتمس الثالث مجلسًا حربيًّا مع قواده الذين نصحوه بعدم تعريض الجيش للخطر باتخاذ الطريق القصير؛ ولكنه أصر على أن يفاجئ عدوه بالمسير في ذلك الطريق؛ حيث لا يتوقع العدو إقدامه على مثل هذه المخاطرة، وفي فجر اليوم التالي كان على رأس جيشه مسرعًا باختراق هذا الممر، ثم انتظر إلى أن تم تجمع الجيش, وهناك عسكر بجيشه عند مدخل وادي قينا، وفي فجر اليوم التالي هجم المصريون على مجدو؛ حيث انتصروا على المدافعين عنها؛ ولكنهم شغلوا بنهب معسكر الأعداء فأتاحوا لهؤلاء فرصة الهرب إلى داخل المدينة والتحصن وراء أسوارها, وظل المصريون يحاصرون المدينة سبعة أشهر إلى أن استسلمت لهم؛ ولكن زعيم قادش تمكن من الفرار، أما بقية الزعماء فقد قدموا ولاءهم لتحتمس الثالث الذي تقدم بعد ذلك شمالا واستولى على كل ما صادفه من بلاد دون عناء إلا ثلاث مدن يبدو أنها قاومته بعض المقاومة، ومن الغنائم التي وقعت في أيدي المصريين يمكن أن نتصور مقدار الثراء الفاحش الذي كان يسود تلك البلاد؛ حيث نجد أن من بين هذه الغنائم عربات حربية مصفحة بالذهب والفضة, وأواني ذهبية, وخشب ثمين مصفح بالفضة.
وكانت هذه الحملة بداية طيبة؛ إذ إن نجاحه الساحق فيها جعله يوالي نشاطه العسكري في تلك البلاد؛ فكان يخرج إليها كل عام تقريبًا حيث كان يذهب إليها في أوائل الصيف ويعود منها عند إقبال الشتاء، وقد بلغ عدد هذه الحملات التي خرج فيها إلى آسيا ست عشرة حملة كان ينظم خلالها شئون البلاد, ويشرف على تنفيذ ما كان يأمر به من معابد ومبانٍ.
ومن خلال حملاته الخمسة الأولى كان يستولي على بعض البقاع الجديدة وأعد بعض الموانئ السورية لكي تكون قواعد لأسطوله ولضمان عدم الانقضاض على قواته من الخلف عند توغلها في الأراضي السورية نحو الفرات؛ إذ إنه كان يهدف إلى الوصول إلى ذلك النهر؛ ولكن عدم استيلائه على قادش كان يحول دون ذلك، وما إن وافت السنة الحادية والثلاثون من حكمه حتى قام بحملته السادسة, وفيها تعاون الأسطول مع جيشه البري؛ إذ قام الأسطول بتموين الجيش ونقل المدد إليه, وبذلك تمكن من الاستيلاء على قادش وأصبح من اليسير أن يصل إلى الفرات بعد ذلك، وفي حملته الثامنة تمكن من الاستيلاء على مدينة قرقميش وأقام لوحة إلى جوار لوحة جده تحتمس الأول.
ومن المرجح أن هذه الحملة الأخيرة كانت ذات أثر كبير في الممالك القوية المجاورة؛ حيث بدأت تخطب وده، فقدمت مملكة ميتاني ولاءها وهداياها إلى العاهل المصري, كما قدمت مملكة الحيثيين الهدايا الثمينة إليه طلبًا لصداقته, وكذلك فعلت مملكتا أشور وبابل؛ فأصبحت مصر الدولة الأولى وصاحبة النفوذ الأعلى في غرب آسيا، وكان أسطولها القوي يهيمن على ثغور فلسطين وسورية ويجعلها تحت رحمته.
وكانت آخر حملات تحتمس الثالث في آسيا في السنة الثانية والأربعين من حكمه(9)؛ لأن مدينة قادش أعلنت العصيان من جديد، وفي هذه المرة كان يعاونها ملك ميتاني وأمير تونيب؛ إلا أن تحتمس الثالث استطاع أن يحطمها للمرة الثانية؛ وبذلك قضى على كل معارضة للنفوذ المصري في تلك الجهات, حيث إننا نعلم أنه عاش بعد ذلك نحو اثني عشر عامًا لم يحدث خلالها أن اضطر للذهاب إلى هناك.
ويبدو أن الهدوء كان يسود أملاك مصر في جنوب الوادي؛ حيث تشير حوليات تحتمس الثالث بالكرنك إلى ورود جزيتها بانتظام ابتداء من السنة الخامسة والعشرين من حكمه على الأقل إلى السنة التاسعة والثلاثين فلم يكن هناك ما يدعو لتوجيه حملات إليها خلال هذه الفترة؛ غير أن لوحة عثر عليها في جبل البرقل تدل على أن مصر قامت ببعض النشاط العسكري في السودان في السنة السابعة والأربعين من حكمه، ومن المرجح أنه لم يشترك شخصيًّا في هذا النشاط بل كلف بعض قواده بالقيام به, ولكنه قام بنفسه على رأس حملة إلى السودان في السنة الخمسين من حكمه.
ولا شك في أن تحتمس الثالث كان قائدًا ممتازًا لشعبه لم تقتصر مميزاته على كفاءته الحربية فحسب؛ بل كانت له نواح عظمته الأخرى التي مكنته من أن يحكم إمبراطورية واسعة ويدير شئونها وبشرف على كل ما يتعلق بتصريف الأمور فيها ويعرف ما يحدث في مختلف أنحائها، وقد اتبع من الوسائل ما يمكن أن نعده آخر صيحة في الدبلوماسية الحديثة؛ إذ إنه كان يحضر أبناء أمراء البلاد التي أخضعها لكي ينشئهم في مصر مع أبناء كبار رجال الدولة حتى يشبوا على حب مصر وصداقتها(10), كما أنه حاول الإصلاح في كافة النواحي وحاول الانتفاع بكل ما يمر به, ومن ذلك مثلًا أنه أدخل إلى مصر كل ما وجده صالحًا من نباتات وحيوانات غريبة، وربما كان يدخل كذلك إلى البلاد الأخرى ما كان يلائمها من نباتات وحيوانات مصرية، ومن المحتمل أنه كان يشجع بعض الأجانب على القدوم إلى مصر ولم يمانع في بقائهم بها؛ لأن مظاهر الفن والحضارة التي كانت سائدة في سورية وبلاد النهرين أخذت تظهر في مصر بصورة واضحة.
وكان تحتمس الثالث حاكمًا منصفًا يكافئ الممتازين من رجاله ويقدر ذوي المواهب ويحسن اختيار الأكفاء, فقد كافأ أحد ضباطه ويدعى "أمن إم حب"؛ لأنه أنقذ حياته حينما كان يصطاد في سهل الفرات وهاجمة أحد الفيلة, وكان ذلك أثناء حملته الثامنة. كما أنه أنصف سلفه العظيم سنوسرت الثالث(11) بتخليد ذكراه وخاصة في بلاد السودان؛ حيث اعتبره إلهًا حاميًا للنوبة، وكان حين يختار رجاله الأكفاء لشغل الوظائف المهمة يوجههم ويزودهم بنصائحه وتعليماته كما يتمثل ذلك عندما أسند منصب الوزارة إلى "رخ مي رع"، وقد ظهر في عهد هذا الملك عدد من كبار الشخصيات ذوي الكفاءات الممتازة، ومن المناظر التي نقشت على جدران مقابرهم يمكن أن نتبين مظاهر الرقي في الحياة الاجتماعية التي سادت عصره ومقدار الثراء الذي أخذ يتدفق على مصر فيه، ومما لا شك فيه أن قبرص وكريت وغيرهما من أقطار ومنطقة حوض البحر المتوسط الشرقي التي لم تكن خاضعة له كانت تخطب ود مصر وتحرص على علاقات الصداقة معها.
ومع أن تحتمس الثالث بذل جهودًا ضخمة في حروبه؛ فإنه لم يهمل في المشروعات العمرانية وشيد كثيرًا من المباني في مصر والنوبة, من أهمها المعبد الكبير الذي بناه في الكرنك وكانت بإحدى حجراته قائمة الكرنك التي أشير إليها في المصادر التاريخية(12)، كذلك كان من أهم مبانيه في تلك البقعة صالة كبيرة للاحتفالات وأحد الصروح الكبيرة يعرف في الكرنك بالصرح السابع، وقد أقام عددًا كبيرًا من المسلات في مختلف أنحاء القطر وخاصة في منطقة الكرنك, وبعض هذه المسلات نقل إلى جهات مختلفة من العالم مثل: القسطنطينية وروما ولندن ونيويورك.
أمنحتب الثاني:
نشأ هذا الملك في عهد وصلت فيه مصر غاية مجدها العسكري، وقد عني والده بتدريبه على الرماية منذ الحداثة, كما عني بتثقيفه؛ فأنشأ مدرسة في القصر ليعلمه فيها مع أبناء كبار رجال الدولة وأمراء آسيا والنوبة, وبذلك حقق والده هدفًا هامًّا إذ ارتبط هؤلاء جميعًا برباط الصداقة والود، وقد عثر على لوحة بالقرب من "أبو الهول" تصف فروسية أمنحتب الثاني وحبه للرياضة ومهارته فيهما.
ولما تولى العرش لم يكد يسمع برغبة بعض الولايات السورية الشمالية في الانفصال عن مصر حتى تقدم نحوها على رأس جيشه؛ حيث هزم الثائرين، وفي عودته إلى طيبة أحضر سبعة من أمراء المدن السورية الثائرة، قتل ستة منهم في طيبة وأرسل السابع إلى نباتا مقر الحكم المصري في السودان ليشنق هناك؛ حتى يكون عبرة لمن تحدثه نفسه من أمراء السودان بالثورة على مصر، وبهذا احتفظ بهيبة مصر فتابعت البلاد الأجنبية إرسال هداياها وجزيتها. وفي السنة التاسعة من حكمه علم بفتنة صغيرة في فلسطين؛ فانتهز الفرصة وقام بجولة تفتيشية بعد أن أخمد الثورة، وقد دون أخبار هاتين الحملتين على لوحتين إحداهما بالكرنك والثانية عثر عليها في ميت رهينة قرب سقارة(13), كما وصف في هاتين اللوحتين بطولته وقوته البدنية.
