أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-05-2015
1876
التاريخ: 16-10-2014
1608
التاريخ: 6-03-2015
2034
التاريخ: 13-10-2014
6067
|
الذي هابه اهل الظاهر ، وزعموا من التكلم في معاني القرآن تفسيرا بالراي ، فيجب الاحتراز منه ، فهو مما اشتبه عليهم امره ، ولم يمعنوا النظر في فحواه امعانا.
ولا بد ان نذكر نص الحديث اولا ، ثم النظر في محتواه : (1) .
1ـ روى ابـو جـعفر الصدوق بإسناده عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام) قال : قال رسول اللّه (صلى الله عليه واله) : قال اللّه ـ جل جلاله ـ : (ما آمن بي من فسر برايه كلامي ) (2).
2ـ وايـضـا روي عـنه (عليه السلام) قال ـ لمدعي التناقض في القرآن ـ : (اياك ان تفسر القرآن برايك ، حـتـى تـفقهه عن العلماء فانه رب تنزيل يشبه بكلام البشر ، وهو كلام اللّه ، وتأويله لا يشبه كلام البشر) (3) .
3ـ وايضا عن الامام على بن موسى الرضا(عليه السلام) قال لعلي بن محمد بن الجهم : (لا تؤول كتاب اللّه ـ عـز وجـل ـبـرايـك ، فـان اللّه ـ عـز وجل ـ يقول : (و ما يعلم تأويله الا اللّه والراسخون في العلم ) (4) .
4ـ وروى ابـو الـنضر محمد بن مسعود العياشي بإسناده عن الامام ابي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) قال : (من فسر القرآن برايه فأصاب لم يؤجر ، وان اخطأ كان اثمه عليه ) ، وفي رواية اخرى : (و ان اخطأ فهو ابعد من السماء) (5) .
5ـ وروى الشهيد السعيد زين الدين العاملي ، مرفوعا الى النبي (صلى الله عليه واله)قال : (من قال في القرآن بغير علم فليتبوا مقعده من النار) ، وقال : (من تكلم في القرآن برايه فأصاب فقد اخطأ) ، وقال : (من قـال في القرآن بغير ما علم ، جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار) ، وقال : (اكثر ما اخاف على امتي من بعدي ، رجل يناول القرآن ، يضعه على غير مواضعه ) (6) .
واخـرج ابـو جعفر محمد بن جرير الطبري بإسناده عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه واله) : (من قال في القرآن برايه فليتبوا مقعده من النار).
وفي رواية اخرى : (من قال في القرآن برايه او بما لا يعلم ).
وايضا عنه : (من قال في القرآن بغير علم فليتبوا مقعده من النار).
وايضا : (من تكلم في القرآن برايه فليتبوا مقعده من النار).
وبإسناده عن جندب عنه (صلى الله عليه واله) : (من قال في القرآن برايه فأصاب فقد اخطأ) (7) .
وخـص الـطبري هذه الاحاديث بالاي التي لا سبيل الى العلم بتأويلها الا ببيان الرسول (صلى الله عليه واله) ، مثل تأويل ما فيه من وجوه امره : واجبه وندبه وارشاده ، وصنوف نهيه ، ووظائف حقوقه وحدوده ، ومبالغ فرائضه ، ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض ، وما اشبه ذلك من احكام آية التي لم يدرك علمها الا ببيان الرسول لامته ، وهذا وجه لا يجوز لاحد القول فيه الا ببيان الرسول له بتأويله ، بنص منه عليه ، او بدلالة نصبها دالة امته على تأويله .
قـال : وهـذه الاخبار شاهدة لنا على صحة ما قلنا : من ان ما كان من تأويل آي القرآن الذي لا يدرك عـلمه الابنص بيان الرسول او بنصبه الدلالة عليه ، فغير جائز لاحد القيل فيه برايه ، بل القائل في ذلك برايه وان اصاب الحق فيه فمخطئ فيما كان من فعله ، بقيله فيه برايه ، لان اصابته ليست اصابة مـوقـن انـه محق ، وانما هو اصابة خارص وظان ، والقائل في دين اللّه بالظن قائل على اللّه ما لم يعلم ، لان قيله فيه برايه ليس بقيل عالم ، ان الذي قال فيه من قول حق وصواب ، فهو قائل على اللّه ما لا يعلم ، آثم بفعله ما قد نهى عنه وحظر عليه (8) .
قـلـت : وهـذا يعني العمومات الواردة في القرآن ، الوارد تخصيصاتها في السنة ببيان الرسول ، مثل قـولـه : (اقـيموا الصلاة ) و(آتوا الزكاة ) و(للّه على الناس حج البيت ) ونحو ذلك مما ورد في القرآن عاما ، واوكل بيان تفاصيلها وشرائطها واحكامها الى بيان رسول اللّه (صلى الله عليه واله)فلا يجوز شرح تفاصيلها الا عن اثر صحيح وهذا حق ، غير ان حديث المنع غير ناظر الى خصوص ذلك .
و روى الترمذي بإسناده الى ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه واله)قال : (اتقوا الحديث علي الا ما علمتم ، فمن كـذب عـلـى مـتـعـمـدا فـلـيـتـبـوا مقعده من النار ، ومن قال في القرآن برايه فليتبوا مقعده من النار) (9) .
