المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8120 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05
مـعاييـر تحـسيـن الإنـتاجـيـة
2024-11-05
نـسـب الإنـتاجـيـة والغـرض مـنها
2024-11-05
المـقيـاس الكـلـي للإنتاجـيـة
2024-11-05
الإدارة بـمؤشـرات الإنـتاجـيـة (مـبادئ الإنـتـاجـيـة)
2024-11-05
زكاة الفطرة
2024-11-05



مقتضى الأصل الثانوي في المتعارضين (أخبار التراجيح)  
  
693   10:49 صباحاً   التاريخ: 1-9-2016
المؤلف : ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : أنوَار الاُصُول
الجزء والصفحة : ج 3 ص 486.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / تعارض الادلة /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-9-2016 1115
التاريخ: 1-9-2016 983
التاريخ: 1-9-2016 1212
التاريخ: 17-7-2020 838

المشهور والمعروف وجوب أعمال المرجّحات قبل أن تصل النوبة إلى التخيير وذهب بعض كالمحقّق الخراساني(رحمه الله) إلى عدم وجوبه، والأقوى هو ما ذهب إليه المشهور، ويدلّ على ذلك اُمور:

الأوّل: الأخبار

فإنّها تأمر بالترجيح، والأمر ظاهر في الوجوب وهى على طوائف:

الطائفة الاُولى: ما يدلّ على أنّ المرجّحات أكثر من مرجّحين وهى عديدة:

منها: مقبولة عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } [النساء: 60] قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما إستخفّ بحكم الله وعلينا ردّ، والرادّ علينا رادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله، فإن كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكون الناظرين في حقّهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم (حديثنا) فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال: فقلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضّل (ليس يتفاضل) واحد منهما على صاحبه؟ قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عيه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الاُمور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتّبع وأمر بيّن غيّه فيجتنب وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ومن أخذ بالشبهات إرتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم، قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة، قلت: جعلت فداك إن رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ فقال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد، فقلت: جعلت فداك فإن وافقها الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر، قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً قال: إذا كان ذلك فارجه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات»(1).

فإنّ هذه الرواية تأمر بالترجيح بالشهرة وبموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ومخالفة ميل الحكّام، ولكنّه إستشكل فيها سنداً ودلالة:

أمّا السند فلعمر بن حنظلة حيث إنّه لم يوثّق في كتب الرجال، نعم نقل المحقّق المامقاني(رحمه الله) لتوثيقه روايتين:

إحديهما: ما رواه يزيد بن خليفة قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) أنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت فقال أبو عبدالله(عليه السلام) «إذاً لا يكذب علينا ... قال: صدق»(2).

ثانيهما: ما رواه عمر بن حنظلة نفسه عن أبي عبدالله (عليه السلام) في جواب السؤال عن القنوت يوم الجمعة قال(عليه السلام)« أنت رسولي إليهم ...»(3)، حيث إنّ رسالته عن الصادق(عليه السلام) دليل على أنّ له شأناً من الشأن.

هذا ـ مضافاً إلى حكاية المجلسي(رحمه الله) في روضة المتّقين(4) عن الشهيد الثاني(رحمه الله) أنّه وثّقه في الدراية.

ولكن مع ذلك كلّه لا يتمّ السند بعد، لأنّ يزيد بن خليفة مجهول الحال في علم الرجال، والرواية الثانية راويها نفس عمر بن حنظلة فالاستدلال به دوري، وأمّا توثيق الشهيد الثاني(رحمه الله) فلعلّ مبناه هاتان الروايتان نفسهما، فمن البعيد أنّه وصل إليه ما لم يصل إلى غيره، مضافاً إلى أنّه نفسه صرّح في درايته، بوجود مجاهيل اُخرى في الرواية منه محمّد بن عدي وداود بن حسين، والعجب منه أنه قال: عمر بن حنظلة لم ينصّ الأصحاب فيه بجرح ولا تعديل لكن أمره عندي سهل لأنّي حقّقت توثيقه من محلّ آخر وإن كانوا قد أهملوه»(5).

ويا ليته أشار إلى طريقه فإنّه لا يصحّ لنا الحكم بالمجهول.

إن قلت: «إنّ الصحيح بناءً على القاعدة المختارة في الرجال (من توثيق من ينقل عنه أحد الثلاثة) صحّة سندها، وذلك باعتبار أنّه يمكن توثيق يزيد بن خليفة بهذه القاعدة حيث قد روى عنه صفوان بن يحيى (وهو أحد الثلاثة) بسند معتبر في باب كفّارة الصوم من الكافي(6)فنثبت بذلك وثاقته، وبروايته نثبت وثاقة عمر بن حنظلة أيضاً فالمقبولة صحيحة سنداً»(7).

قلنا: هذه القاعدة غير ثابتة عندنا لأنّ أحد هؤلاء الثلاثة هو ابن أبي عمير، وقد روى عن علي بن حديد وقد ضعّفه الشيخ(رحمه الله) في مواضع من كتابه وبالغ في تضعيفه وقد روى هو أيضاً وصفوان (فرد آخر من الأعلام الثلاثة) عن يونس بن ظبيان وهو من أضعف الضعاف إلى غير ذلك من الضعاف الذين روى هؤلاء عنهم(8) وكيف يصحّ مع ذلك الاعتماد على تلك القاعدة وأنّ الأعلام الثلاثة لا يروون إلاّ عن الثقات؟

فظهر أنّه لا يمكن توثيق عمر بن حنظلة بهاتين الروايتين، نعم لا أقلّ من تأييدهما لوثاقته، كما يمكن التأييد بأنّه نقلها المشايخ الثلاثة في ثلاث من الكتب الأربعة، والمهمّ في المقام إنّما هو عمل الأصحاب بهذه الرواية فتلقّوه بالقبول حتّى سمّيت مقبولة.

وأمّا الدلالة فقد نوقش فيها من جهات شتّى:

1 ـ من أنّ ظاهرها جواز كون القاضي إثنين مع أنّه ممنوع في فقهنا.

2 ـ سلّمنا ولكن من البعيد جدّاً وقوع قضائهما في آن واحد بل أحدهما يتقدّم على الآخر غالباً، وحينئذ لا إشكال في عدم جواز نقض المتأخّر قضاء المتقدّم وإن كان أعلم منه مع أنّ ظاهر هذه الرواية جوازه.

3 ـ إنّ ظاهره أنّ أحدهما اعتمد في قضائه على الخبر الشاذّ وغفل عن المعارض المشهور، وهذا دليل على نقصان فحصه أو عدم فحصه عن الأدلّة رأساً، ومعه كيف يتمّ له القضاء؟

4 ـ ظاهر قوله(عليه السلام): ينظر إلى ما كان من روايتهما ... وكذلك قوله(عليه السلام): «ينظر فما وافق ...» وقوله(عليه السلام): «ينظر إلى ما هم إليه أميل ...» جواز نظر أرباب الدعوى ودخالتهم في القضاء وهو ممنوع بلا ريب.

5 ـ إنّ ظاهرها تقدّم الترجيح بصفات القاضي على الترجيح بموافقة الكتاب مع أنّ المشهور خلافه.

6 ـ الظاهر جواز الترجيح في صفات القاضي بأحد الصفات المذكورة في هذه الرواية (وهى الأعدليّة والأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة) مع أنّ ظاهرها بقرينة واو الجمع لزوم اجتماعها.

7 ـ إنّ الاحتجاج بها على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو عن إشكال لقوّة احتمال الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة كما هو موردها ولا وجه معه للتعدّي منه إلى غيره.

توضيح ذلك: أنّ الإمام (عليه السلام) بعد ما ذكر مرجّحات القاضيين وإن كان قد ذكر مرجّحات الخبرين أيضاً ولكن الترجيح في الخبرين إنّما يكون لدفع خصومة المتخاصمين فلا يمكن الاحتجاج بها لوجوب الترجيح في مقام الفتوى أيضاً، وذلك لقوّة احتمال اختصاص الترجيح بتلك المزايا المنصوصة بمورد الحكومة والقضاء فقط، فإنّ قطع الخصومة عند اختلاف القاضيين لاختلاف ما استند إليه من الخبرين لا يكاد يمكن إلاّ بالترجيح، بخلاف مقام العمل والفتوى فيمكن الأخذ فيه بأيّهما شاء من باب التسليم.

