التنظيم الدستوري لحريـــة العقيدة الدينية في التشريع العراقي وبعض الدول وأثره في تولي الوظائف العامة |
4746
01:21 صباحاً
التاريخ: 29-3-2016
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-9-2018
9606
التاريخ: 31-3-2016
5660
التاريخ: 2-4-2017
2822
التاريخ: 3-4-2017
4423
|
يتمتع الموظف بحرية العقيدة الدينية شأنه في ذلك شأن باقي المواطنين . لكنه لا يجوز له استغلال هذه الحرية على نحو ينعكس على وظيفته ويؤثر سلباً فيها . أي يخل بكرامة الوظيفة ومقتضياتها ، وبالثقة الواجبة في شاغلها والاحترام المطلوب له . كما ان هذه الحرية الدينية كما يقول البعض لا تنصرف إلا إلى الأديان السماوية. ولا يجوز للموظف اتخاذ شعائر دين غير سماوي(1). وفي دستور العراق وتشريعاته الوظيفية ، فقد أشار الى القانون الأساسي العراقي لسنة 1925 في بعض مواضعه . إلا انه " لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون وان اختلفوا في القومية أو الدين أو اللغة(2). وان الإسلام دين الدولة 000 وتضمن الدولة لجميع ساكني البلاد حرية الاعتقاد وحرية القيام بشعائر العبادة وفقاً لعاداتهم . ما لم تكن مخلة بالأمن والنظام وما لم تتنافى مع الآداب العامة(3). وان العراقيين متساوون في الحقوق المدنية والسياسية 000 ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب 000 أو الدين(4)". ومن ثم توالت العهود الجمهورية في دساتيرها . فجاء في دستور 1958 ان " المواطنون سواسية أمام القانون 000 ولا يجوز التمييز بينهم بسبب 000 أو الدين أو العقيدة(5). وان حرية الاعتقاد والتعبير مصونة وتنظم بقانون(6). وان حرية الأديان مصونة ويجب احترام الشعائر الدينية على ان لا تكون مخلة بالنظام العام ولا متنافية مع الآداب العامة(7)". ثم صدر دستور 29 نيسان لسنة 1964 الذي أكد مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات العامة بلا تمييز بينهم بسبب 000 أو الدين(8). ونص على ان حرية الأديان مصونة وتحمي الدولة حرية القيام بشعائرها على ان لا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب(9). وصدر بعد ذلك دستور 1968 الذي أكد على نفس المبادئ السابقة التي وردت في الدساتير التي سبقته فجاء في النص ان " العراقيون متساوون في الحقوق والواجبات العامة أمام القانون ولا تمييز بسبب 000 أو الدين(10). وان الدولة تصون حرية الأديان وتحمي القيام بشعائرها على ان لا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب(11)". وصدر بعد ذلك دستور 1970 الذي أكد بدوره أهمية مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون دون تفريق بينهم بسبب 000 أو الدين(12). وان حرية الأديان والمعتقدات وممارسة الشعائر الدينية مكفولة على ان لا يتعارض ذلك مع أحكام الدستور والقوانين وان لا يتنافى مع الآداب والنظام العام. وقد تم تعطيل دستور 1970 في ظل الاحتلال وصدر قانون إدارة الدولة العراقي المؤقت فجاء فيه " ان الإسلام دين الدولة الرسمي ويعتبر مصدراً أساسياً من مصادر التشريع ويحترم هذا القانون الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي ويضمن كذلك وبشكل كامل حرية الأديان وممارسة شعائرها "(13). وجاء في موضع آخر وبهذا النص " للعراقي الحق بحرية الفكر والضمير والعقيدة الدينية وممارسة شعائرها