قال ابن الانباري : فسر حديث ابن عباس تفسيرين :
احدهما : من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذهب الاوائل من الصحابة والتابعين ، فهو متعرض لسخط اللّه .
و الاخـر : ـ وهـو اثـبـت القولين واصحهما معنى ـ من قال في القرآن قولا يعلم ان الحق غيره ، فليتبوا مقعده من النار.
و قـال : وامـا حـديـث جـنـدب عـن رسـول الـله (صلى الله عليه واله) : (من قال في القرآن برايه فأصاب فقد اخطأ) (10) ، فـحـمل بعض اهل العلم هذا الحديث على ان الراي معنى به الهوى من قال في الـقـرآن قـولا يـوافـق هواه ، لم يأخذه عن ائمة السلف ، فأصاب فقد اخطأ ، لحكمه على القرآن بما لا يعرف اصله ، ولا يقف على مذاهب اهل الاثر والنقل فيه .
وقـال ابن عطية : (و معنى هذا ان يسال الرجل عن معنى في كتاب اللّه عز وجل ، فيتسور عليه بـرايه (11) دون نظر فيما قال العلماء ، واقتضته قوانين العلم كالنحو والاصول وليس يدخل فـي هـذا الـحـديـث ، ان يـفسر اللغويون لغته ، والنحويون نحوه ، والفقها معانيه ، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر ، فان القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رايه ).
قال القرطبي ـ تعقيبا على هذا الكلام ـ : هذا صحيح ، وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء ، فان من قـال في القرآن بما سنح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطئ ، وان من استنبط معناه بحمله على الاصول المحكمة المتفق على معناها ، فهو ممدوح .
وقال بعض العلماء : ان التفسير موقوف على السماع ، للأمر برده الى اللّه والرسول (12).
قال : وهذا فاسد ، لان النهي عن تفسير القرآن لا يخلو : اما ان يكون المراد به الاقتصار على النقل والـسماع وترك الاستنباط ، او المراد به امرا آخر وباطل ان يكون المراد به ان لا يتكلم احد في القرآن الا بما سمعه ، فان الصحابة قد قرأوا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه ، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي (صلى الله عليه واله) ، وقد دعا لابن عباس : (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) فان كان التأويل مسموعا كالتنزيل ، فما فائدة تخصيصه بذلك ، وهذا بين لا اشكال فيه .
وانما النهي يحمل على احد وجهين :
احـدهـما : ان يكون له في الشي راي ، واليه ميل من طبعه وهواه ، فيتاول القرآن على وفق رايه وهواه ، ليحتج على تصحيح غرضه ولو لم يكن له ذلك الراي والهوى ، لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى .
وهذا النوع يكون تارة مع العلم ، كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته ، وهو يعلم ان ليس المراد بالآية ذلك ، ولكن مقصوده ان يلبس على خصمه .
وتارة يكون مع الجهل ، وذلك اذا كانت الاية محتملة ، فيميل فهمه الى الوجه الذي يوافق غرضه ، ويـرجـح ذلك الجانب برايه وهواه ، فيكون قد فسر برايه ، اي رايه حمله على ذلك التفسير ، ولولا رايه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه .
وتـارة يـكون له غرض صحيح ، فيطلب له دليلا من القرآن ، ويستدل عليه بما يعلم انه ما اريد به ، كمن يدعو الى مجاهدة القلب القاسي ، فيقول : قال اللّه تعالى : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه : 24] ويـشـيـر الـى قـلـبـه ، ويومئ الى انه المراد بفرعون وهذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ فـي المقاصد الصحيحة ، تحسينا للكلام وترغيبا للمستمع ، وهو ممنوع لانه قياس في اللغة ، وذلك غـيـر جـائز وقـد تستعمله الباطنية (13) في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم الى مذاهبهم الباطلة ، فينزلون القرآن على وفق رايهم ومذهبهم ، على امور يعلمون قطعا انها غير مرادة .
فهذه الفنون احد وجهي المنع من التفسير بالراي .
الوجه الثاني : ان يتسارع الى تفسير القرآن بظاهر العربية ، من غير استظهار بالسماع والنقل ، فيما يـتـعـلـق بـغرائب القرآن ، وما فيه من الالفاظ المبهمة والمبدلة ، وما فيه من الاختصار والحذف والاضـمـار والتقديم والتأخير فمن لم يحكم ظاهر التفسير ، وبادر الى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالراي والنقل والسماع لا بد له منهما في ظاهر التفسير ، اولا ليتقي بهما مواضع الغلط ، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط والغرائب التي لا تـفـهـم الا بالسماع كثيرة ، ولا مطمع في الوصول الى الباطن قبل احكام الظاهر ، الا ترى ان قوله تـعالى : {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا } [الإسراء : 59] معناه : آية مبصرة فظلموا انفسهم بقتلها فـالـناظر الى الظاهر يظن ان الناقة كانت مبصرة ، فهذا في الحذف والاضمار ، وامثاله في القرآن كثير (14).