8 ـ إنّها مختصّة بزمان الحضور والتمكّن من لقاء الإمام (عليه السلام) بقرينة أمره في آخرها بالإرجاء حتّى تلقى إمامك.

9 ـ إنّ صدرها معارض لذيلها لأنّ الصدر ظاهر في أنّ أرباب الدعوى كانوا مقلّدين والذيل ظاهر في اجتهادهم بقرينة قوله(عليه السلام): «ينظر ...» فإنّ النظر والدقّة من عمل المجتهد لا المقلّد.

هذه هى جهات تسعة في المناقشة من ناحية الدلالة.

ولابدّ لحلّها والجواب عنها من البحث في أنّ هذه الرواية هل هى واردة في باب القضاء أو في باب الفتوى أو الحكومة والولاية، أو أنّ صدرها وارد في باب الحكومة وذيلها في باب الفتوى، أو أنّ صدرها وارد في باب القضاء وذيلها في باب الفتوى، أو أنّ صدرها وارد في باب القضاء ووسطها في باب الاجتهاد والتقليد وذيلها في باب تعارض الخبرين والافتاء؟ فالاحتمالات فيه ستّة، أظهرها هو الأخير.

والشاهد على أنّ صدرها مخصوص بباب القضاء أوّلا: التعبير بـ «المنازعة في دَين أو ميراث» فإنّ رفع المنازعة من شؤون القاضي وهو المرجع فيها، بل الرجوع إلى وليّ الأمر في مثل ذلك إنّما يكون بما هو قاض لا بما هو حاكم.

وثانياً: الجمع بين تعبيري «إلى السلطان» و «إلى القضاة» بواو الجمع، حيث إنّ ظاهره كون التحاكم إلى السلطان من باب أنّه قاض لا بما أنّه حاكم.

ثالثاً: التعبير بالحكم في قوله(عليه السلام): «وما يحكم به ...»، فإنّ الحكم من شؤون القاضي لا الحاكم بما هو حاكم، حيث إنّ مقام الحكومة والولاية مقام الإجراء لا مقام إصدار الحكم.

رابعاً: الاستدلال بقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } [النساء: 60] لأنّ هذه الآية إنّما وردت في مورد القضاء في قصّة يهودي ومسلم منافق رضي اليهودي بقضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يرض المسلم المنافق به).

خامساً: التعبير بقوله(عليه السلام): «كلاهما اختلفا في حديثكم» لما مرّ من أنّ وظيفة الحاكم الشرعي بما هو حاكم إجراء الأحكام لا ملاحظة أدلّة الأحكام والبحث عن تعارضها والاختلاف فيها.

سادساً: اعمال المرجّحات فيها لأنّه أيضاً ليس من شؤون الحاكم.

فظهر أنّ هذه الرواية قد وردت في الشبهة الموضوعيّة ومورد القضاء، غاية الأمر حيث إنّ الأمر فيها إنتهى إلى الشبهة الحكميّة والاختلاف في الأحاديث في الأثناء وصلت النوبة في الذيل إلى مسألة التعارض واعمال المرجّحات.

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى الجواب عن الإشكالات التسعة فنقول ومن الله التوفيق والهداية:

أمّا الإشكال الأوّل فجوابه: أنّ تعدّد القاضي ممنوع في المنصوب منه لا في التحكيم.

وأمّا الإشكال الثاني فجوابه أيضاً: أنّ عدم جواز نقض حكم القاضي لا يأتي في قاضي التحكيم فإنّ من لوازم جواز تعدّده نقض أحد القاضيين حكم الآخر، فتأمّل.

وأمّا الإشكال الثالث فجوابه: أنّه لا منافاة بين طرد رواية وكونها مشهورة لأنّ المراد من الشهرة إنّما هى الشهرة الروائية لا الفتوائية.

وظهر ممّا ذكرنا من المقدّمة الجواب عن الإشكال الرابع (وهو عدم جواز دخالة أرباب الدعوى في القضاء) حيث إنّ المسألة تبدّلت من القضاء إلى الفتوى، ومنها إلى منبع الفتوى أي الخبرين، وفيه لابدّ من النظر إلى المرجّحات فرجوعهما إلى المرجّحات إنّما يكون لاستنباط

الحكم من ناحيتهما لا بما أنّهم أرباب الدعوى.

وهكذا الجواب عن الإشكال الخامس (وهو عدم جواز تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بموافقة الكتاب)، لأنّ الرجوع إلى الصفات إنّما هو لتقديم حاكم على حاكم أو مفت على مفت لا تقديم إحدى الروايتين على الاُخرى، ولذا قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما ...» وقال بعده: «ينظر إلى ما كان من روايتهما ...» فالأوّل مزيّة للحاكم أو المفتي، والثاني مزيّة للرواية.

وأمّا الإشكال السادس: (وهو أنّ ظاهر المقبولة لزوم اجتماع الصفات الأربعة) فجوابه: أنّ الواو فيها بمعنى «أو»، والشاهد عليه ما ورد في الذيل من قول(عليه السلام) السائل: «لا يفضل واحد منهما على صاحبه» فإنّ ظاهره لزوم ترجيح من يفضّل بواحدة من هذه الصفات وأنّه هو المراد من ما قبله بقرينة المقابلة.

وظهر ممّا ذكرنا في المقدّمة أيضاً الجواب عن الإشكال السابع (وهو احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة) لأنّ الوارد في باب الحكومة وفصل الخصومة إنّما هو صدر الرواية لا ذيلها، فإنّه وارد في باب تعارض الخبرين في مقام الفتوى.

وأمّا الإشكال الثامن: (وهو اختصاص الرواية بزمن الحضور) فجوابه أوّلا: إنّ مقتضى قاعدة الاشتراك في التكليف عدم الفرق بين الزمنين ما لم تقم قرينة على الخلاف، وثانياً: إذا كان الحكم في زمن الحضور مع إمكان لقاء الإمام(عليه السلام) هكذا، ففي زمن الغيبة وعدم التمكّن من الإمام يكون كذلك بطريق أولى.

وأمّا الإشكال التاسع: (وهو وجود تناقض بين الصدر والذيل، فإنّ الصدر ظاهر في التقليد والذيل في الاجتهاد) فجوابه أنّه فرق بين الاجتهاد في عصر الحضور والاجتهاد في أعصارنا فإنّ قواعد الفقه والاُصول وفروعاتهما في أعصارنا متشعّبة معقّدة على خلاف تلك الأعصار فإنّها كانت بسيطة جدّاً يمكن الوصول إليها لكثير من آحاد الناس، ولا مانع من صيرورة المقلّد بعد الحصول عليها إجمالا مجتهداً ولو في بعض المسائل.

هذا كلّه في الرواية الاُولى من الطائفة الاُولى من أخبار الترجيح.

ومنها: مرفوعة زرارة وقد رواها محمّد بن علي بن إبراهيم بن أبي جمهور الأحسائي في كتابه غوالي اللئالي عن العلاّمة(رحمه الله) مرفوعاً إلى زرارة قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) فقلت: «جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال: يازرارة خذ بما إشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر. فقلت: يا سيّدي إنّهما معاً مشهوران مرويّان مأثوران عنكم. فقال: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت: إنّهما معاً عدلان مرضيّان موثّقان. فقال: اُنظر إلى ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم فإنّ الحقّ فيما خالفهم، قلت: ربّما كانا معاً موافقين لها أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط. فقلت: إنّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال: إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر»(9).

وقد نقلها الشيخ الأعظم(رحمه الله) في رسائله ولكن بتفاوت مع ما ورد في غوالي اللئالي في مواضع كثيرة (عشرة مواضع) لكنّها غير مؤثّرة في المقصود.

والمهمّ إشكالها السندي أوّلا: من ناحية عدم كون الإحسائي معاصراً للعلاّمة(رحمه الله) فلابدّ أنّه نقله من كتابه مع أنّه قد يقال: إنّه لم يجدها المتتبّعون في كتب العلاّمة(رحمه الله)، واحتمال أخذه من بعض تلاميذه أيضاً لا يفيدنا لأنّه مجهول لنا.

