أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-11-2016
1432
التاريخ: 27-3-2021
2174
التاريخ: 24-3-2021
2142
التاريخ: 13-1-2021
4842
|
في منتصف الطريق المعبد للقوافل بين اليمن والشام تقوم مكة في واد من أودية جبال السراة، تحفه الجبال الجرداء من كل جانب، وقد وصفها القرآن الكريم بأنها {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37]. وهي تتراءى لنا في العصر الجاهلي؛ ممسكة بزمام القوافل التجارية، كما تتراءى لنا أكبر مركز ديني للوثنية الجاهلية. ويقال: إنه كان يسكنها في غابر الأزمنة قبائل من جرهم وبقايا من الأمم البائدة، ثم نزلتها قبيلة خزاعة اليمنية حين هاجر كثير من القبائل اليمنية إلى الشمال، ولعلها نزحت إليها لتسيطر على هذا المركز التجاري المهم، ولا نصل إلى منتصف القرن الخامس حتى يظهر بها قصيّ ومعه قبيلة قريش فيستولي عليها ويخرج منها خزاعة. ولا يعرف بالضبط أصل قريش، وهل هي من عرب نجد أو من العرب الأنباط الذين تراجعوا ناحية الجنوب أمام غزو الرومان لبلادهم. وقد دعم مكانتها غزو الأحباش المسيحيين لليمن؛ فتحولت أفئدة العرب الوثنيين إليها، وفزعت أرستقراطيتهم الشمالية والجنوبية إلى هذا المركز البعيد عن أعدائهم، وحاول أبرهة والي الحبشة على اليمن أن يستولي عليها سنة 670 أو671 فباءت حملته بالفشل الذريع، فزاد ذلك في تقديس العرب لها وإعظامها وعَدّوها رمزًا لاستقلالهم وعزتهم وقوتهم؛ إذ لم تدِنْ لأي ملك أجنبي، وفي ذلك يقول حرب بن أمية(1):
أبا مَطَر هلمَّ إلى صلاحٍ فتكفيك النَّدامى من قريشٍ
فتأْمنَ وَسْطهم وتعيش فيهم أبا مطرٍ هُديتَ لخير عَيشِ
وتنزلَ بلدةً عزَّتْ قديمًا وتأمن أن يزورك ربُّ جَيش
وقد هيأ لها التصادم المستمر بين الفرس والروم أن تزدهر بها التجارة؛ فقد كان الطريق بين العراق والشام مقفلًا، وكانت أكثر تجارة الشمال والجنوب تهبط فيها. وكانت قوافلها تجوب الصحراء العربية إلى الجنوب في اليمن وحضرموت وإلى الشرق في الحيرة وإلى الشمال؛ حيث تذهب إلى بُصرى في الشام وإلى غزة ومصر. وفي الوقت نفسه كانت راعية الكعبة وأصنامها وأوثانها؛ وبذلك كان أهلها أشرف العرب وكان كثير منهم يعترفون لهم بالسيادة، يقول ابن الفقيه: "إن أهل مكة لم يؤدوا في الجاهلية إتاوة قط، ودانت لهم خُزاعة وثقيف وعامر بن صعصعة، وفرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزواد الحِلِّ إذا دخلوا الحرم، وهم بعد أعزّ العرب، يأتمرون عليهم قاطبة"(2) وكانوا يأخذون منهم إتاوة تسمى الحريم إذا نزلوا في بلدهم(3) كما كانوا يأخذون إتاوة من التجار الأجانب إذا ألموا بهم، وكان ينزلها بيزنطيون وفرس للتجارة(4) يدل على ذلك الصحابيان الجليلان: صُهيب الرومي وسلمان الفارسي.