ويحرم الإكراه بشأنها "(14). من هذا يتضح ان معظم الوثائق الدستورية التي صدرت في العراق كانت تؤكد أهمية مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون ولا تمييز بينهم بعد الإشارة إلى عدة اعتبارات منها الدين أو العقيدة. وان الدولة تكفل للمواطنين حرية ممارسة الشعائر الدينية ، ولكن بشرط عدم مخالفتها لاحكام الدستور والقانون. وان لا تخالف النظام العام والآداب . ولا تهدد وحدة الشعب العراقي في كيانه ونسيجه الاجتماعي المتنوع. وان الإشارة إلى كيفية ممارسة هذه الحرية والتمتع بها في صلب الدستور تعطي الضمانة الفعالة والأكيدة لا صحاب هذه الحقوق والحريات. وفي التشريعات الوظيفية لم يتضمن القانون المرقم 24 لسنة 1960 قانون الخدمة المدنية العراقي على أي إشارة أو شرط متعلق بالالتحاق بالوظائف العامة يتطلب عقيدة معينة. وهذا يعطي التصور القانوني الواضح والسليم بأنه لا فرق بين العراقيين في تولي الوظائف العامة. وانه لا يجوز استبعاد أي مرشح من الدخول إلى السلك الوظيفي في الجهاز الإداري العراقي بسبب معتقداته الدينية مادام الدستور قد ضمن لهذا المواطن قبل كل شيء هذه الحرية. ولكن هناك وظائف تتطلب فيمن يتولاها ان يكون من طائفة معينة أو تتبع ديناً معيناً ، مثل وظائف الأئمة والخطباء والقضاة الشرعيين . فهؤلاء يستلزم القانون ان يكونوا من ديانة معينة ومنها الإسلام ولا يجوز توليها لغير المسلمين أما الوظائف الأخرى الإدارية فيجوز توليها من قبل أصحاب ديانة أخرى. فعند الإعلان عن الوظائف بالصحف واطلاع الأفراد عليها وعلى شروطها بالكامل سوف يتسنى لكل ذي مصلحة من ان يتقدم لها . ولم نعثر على تطبيقات قضائية تشير إلى استبعاد المواطنين من الوظائف العامة بسبب المعتقدات الدينية عندنا في العراق .
في جمهورية مصر العربية
في مصر كفلت الدساتير المتعاقبة حرية العقائد الدينية. فنص عليها دستور 1923 الذي جاء فيه ان " حرية الاعتقاد مطلقة " ونص كذلك على انه " تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد وطبقاً للعادات المرعية في الديار المصرية على ان لا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب "(15). ونص دستور 1956 على ان " حرية الاعتقاد مطلقة وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقاً للعادات المرعية في مصر على ان لا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب "(16). وكذلك ما ورد في دستور 1964 (17). ونص دستور 1971 على ان " تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية "(18). فهذه النصوص الدستورية في مختلف دساتير مصر نصت على حرية الاعتقاد المكفولة ودور الدولة المصرية في حماية حرية القيام بالشعائر الدينية والعقائدية طبقاً للعادات المرعية في الديار المصرية على ان لا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب . وان المصريين سواء أمام القانون . لذلك فان اعتناق الموظف لأي دين لا يؤثر في أهليته للتوظف مادام انه لا يأتي بما يخل بالنظام العام أو حسن الآداب. إذ ان العقيدة النفسية هي أمر بين الشخص وخالقه ولا سلطان عليها من قبل الدولة بطبيعة الحال ولا يمنع ذلك من النص ان " الإسلام دين الدولة " إذ ليس المقصود بهذه المادة الحجر على حرية العقائد المقررة في الأحكام المتقدمة. ومبدأ إطلاق حرية