و هـذا الـذي ذكره القرطبي وشرحه شرحا وافيا ، هو الصحيح في معنى الحديث ، واكثر العلماء عـليه ، بل وفي لحن الروايات الواردة عن الرسول (صلى الله عليه واله)ما يؤيد ارادة هذا المعنى ، نظرا للإضافة فـي (رايـه ) ، اي رايـه الـخاص ، يحاول توجيهه بما يمكن من ظواهر القرآن حتى ولو استلزم تحريفا في كلامه تعالى فهذا لا يهمه القرآن ، انما يهمه تبرير موقفه الخاص باتخاذ هذا الراي الذي يحاول اثباته بأية وسيلة ممكنة فهذا في الاكثر مفتر على اللّه ، مجادل في آيات اللّه .
فقد روى ابو جعفر محمد بن على بن بابويه الصدوق بإسناده الى سعيد بن المسيب عن عبد الرحمان بن سمرة ، قال : قال رسول اللّه (صلى الله عليه واله) : (لعن اللّه المجادلين في دين اللّه على لسان سبعين نبيا ، ومن جادل في آيات اللّه فقد كفر ، ومن فسر القرآن برايه فقد افترى على اللّه الكذب ، ومن افتى الناس بـغـيـر عـلـم فـلـعنته ملائكة السماوات والارض ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة سبيلها الى النار) (15).
وروى ثـقة الاسلام محمد بن يعقوب الكليني باسناده الى الامام ابي جعفر محمد بن علي الباقر(عليه السلام) قـال : (مـا عـلمتم فقولوا ، وما لم تعلموا فقولوا : اللّه اعلم ان الرجل لينتزع بالآية فيخر بها ابعد ما بين السماء والارض ) (16) .
و كـذا اذا اسـتـبد برايه ولم يهتم بأقوال السلف والمأثور من احاديث كبار الائمة والعلماء من اهل الـبـيـت (عليه السلام) وكـذا سائر المراجع التفسيرية المعهودة ، فان من استبد برايه هلك ، ومن ثم فانه ان اصاب احيانا فقد اخطأ الطريق ، ولم يؤجر.
روى ابو النضر محمد بن مسعود بن عياش باسناده الى الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال : (من فسر القرآن برايه ، ان اصاب لم يؤجر ، وان اخطأ فهو ابعد من السماء) (17) ، الى غيرها من احاديث يستشف منها ان السر في منع التفسير بالراي امران :
احـدهـما : التفسير لغرض المراء والغلبة والجدال وهذا انما يعمد الى دعم نظرته وتحكيم رايه الـخاص ، بما يجده من آيات متشابهة صالحة للتأويل الى مطلوبه ، ان صحيحا او فاسدا ، غير ان الاية لا تهدف ذلك لولاالالتوا بها في ذلك الاتجاه ، ولذلك فانه حتى لو اصاب في المعنى لم يؤجر ، لانه لم يقصد تفسير القرآن ، وانما استهدف نصرة مذهبه أيا كانت الوسيلة .
و هـذا ناظر في الاكثر الى الآيات المتشابهة لغرض تأويلها ، فالنهي انما عنى التأويل غير المستند الى دليل قاطع {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران : 7] .
ثـانيهما : التفسير من غير استناد الى اصل ركين ، اعتمادا على ظاهر التعبير محضا ، فان هذا هو من القول بلا علم ، وهو ممقوت لا محالة ، ولا سيما في مثل كتاب اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مـن خـلفه ومن ثم فانه ايضا غير ماجور على عمله حتى ولو اصاب المعنى ، لانه اورد امرا خطيرا من غير مورده ، والاكثر الغالب في مثله الخطأ والضلال ، وافترا على اللّه ، وهو عظيم .
وقـد اسـلـفـنـا كـلام الـراغـب وشـرحه بهذا الشأن (18) ، وكذا ما ذكره الزركشي في هذا الباب (19) ، وقد كان كلامهما وافيا بجوانب الموضوع ، لم يختلف عما ذكرناه هنا ، فراجع .
ولـكـن نـقـل جـلال الدين السيوطي عن ابن النقيب محمد بن سليمان البلخي (20) في مقدمة تفسيره :
ان جملة ما تحصل في معنى الحديث خمسة اقوال :
احدها : التفسير من غير حصول العلوم ، التي يجوز معها التفسير.
ثانيها : تفسير المتشابه الذي لا يعلمه الا اللّه .
ثالثها : التفسير المقرر للمذهب الفاسد ، بان يجعل المذهب اصلا والتفسير تابعا ، فيرد اليه باي طريق امكن ، وان كان ضعيفا.
رابعها : التفسير بان مراد اللّه كذا على القطع من غير دليل .
خامسها : التفسير بالاستحسان والهوى (21) .
قلت : ويمكن ارجاع هذه الوجوه الخمسة الى نفس الوجهين اللذين ذكرناهما ، اذ الخامس يرجع الى الثالث ، والرابع والثاني يرجعان الى الاول ، فتدبر.