وثانياً: من ناحية الارسال بين العلاّمة(رحمه الله) وزرارة بسقوط وسائط كثيرة لفصل طويل بينهما.

قال صاحب الحدائق (فيما حكى عنه): أنّ الرواية لم نقف عليها في غير كتاب العوالي مع ما عليها من الارسال وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والاهمال وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور (انتهى).

وقد ذكر شيخنا الأنصاري رضوان الله عليه في بعض كلماته في مباحث الشهرة: (في مباحث الظنّ) «أنّه قد أشكل في سند هذا الخبر من ليس دأبه الإشكال ...» والظاهر أنّه ناظر إلى كلام الحدائق.

نعم يستفاد من بعض الكلمات عمل المشهور بها، فقال الشيخ الأعظم(رحمه الله) في مباحث التعادل والترجيح: «فإنّه وإن كانت ضعيفة السند إلاّ أنّها موافقة لسيرة العلماء في باب الترجيح فإنّ طريقتهم مستمرّة على تقديم المشهور على الشاذّ، والمقبولة وإن كانت مشهورة بين العلماء حتّى سمّيت مقبولة إلاّ أنّ عملهم على طبق المرفوعة وإن كانت شاذّة من حيث الرواية حيث لم توجد مرويّة في شيء من جوامع الأخبار المعروفة ولم يحكها إلاّ ابن أبي جمهور عن العلاّمة مرفوعاً» (انتهى).

ثمّ أورد عليها بما حاصله: أنّ العمل بالمرفوعة يقتضي عدم العمل بها حيث إنّها معارضة مع المقبولة في تقديم الشهرة على الصفات وتأمر بالأخذ بالمشهور من الروايتين المتعارضتين لأنّ ولا إشكال في أنّ المشهور بينهما إنّما هى المقبولة.

أقول: ولكنّه متوقّف على وجود التعارض بينهما مع أنّه ليس كذلك، لأنّ صدر المقبولة وارد في باب الحكم والفتوى لا الخبرين المتعارضين كما مرّ، وإنّما المتعلّق منها بباب تعارض الخبرين قوله(عليه السلام): «ينظر إلى ما كان من روايتهما المجمع عليه ...» ولا يخفى أنّ أوّل المرجّحات حينئذ الشهرة كما في المرفوعة.

نعم، يبقى إشكال ضعف السند على حاله لأنّ استناد عمل الأصحاب بها غير معلوم فلعلّ مدركهم هو المقبولة بناءً على ما ذكرنا.

فتحصّل أنّ المرجّحات الواردة في كلّ واحدة من هاتين الروايتين أربعة، أمّا ما ورد في المقبولة فهي: الشهرة، وموافقة الكتاب، ومخالفة العامّة، ومخالفة ما هو أميل إليه حكّامهم وقضاتهم، وما ورد في المرفوعة فهى: الشهرة، وصفات الراوي، ومخالفة العامّة، والموافقة مع الاحتياط.

ومنها: مرسلة الكليني فإنّه قال في أوّل الكافي: «إعلم يا أخي أنّه لا يسع أحد تمييز شيء ممّا اختلفت الرواية فيه عن العلماء برأيه إلاّ ما أطلقه العالم(عليه السلام)بقوله: أعرضوهما على كتاب الله عزّوجلّ فما وافق كتاب الله عزّوجلّ فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه، وقوله(عليه السلام): دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في خلافهم، وقوله(عليه السلام): خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»(10).

فالمرجّحات الواردة فيها ثلاثة: موافقة كتاب الله، ومخالفة العامّة، والشهرة، ولكن المظنون بالظنّ القوي أنّها ليست إلاّ ضمّ روايات بعضها ببعض فليست رواية مستقلّة غير ما مرّ عليك.

هذا كلّه في الطائفة الاُولى وهى ما تدلّ على أنّ المرجّحات أكثر من إثنين.

الطائفة الثانية: فهى ما تدلّ على أنّ المرجّحات اثنان (وهما الموافقة مع كتاب الله والمخالفة مع العامّة) وهى رواية واحدة رواها عبدالرحمن بن أبي عبدالله قال: قال الصادق(عليه السلام): «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فأعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه»(11).

الطائفة الثالثة: ما تدلّ على مرجّح واحد (وهو الموافقة مع الكتاب والسنّة القطعيّة) وهى ثلاثة:

إحديها: ما رواه أحمد بن الحسن الميثمي أنّه سأل الرضا(عليه السلام) يوماً ... قلت: «فإنّه يرد عنكم الحديث في الشيء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ممّا ليس في الكتاب وهو في السنّة ثمّ يرد خلافه فقال: كذلك فقد نهى رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن أشياء ... فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب الله فما كان في كتاب الله موجوداً حلالا أو حراماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فأعرضوه على سنن رسول الله (صلى الله عليه وآله)...»(12). (ومن الواضح أنّ المراد من السنّة فيها هو السنّة القطعيّة).

ثانيها: ما رواه الحسن بن الجهم عن الرضا(عليه السلام) قال: قلت له: «تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة فقال: ما جاءك عنّا فقس على كتاب الله عزّوجلّ وأحاديثنا فإن كان يشبهها فهو منّا وإن لم يكن يشبهها فليس منّا»(13) (فالأحاديث القطعيّة عنهم بمنزلة السنّة النبوية القطعيّة).

ثالثها: ما رواه الحسن بن الجهم عن العبد الصالح(عليه السلام) قال: «إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا فإن أشبهها فهو حقّ وإن لم يشبهها فهو باطل»(14).

الطائفة الرابعة: ما تدلّ على مرجّح واحد، وهو مخالفة العامّة وهى أربعة:

1 ـ ما رواه الحسين بن السرّي قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام): «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم»(15).

2 ـ ما رواه الحسن بن الجهم قال: قلت للعبد الصالح(عليه السلام): «هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلاّ التسليم لكم؟ فقال: لا والله لا يسعكم إلاّ التسليم لنا فقلت: فيروى عن أبي عبدالله(عليه السلام)شيء ويروى عنه خلافه فبأيّهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه»(16).

3 ـ ما رواه محمّد بن عبدالله قال: قلت للرضا(عليه السلام): «كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال: إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامّة فخذوه وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه»(17).

4 ـ ما رواه سماعة بن مهران عن أبي عبدالله(عليه السلام) قلت: «يرد علينا حديثان: واحد يأمرنا بالأخذ به، والآخر ينهانا عنه قال: لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأله، قلت: لابدّ أن نعمل بواحد منهما، قال: خذ بما فيه خلاف العامّة»(18).

الطائفة الخامسة: ما تدلّ على الترجيح بالموافقة مع الشهرة وهى رواية واحدة رواها في الإحتجاج مرسلا، قال: وروي عنهم(عليهم السلام) أنّهم قالوا: إذا إختلف أحاديثنا عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا فإنّه لا ريب فيه»(19).

ولكن لا يبعد أن تكون مأخوذة من مقبولة عمر بن حنظلة.

الطائفة السادسة: ما تدلّ على ترجيح الأحدث، وهى أربعة، مرّت ثلاثة(20) منها في المقام الأوّل، والرابعة ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: قلت له: «ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يتّهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال: إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن».

ولا يخفى أنّه لا يمكن الأخذ بظاهر هذا الحديث (وهو أنّ الإمام (عليه السلام) يمكن له نسخ ما روى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)) لأنّ الإمام حافظ للشريعة لا مشرّع، فليكن المراد منه إمّا أنّ الإمام(عليه السلام) يبرز ويبيّن ما كان منسوخاً في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)ولم تساعد الظروف على تبيينه، وحينئذ يخرج الحديث عن محلّ البحث لأنّ البحث في ما نحن فيه عن الأخبار الظنّية، والناسخ يعتبر فيه أن يكون قطعيّاً.

أو المراد منه الأخذ بالأحدث، أي بما يكون ناسخاً للحكم الظاهري (لا للحكم الواقعي كما في الاحتمال الأوّل) فيكون الحديث دالا على الترجيح بالأحدثيّة.

