أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-05-19
1304
التاريخ: 5-11-2014
3025
التاريخ: 20-09-2014
2105
التاريخ: 5-11-2014
4328
|
ميزة قرآنية أُخرى جاءت في تعابيره المفيضة بالحياة ، وتلك طريقته الفنّية في تصويره لمباهج هذا الكون ، لا تمسّ ريشة تعبيره جامداً إلاّ نَبَض بالحياة ، ولا يُصيب قلم تحبيره هامداً إلاّ انتفض بالتحرّك والهياج ، كأنّما العالم كله في لوحة تصاويره ، أحياء غير أموات ، والمظاهر كلها حركات لا هدوء ولا خمول ، هكذا يفعل القرآن في منطقه الساحر ، ويُصوّر من عالم الوجود في بيانه الباهر ، كل شيء حي ، وكل شيء دائب في الحركة مستوٍ في طريقه نحو الكمال ، تلك قدرته الفنّية في بيانه وفي إبداعه في فنون التصوير ، يخلع عليها الحركة والحياة ، ولم يعهد للعرب نظيره ، وقد حاز قصبَ السبق في مضماره .
* هذا هو الفجر ينبثق في مطلعه ، لكنّه في القرآن : {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير : 18] ، هذا هو الجديد في تعبير القرآن : الصبح حيّ يتنفّس ، أنفاسه الإشعاع والنور والضياء ، وإفاضته الحركة والحياة ، حركة تدبّ معها كل حيّ عند الصباح .
قال سيّد قطب : وتكاد اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيراً لهذا التعبير عن الصبح (1) وتكاد رؤية الفجر تُشعر القلب المتفتّح أنّه بالفعل يتنفّس ؛ لأنّ الصبح إذا أقبل أقبل بإقباله روح ونسيم ، كالمحتصر إذا زال غمّه يتنفّس الصُّعداء ، وقد كلّ اللسان عن النطق بها ، نعم يتنفّس الصبح تنفّس الأحياء ويصعد بأنفاسه ، هي أنواره نحو آفاق السماء .
* وهذا هو الليل له عسعسة أي حركة إلى الوراء لها صوت {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير : 17] أي أدبر وأخذ في التراجع إلى الوراء ، كأنّه يأخذ في الانهزام والتراجع إلى الخلف أمام هجمة أضواء النهار ، انظر إلى هذين المقطعين ( عس ، عس ) من كلمة ( عسعس ) كيف يُوحيان بحركة حثيثة ومنتظمة ، لها حسيس ، وكأنّه من أثر اصطكاك أرجلها الثقيلة مع الحسائك المُتيبّسة ولا سيّما في مثل ظلام الليل .
* ومثله {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ } [المدثر : 33، 34] وكأنّ الليل يُولّي مدبراً منهزماً تجاه أسفار الصباح ، ودقيقة أُخرى : الفرق بين ( إذ ) في التعبيرين ، وهو توقيت دبور الليل بوقت إسفار الصباح ، وهكذا الليل لا يطيق النظر إلى وجه الصباح عند إسفاره .
* وهكذا الليل يسري {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر : 4] ... يقال : سرى يسري إذا سار في الليل ، وهو أفضل المسير أيام القرّ ، ترافقه نفحة ونسيم ، لكن في تعبير القرآن كأنّ الليل هو الساري ، وهو آن من آنات الزمان ، يتّخذ مسيره في هدوء وهينة واتّئاد ، وكأنّه ساهر يجول في ظلام ، أو مسافر يختار السري لرحلته هذه في الفضاء ، يا له من أناقة في التعبير ، ورقّة ولطف ، أضف إليه جمال تناسقه ونغمه مع {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } [الفجر : 1 - 3].
* وكذلك الليل يطلب النهار طلباً حثيثاً {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف : 54] وكأنّهما فَرسا سباق يتعاقبان ، لكنّ الليل سائر خلف النهار وفي أثره سيراً حثيثاً سريعاً لا وقفة فيه ولا فتور ، وهل يطلبه ليفتك به والنهار شارد أمامه يخشى فتكه ؟! حتى إذا ما وقعت حبائل الليل عليه حصره وأحاطه ، وإذا الدنيا كلّها ظلام .