خلاصة القول في التفسير بالراي
يـتلخص القول في تفسير حديث (من فسر القرآن برايه ) : ان الشي المذموم او الممنوع شرعا ، الذي استهدفه هذا الحديث ، امران :
احدهما : ان يعمد قوم الى آية قرآنية ، فيحاولوا تطبيقها على ما قصدوه من راي او عقيدة ، او مذهب او مسلك ، تبريرا لما اختاروه في هذا السبيل ، او تمويها على العامة في تحميل مذاهبهم او عقائدهم ، تعبيرا على البسطاء الضعفاء.
و هـذا قد جعل القرآن وسيلة لا نجاح مقصوده بالذات ، ولم يهدف تفسير القرآن في شيء وهذا هو الذي عنى بقوله (عليه السلام) : فقد خر بوجهه ابعد من السماء ، او فليتبوا مقعده من النار.
و ثانيهما : الاستبداد بالراي في تفسير القرآن ، محايدا طريقة العقلاء في فهم معاني الكلام ، ولا سيما كـلامـه تعالى فان للوصول الى مراده تعالى من كلامه وسائل وطرقا ، منها : مراجعة كلام السلف ، والـوقـوف عـلـى الاثـار الـواردة حول الآيات ، وملاحظة اسباب النزول ، وغير ذلك من شرائي ط يـجـب تـوفـرهـا في مفسر القرآن الكريم فإغفال ذلك كله ، والاعتماد على الفهم الخاص ، مخالف لـطريقة السلف والخلف في هذا الباب ومن استبد برايه هلك ، ومن قال على اللّه بغير علم فقد ضل سـواء الـسبيل ، ومن ثم فانه قد اخطأ وان اصاب الواقع ـ فرضا او صدفة ـ لانه اخطأ الطريق ، وسلك غير مسلكه المستقيم .
قـال سيدنا الاستاذ الامام الخوئي ـ دام ظله ـ : ان الاخذ بظاهر اللفظ ، مستندا الى قواعد واصول يتداولها العرف في محاوراتهم ، ليس من التفسير بالراي ، وانما هو تفسير بحسب ما يفهمه العرف ، وبحسب ما تدل عليه القرائن المتصلة والمنفصلة ، والى ذلك اشار الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) بـقـوله : (انما هلك الناس في المتشابه ، لانهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند انفسهم برائهم ، واستغنوا بذلك عن مسالة الاوصياء فيعرفونهم ).
قـال : ويحتمل ان معنى التفسير بالراي ، الاستقلال في الفتوى من غير مراجعة الائمة (عليه السلام) مع انهم قـرنا الكتاب في وجوب التمسك ، ولزوم الانتها اليهم فاذا عمل الانسان بالعموم او الاطلاق الوارد في الكتاب ، ولم يأخذ التخصيص او التقييد الوارد عن الائمة (عليه السلام) كان هذا من التفسير بالراي .
وعـلى الجملة ، حمل اللفظ على ظاهره بعد الفحص عن القرائن المتصلة والمنفصلة ، من الكتاب والسنة او الدليل العقلي ، لا يعد من التفسير بالراي ، بل ولا من التفسير نفسه (22) .
قـلـت : وعـبـارته الاخيرة اشارة الى ان الاخذ بظاهر اللفظ ، مستندا الى دليل الوضع او العموم او الاطـلاق ، او قـرائن حالية او مقالية ونحو ذلك ، لا يكون تفسيرا ، اذ لا تعقيد في اللفظ حتى يكون حله تفسيرا ، وانما هو جري على المتعارف المعهود ، في متفاهم الاعراف .
اذ قد عرفت ان التفسير ، هو : كشف القناع عن اللفظ المشكل ، ولا اشكال حيث وجود اصالة الحقيقة او اصالة الاطلاق او العموم ، او غيرها من اصول لفظية معهودة .
نعم اذا وقع هناك اشكال في اللفظ ، بحيث ابهم المعنى ابهاما ، وذلك لاسباب وعوامل قد تدعو ابهاما او اجمالا في لفظ القرآن ، فيخفى المراد خفا في ظاهر التعبير ، فعند ذلك تقع الحاجة الى التفسير ورفع هذا التعقيد.
والـتـفـسـير ـ في هكذا موارد ـ لا يمكن بمجرد اللجؤ الى تلكم الاصول المقررة لكشف مرادات الـمتكلمين حسب المتعارف ، اذ له طرق ووسائل خاصة غير ما يتعارفه العقلاء في فهم معاني الكلام العادي ، على ما يأتي في كلام السيد الطباطبائي .
والـتـفسير بالراي المذموم عقلا والممنوع شرعا ، انما يعني هكذا موارد متشابهة او متوغلة في الابـهام ، فلا رابط ـ ظاهرا ـ لما ذكره سيدنا الاستاذ ، مع موضوع البحث ، وعبارته الاخيرة ربما تشي بذلك .
و قال سيدنا العلامة الطباطبائي : (الاضافة ـ في قوله : برايه ـ تفيد معنى الاختصاص والانفراد والاسـتـقـلال ، بان يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الاسباب في فهم الكلام العربي ، فـيـقيس كلامه تعالى بكلام الناس ، فان قطعة من الكلام من اى متكلم اذا ورد علينا ، لم نلبث دون ان نـعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي ، ونحكم بذلك انه اراد كذا ، كما نجري عليه فـي الاقـاريـر والـشهادات وغيرهما كل ذلك لكون بياننا مبنيا على ما نعلمه من اللغة ، ونعهده من مصاديق الكلمات ، حقيقة ومجازا.
