أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-11-2014
2701
التاريخ: 20-09-2014
1998
التاريخ: 5-11-2014
1813
التاريخ:
1459
|
الإيجاز إمّا بظاهر الحذف ، في حرف أو كلمة أو جملة ... ممّا يتَنبّه له اللبيب من غير كبير كلفة ؛ لدلالة فحوى الكلام عليه ، أو غير محذوف الظاهر ، سوى أنّه من قليل اللفظ كثير المعنى . ويُسمّى إيجاز القصر .
قال ابن الأثير : والتنبّه لمواضع القصر فيه عسر جدّاً ، يحتاج إلى فضل تأمّل وطور تدبّر ؛ لخفاء ما يستدلّ عليه ، ولا يستنبطه إلاّ مَن رست قدمه في ممارسة هذا العلم ( البيان ) وصار له خليقة ومَلَكة (1) .
إيجاز حذف :
قال ابن الأثر : أمّا الإيجاز بالحذف فإنّه عجيب الأمر شبيه بالسحر ؛ وذاك أنّك ترى فيه ترك الذِكر أفصح من الذِكر ، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة ، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق ، وأتمّ ما تكون مبيّناً إذا لم تبيّن ، وهذه جملة تُنكرها حتى تَخبُر ، وتدفعُها حتى تَنظُر (2) .
ومن شرط حسنه ، بل من لزوم حكم البلاغة فيه ، أنّه متى أُظهر صار الكلام إلى شيء غثّ ، لا يناسب ما كان عليه أَوّلاً من الطلاوة والجمال .
وقد أكثر القرآن منه وأجاد فيه بما أثار الإعجاب ، وأبان سرّاً من أسرار الإعجاز ، القرآن لا يقف عند حدّ اجتناب الحشو والفضول من الكلام ، وانتقاء الألفاظ والكلمات التامة الانطباق بالمعنى المراد ، بل إنّه كثيراً ما يسلك في الإيجاز سبيلاً أعزّ وأعجب تراه يعمد ـ بعد حذف فضول الكلام وزوائده ـ إلى حذف شيء من أُصوله وأركانه التي لا يتمّ الكلام في العادة إلاّ به ، ولا يستقيم المعنى بدونه ، وفي نفس الوقت يستثمر من تلك البقية الباقية ما يؤدّي المعنى كاملاً ، في وضوح وطلاوة وعذوبة ، حتى يُخيَّل إليك من سهولة المسلك أنّ لفظة أوسع من المعنى قليلاً .
وإذا ما طلبت سرّ ذلك رأيته قد أودع معنى تلك الكلمات المحذوفة أو الجمل المطويّة ، في كلمة هنا و حرف هناك ، ثمّ أدار الأُسلوب إدارة عجيبة ، وأمرّ عليها جَندَرة البيان (3) بيد صنّاعة ، فأحكم بها خلقه وسوّاه ، ثمّ نفخ فيه من روحه ، فإذا هو مصقول أملس ، وإذا هو نيّر مشرق ، لا تشعر النفس بما كان فيه من حذف أو طيّ ، ولا بما صار إليه من استغناء واكتفاء ، إلاّ بعد تأمّل وفحص دقيق .
انظر إلى قوله تعالى : {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [يونس : 11].
وردت الآية بشأن أولئك المجرمين ، ممَّن كان يتجاسر بموقف الرسول ويتهكّم به ، قائلاً متمسخراً : {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال : 32] .
وقد قال تعالى بشأنهم : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال : 32] .
وقال : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [يونس : 50، 51].
إلى غيرها من آيات تنم عن سفه أحلام المجرمين ، وقد ألحدوا في آياته .
فقد جاء قوله تعالى ـ في الآية ـ ردّاً على سفههم في استعجال العذاب : ماذا يستعجل هؤلاء ؟ أيستعجلون الشرّ ؟ وهل ذاك في صالحهم لو يُعجّل الله لهم بالشرّ ؟ ... فكانت الآية في نظمها الطبيعي مسوقة في ثلاثة مقاطع :
أولاً : لو كانت سنّة الله أن يعجّل للناس الشرّ إذا استعجلوه كاستعجالهم بالخير لعجّل لهم بالشرّ كما يُعجّل لهم بالخير .
ثانياً : لكن سنّته تعالى جرت بإمهال الظالمين حتى يحين حينهم .
ثالثاً : فعلى وِفق هذا النظام الرتيب يترك الظالمون وشأنهم في هذه الحياة حتى يومهم الموعود .
