أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-10-2016
5833
التاريخ: 2023-12-01
1120
التاريخ: 2023-06-12
1121
التاريخ: 2024-08-24
311
|
قال بعض العارفين : أرباب القلوب و المشاهدات قد انطلق اللّه في حقهم كل ذرة في الأرض و السماوات بقدرته التي أنطق بها كل شيء ، حتى سمعوا تقديسها و تسبيحها و شهادتها على نفسها بالعجز ، بلسان الواقع الذي هو ليس بعربي و لا أعجمي و ليس فيه حرف و صوت ، و لا يسمعه أحد إلا بالسمع العقلي الملكوتي دون السمع الظاهر الحسي الناسوتي ، و هذا النطق الذي لكل ذرة من الأرض و السماوات مع أرباب القلوب إنما هو (مناجاة السر) ، و ذلك مما لا ينحصر و لا يتناهى ، فإنها كلمات تستعد من بحر كلام اللّه الذي لا نهاية له : {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [الكهف : 109].
ثم إنها لما كانت مناجية بأسرار الملك و الملكوت ، و ليس كل أحد موضعا للسر، بل صدور الأحرار قبور الأسرار، فاختصت مناجاتها بالأحرار من أرباب القلوب.
وهم أيضا لا يحكون هذه الأسرار لغيرهم ، إذ إفشاء السر لؤم و هل رأيت قط أمينا على أسرار الملك قد نوجي بخفاياه فينادى بها على الملإ من الخلق ، و لو جاز إفشاء كل سر لما نهى النبي ( صلى اللّه عليه و آله و سلم ) عن إفشاء سر القدر، و لما خص أمير المؤمنين (عليه السلام) ببعض الأسرار، و لما قال ( صلى اللّه عليه و آله و سلم ) : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا» بل كان يذكر لهم ذلك حتى يبكون و لا يضحكون.
فإذن عن حكايات مناجاة ذرات الملك و الملكوت لقلوب أرباب المشاهدة مانعان : (أحدهما) المنع عن إفشاء السر، (ثانيهما) خروج كلماتها عن الحصر و النهاية.
ونحن نحكي في فعل الكتابة قدرا يسيرا من مناجاة بعض ما يرى أسبابا و وسائط ، و إقرارها بالعجز على أنفسها ، ليقاس عليه جميع الأفعال الصادرة عن جميع الأسباب و الوسائط المسخرة تحت قدرة اللّه ، و يفهم به على الإجمال كيفية ابتناء التوكل عليه ، و نرد لضرورة التفهم كلماتها الملكوتية إلى الحروف و الأصوات ، و إن لم تكن أصواتا و حروفا ، فنقول : قال بعض الناظرين عن مشكاة نور اللّه للكاغد ، و قد رأى وجهه أسود بالحبر: «لم سودت وجهك و قد كان أبيض مشرقا؟».
فقال : «ما سودت وجهي ، و إنما سوده الحبر، فاسأله لم فعل كذا؟».
فسأل الحبر عن ذلك ، فقال : «هذا السؤال على القلم الذي أخرجني من مستقرى ظلما».
فسأل القلم ، فأحاله إلى اليد و الأصابع ، و هي إلى القدرة و القوة ، و هي إلى الإرادة ، معترفا كل واحد منهم بعجز نفسه ، و بكونه مقهورا مسخرا تحت قهر المحال عليه من دون استطاعة لمخالفته.
ولما سأل الإرادة ، قالت : «ما انتهضت بنفسي ، بل بعثت على إشخاص , القدرة و إنهاضها وبحكم رسول قاهر ورد علي من حضرة القلب بلسان العقل ، و هذا الرسول هو العلم فالسؤال عن انتهاضي يتوجه على العقل و القلب و العلم» , و لما سألها قال (العقل) : «أما أنا فسراج ما اشتعلت بنفسي و لكني اشعلت» , و قال (القلب) : «أما أنا فلوح ما انبسطت بنفسي و لكني بسطت» , و قال (العلم) : «أما أنا فنقش نقشت في لوح القلب لما أشرق سراج العقل ، و ما انتقشت بنفسي بل نقشني غيري ، فسل القلم الذي نقشني و رسمني على لوح القلب بعد اشتعال سراج العقل» , و عند هذا تحير السائل و قال : «ما هذا القلم و هذا اللوح و هذا الخط و هذا السراج؟ فإني لا أعلم قلما إلا من القصب ، و لا لوحا إلا من الحديد أو الخشب ، ولا خطا إلا بالحبر، و لا سراجا إلا من النار.
وإني لأسمع في هذا المنزل حديث اللوح و القلم و الخط و السراج ، و لا أشاهد من ذلك شيئا» فقال له (العلم) : «فإذن بضاعتك مزجاة ، و زادك قليل ، و مركبك ضعيف ، و المهالك في الطريق الذي توجهت إليه كثيرة ، فإن كنت راغبا في استتمام الطريق إلى المقصد ، فاعلم أن العوالم في طريقك ثلاثة : (أولها) عالم الملك و الشهادة ، و لقد كان الكاغد و الحبر و القلم و اليد و الأصابع من هذا العالم ، و قد جاوزت تلك المنازل على سهولة ، (و ثانيها) عالم الملكوت الأسفل و هو يشبه السفينة التي بين الأرض و الماء ، فلا هي حد اضطراب الماء ، و لا هي في حد سكون الأرض و ثباتها ، و القدرة و الإرادة و العلم من منازل هذا العالم.