والـبـيان القرآني غير جار هذا المجرى ، بل هو كلام موصول بعضها ببعض ، في حين انه مفصول ، ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، كما قاله علي (عليه السلام).
فـلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة بأعمال القواعد المقررة ، دون ان يتعاهد جميع الايات المناسبة لها ، ويجتهد في التدبر فيها.
فـالـتفسير بالراي المنهى عنه امر راجع الى طريق الكشف دون المكشوف فالنهي انما هو عن تفهم كلامه تعالى على نحو ما يتفهم به كلام غيره ، حتى ولو صادف الواقع ، اذ على فرض الاصابة يكون الخطأ في الطريق .
قـال : ويـؤيد هذا المعنى ، ما كان عليه الامر في زمن النبي (صلى الله عليه واله)فان القرآن لم يكن مؤلفا بعد ، ولم يـكـن مـنـه الاسـور او آيات متفرقة في ايدي الناس ، فكان في تفسير كل قطعة قطعة منه خطر الوقوع في خلاف المراد.
قـال : والمحصل ان المنهي عنه انما هو الاستقلال في تفسير القرآن ، واعتماد المفسر على نفسه من غير رجوع الى غيره ، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع اليه .
قـال : وهـذا الـغير ـ لا محالة ـ اما هو الكتاب او السنة وكونه هي السنة ، ينافي كون القرآن هو الـمرجع في تبيان كل شيء ، وكذا السنة الامرة بالرجوع الى القرآن عند التباس الامور ، وعرض الـحديث عليه لتمييز صحيحه عن سقيمه ، فلم يبق للمراجعة والاستمداد في تفسير القرآن سوى نـفـس الـقـرآن فـان الـقـرآن يـفـسـر بـعـضه بعضا ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض (23) .
و هذا الذي ذكره سيدنا العلامة ـ هنا ـ تحقيق عريق بشان طريقة فهم معاني كلامه تعالى .
قال ـ في مقدمة التفسير ـ :
ان الاتكاء والاعتماد على الانس والعادة في فهم معاني الايات ، يشوش على الفاهم سبيله الى ادراك مـقـاصـد الـقـرآن ، اذ كلامه تعالى ناشئ من ذاته المقدسة ، التي لا مثيل لها ولا نظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى : 11] {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الأنعام : 103] ، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون : 91].
وهـذا هو الذي دعا بالنابهين ان لا يقتصروا على الفهم المتعارف لمعاني الايات الكريمة ، واجازوا لأنفسهم الاعتماد ـ لأدراك حقائق القرآن ـ على البحث والنظر والاجتهاد.
وذلـك عـلـى وجـهـين : اما بحثا علميا او فلسفيا او غيرهما ، للوصول الى مراده تعالى في آية من الايات ، وذلك بعرض الاية على ما توصل اليه العلم او الفلسفة من نظريات او فرضيات مقطوع بها ، وربما المظنون منها ظنار اجحاء ، وهذه طريقة يرفضها ملامح القرآن الكريم .
واما بمراجعة ذات القرآن ، واستيضاح فحوى آية من نظيرتها ، وبالتدبر في نفس القرآن الكريم ، فان القرآن ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، كما قال على (عليه السلام).
قال تعالى : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل : 89] ، وحاشا القرآن ان يكون تبيانا لكل شيء ولا يـكـون تبيانا لنفسه ، وقد نزل القرآن ليكون هدى للناس ونورا مبينا وبينة وفرقانا ، فكيف لا يـكـون هـاديـا للناس الى معالمه ومرشدا لهم على دلائله ؟ {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت : 69] ، واى جهاد اعظم من بذل الجهد في سبيل فهم كتاب اللّه ، واستنباط معانيه واستخراج لالئه نعم ، القرآن هو اهدى سبيل الى نفسه ، لا شيء اهدى منه اليه .
وهـذه هي الطريقة التي سلكها النبي وعترته الاطهارـ صلوات اللّه عليهم ـ في تفسير القرآن والـكـشف عن حقائقه ـ على ما وصل الينا من دلائلهم في التفسير ـ ولا يوجد مورد واحد استعانوا لفهم آية ، على حجة نظريه عقلية او فرضية علمية ، ونحو ذلك (24).
وتوضيحا لما افاده سيدنا العلامة في هذا المجال ، نعرض ما يلي :
كـان لـلـبيان القرآني اسلوبه الخاص في التعبير والأداءا ، ممتازا على سائر الاساليب ، ومختلفا عن سائر البيان ، مما يبدو طبيعيا ، شان كل صاحب فن جديد كان قد اتى بشي جديد.
ومـن ثـم كـان لـلقرآن لغته الخاصة به ، ولسانه الذي يتكلم به ، ولهجته التي يلهج بها ، ممتازة عن سائر اللهجات .