هذه هى الطوائف الستّة الواردة في المرجّحات.

ولكن الإنصاف أنّ الطائفة السادسة بجميع رواياتها خارجة عن محلّ الكلام لأنّها واردة في باب التقيّة كما لا يخفى، ومحلّ البحث ما إذا كان الخبران كلاهما في مقام بيان حكم الله الواقعي.

فتبقى خمس طوائف اُخرى لابدّ من علاجها ورفع التعارض بينها.

والعجب من المحقّق الخراساني(رحمه الله) حيث إنّه رفضها من دون ذكرها جميعاً وتبيين معانيها ونسبها، مع أنّ اللازم في جميع هذه الأبواب ذكر جميع ما ورد عنهم(عليهم السلام) واحداً بعد واحد والدقّة في مضامينها، وقد جرت عادة شيخنا الأنصاري(رحمه الله) على هذه الطريقة، ولكن مع الأسف تغيّرت عادة كثير من المتأخّرين والمعاصرين من الاُصوليين إلى غير هذا، حفظنا الله تعالى من مزال الإقدام.

وعلى أي حال الاشكال الأول الذي يرد على هذه الروايات هو أنّها معارضة مع أخبار التخيير التي مرّ تفصيلها في المقام الأوّل.

ويجاب عنه: بحمل المطلق على المقيّد، حيث إنّ تلك الروايات مطلقة تعمّ موارد وجود المرجّحات وعدمها فتقيّد بهذه الروايات وتحمل على موارد تساوي الخبرين.

والإشكال الثاني: تعارض نفس هذه الطوائف بعضها مع بعض، فإنّ بعضها يدلّ على ثلاث مرجّحات أو أربعة، وبعضها على إثنين، وبعضها الآخر على أنّها واحدة، والتي تدلّ على مرجّح واحد أيضاً مختلفة كما مرّ آنفاً.

ولكن هذا الإشكال أيضاً يندفع بحمل المطلق على المقيّد، فإنّ ما تدلّ على مرجّح واحد مثلا تكون مطلقة بالنسبة إلى سائر المرجّحات كما يتّضح بالتأمّل فيها.

والإشكال الثالث: في المقام إشكال الترتيب الموجود بين المرجّحات، فإنّ الترتيب الموجود في المقبولة مثلا يخالف الترتيب الموجود في المرفوعة.

وسيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى عند الجواب عن إشكالات المحقّق الخراساني(رحمه الله)على وجوب الترجيح فانتظر.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) بعد أن اعتبر المقبولة والمرفوعة أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الأخبار حاول أن يناقش في دلالتهما على وجوب الترجيح فأورد على الإحتجاج بهما باُمور:

1 ـ ما يختصّ بالمرفوعة فقط، وهو ضعف سندها، وقد مرّ الكلام فيه فلا نعيد.

2 ـ ما يختصّ بالمقبولة فقط، وهو ما مرّ تفصيله من أنّها مختصّه بباب القضاء ورفع الخصومة فلا ربط لها للترجيح في مقام الفتوى، وقد مرّ توضيح إشكاله هذا والجواب عنه أيضاً.

3 ـ ما يختصّ بالمقبولة أيضاً وهو اختصاصها بزمان الحضور والتمكّن من لقاء الإمام (عليه السلام)بقرينة أمره في آخرها بالإرجاء حتّى تلقى إمامك، ووجوب الترجيح في زمان الحضور لا يلازم وجوبه في زمان الغيبة، وقد مرّ الجواب عن هذا الإشكال أيضاً فراجع.

4 ـ أنّ تقييد جميع إطلاقات التخيير الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين بأخبار الترجيح من المقبولة والمرفوعة وغيرها وحمل الإطلاقات المذكورة جميعاً على موارد تساوي الخبرين مع ندرتها بعيد قطعاً.

ولكن الإنصاف أنّ هذا الاستبعاد يزول بعد ملاحظة أخبار التخيير وقلّة إطلاقاتها، فقد لاحظت في المقام الأوّل أنّ روايات التخيير التامّة دلالة هى رواية الحسن بن الجهم (وهى الرواية الاُولى من ذلك المقام) ورواية الحارث بن المغيرة (وهى الرواية الثانية) ومرفوعة زرارة (وهى الرواية الثامنة) ومرسلة كليني.

أمّا مرفوعة زرارة فإنّ الأمر بالتخيير فيها ورد بعد الأمر بالترجيح فلا تعدّ من المطلقات، وأمّا مرسلة الكليني فقد احتملنا كونها مأخوذة من سائر الروايات، فتبقى الرواية الاُولى والثانية، ولا إشكال في أنّ حملهما على موارد التساوي ليس ببعيد.

5 ـ وجود الاختلاف الكثير في نفس أخبار الترجيح، فإنّه شاهد على الحمل على مراتب الاستحباب والفضل (كما فعله الأصحاب بالنسبة إلى الروايات المختلفة الواردة في باب منزوحات البئر).

وهذا أيضاً يرتفع بعد التأمّل في الأخبار والنسبة الموجودة بينها، فإنّ المهمّ من الطائفة الاُولى إنّما هى المقبولة (لعدم اعتبار المرفوعة سنداً كما مرّ) والمرجّحات الواردة فيها عبارة عن الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة (وأمّا المخالفة مع ميل حكّامهم فهى من مصاديق مخالفة العامّة فترجع إليها كما لا يخفى) ولا إشكال في أنّ الطائفة الثانية وهى ما تدلّ على إثنين من هذه الثلاثة (وهما الثاني والثالث منها) مطلقة بالنسبة إلى المرجّح الأوّل منها، وهكذا كلّ من الطائفة الثالثة والرابعة التي تدلّ على مرجّح واحد من الثلاثة مطلقة بالنسبة إلى مرجّحين آخرين فيجمع بينها بالتقييد.

6 ـ ما يختصّ بالأخبار المشتملة على الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة فقط أو الترجيح بمخالفة العامّة فقط، أو الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة معاً، وحاصله: أنّها ليست من أخبار الباب، أي ترجيح الحجّة على الحجّة، وإنّما هى في مقام تمييز الحجّة عن اللاّحجّة، أمّا بالنسبة إلى الخبر المخالف للكتاب والسنّة فلقوّة احتمال أن يكون مثله في نفسه غير حجّة ولو لم يكن له معارض أصلا، وذلك بشهادة ما ورد في شأنه من أنّه زخرف أو باطل أو أنّه لم نَقُله، أو أمر بطرحه على الجدار، مضافاً إلى أنّ الصدور أو الظهور في مثله يكون موهوناً بحيث لا يعمّه أدلّة اعتبار السند أو الظهور.

وأمّا بالنسبة إلى الخبر الموافق للقوم فلأنّه بملاحظة الخبر المخالف له مع الوثوق بصدوره (المخالف) لو لم ندع القطع بصدوره تقيّة فلا أقلّ من عدم جريان أصالة الجدّ فيه.

ولكن الإنصاف أنّ هذا أيضاً نشأ من عدم التأمّل في أخبار الباب، أمّا المشتملة على الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة فلأنّها على قسمين: قسم لا ربط له بما نحن فيه، أي بباب التعارض، بل إنّه وارد في مطلق ما يكون مخالفاً للكتاب، وقسم آخر ورد في خصوص باب التعارض، والتعبير بـ «أنّه زخرف» أو «باطل» أو غيرهما ورد في خصوص القسم الأوّل لا الثاني.

فإنّ من القسم الأوّل: ما رواه السكوني عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه»(21).

ومنها: ما رواه أيّوب بن راشد عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف»(22).

ومنها: ما رواه أيّوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف»(23).

ومنها: ما رواه هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «خطب النبي(صلى الله عليه وآله) بمعنى وقال: أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله»(24).

ومنها: ما ورد في تفسير العياشي عن سدير قال: «قال أبو جعفر وأبو عبدالله (عليهما السلام): لا تصدّق علينا إلاّ ما وافق كتاب الله وسنّة نبيّه(صلى الله عليه وآله)»(25).