وكل ذلك يؤكد مكانتها وزعامتها على العرب؛ فهي بيت تجارتهم وبيت كعبتهم المقدسة، فيها يقيمون أعيادهم الدينية، كما يقيمون أسواقهم التجارية كسوق عكاظ ومجنّة وذي المجاز. ولم تكن أسواقًا تجارية فحسب؛ بل كانت أسواقًا أدبية أيضًا، تعرض فيها سلع الشعر؛ فيتنافس الشعراء ويقوم بينهم المحكمون من أمثال النابغة فيحكمون للمتفوق ببراعته. وبذلك هيأت لحركة أدبية واسعة النطاق. سيطرت فيها لغتها بحكم مكانتها الدينية وتنقلها بتجارتها في أسواق العرب خارج ديارها، فأصبحت لغة الأدب الرفيعة.
ولعل في هذا كله ما يدل على عظم شأنها في الجاهلية، وقد زعم لامنس في كتابه عنها أنها كانت جمهورية كجمهورية البندقية التجارية(5)، وقد وقف طويلًا عند ملئها ونظامها التجاري المعقد. ومعروف أنه كان بها مَلأ يجتمع بدار الندوة، وهو مجلس شيوخ مصغر، لم يكن يدخله إلا من بلغ أربعين سنة، وكانوا يختارون على ما يظهر حسب ثرائهم وخدماتهم التي يؤدونها وهم سادة بطونها في البطاح وكانوا ينظرون في شئونها التجارية والدينية. وكانت تشبه مصرفًا كبيرًا، به المكاييل والموازين والبيع الحاضر والمؤجل والربا وصنوف المضاربة المختلفة. واشتهر فيها بيتان بالثراء هما بيتا الأمويين والمخزوميين، وكان للأولين أكثر قافلة بدر، ولعل ذلك ما جعل أبا سفيان يرأسها، وفي الاشتقاق لابن دريد معلومات طريفة عن ثروات المخزوميين، وكان منهم من يسمى ربَّ مكة(6). ولم يكن الثراء خاصًّا بهذين البيتين؛ فقد كان عبد الله بن جدعان وهو من تَيْم ثريًّا ثراءً مفرطًا، وشبهه بعض الشعراء بقيصر، فقال(7):
يوم ابن جُدْعان بجنْب الحَزْوَرَه كأنه قيصر أو ذو الدَّسْكره
وكان كثير من العرب يرى سادة قريش فوق آل جفنة الغساسنة؛ بل فوق كسرى وآل كسرى، وكانوا يقصدونهم بالمديح وبهذا كله كانت مكة أهم مدينة عربية في الجاهلية؛ إذ كانت مثابة للعرب وأمنًا. وكان مجتمعها يتألف من قريش البطاح الذين ينزلون حول الكعبة، وهم: هاشم وأمية ومخزوم وتيم وعدي وجُمَح وسهم وأسد ونوفل وزهرة، وكانوا أصحاب النفوذ فيها، ومن قريش الظواهر الذين ينزلون وراءهم ومعهم أخلاط من صعاليك العرب والحلفاء والموالي، والعبيد وكان أكثرهم من الحبشة، ويظهر أنهم كانوا كثيرين كثرة مفرطة، ولعل مما يدل على كثرتهم أن هندًا بنت عبد المطلب أعتقت في يوم واحد أربعين عبدًا من عبيدها(8)، وكانوا يقومون على حرف ومهن كثيرة. ومن غير شك كان يعيش سادة قريش معيشة مترفة، بحكم ثرائهم واتصالهم بالفرس طلبًا للعطاء والنوال، ومديح أمية بن أبي الصلت في عبد الله بن جدعان مشهور.
والروم، ويقال: إنهم كانوا يصيفون في الطائف ويشتون في جدة. ونجد في سورة الزخرف استهزاء بمن ينشأ في الحلية والزينة(9). ويقال أيضًا: إن عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم دفن في حُلَّتين قيمتهما ألف مثقال من الذهب(10). ومن يقرأ أخبار قوافلهم التجارية يخيل إليه أن مكة كانت قافلة كبيرة مقيمة، تخرج منها القوافل إلى الجنوب والشمال والشرق، ودعاهم ذلك إلى أن يعقدوا معاهدات بينهم وبين القياصرة(11) والنجاشيين والأكاسرة(12)، كما دعاهم إلى عقد معاهدات بينهم وبين القبائل التي كانوا يمرون بها في طرقهم التجارية(13).