(و ثالثها) عالم الملكوت الأعلى ، و هو من ورائي ، فإذا جاوزتني انتهيت إلى منازله.
وأول منازله القلم الذي يكتب به العلم على لوح القلب و في هذا العالم المهامه الفسيحة و الجبال الشاهقة و البحار المغرقة».
فقال له السائل السالك : «قد تحيرت في أمري و لست أدري أني أقدر على قطع هذا الطريق المخوف أم لا ، فهل لذلك علامة أعرف بها تمكني على قطع هذا الطريق؟».
فقال : «نعم! افتح بصرك ، و اجمع ضوء عينك و حدقه نحوي ، فإن ظهر لك القلم الذي به يكتب في لوح القلب ، فيشبه أن تكون أهلا لهذا الطريق ، فإن كل من جاوز الملكوت الأسفل و قرع أول باب من الملكوت الأعلى كوشف بالقلم.
أما ترى النبي ( صلى اللّه عليه و آله و سلم ) كوشف به و أنزل عليه قوله تعالى : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق : 1 - 5].
وهذا القلم قلم إلهي ليس بقصب و لا خشب , أو ما سمعت أن متاع البيت يشبه رب البيت؟ و قد علمت أن اللّه تعالى لا تشبه ذاته سائر الذوات فليس في ذاته بجسم و لا هو في مكان ، فكذلك لا تشبه يده سائر الأيدي ، و لا قلمه سائر الأقلام ، و لا كلامه سائر الكلام ، و لا خطه سائر الخطوط.
بل هذه أمور إلهية من عالم الملكوت الأعلى ، فليست يده من لحم و عظم و دم ، و لا قلمه من قصب ، و لا لوحه من خشب ، و لا كلامه من صوت و حرف ، و لا خطه من نقش و رسم و رقم ، و لا حبره من زاج و عفص.
فإن كنت لا تشاهد هذا هكذا فأنت من أهل التشبيه والتجسم و ما عرفت ربك إذ لو نزهت ذاته تعالى و صفاته عن ذات الأجسام و صفاتها و نزهت كلامه عن الحروف و الأصوات ، فما بالك تتوقف في يده و قلمه و لوحه و خطه ، و لا تنزهها عن الجسمية و التشبيه بغيرها؟».
فلما سمع السائل السالك من العلم ذلك ، استشعر قصور نفسه و فتح بصر بصيرته ، بعد الابتهال إلى ربه ، فانكشف له القلم الإلهي ، فإذا هو كما وصفه العلم ، ما هو من خشب و لا قصب ، و لا له رأس و لا ذنب ، و هو يكتب على الدوام في قلوب البشر أصناف العلم ، فشكر العلم و ودعه ، و سافر إلى حضرة القلم الإلهي ، و قال له : «أيها القلم! ما لك تخط على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعث به الإرادات إلى انهاض القدرة وإشخاصها و صرفها إلى المقدورات؟».
فقال له (القلم الإلهي) : «أفنسيت ما رأيت في عالم الملك و سمعته من جواب القلم الآدمي حيث أحالك إلى اليد؟ فجوابي مثل جوابه ، فإني مسخر تحت يد اللّه تعالى الملقبة : (يمين الملك) فاسأله عن شأني فإني في قبضته و هو الذي يرددني ، وأنا مقهور مسخر، فلا فرق بين القلم الإلهي و القلم الآدمي في معنى التسخير، و إنما الفرق في ظاهر الصورة».
فقال السائل : «من يمين الملك؟» , قال القلم : «أما سمعت قوله تعالى :
{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر : 67] ؟ » , قال : «نعم! سمعته» , قال : « والأقلام أيضا في قبضته و هو الذي يرددها».
فسافر السائل من عند القلم إلى اليمين ، حتى شاهده ، و رأى من عجائبه ما يزيد على عجائب القلم ، و رأى أنه يمين لا كالأيمان ، و يدا كالأيدي ، و إصبع لا كالأصابع ، فرأى القلم متحركا في قبضته ، فسأله عن سبب تحريكه القلم فقال : «جوابي ما سمعته من اليمين التي رأيتها في عالم الشهادة ، و هو الحوالة على القدرة ، إذ اليد لا حكم لها في نفسها ، و إنما محركها القدرة».
فسافر إلى عالم القدرة و رأى فيها من العجائب ما استحقر لأجلها ما قبلها فسألها عن سبب تحريكها اليمين , فقالت : «إنما أنا صفة فاسأل القادر، إذ العهدة على الموصوف دون الصفة».
وعند هذا كاد أن يزيغ قلب السائل ، و ينطلق بالجرأة لسان السؤال ، فثبت بالقول الثابت و نودي من وراء سرادقات الحضرة : {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء : 23] .