فتلاحظ أنّ جميعها واردة في كلّ خبر يكون مخالفاً للكتاب والسنّة ولا ربط لها بباب الخبرين المتعارضين، وحينئذ يكون المراد من المخالفة فيها هى المخالفة على نحو التباين لا العموم والخصوص أو الاطلاق والتقييد، فإنّا نقطع بورود مخصّصات أو مقيّدات كثيرة لعمومات الكتاب وإطلاقاتها في الأخبار الظنّية المعتبرة.

ومن القسم الثاني (الذي هو خال عن تلك التعبيرات) المقبولة والمرفوعة. وما رواه عبدالرحمن بن أبي عبدالله عن الصادق(عليه السلام) (وقد مرّ ذكرها في الطائفة الثانية من أخبار المرجّحات).

وليس في شيء منها واحد من تلك التعبيرات الظاهرة في عدم الحجّية، فيكون المراد من المخالفة فيها المخالفة لظهور الكتاب لا لنصّه وصريحه.

وممّا يشهد عليه وقوع الترجيح بموافقة الكتاب في المقبولة بعد الترجيح بالشهرة أنّ معنى تقديمه عليه هو الأخذ بالخبر المشهور المجمع عليه وإن كان مخالفاً للكتاب والسنّة، فلو كان المراد من المخالف للكتاب والسنّة هو المخالف لنصّهما وصريحهما لم يجز الأخذ به ولو فرض كونه مشهوراً مجمعاً عليه عند الأصحاب كما لا يخفى.

كما يشهد عليه أيضاً فرض الراوي في المقبولة موافقة كلا الخبرين للكتاب بقوله: «إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة» فإنّه إذا كان المراد من المخالفة المخالفة على نحو التباين فلا معنى لأن يكون كلّ من الخبرين المتعارضين المتباينين موافقاً لكتاب الله.

ويشهد عليه ثالثاً وقوع الترتيب بين الترجيح بموافقة الكتاب والترجيح بمخالفة العامّة في المقبولة أيضاً، فإنّ اعتبار الترتيب لا يلائم عدم الحجّية كما لا يخفى. وبالجملة ليس المراد من المخالفة للكتاب في أخبار الترجيح هى المخالفة لنصّ الكتاب وصريحه، بل المراد منها بقرينة هذه الشواهد الثلاثة هى المخالفة لظهوره.

وبهذا يظهر الجواب عن الأمر الثاني في كلامه (وهو عدم شمول أدلّة اعتبار السند والظهور للخبر المخالف للكتاب والسنّة) فإنّه إذا كان المراد من المخالفة هو المخالفة لظاهر الكتاب فالصدور أو الظهور في الخبر المخالف ممّا لا وجه له (لوهنه بعد القطع بصدور أخبار كثيرة مخالفة لظاهر الكتاب تخصيصاً كما مرّ بيانه).

هذا كلّه بالنسبة إلى الأخبار المشتملة على الترجيح بموافقة الكتاب.

وأمّا المشتملة على الترجيح بمخالفة العامّة (وإليه يرجع الترجيح بمخالفة ميل الحكّام كما مرّ) فكذلك ليست من قبيل تمييز الحجّة عن اللاّحجّة لأنّه لا ريب في أنّ المراد من الموافقة للعامّة أو المخالفة لهم إنّما هى موافقة بعضهم، أو مخالفة بعضهم لما ورد في ذيلها من فرض موافقة كلا الخبرين لهم، حيث لا معنى لأن يكون كلّ من الخبرين المتضادّين موافقاً لجميع العامّة، ولا إشكال في أنّ الخبر الذي يوافق بعضهم لا يحمل على التقيّة حتّى يكون من قبيل اللاّحجّة.

هذا مضافاً إلى أنّ عدم حجّيته لا يلائم الترتيب الواقع في المقبولة أيضاً.

7 ـ ما يرجع من جهة إلى التأييد للوجه السابق، وهو أنّ ما ذكرنا (من كون أخبار الترجيح في مقام تمييز الحجّة عن اللاّحجّة لا في مقام ترجيح الحجّة عى الحجّة) ممّا يقتضيه التوفيق بين أخبار الترجيح وبين إطلاقات التخيير، فإنّ مقتضى الجمع بينهما إمّا حمل أخبار الترجيح على ما ذكرنا أو حملهما على الاستحباب، لأنّه لو لم نوفّق بينهما هكذا بل وفّقنا بينهما بتقييد إطلاقات التخيير بأخبار الترجيح (كما فعله المشهور) لزم التقييد في نفس أخبار الترجيح أيضاً (لما مرّ من اختلافها على طوائف) مع أنّها آبية عنه جدّاً، وكيف يمكن تقييد مثل «ما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله» أو «زخرف» أو «باطل» بما إذا لم يكن أحدهما أشهر روايةً بحيث لو كان أحدهما أشهر أخذنا به ولو خالف الكتاب.

وقد ظهر ممّا ذكرنا في الجواب عن الوجه السابق الجواب عن هذا الوجه أيضاً، فإنّ هذه التعبيرات (من الزخرف والباطل ولم أقله) ليس منها في أخبار الترجيح عين ولا أثر، وإنّما هى في الأخبار الناهيّة عن الخبر المخالف للكتاب والسنّة ولو لم يكن له معارض، وأمّا رواية الحسن بن الجهم(26) المشتملة على بعض هذه التعبيرات فهى ضعيفة بالإرسال.

إلى هنا تمّ الكلام عن الدليل الأوّل على مقالة المشهور (وجوب اعمال المرجّحات) وهو في الواقع يرجع إلى ظهور الأمر بالترجيح الوارد في أخبار الترجيح في الوجوب.

الثاني: دعوى الإجماع على لزوم الأخذ بالخبر الراجح

وأجاب عنه المحقّق الخراساني(رحمه الله) بأنّ «دعوى الإجماع مع مصير مثل الكليني(رحمه الله) إلى التخيير وهو في عهد الغيبة الصغرى ويخالط النوّاب والسفراء ـ قال في ديباجة الكافي ولا نجد شيئاً أوسع ولا أحوط من التخيير ـ مجازفة».

ولكن الإنصاف أنّ كلام الكليني(رحمه الله) في الديباجة يوافق الإجماع فإنّه قال فيها ما لفظه (على حكاية صاحب الوسائل): اعلم يا أخي أنّه لا يسع أحد تمييز شيء ممّا اختلفت الرواية فيه عن العلماء برأيه إلاّ ما أطلقه العالم(عليه السلام) بقوله: «اعرضوهما على كتاب الله عزّوجلّ فما وافق كتاب الله عزّوجلّ فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه» وقوله(عليه السلام): «دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في خلافهم» وقوله(عليه السلام): «خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ونحن لا نعرف من ذلك إلاّ أقلّه، ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم(عليه السلام)وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله(عليه السلام): بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم»(27).

ومن المعلوم أنّه ليس مراده من قوله «ونحن لا نعرف من ذلك إلاّ أقلّه» عدم وجوب العمل بما ذكر من أخبار الترجيح ولزوم ردّها إلى أهلها حتّى في تلك الموارد القليلة على نحو السالبة الكلّية، بل الظاهر أنّ مراده عدم معرفة مصاديق هذه المرجّحات لا عدم وجوب العمل بها عند معرفة مصاديقها، هذا أوّلا.

وثانياً: أنّ كلام الكليني هذا صدر منه في الواقع لشبهة حصلت له فإنّا لا نقبل قلّة موارد الترجيح بالمرجّحين المذكورين في كلامه.

فالصحيح في المناقشة أنّ مثل هذا الإجماع مدركيّ لا اعتبار به.

الثالث: حكم العقل بوجوب ترجيح ذي المزيّة

وذلك بدعوى أنّه لو لم يجب ترجيح ذي المزيّة لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا بل ممتنع قطعاً.

واُجيب عنه أو يمكن أن يجاب عنه أوّلا: بإشكال صغروي، وهو إنّا نقبل وجوب ترجيح ذي المزية كبرويّاً ولكن فيما إذا كانت المزية موجبة لتأكّد ملاك الحجّية بنظر الشارع لا مطلقاً، إذ من الممكن أن تكون المزية بالنسبة إلى ملاك الحجّية هى كالحجر في جنب الإنسان، ومعه لا يكاد يجب الترجيح، بل الترجيح بها ترجيح بلا مرجّح، وهو قبيح عقلا كترجيح المرجوح على الراجح عيناً.