ولكن هذا جميعه ينبغي أن لا يجعلنا نبالغ مبالغة لامنس؛ فنظن أن مكة كانت جمهورية بالمعنى الكامل للجمهورية؛ فمع نمو العلاقات التجارية والاقتصادية فيها كان مجتمعها قبليًّا؛ فهو لا يعدو اتحاد عشائر ارتبط بعضها ببعض في حلف لغرض سدانة الكعبة من جهة والقيام على تجارة القوافل من جهة أخرى. ولا سلطان لعشيرة على عشيرة؛ بل كل عشيرة تتمتع بالحرية التامة ولا طاعة عليها لأحد، وكل ما هناك أن اشتراكهم في مصلحة واحدة خفف من غلواء هذه الحرية؛ ولكنه تخفيف لا يخرج بنظام الجماعة القرشية عن النظام المعروف في القبائل الجاهلية، ووجود مَلأ فيها أو مجلس شيوخ لا ينقض هذه الحقيقة؛ إذ لم يكن عمله يعدو عمل مجالس القبائل؛ فقد كان في كل قبيلة مجلس يتكون من رؤساء العشائر، ينظر في شئونها حسب قوانين العرف والعادة؛ ولكنه لم يقض على حرية الأفراد؛ فقد كان كل فرد متمتعًا بحريته، مع شعوره بحقوق الجماعة أو حقوق القبيلة. وهذا نفسه هو النظام الذي كان سائدًا في مكة قبل الإسلام؛ فللفرد حريته وللجماعة عليه حقوق لا تتناقض مع هذه الحرية.
وإلى الجنوب الشرقي من مكة على بعد خمسة وسبعين ميلًا تقوم الطائف على ارتفاع يبلغ نحو ستة آلاف قدم وسط رياض وبساتين تجعلها أشبه ما تكون بقطعة من رياض الشام، وجَعلها ارتفاعها طيبة الهواء؛ فكان القرشيون كما قدمنا يصطافون فيها حيث يجدون كل الثمرات كما يجدون الخمر الصافية. وكانت تنزلها قبيلة ثقيف الوثنية، وهناك قصة تزعم أنها من بقايا ثمود، وربما كان لهذه القصة أصل صحيح، وأن الثموديين حين تقوضت إمارتهم في الشمال هاجروا إلى الطائف كما هاجر اللحيانيون إلى منازل هذيل بين مكة والمدينة، وقد يدل على ذلك أننا نجد النسابين يذكرون من بطون هذيل بني لحيان، وكأنهم ظلوا يحتفظون في أحد بطونهم باسمهم القديم. ولم تكن حياة الثقفيين تختلف عن حياة القبائل البدوية النجدية في شيء سوى ما أتاحته لهم زروعهم وثمارهم من الاستقرار على نحو ما استقرت قريش في مكة.
________
(1) الحيوان للجاحظ 3/ 141 وصلاح هنا: مكة.
(2) كتاب البلدان لابن الفقية "طبعة أوربا" ص 18
(3) الاشتقاق لابن دريد ص 172 وأخبار مكة للأزرقي "طبعة أوربا" ص 175.
(4) انظر Oleary, Arabia Before Muhammad "London, 1927" p.184 وراجع مروج الذهب للسعودي "طبعة باريس" 2/ 148.
(5) Lammens La mecquep, 175
(6) الاشتقاق ص 60و 92.
(7) معجم ما استعجم للبكري "طبعة السقا".
مادة حزورة 2/ 444. والحزورة: الرابية.
(8) المحاسن والأضداد ص77 وقارن بالأغاني "طبعة دار الكتب" 1/ 65.
(9) سورة الزخرف، آية رقم 18.
(10) تاريخ اليعقوبي "طبعة أوروبا" 2/ 13.
(11) اليعقوبي 1/ 280 والطبري "طبعة أوروبا" 1/ 1089.
(12) اليعقوبي 1/ 282 والطبري نفس الصفحة السابقة.
(13) اليعقوبي 1/ 280.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|