ويغلب على الظن أنه استطاع أن يمد النفوذ المصري في جنوب الوادي إلى أبعد من الحدود التي وصل إليها أسلافه؛ حيث عثر على آثار له في جهات كثيرة هناك, وبعد أن حكم ستة وعشرين عامًا مات وخلفه تحتمس الرابع.
تحتمس الرابع:
يحتمل أنه لم يكن ولي العهد الشرعي كما يمكن أن يستنتج ذلك من اللوحة التي أقامها بين قدمي "أبو الهول"؛ إذ يذكر فيها أن الإله حور آختي "الذي يمثله أبو الهول" جاءه في المنام وبشره بأنه سيصبح ملكًا وطلب منه إذا تحقق ذلك أن يزيل الرمال التي تجمعت من حوله، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن هذا يدل على أن تحتمس الرابع دبر مؤامرة مكنته من إبعاد أخيه ولي العهد عن العرش، وأن هذه المؤامرة قد أغضبت عليه كهنة آمون وحدثت بينه وبينهم جفوة جعلته يتجه إلى كهنة الشمس ويحاول إحياء عبادة "رع" حور آختي كما شجع عبادة قرص الشمس "آتون"، وهو أول من أمر برسم هذا الإله وهو يعطى الحياة, وهذا الرمز الجديد هو الذي اتخذه فيما بعد حفيده إخناتون.
ومع كل فقد أثبت تحتمس الرابع أنه كان جديرًا بالحكم؛ حيث إنه أقام في بداية عهده بإخماد الثورة التي نشبت في بعض المدن السورية, كما أنه ذهب بنفسه إلى السودان؛ حيث قضى على ثورة نشبت هناك.
وفي عهده كانت ممالك ميتاني وبابل وآشور وخيتا "الحيثيون" تتنافس فيما بينها على السيادة, ولما شعرت مملكة ميتاني بخطر الحيثيين ازدادت تقربًا لمصر، وقد شجع تحتمس الرابع هذا التقارب ودعمه بالزواج من ابنة ملك ميتاني، ويرى بعض المؤرخين أن ازدياد الصلات بين مصر وآسيا واختلاط دم الفراعنة بالدماء الآسيوية كان من الأسباب التي أدت إلى إدخال الليونة أو النعومة وحب الملذات في دماء الملوك, هذا ولم يحكم تحتمس الرابع أكثر من تسع سنوات كان فيها نشطًا للغاية سواء من الناحية العسكرية أو من ناحية تنظيم شئون البلاد الداخلية وترك آثارًا في كثير من الجهات.
أمنحتب الثالث:
الظاهر أن أمنحتب الثالث لم يجد ما يعكر صفو مملكته؛ إذ إنها عاشت طوال عهده تقريبًا وهي تنعم بالسلم والرخاء، ولا نكاد نجد ما يدل على خروجه في حملة حربية إلا في السنة الخامسة من عهده؛ حيث ذهب إلى النوبة وتوغل فيها كثيرًا حتى ليظن أنه وصل إلى العطيرة(14)؛ ولكن مما لا شك فيه أن ملكه قد امتد إلى "كاروى" عند الشلال الرابع تقريبًا، ولم يجد بعد ذلك ما يضطره إلى الخروج في أية حملة حربية في عهده الطويل، ومع أنه أغرم بالصيد وقتًا ما إلا أنه لم يكن محبًّا للحرب.
ولما كان الأمن قد استتبَّ في أنحاء الدولة؛ فإن الجزية والهدايا تدفقت إلى مصر بانتظام، وأصبحت خزائن فرعون مليئة بالذهب والفضة، وكان الملك الشاب محبًّا لحياة الترف والبذخ فانغمس فيها, وأدت هذه الحياة به طبعًا إلى الانصراف عن نشاطه العسكري والرياضي أيضًا, كذلك أقبل رجال الحاشية على نفس الاتجاهات التي أقبل عليها مليكهم, فنعموا بحياة كلها ترف وبذخ مما أضعف شأن مصر وأثر في سمعتها في الخارج, وكان لذلك أثره السيئ فيما بعد.
ومع أن أمنحتب الثالث كان ميالًا إلى الاستمتاع في حياته وتغالى في ذلك إلى أبعد حد؛ إلا أنه كان على درجة كبيرة من الذكاء والمهارة السياسية؛ فحينما تولى الملك أراد أن يبرر جلوسه على العرش -لأن أمه كانت آسيوية وزوجته "تي" كانت من عامة الشعب, وهما أمران لم يعتدهما المصري في فراعنته- عمد إلى بناء معبد الأقصر وصور على جدرانه قصة تحاكي القصة التي سبق لحتشبسوت وأعوانها أن يخترعونها للتدليل على شرعية اعتلائها للعرش؛ حيث إنه بالمثل ادعى أن الإله آمون اتصل بوالدته وأنجبه، فأصبح بذلك من سلالة آمون "الإله الرسمي للدولة" نفسه أي: إنه لم يكتسب حقًّا شرعيًّا في الملك فحسب بل ومقدسًا أيضا. هذا وقد أقبل على مصاهرة ملوك الممالك المجاورة وعمت صلاته بهم إلا أن ميله الغريزي نحو النساء لم يكن ليقف عند حد, وتزوج من أميرات من ميتاني وبابل وأشور فضلًا عما كان يرسله إليه حكام بعض المدن السورية من فتيات جميلات مع الجزية. ولا شك في أن علاقات الود التي أوجدها مع الملوك لم تكن خالصة؛ لأن هؤلاء كانوا يأملون دائمًا في الحصول على بعض الخيرات التي كانت تتدفق إلى مصر وخاصة من الذهب؛ فمثلًا كان ملك ميتاني كثيرًا ما أرسل إلى صهره "أمنحتب الثالث" طالبًا المزيد من هذا المعدن, مشيرًا في خطاباته إلى كثرته في مصر إلى درجة أنه كان "كالتراب في وفرته".
ومن المعروف أن ملوك الأسرة الثامنة عشرة كانوا ينسبون أنفسهم للإله آمون، وقد اتبعوا سنة تقديم الهدايا لهذا المعبود عقب كل نصر يحرزونه, وشيدوا له معابد هائلة أوقفوا عليها أوقافًا ضخمة؛ فزاد ذلك من ثراء كهنته وعظم نفوذهم إلى درجة أن بعض الملوك كانوا يدينون لهم باكتسابهم حق اعتلاء العرش، وبالطبع وجد هؤلاء أنفسهم مضطرين للإسراف في مكافأتهم حتى شعر فريق من الملوك بأن نفوذ كهنة آمون قد أصبح من الخطورة؛ بحيث يهدد سلطان الملك، وقد رأى أمنحتب الثالث بثاقب فكره أن هذا الأمر أصبح يتطلب علاجًا فعالًا وخاصة لأن سلفه تحتمس الرابع قد بدأ يشجع بعض العبادات القديمة، وربما كان لتغلغل النفوذ الآسيوي في البلاط أثره في محاولة التخلص من سيطرة كهنة آمون والإقلال من شأن معبودهم، كما أن اتساع رقعة الإمبراطورية كان مما يدعو إلى التفكير في إيجاد معبود يقبله الجميع ويدينون له عن رضًا وارتياح, وهذا لا يتسنى في حالة الإله آمون؛ إذ كانت عبادته يكتنفها الغموض والإبهام، وعلى ذلك اتجهت الأنظار إلى تشجيع عبادة إله الشمس؛ لأن نعمه وأفضاله كانت ظاهرة واضحة لجميع الشعوب التي شملتها الإمبراطورية. وبالفعل بدأت هذه المحاولات منذ عهد تحتمس الرابع على الأقل؛ إذ إنه أعاد الاهتمام بشأن الإله رع حور آختي، وحاول أن يوحد بين عبادة آمون وعبادة قرص الشمس؛ حيث يشير في أحد النصوص إلى قرص الشمس على أنه هو الإله آمون، وحينما تولى أمنحتب الثالث كان كهنة الإله آمون ما زالوا يتمتعون بالنفوذ الأعلى؛ ولذا أخذ يشجع الديانات الأخرى وخاصة عبادة الشمس التي كانت ذات مركز عظيم لا من عهد تحتمس الرابع فحسب بل من عهد الدولة القديمة أيضًا. ولم يكتف أمنحتب الثالث بمجرد تشجيع المعبودات القديمة؛ بل أخذ يعلي من شأنها وحاول إيجاد بعض العبادات الجديدة رغبة منه في الإقلال من شأن آمون؛ فأطلق على زورق كان يتنزه فيه اسم "إشراق آتون" وعين أكبر أبنائه، "وكان يدعى تحتمس" كبيرًا لكهنة الإله بتاح في منف، ومع كل فقد ظل نفوذ آمون وكهنته على شدته؛ غير أن مقاومة هذا النفوذ لم تكن لتجد تشجيعًا أو قبولًا لدى عامة المصريين، وعلى ذلك نجد أن أمنحتب الثالث حينما استحدث عبادة شخصه الحي وعبادة زوجته "تي" لم يجرؤ على البدء بهما علانية في مصر؛ بل بدأهما بعيدًا في السودان, وخاصة لأن عبادة الملك الحي لم يسبق لها وجود في مصر.
وكان أمنحتب الثالث ميالًا إلى تشييد العمائر التذكارية والمعابد والمباني الفخمة, ومن أهمها تلك المعابد التي شيدها في طيبة سواء في الشاطئ الشرقي أو الغربي للنيل والقصر الذي بناه لزوجته "تي" على الضفة الغربية للنيل قرب معبده الجنازي، وقد ألحق بهذا القصر بحيرة كبيرة كان يخرج للتنزه فيها مع زوجته في قاربه الذي سماه "إشراق آتون" .