وثانياً: سلّمنا إيجاب المزيّة تأكّداً في ملاك الحجّية، ولكنّه فيما إذا أُوجبت التأكّد على حدّ الإلزام لا على حدّ الاستحباب، وبعبارة اُخرى: إنّا لا نقبل قبح ترجيح المرجوح على الراجح مطلقاً، ولا يخفى أنّ هذا إشكال في كلّية الكبرى.

وثالثاً: بما أورده المحقّق الخراساني(رحمه الله) على إضراب المستدلّ من الحكم بالقبح إلى الامتناع، وحاصله: أنّ ترجيح المرجوح على الراجح في الأفعال الاختياريّة كاختيار أحد الكأسين لشرب الماء مثلا مع كونه دون صاحبه في المزايا والجهات المحسنة بلا داع عقلائي هو أمر قبيح عقلا وليس بممتنع أبداً، وذلك لجواز وقوعه من غير الحكيم خارجاً بلا إستحالة له أصلا، فإنّ الممتنع هو تحقّق الشيء بلا علّة وسبب، وليس ترجيح المرجوح كذلك، إذ يكفي إرادة الفاعل المختار علّة له وسبباً، نعم يستحيل وقوع ذلك من الحكيم تعالى بالعرض بعد فرض كونه حكيماً لا يرتكب القبيح أبداً.

أقول: إنّ كلامه(رحمه الله) هنا أقوى شاهد على بطلان ما ينسب إليه في مبحث الطلب والإرادة ومبحث التجرّي من الميل إلى إعتقاد الجبر، فتدبّر.

بقي هنا اُمور:

الأمر الأوّل: الاقتصار على المرجحات المنصوصة وعدمه

(وهى الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة كما مرّ) أو يتعدّى منها إلى غيرها

 (كموافقة الأصل أو موافقة الإجماع المنقول)؟ فيه قولان:

1 ـ جواز التعدّي وهو ما ذهب إليه الشيخ الأعظم(رحمه الله) ومن تبعه، بل إنّه قال: ادّعى بعضهم ظهور الإجماع وعدم ظهور الخلاف فيه بعد أن حكى الإجماع عليه عن جماعة.

2 ـ عدم جواز التعدّي وهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية، وتبعه المحقّق النائيني وبعض الأعاظم في رسائله.

واستدلّ القائلون بالتعدّي بوجوه أربعة:

الوجه الأوّل: التعليل الوارد في ذيل المقبولة في مقام الترجيح بالشهرة بالأخذ بالمشهور وترك الشاذّ النادر بقوله (عليه السلام)«فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه».

بأن يقال: إنّ تعليله بعدم الريب في المشهور يدلّ على مرجّحية كلّ شيء يكون موجباً لأقلّية الريب فيما له المزية بالنسبة إلى مقابله سواء كان من المرجّحات المنصوصة أو لم يكن، وذلك من جهة أنّه لا يمكن أن يكون المراد نفي الريب بقول مطلق حتّى يكون مساوقاً للعلم بالصدور، فيكون خارجاً عن محلّ البحث وداخلا في تمييز الحجّة عن اللاّحجّة، بل يكون خلاف مفروض السائل في ذيل الرواية من كون كليهما مشهورين، لأنّه لا معنى لأن يكون كلّ من الخبرين المتعارضين ممّا لا ريب فيه بقول مطلق أي قطعي الصدور، فالمراد بنفي الريب نفيه بالنسبة إلى الآخر بواسطة شهرته بين المحدّثين والأصحاب ولا إشكال في أنّ هذا المعنى إذا كان هو التعليل للترجيح يمكن أن يوجد مثله في المزايا والمرجّحات غير المنصوصة فيجب التعدّي إليه.

واُجيب عنه: بأنّ الظاهر من هذه الكلمة (بمقتضى ظهور لا النافية للجنس في نفي الجنس والطبيعة) هو نفي الريب بقول مطلق، أي الريب مطلقاً وبجميع مراتبه منفي، فإنّ الخبر إذا كان مشهوراً بين الرواة في الصدر الأوّل وكان مجمعاً عليه عندهم فهو ممّا يطمئن بصدوره على نحو صحّ أن يقال عرفاً أنّه ممّا لا ريب فيه، ولا بأس بالتعدّي عن مثل هذه المزيّة إلى كلّ مزيّة توجب ذلك عيناً ولا نأبى عن ذلك.

إن قلت: إنّ هذا موجب للخروج عن محلّ الكلام ومخالف لفرضهما مشهورين.

قلنا: غاية ما يستفاد من الشهرة هنا نفي الريب في صدور الرواية، ولا مانع من تعارضهما بعد كون الدلالة أو جهة الصدور فيهما ظنّياً، فمثل هاتين الروايتين غير خارجتين عن محلّ الكلام.

الوجه الثاني: الترجيح بالأصدقية في المقبولة والأوثقية في المرفوعة فإنّ اعتبار هاتين الصفتين ليس إلاّ لترجيح الأقرب إلى مطابقة الواقع، أي مناط الترجيح بهما هو الأقربيّة إلى الصدور، ففي كلّ مورد تحقّق هذا المناط يكون موجباً للترجيح سواء كان من المرجّحات المنصوصة أو لم يكن.

واُجيب عنه أوّلا، بأنّ هذا ليس إلاّ الظنّ بأنّ المناط هى الأقربيّة إلى الصدور (وتنقيح المناط ما لم يكن قطعيّاً لا اعتبار به) لأنّه من الممكن أن يكون الترجيح بهما لخصوصية فيهما لا لصرف كونهما أقرب إلى الصدور، وبعبارة اُخرى: أنّ مجرّد جعل شيء (فيه جهة الإراءة والكشف) حجّة كخبر الصادق أو الثقة أو جعله مرجّحاً كالأصدقيّة والأوثقيّة، لا دلالة فيه على أنّ الملاك فيه بتمامه جهة إراءته على نحو نقطع بذلك ونتيقّن به حتّى يكون من باب تنقيح المناط القطعي ويجوز التعدّي عن مورد النصّ، وذلك لاحتمال دخل خصوصيّة ذلك الشيء في حجّيته أو مرجّحيته لا جهة إراءته فقط.

وثانياً: بأنّه سلّمنا إحراز أنّ المناط هو الأقربيّة إلى الصدور، ولكنّه لا ريب في أنّ للأقربيّة مراتب مختلفة، ولعلّ جعل الأصدقيّة والأوثقيّة مرجّحاً للخبر كان لأجل أنّ لهما درجة خاصّة من الأقربيّة التي لا يمكن إحرازها في غيرهما.

وثالثاً: أنّ الترجيح بهاتين الصفتين لا يوجد إلاّ في المقبولة والمرفوعة، وقد مرّ أنّ المرفوعة لا سند لها، وأمّا المقبولة فهذا المرجّح فيها ناظر إلى حال القضات لا الرواة لأنّها تقول: «الحكم ما حكم به ...» وهذا مختصّ بباب الحكومة والقضاء، ولا ربط له بباب تعارض الخبرين.

الوجه الثالث: التعليل الوارد في الأخذ بما يخالف العامّة بأنّ «الرشد في خلافهم» حيث إنّه يدلّ على وجوب ترجيح كلّ ما كان معه أمارة الحقّ والرشد، وترك ما فيه مظنّة خلاف الحقّ والصواب.

ويمكن أن يجاب عنه: بأنّه لم ترد هذه الفقرة بصورة التعليل في روايات الباب، فإنّ الوارد في المقبولة هو قوله «ما خالف العامّة ففيه الرشاد» ومن الواضح أنّ هذا ليس من قبيل

منصوص العلّة، نعم وروده بصورة التعليل إنّما هو في مرسلة الكليني(28) في ديباجة الكافي، والاعتماد عليها مشكل، لا سيّما بعد احتمال كونها مأخوذة عن المقبولة مع النقل بالمعنى.