تلك جمل ثلاث كان الكلام في وضعه العادي مؤتلفاً منها ، اثنتان مقدّمتان ، والثالثة هي النتيجة ، على شكل برهان ، لكن القرآن اقتصر على الجملة الأُولى والأخيرة ، طاوياً ذكر الثانية الوسطى ، والتي كانت جملة استدراكية حسب الترتيب المنطقي المألوف .
وبعد ، أَفهل يُحسّ بنقص في الكلام ، أو بخلل في نظمه وتأليفه ؟ أم هو كلام واحد منسجم تمام الانسجام ووافٍ الغرض من الكلام تمام الإيفاء ؟
ولعلّك عرفت البديل من المحذوف المطويّ ، هي دلالة ( لو ) الامتناعية في صدر الكلام و( فاء ) النتيجة في ذيله ، وهذا البديل أغنى عن ذكر المحذوف ، ولعلّه أنساه من طيّ الكلام بالمرّة ، ولو ذُكر لكان حشواً .
ومِن ثَمّ عيب على بيت الحماسي قوله :
ولو طارَ ذو حافرٍ قَبلَها لطارتْ ولكنّه لم iiيَطرِ
إذ لا حاجة إلى ذكر الاستثناء بعد وضوح ودلالة الكلام عليه .
وأبرع الإيجاز ما كان بحذف الجمل التامّة ، هي أسئلة مقدّرة أو تعاليل وأسباب ومسبّبات أو غير ذلك ممّا فصّله علماء البيان (4) .
من ذلك قوله تعالى : {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ * وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف : 47 - 50].
فكان قوله : ( وَقَالَ الْمَلِكُ ... ) واقعاً بعد تقدير جُمل ، كأنّه قال : فرجع الرسول إليهم ، فأخبرهم بمقالة يوسف ، فعجبوا لها ، وقال الملك ...
قال ابن الأثير : والمحذوف إذا كان كذلك دلّ عليه الكلام دلالة ظاهرة ؛ لأنّه إذا ثبتت حاشيتا الكلام وحُذف وسطه ظهر المحذوف ظهوراً تامّاً .
وهكذا ورد قوله تعالى : {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } [يوسف : 96 - 99] .
فقد حذف من هذا الكلام جملة ، تقديرها : ثمّ إنّهم تجهّزوا وساروا إلى مصر ، فلمّا دخلوا على يوسف ...
قال : وقد ورد من هذا الضرب ( الإيجاز بحذف الجمل ) في القرآن الكريم كثيراً ، كقوله تعالى : {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} [القصص : 12، 13] ؛ لأنّها لمّا قالت : ( هل أدلّكم ... ) قالوا : نعم ، فدلّتهم على امرأة فجيء بها ، وهي أُمّه ، ولم يعلموا بها ، فأرضعته ، فكان قوله : ( فرددناه ... ) تعقيباً على ذلك المحذوف ودليلاً عليه .
وممّا يجري على هذا المنهج قوله تعالى في قصّة سليمان ( عليه السلام ) مع الهدهد في إرساله بالكتاب إلى بلقيس : {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ *اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل : 27 - 29].
تقديره : فأخذ الكتاب ، وذهب به ، فلمّا ألقاه إلى المرأة وقرأته قالت ...
قال : ومن الإيجاز بحذف الجمل ما يعسر تقدير المحذوف منه ، بخلاف ما جاء في القرآن الكريم ، أَلا ترى أنّ الآيات المذكورة كلها إذا تأمّلتها وجدت معانيها متّصلة من غير تقدير للمحذوفات التي قدّرنا الحذف فيها ؛ انتظاماً لظاهر نظم الكلام ، على أنّ تقدير تلك المحذوفات سهر ببديهة النظر (5) .
فوائد الحذف :
منها : مجرّد الاختصار والاحتراس عن العبث لظهوره .
ومنها : التنبيه على أنّ الزمان يتقاصر عن الإتيان بالمحذوف ، وأنّ الاشتغال بذكره يفضي إلى تفويت الأهم ـ كما في بابي التحذير والإغراء ـ وقد اجتمعا معاً في قوله تعالى : {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس : 13] فـ ( ناقة الله ) تحذير ، بتقدير : ذروا ، و( سقياها ) إغراء ، بتقدير : ألزموا .
ومنها : التفخيم والإعظام ، لِما فيه من الإيهام ، فقد يُحذف الشيء وتترك النفس تجول لتعثر عليه بباعث حبّ الاستطلاع ، فيدعو ذلك إلى الاهتمام به ، ولهذا القصد يُؤثر الحذف في مواضع يُراد فيها التعجّب والتهويل على النفوس .