وفي أواخر عهده أشرك معه في الحكم ولده الثاني "أمنحتب الرابع" الذي عرف فيما بعد باسم "إخناتون" لأن أكبر أبنائه الذي أشرنا إلى تعيينه كبيرًا لكهنة بتاح توفي دون أن يعتلي العرش، وفي تلك الأثناء كانت مملكة الحيثيين تقوى وتشتد وأخذت تستولي على بعض الإمارات التي كانت خاضعة لمصر أو حليفة لها، وكان الأمر يتطلب وجود ملك قوي من طراز تحتمس الثالث أو أمنحتب الثاني لكي يحافظ على الإمبراطورية؛ لكن أمنحتب الثالث كان قد أصبح شيخًا محطمًا ولم يلبث أن مات وترك ولده الضعيف يحكم البلاد.
أمنحتب الرابع:
تدل شواهد الأحوال على أن أمنحتب الرابع حينما اشترك مع والده في الحكم كان متأثرًا بفكرة إحياء عبادة الشمس في صورة "آتون"؛ ولكنه كان يفهم هذا المعبود لا على أنه "قرص الشمس" بل على أنه القوة الكامنة فيه، وقد أقام لهذه الديانة معبدًا في طيبة التي كانت تعد مقر عبادة الإله آمون، ولا بد أن كهنة آمون لم يشعروا بالارتياح لهذا الاتجاه ونظروا إليه كخطر يتهدد نفوذهم؛ فأخذوا يثيرون المتاعب في وجه الملك حتى لا يتمادى فيه؛ ولكن الملك كان عنيدًا فاشتط في مسلكه وبدأت الحرب العوان بين الفريقين.
والواقع أن أمنحتب الرابع لم يكن في أول أمره متعصبًا كل التعصب للإله "آتون" بل كان يحترم كافة المعبودات؛ ولكنه كان يميل بصفة خاصة إلى تلك التي تتصل بعبادة الشمس مثل "رع" و"آتوم" و"حور آختي" أي أنه لم يكن مخترعًا لهذه الديانة؛ حيث إنها عرفت من قبل ولكنه رمز إلى معبودها بصورة جديدة جعلته في هيئة قرص الشمس الذي تتدلى منه أشعة تنتهي بأيدٍ تهب رمز الحياة، وفي ذلك إشارة إلى أن القوة الكامنة في الشمس تعطي الحياة للكائنات جميعها.
وعبادة الشمس هذه كانت تختلف عن عبادة آمون من حيث إنها عبادة عامة يمكن أن يشترك فيها العالم؛ لأنها تتعلق بظاهرة طبيعية يدركها البشر جميعًا، وقد جعل إخناتون من نفسه كبيرًا لكهنتها ولم يكن يدخل النساء في خدمتها، ولما بلغ النزاع أشده بين كهنة آمون وبين الملك اشتط هذا الأخير في محاربته لدين "آمون" متجهًا بكليته نحو "آتون" حتى إنه لم يكن يعترف بآلهة غيره، ولكي يبتعد عن طيبة -مقر الإله آمون- أنشأ عاصمة جديدة توخى أن تكون في بقعة لم يعرف لها إله محلي من قبل, وهذه العاصمة هي تل العمارنة الحالية وقد أطلق عليها اسم "أخيتاتون" كما غير اسمه إلى "إخناتون".
وبلغ من حقده على آمون أن أمر عماله بإزالة اسمه من كل ما يقع تحت أيديهم من الآثار، ولا شك في أن هؤلاء قد بذلوا قصارى جهدهم في تتبع اسم هذا الإله حتى إنهم محوه من أسماء الملوك إن كان يدخل في تركيبها.
وكانت الأناشيد التي وضعت لمدح الإله آتون تشبه بعض مزامير التوراة؛ مما جعل بعض المؤرخين يقارنها بها، ويرى البعض أن إخناتون كان أول مبشر بالتوحيد؛ ولذا اعتبروه عبقريًّا وأنه يمثل أعظم فلاسفة العالم القديم؛ إلا أن هذا غير صحيح؛ إذ إن "إخناتون" كان في أول عهده يحترم كل العبادات، ومع أنه لم يعترف بغير آتون فيما بعد؛ فإنه لم يحارب غير دين آمون وظل يسمح بمباشرة العبادات القديمة الأخرى، ولا شك في أنه أساء التصرف؛ لأنه لم ينل من السياسة التي اتبعها سوى سخط الكهنة والعسكريين حتى إن أهل عصره لقبوه بعد وفاته بلقب "مجرم آتون".
ومهما اختلفت الآراء بشأن هذه الثورة الدينية وفي الحكم على شخصية "إخناتون" فإن أحوال مصر الداخلية وظروفها الخارجية لم تكن لتتفق وقيام مثل هذه الثورة، ولم يكن "إخناتون" بالشخصية المناسبة لتولي عرش البلاد في تلك الآونة على الإطلاق؛ إذ إنه في أغلب الظن كان شخصية ضعيفة مهزوزة وألعوبة في يد أهل بيته، نشأ محرومًا من الصفات التي جعلت من أسلافه ملوكًا ممتازين فلم يؤت من الكفاءة الحربية أو المهارة السياسية ما يمكنه من مجابهة الأحداث والظروف التي تعرضت لها البلاد؛ ولذا حاول أن يغطي ضعفه بالتفرغ كلية للشؤون الدينية ولم يلتفت لأي أمر من أمور الدولة وأهمل الأعباء الملقاة على عاتقه كملك لمصر؛ فأخذت الأحوال في المستعمرات المصرية في جنوب غربي آسيا تزداد سوءًا وخاصة لأن الحيثيين كانوا قد كونوا مملكة قوية عملت على ضم الولايات السورية إلى ممتلكاتها ونجحت في إخضاعها لسلطانها الواحدة تلو الأخرى، كما أن مدنًا كثيرة في فينيقيا وفلسطين أخذت تستقل عن مصر ونشبت الحروب والمنازعات فيما بينها ولم يبق على الولاء لمصر إلا بعض الولايات الضعيفة التي أخذت تستنجد بفرعون وأرسلت له عديدًا من الرسائل ليعمل على حمايتها؛ ولكنه أصم أذنيه ولم يحرك ساكنًا.
ولا شك في أن طائفة من المخلصين وذوي المطامع وجدوا أن الظروف السائدة كانت تدعو إلى التخلص من هذا الملك سواء كان ذلك بغية إصلاح الأمور أو تحقيقًا لأهداف ومطامع خاصة؛ فقد دبر هؤلاء مؤامرات لاغتياله؛ ولكن حراسه كانوا دائمي اليقظة والحذر، ومن المرجح أن إخناتون قد أغضب الكثيرين من المحيطين به؛ بل ويحتمل أن زوجته نفرتيتي قد غضبت منه هي الأخرى حتى إنه في نهاية عهده عزف عن الاتصال بالناس وانتحى بعيدًا عنهم في قصره؛ بينما أقامت نفرتيتي في طرف آخر من المدينة، ولا يعرف حتى الآن كيف انتهت حياته؛ ولكن مما لا شك فيه أنه لم يترك وريثًا للعرش؛ إذ كانت كل ذريته من البنات. ويرى بعض المؤرخين أن الملكة "تي" والدة إخناتون قد ذهبت إليه في أخيتاتون وحاولت إقناعه بمهادنة كهنة آمون, ولكن من المرجح أن جهودها في هذا السبيل لم تكن موفقة كل التوفيق، وقبل وفاته بقليل أشرك معه في الحكم زوج كبرى بناته المدعو "سمنخ كارع".
ولئن كان عهد إخناتون يمثل فترة من فترات الضعف والفوضى؛ إلا أنه كان من جهة أخرى يمثل عهدًا من العهود التي تميزت بظهور نوع من الفن لم يعرف في مصر من قبل, وهو الذي اصطلح على تسميته باسم فن مطابقة الحقيقة "Realism" حيث أصبح الفنانون يمثلون الأشخاص على حقيقتهم؛ فمثلوا إخناتون بعيوبه الجسمانية ولم يكن هذا متبعًا من قبل وخاصة في تماثيل ونقوش الملوك الذين كانوا يمثلون في صورة أقرب إلى الكمال الجسماني؛ فمهما بلغوا من الكبر كانوا يمثلون في شرخ الشباب، كما أقبل الفنانون على تزيين القصور والمباني بالرسوم والنقوش التي تمثل مناظر الطبيعة في أجمل صورها، ولكن ما أن انتهى عهد العمارنة حتى رجع الفنانون إلى صرامة التقاليد القديمة, وانتهى عهد هذا الفن الجديد.
سمنخ كارع:
ما زلنا نجهل أحداث عهده, ولكن من المتفق عليه أنه رجع إلى طيبة(15), وأنه لم يعمر طويلًا وتبعه في الحكم "توت عنخ آمون".
توت عنخ آمون:
كان اسمه "توت عنخ آمون" وهو الصهر الثاني لأخناتون؛ حيث إنه كان متزوجًا من ابنته الثالثة، ويبدو أنه عاش مع نفرتيتي أثناء انفصالها عن زوجها إخناتون، وقد أسرع هو وزوجته بالعودة إلى طيبة بعد وفاة إخناتون وغير اسمه إلى "توت عنخ آمون" واعتلى العرش وهو حديث السن؛ ولكنه لم يعمر طويلًا, إذ إنه مات بعد أن حكم نحو ثمانية أعوام وكان حينئذٍ في الثامنة عشرة من عمره تقريبًا، ومع هذا فقد حظي بشهرة عظيمة وخلد اسمه في التاريخ؛ إذ كان لاكتشاف مقبرته(16) دوي هائل في جميع أنحاء العالم نظرًا لما حوته من أثاث وكنوز تعد أثمن عاديات المتحف المصري بالقاهرة.