هذا مضافاً إلى أنّ المراد من كون الرشد في خلافهم هو الاحتمال الغالب في الخبر الموافق من حيث التقيّة، ولكن حيث لا يعلم مقدار الغلبة هنا لا يمكن التعدّي إلى غيره ممّا لم يحرز فيه المقدار المذكور.

وذكر المحقّق الخراساني(رحمه الله) احتمالا آخر في معنى هذا التعليل لا يمكن المساعدة عليه، وهو أن يكون الرشد في نفس المخالفة لهم لحسنها ورجحانها موضوعياً.

ووجه عدم المساعدة أنّ هذا الاحتمال بعيد عن ظاهر الحديث غاية البعد، فإنّ معناه أن يكون لمجرّد المخالفة معهم موضوعيّة مع أنّ الرشد في اللغة ما يقابل الغيّ كما في الصحاح، فهو بمعنى الوصول إلى المقصد والإهتداء في الطريق كما يشهد عليه قولهم للمسافر «راشداً مهدياً» بل قوله تعالى {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10] في قصّة أصحاب الكهف.

وأجاب المحقّق النائيني(رحمه الله) عن الاستدلال بهذا الحديث لجواز التعدّي بأنّ «التعليل لا ينطبق على ضابط منصوص العلّة» ولا يصلح أن يكون كبرى كلّية، لأنّ ضابط منصوص العلّة هو أن تكون العلّة على وجه يصحّ ورودها والقائها إلى المكلّفين إبتداءً بلا ضمّ المورد إليها كما في قوله: «الخمر حرام لأنّه مسكر» فإنّه يصحّ أن يقال «كلّ مسكر حرام» بلا ذكر الخمر، وهذا بخلاف قوله (عليه السلام) «فإنّ الرشد في خلافهم» فإنّه لا يصحّ أن يقال: «خذ بكلّ ما خالف العامّة» لأنّ كثيراً من الأحكام الحقّة توافق قول العامّة»(29).

ولكن يرد عليه أيضاً أنّ الكبرى الكلّية المأخوذة من هذا الحديث ليس «خذ بكلّ ما خالف العامّة» حتّى يناقش فيه بما ذكر، بل المستفاد منه: «كلّ خبرين أحدهما موافق للعامّة والآخر مخالف لهم فخذ بالخبر المخالف» وهذه كبرى كلّية يمكن الالتزام بها بلا ريب.

وأجاب المحقّق الحائري(رحمه الله) عن الاستدلال بهذا الدليل بما حاصله: أنّ هذا التعليل لا يدلّ إلاّ على أنّ الخبر الذي يكون معه هذا المرجّح يؤخذ به لكونه معه أقرب إلى الواقع في نظر

الشارع لا في نظر الناظر، ومن المعلوم أنّه لا يصحّ لنا التعدّي إلى كلّ خبر يكون معه شيء يرجّح في نظرنا مطابقته للواقع(30).

ويمكن الجواب عنه أيضاً بأنّ المدّعى جواز التعدّي إلى كلّ مزية توجب لنا العلم بكون ذيّها أقرب إلى الواقع وهو علم طريقي لا يمكن للشارع مخالفته.

فالصحيح في المناقشة في الحديث ما ذكرنا من الإشكال السندي والدلالي.

الوجه الرابع: ما ذكره الشيخ الأعظم(رحمه الله) في رسائله ولم يأت به المحقّق الخراساني في الكفاية لضعفه عنده، وهو النبوي المعروف «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ببيان أنّ من المعلوم كون المراد من عدم الريب هو عدم الريب بالإضافة إلى الآخر لا عدم الريب مطلقاً وإلاّ كان مقابله ممّا لا ريب في بطلانه.

والجواب عنه: أنّ الظاهر من هذا الحديث أيضاً عدم الريب مطلقاً، وحينئذ يخرج عمّا نحن فيه ويدخل في الشبهة البدوية التحريميّة، ولذلك استدلّ به الأخباريون على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريميّة، ويشهد على هذا المعنى ما ورد في ذيل الحديث على نقل الكراجكي في كنز العمّال (على ما حكي عنه) وهو قوله(صلى الله عليه وآله): «فإنّك لن تجد فقد شيء تركته لله عزّوجلّ» حيث إنّ المناسب لهذا التعليل أن يكون المراد من ما يريبك هو الشبهات البدوية، ومن ما لا يريبك هو الاحتياط في هذه الشبهة برجاء ثوابه تعالى.

هذا ـ مضافاً إلى إرساله.

إلى هنا ظهر عدم تمامية شيء ممّا استدلّ به القائلون لجواز التعدّي.

وأمّا القائلون بعدم جواز التعدّي فاستدلّوا بأنّه هو مقتضى الأصل والقاعدة، وهى إطلاقات التخيير، حيث إنّها تقتضي التخيير في كلّ حال إلاّ ما خرج بالدليل، وما خرج بالدليل إنّما هو ذو المزيّة بالمزايا المنصوصة فقط.

ويمكن تأييده بما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) بعنوان الدليل، وهو أنّه لو وجب التعدّي عن المرجّحات المنصوصة إلى كلّ مزية توجب أقربية ذيّها إلى الواقع لبيّن الإمام(عليه السلام) من الأوّل بنحو الضابطة الكلّية أنّه يجب الأخذ بالأقرب من الخبرين إلى الواقع من دون حاجة إلى ذكر تلك المرجّحات المخصوصة واحداً بعد واحد كي يحتاج السائل إلى إعادة السؤال مرّة بعد مرّة.

هذا ـ مضافاً إلى أنّه لو وجب التعدّي لم يأمر الإمام(عليه السلام) في آخر المقبولة بعد ما فرض السائل تساوي الطرفين في جميع ما ذكر من المرجّحات المنصوصة بالأرجاء حتّى تلقى إمامك، بل كان يأمره بالترجيح بسائر المرجّحات الموجبة لأقربية أحدهما إلى الواقع.

هذا كلّه في الأمر الأوّل.

الأمر الثاني: ميزان التعدي من المرجّحات المنصوصة وعدمه

بناءً على جواز التعدّي من المزايا المنصوصة هل يتعدّى إلى خصوص المزيّة الموجبة للأقربية إلى الواقع (أي الظنّ بالصدور) أو الموجبة لأقوائيّة المتن والمضمون (أي الظنّ بمطابقة المحتوى للواقع) أو يتعدّى إلى كلّ مزيّة للخبر ولو لم يوجب الأقربيّة أو الأقوائية؟

ذهب المحقّق الخراساني(رحمه الله) إلى الثاني استناداً إلى ما ادّعاه من أنّ المزايا المنصوصة على ثلاثة أقسام: قسم منها يوجب الأقربيّة إلى الواقع، وهو الأصدقية والأوثقية ومخالفة العامّة، وقسم منها يوجب الأقوائية في المضمون، وهو موافقة الكتاب، وقسم ثالث لا يوجب شيئاً منهما كالأورعيّة والأفقهيّة، فإذا كان في المزايا ما لا يوجب شيئاً من الأقوائية والأقربيّة فلا وجه للتعدّي إلى خصوص ما يوجب إحديهما بل نتعدّى إلى كلّ مزية ولو لم تكن موجبة لإحديهما أصلا.

ولكن الصحيح رجوع جميع المزايا إلى الأقربيّة إلى الواقع، أمّا ما يوجب أقوائية المضمون فلأنّه إذا كان مضمون أحد الخبرين أقوى من الآخر ـ كما إذا كان مطابقاً لكلام الله تعالى ـ لكان موجباً لأقوائية الظنّ بصدوره عن المعصوم أيضاً، ولذلك قد يجعل علوّ مضامين الأحاديث دليلا على صحّة صدورها كما ذكره شيخنا الأنصاري(رحمه الله) في بعض كلماته في حديث «وأمّا من كان من الفقهاء ...» فقال: «إنّه يلوح منه آثار الصدق» وكما أنّ بعض أساتيذنا العظام (وهو المحقّق البروجردي(رحمه الله)) أيضاً كان يستدلّ على أقربيّة صدور أدعية الصحيفة السجّادية الشريفة بقوّة محتواها وعلوّ مضامينها، وكما يقال ذلك في خطب نهج البلاغة ورسائله وأنّ علوّ مضامينها يدلّ على صدورها عن الإمام(عليه السلام) وإن كان كثيراً منها من المراسيل.