ومنه قوله تعالى ـ في وصف أهل الجنّة ـ {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر : 73] فحُذف الجواب لدلالة فحوى الكلام على عظم الكرامة التي يلقونها حينذاك ، فقد ضاق الكلام عن الإحاطة بذِكر تلك الأوصاف .
وكذا قوله ـ بشأن أهل النار ـ : {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام : 27] ، أي لرأيت أمراً فظيعاً لا تكاد تحيط به العبارة .
ومنها : التخفيف ، لكثرة دورانها على الألسن ، كما في حذف حرف النداء في قوله تعالى : {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف : 29].
ومنها غير ذلك حسبما فصّله علماء البيان ، فراجع (6) .
إيجاز قصر :
وهو ما لا حذف فيه ، ولا تقدير ، سوى أنّه من قليل اللفظ كثير المعنى ، ويكون نضد الكلمات بحيث لا يوجد بينها لفظ زائد ، حتى لو أُزيل لفظ من موضعه أو رُفعت كلمة أو أُبدلت إلى غيرها لاختلّ المعنى وأفاد غير المقصود ، وهذا من البلاغة بمكان ، وقد يبلغ حدّ الإعجاز كما في القرآن .
فممّا جاء منه قوله تعالى : { قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس : 17 - 23] فقوله : ( قتل الإنسان ... ) دعاءٌ عليه ، وقوله : ( ما أكفره ... ) تعجّب من إفراطه في كفران نِعم الله عليه .
قال ابن الأثير : ولا نرى أُسلوباً أغلظ من هذا الدعاء والتعجّب ، ولا أخشن مسّاً ، ولا أدلّ على سخط ، مع تقارب طرفيه ، ولا أجمع للأئمّة ، على قصر متنه .
ثمّ إنّه أخذ في صفة حاله من ابتداء حدوثه إلى منتهى أجله ومآل أمره ، فقال : ( مِنْ أَيّ شَيءٍ خَلَقَهُ ) .
ثمّ بيّنَ الشيء الذي خُلق منه : ( مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ ) أي هيّأه لِما يصلح له .
( ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ ) أي سهّل سبيله ، وهو مخرجه من بطن أُمّه ، أو السبيل الذي
يختار سلوكه في الحياة من خير أو شر .
( ثُمّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) أي جعله ذا قبر يُوارى فيه .
( ثُمّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ ) أي أحياء ليوم النشور .
( كلاّ ) ردع لهذا الإنسان الكفور ، العاتي ، العاصي لأمر ربّه الكريم .
( لَمّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) أي لم يقضِ مع تطاول عهده بالتكليف ، يعني أنّ إنساناً لم يخلُ من تقصير قطّ .
أَلا ترى إلى هذا الكلام الذي لو أردت أن تحذف منه كلمة واحدة لما قدرت على ذلك ؛ لأنّك كنت ذهبت بجزءٍ من معناه ، ولأخلَلت بأُسٍّ من أُسس المقصود فلله درّه من كلام وجيز بليغ .
قال ابن الأثير : والإيجاز هو أن لا يمكنك أن تسقط شيئاً من ألفاظه (7) .
والآيات الواردة من هذا الضرب كثيرة كقوله تعالى : ( فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ) .
ما أجمل هذا الكلام وأكمله وأوفاه ، في حين وجازته البالغة .
فقوله : ( فَلَهُ ما سَلفَ ) من جوامع الكلم ، ومعناه : أنّ خطاياه الماضية قد غُفرت له ، وتاب الله عليه فيها ، إلاّ أنّ قوله : ( فَلَهُ ما سلفَ ) أبلغ ... أي أنّ السالف من ذنوبه لا يكون عليه إنّما هو له أي موهوب له .
وكذلك ورد قوله : {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [الروم : 44].
فقوله : ( فعليهِ كُفرُهُ ) كلمة جامعة ، تُغني عن ذكر ضروب من العذاب ؛ لأنّ مَن أحاط به كفره فقد أحاطت به كل خطيئته .
وعلى نحوٍ من هذا جاء قوله : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [النحل : 90] .
فهذه الآية من جوامع الآيات الواردة في القرآن الكريم ، الباهرة البالغة أعلى درجات الإعجاز ، المثيرة للإعجاب !
رُوي أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) قرأها على الوليد بن المغيرة ، فقال له : يا ابن أخي أعده ، فأعاد النبي ( صلّى الله عليه وآله ) قراءتها عليه ، فقال له : إنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر (8) .
ومن هذا النحو قوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق : 16 - 18] .