والظاهر أن ديانة آتون كانت في طريقها إلى الزوال منذ أواخر عهد إخناتون, وأصبحت أضعف من أن تقف على قدميها بعد وفاته؛ لأن أحدًا من خلفائه لم يحاول على الإطلاق أن يهتم بشأنها بل عادوا إلى ديانة آمون الذي أصبح نفوذه أقوى مما كان(17)، ولا شك في أن ضعف إخناتون وخلفائه كان من أهم العوامل التي أدت إلى ضعف سلطان البيت المالك, وإلى القضاء على ديانة آتون؛ فاستطاع بعض رجال ذلك العهد الوصول إلى مركز الصدارة، ومن أهم هؤلاء "آي" الذي تولى العرش بعد موت توت عنخ آمون وخليفته "حور محب" الذي يعد مؤسسًا للأسرة التاسعة عشرة.
وكان "آي" في بداية الأمر من رجال الحرب ثم تحول إلى الكهنوت قبل أن يعتلي العرش, أما حور محب؛ فكان قائدًا ومشرفًا على بيت الملك وشئون القصر.
ويبدو أن البلاد أخذت تحاول النهوض من جديد منذ أن عاد البيت المالك إلى طيبة, وبدأ توت عنخ آمون بإصلاح بعض المعابد وإنشاء معابد أخرى في مصر والنوبة وإعادة اسم آمون على الآثار التي محي منها، ومن المرجح أن قائد جيشه حور محب استطاع أن يقضي على بعض الثورات التي نشبت في فلسطين, كما يحتمل أنه أعاد ضم بعض الولايات التي كانت مصر قد فقدتها.
وقد أشارت بعض المصادر التاريخية إلى أن أميرة مصرية أرسلت إلى ملك الحيثيين رسالة تذكر له فيها أنها ترملت ولم يترك زوجها وريثًا للعرش, وأبدت رغبتها في أن يرسل إليها أحد أبنائه؛ لكي تتزوجه ويعتلي معها العرش(18)؛ ولكن حور محب استطاع مقابلة الأمير الذي أرسل إليها قبل وصوله إلى مصر وقتله.
آي:
كان كبيرًا للكهنة ومن الألقاب التي أطلقت عليه لقب "الأب المقدس"، وقد تبع توت عنخ آمون على العرش رغم ما يبدو من تفوق نفوذ حور محب عليه، والظاهر أنه كان يمت بصلة للملكة "تي"(19) زوجة أمنحتب الثالث, و"نفرتيتي" زوجة إخناتون أي أنه كان أقرب الأشخاص لسلفه الملك الشاب.
ولم يحكم آي أكثر من ثلاث سنوات أقام فيها بعض المباني، ولا نعرف كثيرًا عن حكمه، ومن المرجح أنه تزوج إحدى أميرات البيت المالك التي يرى بعض المؤرخين أنها أرملة توت عنخ آمون؛ ولكن هذا غير مؤكد، ولعل زواجه بالملكة "تي" أكثر احتمالًا، وربما كانت المقبرة التي هيئت على عجل لكي يدفن فيها "توت عنخ آمون" هي التي كانت أصلًا معده للملك "آي" الذي شيد لنفسه مقبرة أخرى.
الأسرة التاسعة عشرة:
حور محب:
كان قائد للجيش ووصل إلى مكانة ممتازة، كانت تؤهله لأن يكون أنسب رجال عصره لاعتلاء العرش بعد "توت عنخ آمون" لولا أن "آي" كان فيما يبدو ممن يمتون بصلة القرابة للبيت المالك.
والظاهر أن حور محب قضى معظم حياته قبل اعتلاء العرش في مدينة منف, وفي أثناء الفترة التي كان فيها قائدًا للجيش بنى لنفسه مقبرة فيها، ولم يعثر من هذه المقبرة إلا على بعض أحجار قليلة.
وقد شاهد الفوضى التي سادت عهد إخناتون وظلت آثارها عقب وفاته؛ ولكنه أظهر ولاءه وإخلاصه للعرش في أكثر من مناسبة, وخاصة في عهد "توت عنخ آمون" ونال لديه حظوة كبيرة، وحينما مات الملك "آي" لم يكن هناك من هو أكفأ منه، وأراد أن يكتسب شرعية اعتلائه للعرش, فتزوج من الأميرة "موت نزم" التي يظن أنها كانت أخت نفرتيتي.
ولما تولى الملك كانت الفوضى ما زالت ضاربة أطنابها والفساد منتشرًا في كافة الشئون؛ ولذا حرص كل الحرص على إزالة أسبابها؛ فسَنَّ القوانين ووضع من التشريعات ما ينص على محاربة الرشوة ومنع الظلم والقسوة وخاصة فيما يتعلق بمعاملة الرقيق وصغار المواطنين, وحرم تعطيل أي أمر من الأمور التي تتعلق باقتصاديات الدولة, كما حرم السرقة واستغلال العمال أو الفلاحين في العمل دون موافقة سادتهم، وقد فرض أقسى أنواع العقوبات على كل من يرتكب إحدى الجرائم، كذلك أصدر أمره بعمل كثير من الإصلاحات الإدارية وأصلح المحاكم وتشدد في عقوبة القضاة الذين يحيدون عن العدالة ونظم أمور الجيش ووضع نظامًا دقيقًا للبروتوكول.
وربما كان في استطاعته أن يوجه نشاطه نحو الشئون العسكرية وأن يقوم ببعض الحملات الحربية؛ ولكنه آثر أن يتفرغ للإصلاح الداخلي؛ فعقد معاهدة بينه وبين ملك الحيثيين حتى يتجه بكليته إلى محاربة الفساد الداخلي الذي كان منتشرًا في كافة الميادين, حتى إن بعض السرقات حدثت في المقابر الملكية ولذا أمر بالتفتيش عليها، وكان من نتيجة ذلك أن أعيدت محتويات مقبرة "توت عنخ آمون" بعد اكتشاف سرقتها, وكدست محتويات المقبرة فيها على عجل, ثم ختمت بختم الجبانة بعد إغلاقها للمرة الأخيرة إلى أن تم الكشف عنها, كذلك أمر حور محب بإصلاح المعابد وترميمها، وبنى لنفسه مقبرة في وادي الملوك تعد من أكبر مقابر طيبة.
ولا بد أنه نجح فيما كان يهدف إليه من استتباب الأمن والقضاء على الفساد؛ لأن مصر تمكنت بعد ذلك من العودة إلى نشاطها الخارجي, واستطاعت أن تحصل على انتصارات باهرة.
وقد حكم حور محب نحوًا من ثلاثين عامًا ولم يترك وريثًا للعرش، والظاهر أن رجال الجيش كانوا قد سيطروا على البلاد؛ لأننا نجد أن الذي يخلفه على العرش وهو رعمسيس الأول كان هو الآخر من قواد الجيش قبل أن يتولى الملك.
رعمسيس الأول:
كان هذا الملك من مدينة صان الحجر التي كانت مقرًّا لعباده الإله "ست" وكان قائدًا من قواد الجيش كما سبق أن أشرنا، وكذلك كان ولده الذي تلاه في الحكم من القواد أيضًا, وكان كل منهما يشغل مركز الوزير.
ومع أن حكم رعمسيس الأول لم يتجاوز العامين؛ إلا أنه امتاز بالنشاط في تشييد المباني وبالحزم في إدارة البلاد, وقد بنى معبدًا في بوهن, ويحتمل أن ذلك كان على إثر حملة قام بها إلى السودان في السنة الثانية من حكمه.
سيتي الأول:
كان سيتي عند موت أبيه قد تجاوز سن الشباب، وقد تقلد عدة وظائف في عهد حور محب كما أصبح ساعد والده الأيمن في أثناء حكمه؛ ولذا سار في سياسته على نهجه وأمر بإتمام ما لم يتمه من المباني وبإصلاح الآثار المخربة التي لم يتم إصلاحها. وقد حدثت ثورة في بداية عهده على حدود مصر الشرقية استطاع أن يخمدها ونقش تفاصيل انتصاراته على جدران معبد الكرنك؛ حيث بين فيها أنه هزم بدو سيناء وجنوب فلسطين، والظاهر أن بعض الولايات قد أصابتها عدوى الثورة بعد ذلك بتحريض من مملكة الحيثيين، وتجمعت جموع الثائرين في مدن مختلفة تمهيدًا للاجتماع في مكان سري يقومون منه بثورتهم الجماعية؛ إلا أن سيتي أحبط محاولتهم, إذ أرسل لكل مدينة فرقة من فرق الجيش وتم له النصر؛ فخضعت له فلسطين وفينيقيا وجنوب سورية، ثم حدثت ثورة في ليبيا أسرع بتأديبها على حدود مصر الغربية، ومن المرجح أن ذلك كان في السنة الثانية من حكمه.
والظاهر أن سيتي تكهن بأن الحالة ستظل سيئة في آسيا طالما استمرت دولة الحيثيين في دسائسها ضد مصر؛ ولذا سار للقاء الجيوش الحيثية ودارت بينه وبينهم معركة في شمال قادش عاد منها إلى مصر منتصرًا؛ ولكن يبدو أن هذا الانتصار لم يكن حاسمًا ولم يقضِ على قوة الحيثيين وإن كان قد أوقف مؤامراتهم ضد مصر في الولايات السورية.
وتشير النقوش التي نقشت على بعض آثاره إلى أنه أخضع نارهارينا "أي: أعالي الفرات" والمملكة الحيثية وألاسيا "قبرص"؛ ولكن يبدو أنه نقل هذه الأسماء من النقوش القديمة وخاصة تلك التي تبين انتصارات تحتمس الثالث وعلاقاته مع تلك الجهات. ويشير نص مؤرخ بالسنة الرابعة أو الثامنة إلى أنه قام بحملة إلى النوبة أخضع فيها بعض أجزائها ولكن يشك في ذلك أيضًا(20)، وحتى مع فرض قيامه بهذه الحملة إلى النوبة؛ فإنها كانت قليلة الأهمية بالنسبة لحملاته الأولى في آسيا, ولتلك التي وجهها ضد الليبيين.