نـعم ، ان للقرآن مصطلحات في تعابيره عن مقاصده ومراميه ، كانت تخصه ، ولا تعرف مصطلحاته الا من قبل نفسه ، شان كل صاحب اصطلاح .
و من المعلوم ان الوقوف على مصطلحات اى فن من الفنون ، لايمكن بالرجوع الى اللغة وقواعدها ، ولا الـى الاصـول المقررة لفهم الكلام في الاعراف ، لأنها اعراف عامة ، وهذا عرف خاص فمن رام الـوقـوف عـلى مصطلحات علم النحو ـ مثلا ـ فلا بد من الرجوع الى النحاة انفسهم لا غيرهم ، وهكذا سائر العلوم والفنون من ذوي المصطلحات .
ومن ثم فان القرآن هو الذي يفسر بعضه بعضا ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض .
نعم يختص ذلك بالتعابير ذوات الاصطلاح ، وليس في مطلق تعابيره التي جات وفق العرف العام .
وبـعـبـارة اخرى : ليس كل تعابير القرآن مما لا يفهم الا من قبله ، انما تلك التعابير التي جات وفق مـصـطلحه الخاص ، وكانت تحمل معاني غير معاني سائر الكلام اما التي جات وفق اللغة او العرف العام ، فطريق فهمها هي اللغة والاصول المقررة عرفيا لفهم الكلام .
وبعبارة ثالثة : الحاجة الى عرفان مصطلحات القرآن ، انما تكون في موارد التفسير ، حيث الغموض والابـهام في ظاهر التعبير ، دون ترجمة الالفاظ والكلمات ، وادراك مفاهيم الكلام وفق الاعراف الـعامة ، مما يعود الى البحث عن حجية الظواهر ، فأنها حجة بلا كلام ، سواء في القرآن ام في غيره ، سواء بسوا.
وهذا غير المبحوث عنه هنا ، حيث خفا المراد ورا ستار اللفظ ، المعبر عنه بالبطن المختفي خلف الـظهر فالظهر لعامة الناس حيث متفاهمهم ، ويكون حجة لهم ومستندا يستندون اليه في التكليف ، اما البطن فللخاصة ممن يتعمقون في خفايا الاسرار ، ويستخرجون الخبايا من ورا الستار.
ومـن ثـم كـان الـمـطلوب من الامة (العلماء والائمة ) التفكر في الايات والتدبر فيها ، وتعقلها ومعرفتها حق المعرفة .
قال تعالى : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل : 44] .
قال : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد : 24].
وقال : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص : 29].
وقـال رسـول اللّه (صلى الله عليه واله) : (لـه ظهر وبطن ، فظاهره حكمة وباطنه علم ، ظاهره انيق وباطنه عـمـيـق ، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائب ، فليجل جال بصره ، وليبلغ الصفة نظره ، فان التفكر حياة قلب البصير) (25) .
قال العلامة الفيلسوف ابن رشد الاندلسي : (و قد سلك الشرع في تعاليمه وبرامجه الناجحة مسلكا يـنتفع به الجمهور ، ويخضع له العلماء ومن ثم جاء بتعابير يفهمها كل من الصنفين : الجمهور يأخذون بـظـاهـر الـمـثال ، فيتصورون عن الممثل له ما يشاكل الممثل به ، ويقتنعون بذلك والعلماء يعرفون الحقيقة التي جات في طي المثال ) (26).
وسنبحث عن منهج القرآن واساليب بيانه في فصل قادم ، ان شاء اللّه .
واليك بعض الامثلة ، شاهدا لما ذكره سيدنا العلامة :
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال : 24] .
هذا خطاب عام يشمل كافة الذين آمنوا ، يدعوهم الى الايمان الصادق والاستجابة ـعقيدة وعملا ـ لـدعوة الاسلام ، والاستسلام العام للشريعة الغرا ، اذ في ذلك حياة القلب ، والطمأنينة في العيش ، وادراك لذائذ نعمة الوجود.
امـا الحائد عن طريقة الدين والمخالف لمناهج الشريعة ، فانه في قلق من الحياة ، يعيش مضطربا قد سلبت راحته كوارث الدهر ، يخشى مفاجئتها في كل لحظة واوان .
وامـا المتكل على اللّه ، فهو آمن في الحياة ، يداوم مسيرته ، فارغ البال في كنفه تعالى {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق : 3] ، { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد : 28] .
هذا تفسير الدعوة الى ما فيه الحياة ، ولعله ظاهر لا غبار عليه .
وامـا قـولـه تعالى ـ بعد ذلك ـ : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال : 24] فيعلوه غبار ابـهـام ، اذ يـبـدو انه تهديد بأولئك الحائدين عن جادة الحق ، ان سوف يجازون بحيلولة بينهم وبين انفسهم .
والسؤال : كيف هذه الحيلولة ، وما وجه كونها عقوبة متقابلة مع نبذ احكام الشريعة ؟.
و للإجابة عـلى هذا السؤال وقع اختلاف عنيف بين اهل الجبر واصحاب القول بالاختيار ، كما تناوشها كل من الاشاعرة واهل الاعتزال ، كل يجر النار الى قرصه ، كما اختلف ارباب التفسير على وجـوه اوردنـاهـا فـي الـجز الثالث من التمهيد ، عند الكلام عن المتشابهات ، ضمن آيات الهداية والضلال برقم (80).