هذه الآيات من قوارع القرآن العجيبة ـ التي دلّت على تخويفٍ وإرهاب ـ ترقّ له القلوب وتقشعرّ منه الجلود ، وهي مشتملة على قصرها على حال الإنسان منذ خلقه إلى حين حشره وحشر غيره من الناس ، وتصوير ذلك اليوم الرهيب والأمر الفظيع ، في أسهل لفظ وأرقّ تعبير ، وما مرّ عليه إنسان مكابد خطاياه إلاّ تيقّظ عنده تيقّظاً .
ومن هذا الضرب ورد عن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في دعائه لأبي سَلَمة (9) عند موته : ( اللهمّ ارفع درجته في المهتدين ، واخلفه في عقبه في الغابرين ، لنا وله يا ربّ العالمين ) .
وهذا دعاء جامع بين الإيجاز وبين مناسبة الحال التي وقع فيها ، فأَوّله مفتتح بالمهمّ الذي يفتقر إليه المدعوّ له في تلك الحال ، وهو رفع درجته في الآخرة ، وثانيه مردف بالمهمّ الذي يؤثره المدعو له من صلاح حال عقبه من بعده في الدنيا ، وثالثه مختم بالجمع بين الداعي والمدعوّ له .
قال ابن الأثير : وهذا من الإيجاز البليغ الذي هو طباق ما تقصد له (10) .
ومن الإيجاز بالقصر ما لا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدّتها ، لا بل يستحيل ذلك عادة ، وهو أعلى طبقات الإيجاز وأشرفها وأعزّها شأناً ، ولا يوجد مثله في كلام البلغاء إلاّ شاذّاً نادراً ، قال ابن الأثير : والقرآن الكريم ملآن منه (11) .
قال تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف : 199] ، فقد جمعت الآية جميع مكارم الأخلاق والقصد في السلوك الذي هو الصراط المستقيم في الحياة .
وهذا شأن جُلّ آيات الذكر الحكيم ، وإن كان قد يرتقي شأن البلاغة في بعضها أوجهاً فوق أطباق السماء ، وقد يتنزّل بعضها إلى آفاق قريبة من متفاهم الأعراف ، {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا } [الإسراء : 106] {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف : 2] ، ومِن ثَمّ قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : ( مَن شاء يرتع رياضَ الأنائق فعليه بآل حم ) .
ومنه قوله تعالى : {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة : 179] ؛ إذ لا يمكن التعبير عنه إلاّ بألفاظ كثيرة ـ على ما عرفت في كلام مسبق ـ .
قال ابن الأثير : ولا يُلتفت إلى ما ورد عن العرب : ( القتل أنفى للقتل ) ، فإنّ مَن لا يعلم يظنّ أن هذا على وزن الآية ، وليس كذلك ، بل بينهما فرق من ثلاثة أوجه :
الأوّل : أنّ ( القصاص حياة ) لفظتان ، و( القتل أنفى للقتل ) ثلاثة ألفاظ .
الثاني : أنّ في قولهم تكريراً ، ليس في الآية .
الثالث : أنّه ليس كل قتل نافياً للقتل ، إلاّ إذا كان على حكم القصاص .
وقد صاغ أبو تمّام هذا المعنى الوارد عن العرب في بعض بيت من شعره :
وأَخافَكُم كي تُغمِدوا أسيافَكم إنّ الدمَ المُعترَّ يحرسُهُ iiالدمُ
فإنّ قوله : ( إنّ الدمَ المعترّ يحرسُهُ الدم ) أحسن ممّا ورد عن العرب (12) ، والدم المعترّ : النَفْس المهدّدة المضطربة تخاف هدرها .
وقد ورد في الأخبار النبوية من هذا الضرب ( من الإيجاز البليغ ) شيء كثر ، وإليك نماذج منه :
فمِن ذلك قوله ( صلّى الله عليه وآله ) : ( حلالٌ بيّن ، وحرامٌ بيّن ، وبينهما شبهات ) (13) .
وهذا من أجمع الأحاديث للمعاني الكثيرة ؛ وذلك أنّه يشتمل على جُلّ الأحكام الشرعية ، فإنّ الحلال والحرام إمّا أن يكون الحكم فيهما بيّناً لا خلاف فيه بين العلماء ، وإمّا أن يكون خافياً يتجاذبه وجوه التأويلات ، فكل منهم يذهب فيه مذهباً .
وكذلك جاء قوله ( صلّى الله عليه وآله ) : ( الأعمال بالنيّات ، وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى ) (14) هو من جوامع الكَلم ومن غرر الكلام .