ومن المحتمل أنه عقد معاهدة مع ملك الحيثيين احترم فيها كل فريق حدود الفريق الآخر, وساد السلام بينهما, وبذلك تمكن سيتي من التفرغ للإصلاحات الداخلية, فشيد الكثير من المباني(21) التي امتازت بالروعة وجمال النقوش وبعضها يعد من أجمل ما تركه الفراعنة من آثار، وقد اهتم سيتي باستغلال المناجم والمحاجر وخاصة مناجم الذهب، وإلى عهده ترجع أقدم وثيقة جغرافية في التاريخ؛ حيث توجد بردية في متحف تورين مبين عليها موقع منجم الذهب القريب من معبد الراديسية, وقد بينت في هذه الخريطة الطرق المختلفة وبعض المعلومات التي تساعد على التعرف على الطريق المؤدية إلى تلك المناجم، كذلك أمر سيتي بحفر كثير من الآبار في الصحراء لمساعدة المسافرين إلى مناطق استغلال المعادن والمحاجر.
هذا وقد حكم سيتي الأول سبعة عشر عامًا مات في أثنائها ولي عهده؛ ولذا اعتلى العرش من بعده ولده الثاني رعمسيس الثاني.
رعمسيس الثاني:
حظي رعمسيس الثاني بشهرة لم يحظ بمثلها أي فرعون آخر؛ نظرًا لأن حكمه الطويل -الذي بلغ نحوًا من 67عامًا- هيأ له الفرصة لتشييد عدد ضخم من المباني التي خلدت اسمه في التاريخ.
وفي أول عهده أمر بإتمام المباني التي كان والده قد بدأها، ومن أهم هذه معبد أبيدوس الذي نقشت به لوحة الأجداد ومعبد القرنة(22), كذلك أقام بعض المباني المختلفة مثل الرامسيوم ومعبده في الأقصر فضلًا عما شيده في الكرنك وفي جهات أخرى من مصر والنوبة, كما نجح في حفر بئر في الطريق المؤدية إلى مناجم الذهب بالنوبة.
ومن المحتمل أن مملكة الحيثيين عملت على نقض المعاهدة التي سبق أن أبرمتها مع مصر في عهد والده, حيث أخذت هذه المملكة في تشجيع أمراء سورية على الثورة؛ مما جعل رعمسيس الثاني يذهب إلى آسيا في السنة الرابعة(23) من حكمه ويوطد مركزه هناك ويطمئن على خطوط مواصلاته وعلى حاميات الموانئ, ثم رجع مصر؛ حيث أخذ يعد العدة لمقابلة الجيوش الحيثية التي توقع الاصطدام بها في سورية. وبالمثل أخد ماتيلا -ملك الحيثيين- يستعد لملاقاته فضم إلى قواته كثيرًا من قوات أمراء وملوك المنطقة, الذين أرادوا التخلص من سلطان مصر، كما استعان بكثير من الجنود المرتزقة, وجمع كل هذه القوات في قادش استعدادًا للقاء رعمسيس الثاني الذي استعان هو الآخر بالجنود المرتزقة، وتقدم في السنة الخامسة من عهده نحو عدوه وكان يجهل الموقع الذي تجمعت فيه الجنود الآسيوية؛ فلما وصل إلى وادي نهر العاصي قبض رجاله على جاسوسين زعما أن ملك الحيثيين قد تقهقر بجيوشه نحو حلب, وكان جيش رعمسيس الثاني مقسمًا إلى أربع فرق يقود إحداها بنفسه؛ فلما علم رعمسيس بما زعمه الجاسوسان أسرع في تقدمه خلف عدوه إلى الموقع المزعوم دون أن ينتظر أن تلحق به بقية الفرق؛ فلما عبر نهر الأورنت "العاصي" عسكر بجيشه أمام قادش بينما كان ملك الحيثيين وحلفاؤه يختفون وراء التلال المجاورة لها, وسرعان ما علم هؤلاء بوصول رعمسيس الثاني فقاموا بحركة التفاف حول المدينة إلى الجهة الأخرى من النهر، وما إن أخذت الفرقة الثانية من فرق الجيش المصري في عبور النهر إلا وعبر من خلفها هؤلاء المتحالفون وهاجموها على غرة؛ فأصاب الذعر رجالها وجعلوا يفرون إلى المعسكر المصري طلبًا للنجاة وتتبعهم رجال الحيثيين؛ حيث أذهلت المفاجأة رجال الفرقة المصرية المعسكرة التي كان يقودها رعمسيس بنفسه، ولم يجد رعمسيس بدًّا من الاندفاع في الهجوم بفلول فرقتيه دفاعًا عن نفسه، ومع أن كثيرًا من رجال الفرقتين تخلوا عن الدفاع عنه إلا أن البقية الباقية التفت حوله كحرس خاص حينما شاهدوا شجاعته الفائقة وثبتت قلوبهم والتحموا مع العدو، وفي تلك الأثناء وصلت نجدة من شباب فلسطين المجندين تحت إمرة بعض الضباط المصريين, وبذلك أنقذ الملك ورجاله من كارثة محققة وخاصة لأن جيوش المتحالفين كانت قد أخذت في الانشغال عن القتال الصحيح, واتجهت للسلب والنهب في معسكر المصريين.
ومع أن القتال انتهى في ذلك اليوم بنجاة الفرعون ورجاله إلا أن النصر لم يكن حاسمًا لأي من الفريقين, وقد وصلت الفرقتان الأخيرتان من جيش رعمسيس بعدئذٍ إلى ميدان المعركة وتحفز الجميع لمعركة فاصلة في اليوم التالي؛ ولكن ملك الحيثيين عرض الصلح واتفق الطرفان على عقد معاهدة يحترم فيها كل منهما حدود الآخر, ولا يتدخل في شئون رعاياه.
وقد عاد رعمسيس بجيوشه إلى مصر ولم يستول على قادش كما كان يأمل، أي أن الإمبراطورية المصرية أصبحت قاصرة على فلسطين ولبنان والجزء الجنوبي من سورية وبعض الموانئ، ومع ذلك قصيدة نقشت على كثير من آثاره وهي تصف معركة قادش وشجاعة رعمسيس فقد أذاع في طول البلاد وعرضها بأنه انتصر على أعدائه وأباد منهم عشرات الألوف, ووضعت في قتاله وحيدًا ضد جيش المتحالفين وانتصاره عليهم بفضل مساعدة الإله آمون له. ويجب ألا يغيب عن الذهن أن ادعاء رعمسيس الثاني الانتصار يتنافى مع الواقع، ومن المعقول أنه إذا كان هناك انتصار مصري على الإطلاق؛ فإنما يتمثل ذلك في نجاة الملك فحسب, ومما يؤيد ذلك أن المصادر الحيثية تشير -على العكس من ذلك- إلى انتصار خاتوسيل "ملك الحيثيين" وإلى هزيمة المصريين, ولا شك في أن شواهد الأحوال تدل على أن المصادر الحيثية أصدق من المصادر المصرية فيما يختص بهذه الموقعة, وخاصة لأن الحيثيين كانوا يحاولون السيطرة على مملكة الأموريين؛ ولكن ملكها بنتشينا وقف إلى جانب مصر ولم يخضع لتهديد الحيثيين وحلفائهم؛ فلما نشبت المعركة اختفى اسم بنتشينا كملك على الأموريين وحل محله سابيلي الذي اعترف بسيادة الحيثيين, وهذا يؤكد أن النصر كان حليفهم.
ولا بد أن هذه المعركة كانت ذات أثر كبير؛ لأنها هزت النفوذ المصري في آسيا هزًّا عنيفًا؛ فلم يكد يمضي عامان حتى كانت فلسطين قد ثارت على مصر, وامتدت الثورة حتى وصلت الحدود المصرية نفسها؛ فسارع رعمسيس إلى إخماد الثورة وأخضع فلسطين كلها من جديد, كما أخضع بلاد الأموريين لسلطانه واستولى على حصن دابور وعلى مدينة تونيب وامتد سلطان مصر إلى فينيقيا، وربما فرض رعمسيس سيادته كذلك على جزر البحر المتوسط حيث أشار إليها على جدران معبد الرامسيوم ضمن البلاد التي أخضعها, وإن كان يبدو أنه تغالى كثيرًا؛ إذ دون أسماء بعض الأقطار التي يحتمل أنها خطبت وده بالهدايا, على أنها أصبحت خاضعة له.
وقد استقرت الأمور في آسيا بعض الوقت؛ ولكن حدث أن نشب نزاع عائلي على العرش في البيت المالك الحيثي, وكان هذا النزاع حافزًا لرعمسيس على التدخل لمصلحة أحد المتنازعين؛ ولكن منافسه فاز بالعرش, وفي نفس الوقت أخذت مملكة آشور تظهر على مسرح السياسة الدولية في هذا الجزء من آسيا, وبدأت تبسط سلطانها على مسرح السياسة الدولية في هذا الجزء من آسيا, وبدأت تبسط سلطانها على ما جاورها؛ وعندئذٍ رأى خاتوسيل "الملك الحيثي الذي تمكن من الوصول إلى العرش" أن يكتسب صداقة مصر حتى يتفرغ للصراع ضد آشور؛ فعقد معاهدة صلح مع رعمسيس الثاني في السنة الحادية والعشرين من حكم هذا الأخير، وقد كتبت هذه المعاهدة على لوح من الفضة بالخط المسماري، وترجمت إلى اللغة المصرية في نسختين وجدت إحداهما بالكرنك والثانية بالرامسيوم، كما عثر على الأصل الحيثي في بوغاز كوى، وهي تنص على تأكيد الصداقة بين مصر وخيتا وألا تعتدي إحداهما على الأخرى وأن تسلمها المجرمين الفارين من بلادها, واستشهدت كل من المملكتين على التمسك بنصوص هذه المعاهدة بآلهة بلادها العظمى، وقد ظلت تلك المعاهدة قائمة يحترمها الجانبان وزاد من توثيقها فيما بعد أن رعمسيس تزوج في السنة الرابعة والثلاثين من حكمه بابنة ملك الحيثيين التي جاءت إلى مصر في حاشية ضخمة من الوصيفات الآسيويات، وانتهز والدها والكثيرون من رجاله فرصة هذه المناسبة وقدموا لزيارة مصر, وبذلك حل السلام بين البلدين إلا أنهما تعرضا لمتاعب أخرى فيما بعد حيث نشب النزاع العائلي من جديد في البيت المالك الحيثي, ثم انهارت دولتهم أمام ضغط عناصر هندو أوروبية تدفقت من أواسط آسيا في عربات ضخمة تجرها الثيران، وقد توفي رعمسيس الثاني قبل أن تهدد هذه العناصر مصر تهديدًا مباشرًا؛ فكان الدفاع عنها من نصيب ولي عهده مرنبتاح, على أن خطرها على مصر لم ينتهِ بعد ذلك تمامًا بل تجدد في عهد رعمسيس الثالث الذي تمكن من كفاحهم ودحرهم.