والـذي رجـحـنـاه في تأويل الاية ، هو معنى غير ما ذكره جل المفسرين ، استفدناه من مواضع من القرآن نفسه : ان هذه الحيلولة كناية عن اماتة القلب ، فلا يعي شيئا بعد فقد الحياة .
لا تعجبن الجهول حلته فذاك ميت وثوبه الكفن .
الاسـلام دعـوة الـى الـحياة ، وفي رفضها رفض للحياة ، تلك الحياة المنبعثة عن ادراكات نبيلة ، والملهمة للإنسان شعورا في اضا يسعد به في الحياة ، ويحظى بكرامته الانسانية العليا.
اما اذا عاكس فطرته واطاح بحظه ، فانه سوف يشقى في الحياة ، ولم يزل يسعى في ظلمات غيه وجـهـلـه {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة : 257].
فالإنسان التائه في ظلمات غيه قد فقد شعوره ، وافتقد كرامته العليا في الحياة ، فهذا قد نسي نفسه وذهـل عن كونه انسانا ، يحسب من نفسه موجودا ذا حياة بهيمية سفلى ، انما يسعى ورا نهمه وشبع بطنه ، لا هدف له في الحياة سواه .
وهذا التسافل في الحياة كانت نتيجة تساهله بشان نفسه واهمال جانب كرامته ، وهذا هو معنى قوله تـعالى : {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام : 110] ، قال تعالى : {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر : 19] .
فـان نـسـيان النفس كناية عن الابتعاد عن معالم الانسانية والشرف التليد {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } [الأعراف : 176] .
وقال تعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة : 38].
اختلف الفقها في موضع القطع من يد السارق ، حيث الابهام في ذات اليد ، انها من الكتف ام من المرفق ام الساعد ام الكرسوع (طرف الزند) ام الاشاجع (اصول الاصابع )؟.
روى ابو النضر العياشي في تفسيره بالإسناد الى زرقان صاحب ابن ابي داود ، قاضي القضاة ببغداد ، قـال : اتـي بـسـارق الـى الـمـعتصم وقد اقر بالسرقة ، فسال الخليفة تطهيره بإقامة الحد ، فجمع الفقهاء يستفتيهم في اقامة حد السارق عليه ، وكان ممن احضر محمد بن علي الجواد(عليه السلام) ، فسالهم عن موضع القطع .
فقال ابن ابي داود : من الكرسوع ، استنادا الى آية التيمم ، حيث المراد من اليد في ضربتيه هو الكف ، ووافقه قوم وقال آخرون : من المرفق ، استنادا الى آية الوضوء.
فالتفت الخليفة الى الامام الجواد يستعلم رايه ، فاستعفاه الامام ، فأبى واقسم عليه ان يخبره برايه .
فـقال (عليه السلام) : اما اذا اقسمت علي باللّه ، اني اقول : انهم أخطأوا فيه السنة ، فان القطع يجب ان يكون من مفصل اصول الاصابع ، فيترك الكف .
قال المعتصم : وما الحجة في ذلك ؟.
قـال الامـام : قـول رسـول اللّه (صلى الله عليه واله) : الـسـجـود على سبعة اعضا : الوجه واليدين والركبتين والرجلين ، فاذا قطعت يده من الكرسوع او المرفق ، لم يبق له يد يسجد عليها ، وقد قال اللّه تعالى : (و ان الـمـسـاجـد للّه ) يـعـنـي بـه هـذه الاعـضـاء الـسـبعة التي يسجد عليها {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن : 18] ، وما كان للّه لم يقطع .
فاعجب المعتصم هذا الاستنتاج البديع ، وامر بالقطع من الاشاجع (27) .
انـظـر الـى هـذه الالـتـفـاتـة الرقيقة ، يجعل من آية المساجد ، بتأويل ظاهرها (هي المعابد)الى بـاطـنـها(الشمول لما يسجد به ، اي يتحقق به السجود) ، منضمة الى كلام الرسول في بيان مواضع السجدة ، يجعل من ذلك كله دليلا على تفسير آية القطع وتعيين موضعه ، بهذا النمط البديع .
وقد استظهر(عليه السلام) من الاية ان راحة الكف ، وهي من مواضع السجود ، كانت للّه ، فلا تشملها عقوبة الحد التي هي جزا سيئة ، لا تحل فيما لا يعود الى مرتكبها ، فان راحة الكف موضع السجود للّه .
وللأستاذ الذهبي ـ هنا ـ محاولة غريبة يجعل من التفسير بالراي قسمين : قسما جائزا وممدوحا ، وآخر مذموما غير جائز وحاول تأويل حديث المنع الى القسم المذموم .
قال : والمراد بالراي هنا الاجتهاد ، وعليه فالتفسير بالراي عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد ، بعد مـعـرفـة الـمفسر لكلام العرب ومناحيهم في القول ، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالتها ، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي ، ووقوفه على اسباب النزول ، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن ، وغير ذلك من الادوات التي يحتاج اليها المفسر.