قال ابن الأثير : وممّا أطربني من ذلك حديث الحديبية ، وهو أنّه جاء بديل ابن ورقاء إلى النبي ( صلّى الله عليه وآله ) فقال : إنّي تركت كعب بن لؤي ، معهم العوذ المطافيل (15) وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت .
فقال له النبي ( صلّى الله عليه وآله ) : ( إنّ قريشاً قد نهكتهم الحرب ، فإن شاءوا ماددناهم مدّة ، ويدعوا بيني وبين الناس ، فإن أَظهَر عليهم وأحبّوا أن يدخلوا فيما دخل الناس ، وإلاّ كانوا قد جمّوا ، وإن أبوا ، فو الذي نفسي بيده لأُقاتلنّهم على أمري هذا ، حتى تنفرد سالفتي هذه ، ولينفذنّ الله أمره ) .
هذا الحديث من جوامع الكلم وهو من الفصاحة والبلاغة على غاية لا ينتهي إليها وصف الواصفين (16) .
وذكر الشريف الرضي في نهج البلاغة عن مولانا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كلامه التالي : ( الحجر الغصيب في الدار رهن على خرابها ) (17) .
ثمّ قال : ويُروى هذا الكلام عن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، ولا عجب أن يشتبه الكلامان ؛ لأنّ مستقاهما من قليب ومفرغهما من ذَنوب .
فلنذكر من جلائل كلامه ( عليه السلام ) نتفاً :
قال ( عليه السلام ) : ( لنا حقّ فإنّ أعطيناه وإلاّ ركبنا أعجاز الإبل وإن طال السُرى ) (18) . فما أجمله من استعارة لطيفة وأوفاها بهدف المقصود .
قال الشريف الرضي : وهذا من لطيف الكلام وفصيحه .
ومعناه : إنّا إذا لم نُعطَ حقّنا لم نكن ممَّن يتنكّب الطريق ويعتزل عن جماعة المسلمين ، بل نشقّ طريقنا إلى الأمام مع ركب الجماعة ، وإن كنّا في حالة حرجة وركوب مشقّة ؛ لأنّ ركوب مؤخّرات الإبل ممّا يشقّ احتماله والصبر عليه ، وإلى هذا يشير في خطبته الشقشقية : ( فصبرت وفي الحلق شجى وفي العين قذى ... أرى تراثي نهبا ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( لسانُ العاقلِ وراءَ قلبهِ وقلبُ الأحمقِ وراءَ لسانهِ ) (19) .
قال الشريف : وهذا من المعاني العجيبة الشريفة . والمراد : أنّ العاقل لا يُطلق لسانه إلاّ بعد مشاورة الرويّة ومؤامرة الفكرة ، والأحمق تسبق حذفاتُ لسانه وفلتاتُ كلامه مراجعة فكره ومماخضة رأيه ، فكأنّ لسان العاقل تابع لقلبه ، وكأنّ قلب الأحمق تابع للسانه .
وقال ( عليه السلام ) : ( قيمةُ كل امرىءٍ ما يُحسنه ) (20) .
قال الشريف : وهذه الكلمة ، التي لا تُصاب لها قيمة ، ولا توزن بها حكمة ، ولا تُقرن إليها كلمة ...
_______________________
(1) المثل السائر : ج2 ص275 ـ 276 .
(2) المصدر : ص279 .
(3) يقال : جَندرَ الكتاب بمعنى أمرّ القلم على ما درس منه ( النبأ العظيم : ص131 ) .
(4) راجع المَثل السائر : ج2 ص281 .
(5) المَثل السائر : ج2 ص291 .
(6) معترك الأقران : ج1 ص305 ـ 308 .
(7) المثل السائر : ج2 ص248 .
(8) المَثل السائر : ج2 ص335 .
(9) هو زوج أُمّ سَلَمة رضي الله عنها واسمه عبد الله ، وأُمّه برّة بنت عبد المطّلب ، وكان ممَّن هاجر الهجرتين ، وجُرح يوم أحد ، فمات منه سنة ثلاث من الهجرة .
(10) المَثل السائر : ج2 ص337 .
(11) المَثل السائر : ج2 ص333 و348 و352 .
(12) المَثل السائر : ج2 ص352 ـ 353 .
(13) عوالي اللآلي : ج1 ص89 .
(14) عوالي اللآلي : ج1 ص81 و380 .
(15) العوذ : الحديثات النِتاج من الظباء وكل أُنثى . والمطافيل : جمع مطفل بمعنى مَن يصحب معه طفله .
(16) المَثل السائر : ج2 ص342 .
(17) الكلمة رقم 237 .
(18) الكلمة رقم 21 .
(19) الكلمة رقم 40 .
(20) الكلمة رقم 80 .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|