ومما تجدر ملاحظته أن رعمسيس الثاني مات بعد أن بلغ من العمر أكثر من تسعين عامًا، ولما كان مولعًا بتخليد أعماله؛ فقد أتاح له حكمه الطويل فرصة تشييد عدد من الآثار المعمارية يفوق ما شيده أي فرعون آخر, وكان بعض المؤرخين يرى أنه لم يكن صاحب الفضل في إقامة كل هذه العمائر؛ إلا أننا نلاحظ أنه رغم اغتصابه لآثار بعض من سبقه من الملوك، قد أقام من الآثار عددًا أكبر مما أقامه أي فرعون آخر, وكان نشاطه في ذلك لا يقف عند حد؛ فلا نكاد نجد منطقة أثرية في مصر دون أن يرد فيها اسمه كما أنه أكثر الملوك نشاطًا في إقامة المعابد في النوبة, التي تميزت في معظمها بالموقع الفريد وروعة التصميم وتتجلى عظمتها بصفة خاصة في معبدي "أبو سمبل".
والظاهر أن كثرة مشاغله في آسيا قد جعلته يؤمن بأن طيبة كعاصمة ذات موقع لا يتناسب مع الظروف الدولية القائمة فهي شاسعة البعد عن مجريات الأحداث العالمية؛ ولذا أنشأ عاصمة جديدة في شرق الدلتا أطلق عليها اسم "بررعمسيس" وما زال المؤرخون مختلفين في تحديد موقعها على وجه الدقة، كذلك نجد أنه أنشأ مدينة عسكرية في هربيط أدخل فيها عبادة شخصه وهو حي.
وكان رعمسيس الثاني مزواجًا تزوج بالكثيرات, ومنهن بعض بناته وقد أنجب كثيرًا من الذكور والإناث لم يجمع المؤرخون على عددهم، وقد مات كثير من أبنائه الذكور أثناء حياته ومنهم أكبر أبنائه؛ فلم يخلفه على العرش إلا ولده الخامس عشر وهو مرنبتاح الذي كان -مع ذلك- يقرب من الستين من عمره حينما تولى العرش.
ولا شك في أن رعمسيس الثاني يعد مسئولًا إلى حد كبير عن كثير من عوامل الضعف التي انتابت البلاد وكانت لها آثارها فيما بعد؛ فتورطه في الاستعانة بالجنود المرتزقة الأجانب كان ذا أثر بعيد؛ إذ إن خلفاءه تغالوا في استخدامهم فضعفت الروح العسكرية لدى المصريين, حتى إن فرقة من الجيش المصري في نهاية الدولة الحديثة كانت لا تضم سوى خمسمائة من المصريين من مجموع أفرادها الذين يبلغون الألفين, في حين أن بقية أفرادها كانوا من الليبيين والنوبيين ومن شعوب البحر المتوسط, وقد زاد زواجه بابنة ملك الحيثيين التي جاءت إلى مصر في حاشية ضخمة من امتزاج الدماء المصرية بالدماء الآسيوية وخاصة في القصر الملكي بين كبار رجالات الدولة وأضعف الروح المصرية الخالصة، كذلك كان لتشييده عاصمة جديدة في الدلتا -مع بقاء طيبة متمتعة بالسيادة الدينية كمقر للإله الرسمي في الإمبراطورية- أثره في ابتعاد السلطة الدينية عن الإشراف الفعلي للسلطة الزمنية؛ مما أتاح الفرصة للكهنة كي يستغلوا نفوذهم بعيدين عن الرقابة الإدارية، كما كان في قرب بررعمسيس -العاصمة السياسية- من مواطن الصراع في الشرق الأدنى "مع ظهور قوة فتية في غربي آسيا" تهديد دائم لأمن الدولة وسلامتها، ومما زاد الحالة سوءًا شدة ولع رعمسيس الثاني بإقامة المباني الضخمة ومغالاته في الإكثار منها؛ حيث أدى هذا إلى إنهاك موارد الدولة واستنفادها، وفوق ذلك كله كان امتداد أجل رعمسيس الثاني نفسه إلى أن أصبح شخصًا مسنًّا للغابة سببًا في عجزه عن القيام بأعباء دولته على الوجه الأكمل؛ ولذا يمكن أن يقال: إن رعمسيس الثاني ترك لخلفائه إمبراطورية قد أصابها الوهن وأصبحت في طريقها إلى الانهيار.
مرنبتاح:
سبق أن ذكرنا أن مرنبتاح كان يقرب من الستين من عمره حينما اعتلى العرش ومع هذا فقد كان ملكًا عالي الهمة, لم تحل شيخوخته دون قيامه بجهود مشكورة في سبل المحافظة على إمبراطوريته؛ فلما قامت ثورة في آسيا في السنة الثالثة من حكمه لم يتوانَ في إخمادها وسجل ذلك على لوحة ورد بها اسم إسرائيل لأول مرة؛ مما دعا إلى الزعم بأنه هو الفرعون المقصود في قصة موسى الواردة في الكتب السماوية, ولكن لا يمكن تأييد هذا الزعم لعدم وجود وثائق تاريخية كافية لتأكيده(24), وسواء قام بإخماد هذه الثورة بنفسه أو أرسل أحد قواده فإن اهتمامه بالقضاء عليها يدلنا على أنه لم يشأ التهاون في حق مصر أو التفريط فيه.
وقد أنقذ مرنبتاح مصر من الهجوم الشامل الذي شنه عليها الليبيون وحلفاؤهم في السنة الخامسة من حكمه، وكان الهجوم على ما يبدو نتيجةً لهجرات بعض الشعوب الهندو أوروبية التي تجمعت على ساحل إفريقيا الشمالي، ثم اتجهت مع القبائل الليبية إلى أن وصلوا إلى منطقة في غرب الدلتا وتوغلوا فيها حتى اقتربوا من كفر الزيات؛ إلا أن مرنبتاح تمكن من هزيمتهم هزيمة ساحقة حتى فروا على أثرها, ووقع منهم آلاف الأسرى في أيدي المصريين، والظاهر أن فلول الليبيين اتجهت نحو الجنوب بغية الوصول إلى وادي النيل في منطقة النوبة؛ ولكن المصريين استطاعوا أن يردوهم كذلك.
ولم يطل حكم مرنبتاح أكثر من ثماني سنوات مات بعدها, وترك العرش فريسة للاختلافات العائلية التي نشبت بسبب كثرة عدد الأمراء الذين أنجبهم رعمسيس الثاني، وقد أدى هذا إلى اغتصاب البعض للعرش ولم يحدث في عهدهم ما يستحق الذكر سوى أن أحدهم وهو مرنبتاح سابتاح ذهب في حملة إلى النوبة لتثبيت حاكمها في منصبه عندما قامت هناك ثورة ضده، ومن هذا نستنتج أن النوبة ظلت على صلتها بمصر, وأنها كانت من الأهمية؛ بحيث انتقل إليها الفرعون بنفسه لكي يثبت حاكمها في منصبه، كما يدل ذلك من جهة أخرى على أن الحكم المصري لم يكن ليقابل فيها دائمًا بالرضا؛ وإنما كان أحيانًا يجد معارضة شديدة إما من النوبيين أنفسهم أو من رجال الإدارة المصريين الذين كان يرأسهم ذلك الحاكم.
وأواخر عهد هذه الأسرة يمثل فترة غامضة لا نعلم عنها إلا أسماء بعض الملوك ومدة حكم كل منهم, ومنها نتبين أن غالبيتهم لم يحكموا سوى فترة قصيرة جدًّا وما زال ترتيب حكمهم مشكوكًا فيه، بل ولا نعرف كذلك كيف انتهت هذه الأسرة؛ وإنما يبدو أن الفساد قد عم أنحاء البلاد وتفاقمت الحالة بسبب وجود عدد كبير من المرتزقة الذين كانوا يتقاضون أجورا باهظة ويتطلعون دائمًا إلى الاشتراك في الحروب جريًا وراء الأسلاب والغنائم، ولما فقدت مصر مستعمراتها في آسيا نقصت إيراداتها وعجزت عن إرضائهم, وخاصة بعد أن زال خطر غزو مصر وهدأت الحالة على الحدود؛ فلم تجد الدولة بدًّا من أن تقطع بعض هؤلاء المرتزقة شيئًا من الإقطاعيات، وتركت الباقين وشأنهم؛ حيث أخذوا يعيثون في الأرض فسادًا باغتصاب ما وقع تحت أيديهم من أموال وممتلكات ونشروا الذعر بين الناس، ولم تنتهِ الأسرة التاسعة عشرة؛ إلا وكانت الثورة قد نشبت في طول البلاد وعرضها, وتمكن شخص من أصل سوري يدعى "إرسو" من أن يعتلي العرش(25) واستبدَّ بالبلاد كما تشير إلى ذاك بردية "هاريس" التي تصف على لسان رعمسيس الثالث "ثاني ملوك الأسرة العشرين" سوء حالة البلاد, وتبين أن والده "ست نخت" تمكن من اعتلاء العرش بعد أن طرد الغاصب السوري ونجح في إعادة الاستقرار وبدأ عهدًا جديدًا؛ حيث أصلح الإدارة الحكومية وأعاد تنظيم الجيش(26)؛ ولذا يعد "ست نخت" في نظر المحدثين من المؤرخين مؤسس الأسرة العشرين.