قـال : واختلف العلماء قديما في جواز تفسير القرآن بالراي ، فقوم تشددوا في ذلك ولم يجيزوه ، وقوم كان موقفهم على العكس فلم يروا باسا من ان يفسروا القرآن باجتهادهم ، والفريقان على طرفي نقيض فيما يبدو ، وكل يعزز رايه بالأدلة والبراهين .
ثـم جعل يسرد ادلة لكل من الفريقين ، ويجيب عليها واحدة واحدة بإسهاب ، واخيرا قال : ولكن لو رجعنا الى ادلة الفريقين وحللنا ادلتهم تحليلا دقيقا ، لظهر لنا ان الخلاف لفظي ، وان الراي قسمان : .
قسم جار على موافقة كلام العرب ومناحيهم في القول ، مع موافقة الكتاب والسنة ، ومراعاة سائر شروط التفسير ، وهذا القسم جائز لا شك فيه .
وقـسـم غـيـر جـار عـلى قوانين العربية ، ولا موافقة للأدلة الشرعية ، ولا مستوف لشرائط التفسير ، وهذا هو مورد النهي ومحط الذم (28) .
قلت : اما تورع بعض السلف عن القول في القرآن ، فلعدم ثقته بذات نفسه وضلة معرفته بمعاني كلام اللّه امـا العلماء العارفون بمرامي الشريعة ، فكانوا يتصدون التفسير عن جراة علمية واحاطة شاملة لجوانب معاني القرآن .
وامـا الـتـفـسـير بالراي فامر وقع المنع منه على اطلاقه ، وليس على قسم منه ، كما زعمه هذا الاستاذ.
والـذي اوقـعـه فـي هـذا الوهم ، انه حسب التفسير بالراي هنا بمعنى الاجتهاد ، في مقابلة التفسير بالمأثور ، ولا شك من جواز الاجتهاد في استنباط معاني الايات الكريمة ان وقع عن طريقه المألوف .
________________________________
1- مما اورده العلامة المجلسي في بحار الانوار ، كتاب القرآن ، باب /10 ، ج89 ، ص 107 ـ112 ، (ط بيروت ).
2- الامالي للصدوق (ط نجف ) ، ص 6 ، المجلس الثاني .
3- كتاب التوحيد ، للصدوق ، باب 36 ، الرد على الثنوية والزنادقة ، ص 264 ، (ط بيروت ).
4- عيون الاخبار ، للصدوق ، (ط نجف ) ج1 ، ص 153 ، باب 14 ، ج1 ، آل عمران / 7.
5- مقدمة تفسير العياشي ، ج1 ، ص 17 ، رقم2 و4.
6- بحار الانوار ، ج89 ، ص 111 ـ 112 ، رقم20 عن آداب المتعلمين ، للشهيد ، ص 216 ـ217 .
7- تفسير الطبري ، ج1 ، ص 27.
8- تفسير الطبري ، ج1 ، ص 25 ـ 26 و27.
9- قال ابو عيسى الترمذي : هذا حديث حسن الجامع ، ج5 ، ص 199 ، كتاب التفسير ، باب 1 ، رقم2951 .
10- جامع الترمذي ، ج5 ، ص 200 ، رقم2952 .
11- تسور الحائط : هجم عليه هجوم اللص وتسلقه ويعني به هنا : التهجم والاقدام بغير بصيرة ولا وعي .
12- في الاية رقم 59 من سورة النساء.
13- من اهل التصوف .
14- راجع : تفسير القرطبي ، ج1 ، ص 32 ـ 34.
15- كمال الدين للصدوق ، ج1 ، ص 256 ـ 257 ، ب 24 ، رقم1 وعبد الرحمان بن سمرة بن حبيب العبشمي صحابي جليل ، اسلم يوم الفتح وشهد غزوة تبوك مع النبي (صلى الله عليه واله ) ثم شهد فتوح العراق ، وهو الذي افتتح سجستان وغيرها في خلافة عثمان ثم نزل البصرة وكان يحدث بها روى عنه خلق كثير من التابعين توفي سنة (50) (الاصابة ، ج2 ، ص 401 ، رقم5134 ).
16- الكافي الشريف ، ج1 ، (الاصول ) ، ص 24 ، رقم4 .
17- تفسير العياشي ، ج1 ، ص 17 ، رقم4 .
18- ص 49 وراجع : مقدمته في التفسير ، ص 93.
19- ص 54 وراجع : البرهان ، ج2 ، ص 164 ـ 168.
20- توفي سنة 698.
21- الاتقان في علوم القرآن ، ج4 ، ص 191.
22- البيان ، ص 287 ـ 288.
23- تفسير الميزان ، ج3 ، ص 77 ـ 79 ، وراجع : ج1 ، ص 10 ايضا.
24- الميزان ، ج1 ، ص 9 ـ 10.
25- مقدمة تفسير الميزان ، ج1 ، ص 10 والكافي الشريف ، ج2 ، ص 599.
26- راجع : رسالته (الكشف عن مناهج الادلة ) ، ص 97.
27- تفسير العياشي ، ج1 ، ص 319 ـ 320.
28- التفسير والمفسرون ، ج1 ، ص 255وص 264.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|