* والجدار بنية جامدة كالجلمود ، لكنّه في تعبير القرآن صاحب حسّ وإرادة وعقل ؛ لأنّه يريد أن ينقضّ {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف : 77].
* والجبال ، وهي على الأرض يُسار بها مع الأرض ، لكنّها في تعبير القرآن هي التي تجتاز الفضاء وتمرّ مرّ السحاب ، رغم أنّك تحسبها جامدة أي واقفة لا حراك فيها : {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل : 88].
* والسماوات والأرض تحسبها جوامد ، لكنّها تنطق وتُسبّح في منطق القرآن : {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ} [الإسراء : 44].
* والرعد ، صوت البرق يحصل من خرق في طبقات الجوّ ، لكن له دمدمة وزمزمة وتسبيح {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد : 13] .
* وهكذا الجبال يُرافقنَ الأنبياء في الحمد والتسبيح {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } [الأنبياء : 79] {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ } [ص : 18].
* بل وكان لها عقل واختيار ؛ ومِن ثَمّ فإنّها تقع تحت تكليف واختيار {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت : 11] .
* وفوق ذلك فإنّ لها حقّ الرفض أو القبول فيها إذا عُرضت عليها مشاقّ التكاليف .
* وهذه جهنم تتكلّم وتنطق عن نَهمها وجشعها ، وفوق ذلك فهي ترى وتدعو مَن أدبر وتولّى ، فتغيظ عليهم وتكاد تتميّز من الغيظ ، ولها زفير وشهيق .
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق : 30] .
{إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج : 15 - 17] .
{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } [الفرقان : 12] .
{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك : 7، 8].
* وهذه الشمس وهذا القمر كوكبان ، الشمس تَشغل مركزية المنظومة وهي تجري لمستقرٍّ لها ، وتجرّ معها أبناءها وبناتها ، وهم يدورون حولها ، والقمر يدور حول الأرض التي هي بدورها تدور حول الشمس ، لكنّهما بظاهر المشاهدة الحسّية يدوران حول الأرض عند رؤية العين المجرّدة ، كأنَهما يتلاحقان ، كما أنّ الليل والنهار يتسابقان على سطح الأرض ، هذا من طرف وهذا من جانب ، لكن كأنّ عَرْصة الفضاء ساحة المسابقة ، والسبّاق هم : الشمس والقمر والليل والنهار ، فساحة الكون كلّه عَرْصة السباق ، والفضاء جميعه تسابق وتنافس وحركة وحياة ... {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل : 88] .
* وأعجب من ذلك أنّه يُصوّر من حالة الغضب ـ وهي صفة نفسانية ـ إنساناً صاحب شعور وإدراك رقيق ، قد يثور ويفور غيظه ثمّ يهدأ ويسكن غضبه ، وقد جاء في التعبير القرآني عن هذا الثَوَران بإلقاء الوساوس والإغراء بالأخطار ، وعن ذاك الهدوء بالسكوت والإمساك عن الكلام .
قال الزمخشري ـ عند تفسير قوله تعالى : {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف : 154] ـ : كأنّ الغضب كان يُغريه على فعل ما فعل ، ويقول له : قل لقومك كذا ، وألقِ بالألواح ، وجرّ برأس أخيك إليك ، هكذا كان يهمس في أُذُنه ويُلقي في روعه ، فكأنّ موسى يفعل ما يفعل بإغرائه وتحريضه ، حتّى إذا ما سكت الغضب عن الكلام وأمسك بلسانه ترك موسى وشأنه وقطع الإغراء .
قال : ولم يَستحسن هذه الكلمة ولم يَستفصحها كلّ ذي طبع سليم وذوق صحيح إلاّ لذلك ؛ ولأنّه من قبيل شُعب البلاغة ، وإلاّ فما لقراءة معاوية بن قرة :
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف : 154] لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهزّة وطرفاً من تلك الروعة .
______________________
(1) في ظِلال القرآن : ج8 ص482 .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|