فغشيته دهشة الحضرة ، فخر صعقا في غشيته مدة ، فلما أفاق قال : «سبحانك! ما أعظم شأنك وأعز سلطانك ، تبت إليك و توكلت عليك ، و آمنت بأنك الملك الجبار الواحد القهار، فلا أخاف غيرك و لا أرجو سواك و لا أعوذ إلا بعفوك من عقابك ، و برضاك من سخطك ، وما لي إلا أن أسألك و أتضرع إليك ، و أقول :
{ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه : 25] لا عرفك ، {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27] لأثنى عليك فنودي من وراء الحجاب : «إياك أن تطمع في الثناء ، فإن سيد الأنبياء ( صلى اللّه عليه و آله و سلم ) ما زاد في هذه الحضرة إلى أن قال : (سبحانك لا أثنى ثناء عليك كما أنت أثنيت على نفسك).
و إياك أن تطمع في المعرفة فإن سيد الأوصياء قال : (العجز عن درك الإدراك إدراك ، و الفحص عن سر ذات السر إشراك).
فيكفيك نصيبا من حضرتنا أنك عاجز عن ملاحظة جلالنا و جمالنا ، و قاصر عن إدراك دقائق حكمنا و أفعالنا».
فعند هذا رجع السائل السالك ، و اعتذر عن أسئلته و معاتبته ، و قال للقدرة و اليمين والقلم و العلم و الإرادة و القدرة و ما بعدها : «أقبلوا عذري فإني كنت غريبا جديد العهد بالدخول في هذه البلاد.
والآن قد صح عندي عذركم و انكشف لي أن المتفرد بالملك و الملكوت و العزة و الجبروت هو الواحد القهار و ما أنتم إلا مسخرون تحت قهره و قدرته ، مرددون في قبضته ، و هو الأول بالإضافة إلى الوجود ، إذ صدر منه الكل على ترتيبه واحدا بعد واحد ، و هو الآخر بالإضافة إلى سير المسافرين إليه ، فإنهم لا يزالون مترقين من منزل إلى منزل إلى أن يقع الانتهاء إلى حضرته ، فهو أول في الوجود و آخر في المشاهدة و هو الظاهر بالإضافة إلى من يطلبه بالسراج الذي اشتعل في قلبه بالبصيرة الباطنة النافذة في عالم الملكوت ، و هو الباطن بالإضافة إلى العاكفين في عالم الشهادة الطالبين لإدراكه بالحواس».
وهذا هو التوحيد في الفعل للسالكين ، الذين انكشف لهم وحدة الفاعل بالمشاهدة و استماع كلام ذرات الملك و الملكوت ، و هو موقوف على الإيمان بعالم الملكوت و التمكن من المسافرة إليه واستماع الكلام من أهله.
ومن كان أجنبيا من هذا العالم و لم يكن له استعداد الوصول إليه و لم يمكنه أن يسلك السبيل الذي ذكرناه ، فينبغي أن يرد مثله إلى التوحيد الاعتقادي الذي يوجد في عالم الشهادة ، و هو أن يعلم ببعض الأدلة وحدة الفاعل ، مثل أن يقال له : إن كل أحد يعلم أن المنزل يفسد بصاحبين و البلد يفسد بأميرين ، فإله العالم و مدبره واحد ، إذ :
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء : 22] , فيكون ذلك على ذوق ما رآه في عالم الشهادة ، فينغرس اعتقاد التوحيد في قلبه بهذا الطريق بقدر عقله و استعداده ، و قد كلفوا الأنبياء أن يكلموا الناس على قدر عقولهم.
ثم الحق أن هذا التوحيد الاعتقادي إذا قوى يصلح أن يكون عمادا للتوكل و أصلا فيه ، إذ الاعتقاد إذا قوى عمل عمل الكشف في إثارة الأحوال إلا أنه في الغالب يضعف و يتسارع إليه الاضطراب ، فيحتاج إلى من يحرسه بكلامه ، و أما الذي شاهد الطريق و سلكه بنفسه ، فلا يخاف عليه شيء من ذلك ، بل لو كشف له الغطاء لما ازداد يقينا و إن كان يزداد وضوحا.
(تنبيه) اعلم أن ما يبتني عليه التوحيد المذكور، أعني كون جميع الأشياء من الأسباب و الوسائط مقهورات مسخرات تحت القدرة الأزلية ظاهر.
وسائر ما أوردنا في هذا المقام مما ذكره أبو حامد الغزالي و تبعه بعض أصحابنا «و لا إشكال فيه إلا في أفعال الإنسان و حركاته» .
فإن البديهة تشهد بثبوت نوع اختيار له ، لأنه يتحرك إن شاء و يسكن إن شاء ، مع أنه لو كان مسخرا مقهورا في جميع أفعاله و حركاته ، لزم الجبر و لم يصح التكليف و الثواب و العقاب. ولتحقيق هذه المسألة موضع آخر ، و لا يليق ذكرها هنا.
والحق أن كل ما قيل فيها لا يخلو عن قصور و نقصان ، و الأولى فيها السكوت و التأدب بآداب الشرع.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|