العقيدة لا يعني سوى حرية الفرد في الاعتقاد فيما يراه من الديانات والمقصود بالاعتقاد هنا الإرادة أو النية الكامنة في نفس الشخص التي لا يجوز التعبير عنها بمظهر خارجي إلا في حدود ما يسمح به النظام الأساسي للدولة والقواعد التي يقوم عليها هذا النظام ومنها أحكام الشريعة الإسلامية(19). وفي مجال التشريعات الوظيفية فانه لم يرد في قوانين العاملين بالدولة أو القطاع العام المصري المتعاقبة نص يقتضي باشتراط توافر دين معين للالتحاق بالوظيفة العامة. ولم يرد ما يشير بالنص ما يتعلق بحرية الأديان وحدود ممارسة شعائرها بالنسبة للموظف العام وبالتالي فانه يترتب على ذلك انه لا يجوز للسلطة الإدارية المختصة بأية حال من الأحوال الاستناد إلى كون المتقدم للوظيفة يعتنق ديانة معينة خلافاً للدين الإسلامي ومـن ثم تستطيع استبعاده من التقدم للوظيفة العامة وإلا كانت في ذلك قد خالفت النص الدستوري المقرر للمساواة الكاملة . ومن التطبيقات القضائية انه في إحدى الدعاوى قدمت النيابة الإدارية مدرساً مصرياً بوزارة التربية والتعليم إلى المحكمة التأديبية بتهمة اعتدائه على إحدى السيدات في أثناء إقامته في منزلها بان عاشرها معاشرة غير شرعية بعد ان أوهمها باعتناقه الإسلام ديناً واتمام زواجه منها ولما أفضت إليه بأنها حملت منه تنكر لها ورفض إتمام الإجراءات التي كان قد وعد بها وقد حكمت المحكمة التأديبية بعزله من وظيفته مع حفظ حقه في المعاش أو المكافأة لاتخاذه من الدين وسيلة للإيقاع بسيـدة في حبائله والاتصال بهـا اتصالاً غيـر شرعي(20). وفي قضية أخرى نسب إلى أحد الموظفين تهمة التلاعب بالأديان وبأنه اتخذ من الأديان وسيلة لتحقيق مآربه الشخصية ذلك بأنه اعتنق الدين الإسلامي لغرض معين خاص لم يكن ليتحقق إلا باتباع هذا السبيل . وبعد ان زالت العوامل التي ألجأته إلى ذلك ارتد عن الإسلام وبما ان الردة أمر لا يتفق مع النظام العام في مصر الذي يعتبر الإسلام دين الدولة الرسمي وبما ان تصرفاته لا تتفق مع ما يجب على الموظف من الاحترام لدينه ولاعمال وظيفته ، وكان ما ارتكبه يدخل في دائرة سوء السلوك الشديد فقد فصل من عمله . وطعن الموظف بقرار الفصل وبعد ردٍ وجدل بين الطعن وحكم المحكمة الإدارية والطعن الذي قدم من هيئة مفوضي الدولة . أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكماً رفضت به طعن المدعي بقرار الفصل الأول قائلة انه لا يجوز الخلط بين حرية العقيدة في ذاتها وبين سوء السلوك الشديد الذي قد يستفاد من التلاعب بالعقيدة والأديان أياً كانت العقيدة أو الدين بقصد تحقيق مآرب خاصة وأغراض دنيوية معينة . سرعان ما يرتد مثل هذا المتلاعب بالعقيدة أو الدين عن عقيدته أو دينه إذا ما تحققت مآربه الخاصة وأغراضه الدنيوية الزائلة ومع التسليم بحرية العقيدة أو الدين بمعنى انه لا يجوز إكراه شخص على اعتناق عقيدة معينة أو دين معين إلا انه ليس من شك في ان مسلك المتلاعب بالعقيدة أو بالأديان بقصد تحقيق تلك المأرب والأغراض أياً كانت العقيدة أو الدين يصمه بسوء السلوك الشديد من الناحية الخلقية فما كانت العقائد أو الأديان وسيلةً لتحقيق أغراض دنيوية زائلة وإنما تقوم العقيدة فيها على الإيمان بها والإخلاص لها . ومن ثم كان الشخص الذي يتلاعب بها لتحقيق مثل تلك المآرب والأغراض هو شخص يمسخ الحكمة