الأسرة العشرون:
ست نخت:
أحدث سوء الحالة في نهاية عهد الأسرة السابقة واغتصاب "إرسو" السوري للعرش استياءً عامًّا, وخاصة لانتشار المرتزقة من الأجانب والتدهور الاقتصادي الذي منيت به البلاد، ولا بد أن رجال الدين تعرضوا للمتاعب ولم يأمنوا على أملاكهم ونفوذهم؛ فساهموا بنصيب وافر في تمكين "ست نخت" من اعتلاء
العرش وطرد الغاصب، كما يفهم ذلك من بردية هاريس المشار إليها فيما سبق وإن لم تذكر ذلك صراحة.
وبالرغم من أن "ست نخت" بدأ عهدًا جديدًا؛ فإن مانيثون لا يعتبره مؤسس الأسرة العشرين بل يعتبر أن ولده "رعمسيس الثالث" هو المؤسس لها. ومهما كان الأمر فإن "ست نخت" قد أعاد الاستقرار للبلاد بإصلاح الإدارة الحكومية وتنظيم الجيش؛ وبذلك هيأ البلاد لأن تدافع عن نفسها ضد أعدائها وجيرانها الأقوياء الذين كانوا يتربصون بها ويطمعون فيها، وربما كان بعض الغزاة الآسيويين قد تمكنوا من الاستيلاء على الدلتا في عهد "إرسو" فتمكن "ست نخت" من إجلائهم عنها، ومع أنه لم يحكم أكثر من عامين؛ إلا أن حكمه كان بعيد الأثر في الإبقاء على كيان الدولة وتأجيل انهيارها، وقد أشرك معه في الحكم ولده وولي عهده رعمسيس الثالث الذي كان يدير وينفذ الإصلاحات المطلوبة, وبذلك تعود إدارة شئون البلاد وتجلت كفاءته عند اعتلائه العرش.
رعمسيس الثالث:
ما إن تولى العرش بعد وفاة والده حتى وجد أن الأخطار تحيق بالبلاد من كل جانب؛ فعمل على تقوية جيشه سريعًا بإدخال فرق من المرتزقة من العناصر الليبية والسردينية؛ إذ إن الآسيويين كانوا يهددون الحدود الشمالية الشرقية, والليبيين الذين سبق أن هزمهم مرنبتاح كانوا يتحينون الفرص للإغارة على مصر والاستيطان في وادي النيل.
وهكذا كان على رعمسيس الثالث أن يواجه أخطارًا في الشرق والغرب ومع ذلك فقد استطاع في أوائل عهده أن يخمد ثورة في آمور، وفي السنة الخامسة من حكمه استطاع أن يصد هجومًا كبيرًا شنه الليبيون على مصر وكان يعاونهم فيه حلفاؤهم من شعوب البحر، وقد هزمهم رعمسيس الثالث على حدود الدلتا الغربية, وأسر منهم عددًا كبيرًا من الأسرى.
وفي السنة الثامنة من عهده كانت الشعوب الهندو أوروبية التي تمكنت من إسقاط دولة الحيثيين(27)، واجتاحت آسيا الصغرى قد أصبحت عظيمة الخطر على مصر؛ لأن موجة كبيرة من هجرتهم أخذت تتجه بطريق البر نحو منطقة شرق البحر المتوسط وتؤيدها في نفس الوقت سفنها الحربية؛ فاستعد رعمسيس الثالث لدفع خطرهم وجمع أسطولًا كبيرًا ثم تقدم بجيشه في البر والبحر لملاقاتهم قبل أن يصلوا إلى مصر، وحدثت بين الفريقين معركة فاصلة هزمهم فيها برًّا وبحرًا، ولا نعرف مكان حدوث المعركة؛ ولكن تفصيلاتها منقوشة على جدران معبد مدينة هايو الذي شيده في البر الغربي لطيبة.
والظاهر أن هذه المعركة قد قضت على قوة شعوب البحر في آسيا قضاء تامًا وكانت سببًا في نجاة مصر وغربي آسيا من خطرهم؛ ولكن خطرًا جديدًا تهدد مصر مرة أخرى من ناحية الغرب؛ حيث إن الليبيين تحالفوا مع شعوب البحر وكرروا هجومهم عليها في السنة الحادية عشرة من عهد رعمسيس الثالث؛ إلا أنه تمكن من هزيمتهم على حدود الدلتا، وحينما ارتدوا إلى الصحراء تعقبهم مسافة قصيرة وأفنى منهم عددًا كبيرًا وأسر الكثيرين من بينهم قائدهم نفسه، وهكذا استطاع أن يتخلص من الخطر في الشرق والغرب على السواء.
ومن المرجح أنه لم يمانع بعد ذلك في هجرة الليبيين إلى مصر؛ فدخلوها مسالمين؛ حيث استقروا في بعض جهاتها وخاصة في الجهات القريبة من موطنهم الأصلي, وانخرط الكثيرون منهم في سلك الجندية كجنود مرتزقة، وكان هؤلاء الليبيون يتحلون بريشة فوق الرأس, وعرفوا باسم "الماشواش" وكان هذا الاسم يختصر أحيانًا إلى كلمة "الما" فقط.
ولما اطمأن رعمسيس الثالث إلى زوال الخطر أراد أن يعيد إلى مصر ممتلكاتها في آسيا؛ فاتجه إليها على رأس جيشه حيث قام بحملة موفقة يغلب على الظن أنه وصل فيها إلى أعالي الفرات، وقد دونت في نقوش هذه الحملة بعض التفصيلات؛ ولكننا نشك كثيرًا في قائمة البلاد التي ذكر بأنه أخضعها؛ إذ يرجح أنه نقل معظمها عن مصادر قديمة، ومع هذا فمما لا شك فيه أنه نجح في إعادة جزء كبير من أملاك مصر السابقة، ويكفي أن الأمن قد استتب في عهده واستقر له الأمر إلى أن مات بعد أن قضى في الحكم أكثر من ثلاثين عامًا لم يصادف خلالها ما يعكر الصفو بعد الحروب والحملات التي أشرنا إليها إلا ثورة صغيرة قام بها بدو منطقة صير, ولكنها أخمدت بسهولة.
سقوط الإمبراطورية:
حاول رعمسيس الثالث أن يتشبه بسلفه العظيم رعمسيس الثاني في كل الأمور؛ ولكنه ارتكب خطأ كبيرًا؛ إذ منح كهنة آمون ومعابده كثيرًا من الثروات الضخمة حتى أصبح الإله آمون رع يملك مناجم الذهب في النوبة وتسعًا من المدن في سورية ونحو العشر من مجموع مساحة الأراضي المزروعة, فضلًا عن الأرقاء والماشية والحدائق مما جعل كهنة هذه الإله هم أصحاب النفوذ الفعلي في البلاد. ولم يتوانَ هؤلاء في استغلال الفرصة, بل تغالوا في إظهار قوة آمون ونسبوا إليه القدرة على حل المعضلات حتى أصبح الملوك وكبار الشخصيات يستلهمون وحيه في معظم شئون الدولة, ويأخذون بما يشير به في تعيين الموظفين ومعاقبة المذنبين، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل استلهموا وحيه كذلك في شئونهم الشخصية؛ ولهذا أصبحت طوائف الكهنة تستغل سذاجة العامة استغلالًا فاحشًا فتدهورت النواحي الأخلاقية والاجتماعية. هذا وقد جمع رعمسيس الثالث حوله عددًا من الأجانب وخاصة من الفتيات الجميلات والمستشارين الذين تقلدوا أرقى المناصب وتحكموا في شئون القصر والبلاط؛ فأخذوا ينافسون الكهنة في الاستثارة بالسلطة, وأوحوا إلى الفرعون بالإكثار من الجنود المرتزقة؛ مما أرهق الميزانية حتى عجز القصر عن دفع مرتبات عمال المقابر في طيبة، ولم يجد هؤلاء بدًّا من الإضراب عن العمل, وكان الكثيرون من الفقراء يتهالكون جوعًا؛ بينما كانت أكداس الحبوب والذهب تتجمع في مخازن آمون, ولم يرحم رجال الدين هؤلاء الفقراء أو يمدوا لهم يد العون, ومع ذلك فقد ظل رعمسيس الثالث لاهيًا عن شئون الدولة, منغمسًا في ملذاته ولا يدري شيئا عما يجري من حوله؛ حتى قامت في الدلتا ثورة أخرى ضده كانت أتريب "قرب بنها الحالية" مركزها، ومع أن هذه الثورة لم تنجح إلا أن الأحوال الداخلية في القصر توحي بضرورة التخلص من الملك؛ ولذا نجد إحدى زوجاته تنجح في نهاية عهده في الحصول على تأييد بعض موظفي القصر لتدبير مؤامرة لقتل الملك كي تتاح لها الفرصة لإعلان ابنها ملكًا على مصر(28)؛ ولكن هذه المؤامرة لم تنته بالقضاء على الملك واكتشف أمر الجناة الذين أحيلوا إلى المحاكمة أمام هيئة مكونة من أربعة عشر عضوًا من بينهم أربعة من الأجانب، ومما يدل على انتشار الفساد في البلاد وتفشي الانحلال أن بعض النساء وبعض الضباط استطاعوا إغراء ثلاثة من القضاة لكي يؤثروا في سير التحقيق؛ ولكن هذا الأمر اكتشف كذلك وقدم هؤلاء الثلاثة إلى المحاكمة فبرئ أحدهم وانتحر الثاني, أما الثالث فقد حكم عليه هو ورجال الشرطة بجدع الأنف وصلم الأذنين. ومع أن خاتمة رعمسيس الثالث لم تكن مشرفة إلا أنه لا شك في أنه أنقذ البلاد -بل وأنقذ بلادًا أخرى كذلك- من خطر العناصر الهندو أوروبية التي كانت تقضي على مدنيات البلاد التي تجتاحها، وقد ظل نشيطًا عاليَ الهمة في الجزء الأكبر من حياته وأعاد لمصر شيئًا من مجدها السابق, ولم يخلد إلى حياة اللهو والكسل إلا في أواخر عهده, بل يمكن القول بأن مجد الإمبراطورية المصرية انتهى بعد وفاته ولم تقم لها قائمة بعد ذلك إلا لفترة قصيرة في عهد الأسرة السادسة والعشرين.