وأمّا القسم الثالث فلأنّ الورع عبارة عن الكفّ عن محارم الله، ومنها الكذب والإفتراء، والإنسان الأورع يكون احتياطه ومحافظته على التكلّم أكثر من غيره غالباً، فيكون أصدق من غيره كذلك، وهكذا الأفقهيّة فإنّ الأفقه يكون أخذه من الإمام(عليه السلام) أتقن وأحسن من غيره، هذا مضافاً إلى أنّ كلا من الأورعيّة والأفقهيّة في المقبولة هى من مرجّحات الحاكم (كالأعدليّة والأصدقيّة) لا من مرجّحات الراوي.

وعلى ما ذكرنا إنّما يمكن التعدّي من المزايا المنصوصة (لو قلنا به) إلى كلّ مزيّة توجب قوّة ذيّها من حيث دليليته وطريقيّته إلى الواقع.

الأمر الثالث: شمول التخيير أو الترجيح لموارد الجمع العرفي وعدمه:

وبعبارة اُخرى: هل يجوز إعمال المرجّحات في موارد العام والخاصّ، والمطلق والمقيّد أيضاً، أو لا؟ المشهور والمعروف أنّه يختصّ بغير موارد الجمع العرفي، بل قال الشيخ الأعظم(رحمه الله): «وما ذكرناه كأنّه ممّا لا خلاف فيه كما استظهره بعض مشايخنا المعاصرين، ويشهد له ما يظهر من مذاهبهم في الاُصول وطريقتهم في الفروع».

ولكن من العجب أنّه نسب إلى الشيخ الطوسي(رحمه الله) في بعض كلماته في الاستبصار والعدّة، وإلى المحقّق القمّي في مباحث العام والخاصّ من القوانين أنّ أعمال المرجّحات يقدّم على الجمع العرفي.

والصحيح ما ذهب إليه المشهور (بل يلزم من العمل بما نسب إلى شيخ الطائفة(رحمه الله) فقه جديد كما سيأتي) وعمدة الدليل عليه أمران:

الأوّل: أنّه لا تعدّ موارد الجمع العرفي من قبيل المتعارضين، فلا يصدق عنوان التعارض والاختلاف عليها عند العرف، فلا يجري عليها أحكام التعارض.

الثاني: أنّ إعمال المرجّحات في موارد العام والخاصّ والمطلق والمقيّد يلزم منه ما لا يلتزم به فقيه، لمخالفته لضرورة الفقه، فإنّ من الضروري تخصيص العمومات الكثيرة وتقييد الإطلاقات العديدة في الكتاب والسنّة بالأخبار الخاصّة، مثلا قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] تخصّص بجميع أدلّة شرائط صحّة البيع والخيارات وشرائط المتبايعين والعوضين، وهكذا

قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } [النساء: 101] فإنّه خصّص بأدلّه شرائط التقصير في السفر وهى كثيرة، وقوله تعالى: { وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ } [النساء: 23]. بأدلّة خاصّة لشرائط نشر الحرمة بالرضاع، إلى غير ذلك من أشباهها، فلو جوّزنا اعمال المرجّحات بالنسبة إلى العام والخاصّ والمطلق والمقيّد وفرضنا كون العام في مثل هذه الموارد ذا المزيّة كان اللازم رفض جميع هذه المخصّصات، ولا ريب في استلزامه لفقه جديد غير ما نعرفه.

والإنصاف أنّه لم يقل به شيخ الطائفة أيضاً، حيث إنّ قوله في أوّل الاستبصار: «وإن كانا متساويين في العدالة والعدد وهما عاريان من جميع القرائن التي ذكرناها نُظر فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه وضرب من التأويل كان العمل به أولى من العمل بالآخر الذي يحتاج العمل به إلى طرح الخبر الآخر لأنّه يكون العامل به عاملا بالخبرين معاً»(31) (ونظير هذا عبارته في عدّة الاُصول)(32) الظاهر في لزوم الجمع بين الخبرين متى أمكن، وإن وقع في عبارته بعد ذكر المرجّحات من حيث الترتيب، ولكنّه لا يدلّ على المقصود، لأنّ مراده من الجمع في هذه العبارة إنّما هو الجمع التبرّعي الذي لا شاهد له من العرف، فهو في الواقع قدّم الجمع التبرّعي على التخيير بناءً على ما اختاره من المبنى، فكأنّه يقول: بعد إعمال المرجّحات تصل النوبة إلى الجمع التبرّعي ثمّ إلى التخيير خلافاً لمذهب المشهور حيث لا قيمة لمثل هذا الجمع عندهم فتصل النوبة إلى التخيير بعد عدم المرجّحات.

ويشهد على هذا كلامه في مبحث العام والخاصّ في عدّة الاُصول: «قد يستشكل (في التخصيص) بأنّ الأخبار قد وردت في تقديم ما هو مخالف العامّة وموافق الكتاب، وهذا يقتضي تقديم العام لو كان هو الموافق للكتاب أو المخالف للعامّة.

وفيه: أنّ البحث منعقد لملاحظة العام والخاصّ من حيث العموم والخصوص لا بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة إذ قد يصير التجوّز في الخاصّ أولى من التخصيص في العام من جهة مرجّح خارجي»(33).

فإنّ ذيل كلامه هذا شاهد على أنّ نظره في تقديم العام على الخاصّ مختصّ بموارد وجود قرينة خارجيّة على تجوّز الخاصّ كما إذا قامت قرينة خارجيّة على حمل الخاصّ على الاستحباب، ولا إشكال في وجوب تقديم العام وعدم جواز تخصيصه بالخاصّ حينئذ.

___________
 

1. الوافي: ج1، أبواب العقل والعلم، باب اختلاف الحديث والحكم، ص285 ـ 290 ح13، طبعة مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام).

2. وسائل الشيعة: الباب 5، من أبواب مواقيت الصّلاة، ح6.

3. المصدر السابق: الباب5، من أبواب القنوت، ح5.

4. روضة المتّقين: ج6، ص27، طبعة مطبعة العلمية.

5. كتاب الدراية: ص44، طبعة مطبعة النعمان ـ النجف.

6. فروع الكافي: ج4، باب كفّارة الصوم، ص144.

7. بحوث في علم الاُصول: تقريرات الشهيد الصدر، ج7، ص370.

8. وإن شئت مزيد التوضيح في ذلك فراجع معجم الرجال: ج1، ص63 ـ 69.

9. غوالي اللئالي: ج4، ص133; وفي المستدرك: ج17، ص303.

10. وسائل الشيعة: الباب9، من أبواب صفات القاضي، ح19.

11. وسائل الشيعة: الباب 9، من أبواب صفات القاضي، ح29.

12. المصدر السابق: ح21.

13. وسائل الشيعة: الباب 9، من أبواب صفات القاضي، ح40.

14. المصدر السابق: ح48.

15. المصدر السابق: ح30.

16. المصدر السابق: ح31.

17. المصدر السابق: ح34.

18. المصدر السابق: ح42.

19. وسائل الشيعة: الباب 9، من أبواب صفات القاضي، ح43.

20. المصدر السابق: ح7 و8 و17.

21. وسائل الشيعة: الباب 9، من أبواب صفات القاضي، ح10.

22. المصدر السابق: ح12.

23. المصدر السابق: ح14.

24. المصدر السابق: ح15.

25. وسائل الشيعة: الباب 9، من أبواب صفات القاضي، ح47.

26. وسائل الشيعة: الباب 9، من أبواب صفات القاضي، ح48.

27. وسائل الشيعة: الباب 9، من أبواب صفات القاضي، ح19.

28. وسائل الشيعة: الباب9، من أبواب صفات القاضي، ح19.

29. فوائد الاُصول: ج4، ص777، طبعة جماعة المدرّسين.

30. درر الاُصول: ص673، طبعة جماعة المدرّسين.

31. الاستبصار: ج1، ص4، طبعة دار الكتب الإسلاميّة.

32. راجع عدّة الاُصول: ج1، ص60، طبعة مؤسسة آل البيت.

33. المصدر السابق: ص318.

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.