التي تقوم عليها حرية الدين والعقيدة مسخاً ظاهراً ولذا يعتبر مسلكه هذا في نظر الأديان جميعاً مسلك الشخص الملتوي سيئ السلوك(21). ولكن ليس جميع الوظائف تكون مسموحاً بها لجميع المواطنين من مختلف الطوائف فثمة وظائف معينة يشترط فيها توافر الديانة الإسلامية ولا يمكن قبول غير المسلم ، وبالمثل هناك وظائف لا يمكن قبول المسلمين فيها وتكون حكراً على طائفة معينة دون ان يمثل ذلك خرقاً لمبدأ المساواة في تولي الوظائف العامة بسبب طبيعة تلك الوظائف وامكانية أدائها تحتم ان يكون شاغلها إما مسلماً أو مسيحياً. والإلمام الكامل بتعاليم الدين هو الذي يؤهلهم للقيام بتلك الوظائف لانهم يتولون مهمة شرح الدين وتوضيح معالمه ومبادئه واقناع الآخرين. وخلاصة القول ان مجلس الدولة المصري أكد كفالة حرية العقيدة الدينية للموظف ، وعلى عدم جواز إكراهه على اعتناق عقيدة دينية معينة ، وعدم تأثير اعتناقه لأي عقيدة دينية في أهليته للتوظف وعدم جواز الخلط بين حرية العقيدة وبين سوء السلوك الشديد. فكفالة حرية العقيدة تتصرف إلى الأديان السماوية فقط(22). فيتضح ان حالات الاستبعاد من الوظيفة لأسباب دينية كانت محدودة ونادرة جداً. ولكن قد يشترط في تولي وظيفة عامة في المرشح ان يدين بدين معين كشرط للوظيفة العامة . وابرز مثال على ذلك في أحكام المرسوم بقانون رقم 26 لسنة 1936 بإعادة تنظيم جامع الأزهر. إذ نص على ان يكون شاغلو اغلب الوظائف فيه مسلمين ، فوظيفة شيخ الجامع الأزهر تجعل منه الإمام الأكبر لجميع رجال الدين والمشرف الأعلى على السيرة الشخصية الملائمة لشرف العلم والدين بالنسبة إلى أهل العلم وحملة القرآن الكريم ، فلا يتصور ان يشغلها غير مسلم. ومناصب كبار العلماء وأعضاء هيئة التدريس بكليات الأزهر الشريف والمعاهد الدينية قاصرة على المصريين المسلمين. وقد حدث مرة ان نشر أحد القضاة الشرعيين كتاباً تضمن آراء اعتبرت مغايرة لما اجمع عليه علماء الدين فقضت هيئة كبار العلماء بإخراجه من زمرة العلماء وقرر المجلس المختص بالوزارة عزله عن وظيفته(23).
في فرنســــا
يتمتع الموظفون العموميون في فرنسا كبقية المواطنين بحرية العقيدة والعبادة وقد كفل إعلان حقوق الإنسان الفرنسي الصادر عام 1789 هذه الحرية للمواطنين(24). وحرية التعبير عن العقيدة الدينية(25). كما نصت مقدمة الدستور لسنة 1946 على عدم عقاب أحد في عمله أو وظيفته بسبب مبادئه أو آرائه أو معتقداته. ونص دستور الجمهورية الفرنسية لسنة 1958 ان " فرنسا جمهورية 000 علمانية 000 تكفل المساواة أمام القانون لجميع المواطنين ولا تميز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو الجنس أو الدين وهي تحترم كل المعتقدات 000"(26). ويستند نظام انفصال الدولة عن الكنيسة إلى القانون الصادر في 9/9/1905 الذي جاء فيه " تؤكد الجمهورية حرية العقيدة وهي تضمن للجميع مباشرة حرية الدين والعبادة في حدود النظام العام " وبالتالي عدم تدريس مادة الدين في مراحل التعليم الابتدائي وذلك حتى لا يكون شكلاً من أشكال التكوين الديني المبكر للتلاميذ مما يؤثر بدوره في حرية العقيدة لدى الأطفال(27). وجاء في دستور 1958 ان الجمهورية علمانية وتكفل المساواة أمام القانون لجميع المواطنين دون تمييز بينهم بسبب الأصل أو الجنس أو الدين وتحترم كل المعتقدات(28). وجاء في