وتوالى من بعده ملوك ضعاف لم يحكموا إلا نحو خمسة وسبعين عامًا انتهى بعدها حكم الأسرة العشرين، وفي خلال تلك الفترة الأخيرة من حكم هذه الأسرة ظلت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ وأخذ سلطان الملوك يتضاءل "ابتداء من عهد رعمسيس الرابع إلى عهد رعمسيس الحادي عشر آخر ملوك الأسرة"؛ حتى أصبحوا ألعوبة في يد كهنة آمون الذين استطاعوا أن يستأثروا بالسلطة. أما نفوذ مصر خارج حدودها فقد أخذ يزول تدريجيًّا إلى أن صار قاصرًا على بلاد النوبة فقط، ومع كل فإن هذه لم تستمر على اتصالها بمصر طويلًا؛ بل انفصلت بعدئذٍ وتكونت فيها مملكة مستقلة.
وقد كثرت في عهد خلفاء رعمسيس الثالث حوادث السرقة والرشوة، ولم يكن لأحد منهم نشاط يذكر، وإن كنا نعرف أن رعمسيس السادس ترك نقوشًا على كثير من الآثار في مصر والسودان, وأن كثيرًا من مقابر الفراعنة قد سرقت واكتشف أمر سرقتها في عهد رعمسيس التاسع وبدأ التحقيق مع اللصوص, ولكن يظهر أن تلك السرقات كانت مستمرة من عهود سابقة، كما يبدو أن الجناة كانوا يطمئنون إلى الموظفين الذين يكشفون أمثال تلك السرقات على أساس إرضائهم بالرشوة, مما يدل على تدهور الحياة الاجتماعية وانحلال الأخلاق عامة, ولما لم يستطع ولاة الأمور القضاء على حوادث السرقة أمر الملوك بنقل مومياوات أسلافهم خفية من مكان إلى آخر خشية تكرار سرقتها، ومن التحقيقات التي أجريت عن سرقة المقابر في عهد رعمسيس التاسع يتبين لنا أن العداء الشخصي بين رئيس البوليس في طيبة الشرقية وبين محافظ الجبانة "أي: محافظ طيبة الغربية" كان سببًا في اتهام بعض الأبرياء وتبرئة المجرمين, ومن هذا يبدو أن التأثير على المحققين كان أمرًا شائعًا.
وما أن تراخت قبضة الملوك حتى استفحل شر أمراء الأقاليم, وأصبح كهنة آمون أصحاب النفوذ الفعلي في مصر العليا، وما لبثت أسرة قوية في الدلتا أن زادت من نفوذها منذ عهد رعمسيس التاسع ثم حدثت ثورة لم يمكن إخمادها إلا بعد أن جاء "بانحسي" حاكم النوبة وقضى عليها؛ إلا أن الثورة تجددت في عهد رعمسيس الحادي عشر(29) الذي لم يجد بدًّا من الفرار إلى طيبة؛ حيث استقبله "حريحور" كبير كهنة آمون استقبالًا حسنًا, وبذلك خلا الجو في الدلتا أمام الأسرة القوية التي ظهرت فيها وتمتعت بسلطة فاقت سلطة الملك الشرعي؛ حتى تمكن أحد أفرادها ويدعى "نسوبانبدد" أو "سمندس" من اغتصاب العرش وتكوين أسرة جديدة.
ومما سبق نستطيع أن نتبين سرعة تدهور الأحوال في مصر؛ فبينما نجد أحد ملوك الأسرة التاسعة عشرة يذهب لتهدئة الأحوال في النوبة وتثبيت حاكمها في منصبه, نجد أن حاكم النوبة "بانحسي" يأتي في الأسرة العشرين للقضاء على الثورة التي قامت ضد الملك رعمسيس التاسع ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد فقد اضطر آخر ملوك هذه الأسرة -رعمسيس الحادي عشر- إلى الفرار من مقر مملكته في الشمال والالتجاء إلى كبير الكهنة في طيبة.
__________
(1) Urk.IV, pp. I ff & 36 ff.
(2) Breasted, AR II, - 29; Urk. IV 14-24.
(3) انظر هامش ص158.
(4) JEA 36, PP. 36-8.
(5) Breasted, A R II, 90-98.
(6) أي: تماثيل بهيئة الإله أوزير الذي اعتقد الفراعنة أنه إله الموتى الحاكم في العالم الآخر, وكانوا يمثلونه بهيئة إنسان ملتف بالأكفان ويمسك صولجانًا في إحدى يديه وسوطًا في يده الأخرى, وقد يقبض على عصا الراعي بالإضافة إلى ذلك.
(7) والدة تحتمس الثاني كانت ملكة أقل أهمية من الملكة الشرعية, وكانت تدعى موت نفرت، أما والدة تحتمس الثالث؛ فكانت محظية لتحتمس الثاني وتدعى إيزيس، انظر
Sir A. Gardiner, "Egypt of the Pharaoahs", pp, 180-181.
(8) انظر ص162.
(9) عن حملات تحتمس الثالث جميعها، انظر:
Urk. IV, pp. 647 ff, Breasted, A R II, 408 ff.
(10) Urk. IV, p. 690: Breasted, A R. III 467; T. Sâve Soederbergh, Aegypten & Nubien, "Lund 1941", pp. 185, 228- & 231.
(11) خامس ملوك الأسرة الثانية عشرة, انظر أعلاه ص143-144.
(12) انظر أعلاه ص90.
(13) ASA. XLII "1943", pp, 1-13.
(14) ما زال أمر وصول أمنحتب الثالث إلى العطيرة مشكوك فيه, قارن
T, Save Soderbergh, op. cit., pp. 160 ff & 'Breasted, AN R II, 846.
(15) JEA XIV; pp. 3-9.
(6) اكتشفت هذه المقبرة في نوفمبر سنة 1922، انظر:
H, Carter, "The Tomb of Tut - Ankh - Amen" "London 1923-33".
(17) لا شك في أن الأساليب التي اتبعت في عبادة "آتون" كانت لا تصادف هوًى في نفس المصري القديم, الذي تعود أن يرى صورة مجسمة للإله في هيئة إنسانية أو حيوانية, كذلك كانت معابد آتون مكشوفة وتقام الطقوس فيها أمام الملأ ولا يكتنفها الغموض ولا الإبهام الذي يحيط عبادة الآلهة الأخرى التي كانت معابدها في أجزاء منها على الأقل بعيدة عن رؤية العامة؛ مما يبعث في نفوسهم الرهبة وينسبون إليها الأسرار العميقة؛ ولذا كان من المتوقع أن تختفي ديانة آتون ويعود المصريون إلى الديانة التي ألفوها وهي ديانة آمون.
(18) ظن بعض المؤرخين أن هذه الأميرة هي نفرتيتي زوجة إخناتون, ولكن أصبح من المرجح الآن أنها زوجة توت عنخ آمون "عنخ - س - إن - آمون" انظر:
O, R Gurney, "The Hittites", "Pelican a 259", PP, 31-2.
(19) يرى البعض أنه كان أخًا غير شقيق للملكة "تي", انظر: "JEA 43, P. 35".
(20) JEA. 25, p. 142.
(21) من هذه مقبرته ومعبده في البر الغربي للأقصر ومعبد أبيدوس وغيرها.
(22) هو المعبد الجنزي الذي بناه على الضفة الغربية للنيل أمام الأقصر.
(23) يشير رعمسيس الثاني في لوحة عثر عليها في أسوان إلى أنه في السنة الثانية من حكمه قضى على الآسيويين والحيثيين وبابل وأجانب الشمال التمحو والنوبيين؛ ولكن يبدو أنه لم يقم في هذه السنة بأي حملة إلا إلى النوبة فقط انظر: "Breasted, A R III, 45, 478-479".
(24) ما زالت الاختلافات كبيرة بين المؤرخين بشأن تاريخ خروج الإسرائيليين من مصر؛ فبعضهم يرى أنه تم في عهد الهكسوس, وبعضهم يرى أنه تم في عهد الأسرة الثامنة عشرة، وحتى في هذا يختلفون؛ فمنهم من يعتقد أنه حدث في عهد تحتمس الثالث، ومنهم من يظن أنهم أخرجوا من مصر في عهد أمنحتب الثاني أو الثالث، ومنهم من يرى أنهم خرجوا على إثر ثورة إخناتون الدينية، كما أن منهم من يرى أنهم خرجوا في عهد مرنبتاح؛ حيث يرجح أنهم أخذوا يتذمرون في أواخر عهد رعمسيس الثاني "فرعون في الكتاب المقدس"؛ لأنهم كانوا طائفة لا تميل إلى الأعمال الشاقة التي تطلبتها مبانيه العديدة, وسخر لها العديد من أفراد الشعب ولم يستثنهم من ذلك, كما أنهم لم ينجحوا في الخروج من مصر إلا في عهد مرنبتاح كما أشرنا.
(25) يحتمل أنه كان رئيسًا للديوان في أواخر عصر الأسرة 19 وكان اسمه "باي" ثم غير اسمه بعد اعتلائه للعرش إلى "إرسو"، وقد أجبر الملكة "تاوسرت" على قبول اعتلاء ابنها الصغير "سبتاح" على العرش تحت وصايتها بدلًا من انفرادها بالحكم, ثم اغتصب العرش لنفسه بعد ذلك، انظر: JEA 44, pp 12 ff.
(26) Breasted, A R IV, 397 ff.
(27) انظر ص191.
(28) Breasted, A R IV, 416 ff; JEA 33, pp. 152 ff & 24 qq. 8-9.
(29) انظر ص194.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
خدمات متعددة يقدمها قسم الشؤون الخدمية للزائرين
|
|
|