قانون الوظيفة العامة الفرنسية ان " الجمهورية لا تعترف رسميا بأية عبادة أو ديانة ، فالمواطن الفرنسي حر في اختيار عقيدته وممارسته لها دون ان يتعارض ذلك مع النظام العام للدولة ، وان الدولة ليس لها ان تفرض عقيدة أو ديانة محددة . وبالتالي لا ينتقص من حقوق المواطن الفرنسي الدستورية والتشريعية والقانونية في إطار مبدأ المساواة الذي ورد في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي وما جاء في دساتير فرنسا . ومن هذه الحقوق حقه في تولي الوظائف العامة ومن ثم فلا يجوز للجهة أو المراجع المختصة رفض قبول متقدم لوظيفة أو مسابقة بحجة انتمائه لعقيدة أو دين معين. وكان قانون 19 أكتوبر 1946 بشأن النظام العام للموظفين الذي ينص على انه يجب ان يتضمن الملف الشخصي للموظف كل الأوراق المتعلقة بمركزه الوظيفي ويجب قيد هذه الأوراق وترقيمها وتصنيفها بصفة دائمة ولا يجوز ان يتضمن ملف خدمة الموظف أيـة إشارة إلى آرائه السياسية أو الفلسفية أو الدينية "(29). وقد جاء في نظام الموظفين الحالي الصادر بالأمر المرقم 244 في 4 فبراير 1959 على ذات الحكم السابق . فنص على ان الملف الشخصي للموظف يجب ان يحتوي على كل الأوراق المتعلقة بمركزه الوظيفي ويجب قيد هذه الأوراق وترقيمها بعينها بصفة دائمة ولا يجوز ان يتضمن ملف الموظف أية إشارة إلى آرائه السياسية أو الفلسفية أو الدينية(30). كذلك فان قانون الوظيفة العامة في فرنسا الصادر في 13 يوليو 1983 جاء فيه " ان حرية الرأي مكفولة للموظفين ولا يمكن التمييز بينهم بسبب ما يعتقدونه من آراء سياسية أو نقابية أو فلسفية أو دينية "(31). ومن هذا كله يتضح ان حق الموظف العام في فرنسا في اعتناق الأفكار الدينية مكفول بمنظومة من التشريعات التي تمثل سياقاً يكفل ممارسة الموظف لحرية العقيدة ويمنع أي اعتداء على هذا الحق أو الانتقاص منه وهذه النصوص التي تكفل حرية العقيدة والأفكار الدينية تكون نسقاً قانونياً منسجماً مع مبدأ العلمانية الذي تضمنه الدستور الفرنسي في مادته الثانية. وهذا يعني ان الدولة وان كانت تكفل حرية العقيدة إلا أنها لا تتحيز لأي دين أو عقيدة ولا تقيم تفرقة بين دين وآخر ولا تقدم العون لأي من الأديان ، فهي تحترم جميع الأديان والعقائد دون ان تساعدها أو تحد منها ، وهذا كله في إطار علمانية المرفق العام وحياده. فعلمانية الدولة توجب على الموظفين ان يحترموا هذا المبدأ ويحافظوا على حياد المرافق العامة الديني والسياسي. والقضاء الفرنسي استقر على ان الوظائف العامة يعهد بها إلى المواطنين بدون تمييز بينهم بسبب العقيدة أو الدين ، فكل مواطن له الحق في التقدم لتولي الوظائف العامة مادام استوفى شروطها القانونية . ولا يجوز للإدارة استبعاده بسبب معتقداته الدينية أو بسبب انضمامه الى جماعة دينية(32). ولذلك وقف مجلس الدولة أمام السلطة المختصة بالتعيين في رفضها قبول طلبات المتقدمين للوظيفة بناء على معتقداتهم الدينية وقرر انه لا ينبغي ان تكون ديانة المتقدم للوظيفة سبباً في رفض أو قبول طلبه لوظيفة عامة(33). وقد عرض على مجلس الدولة الفرنسي حالات عديدة ألقيت فيها قرارات التخطية في التعيين بسبب المعتقدات الدينية للمرشحين في وظائف التعليم لما في هذه القرارات من إخلال بمبدأي المساواة في تولي الوظيفة العامة وحرية العقيدة. وقد اقر مجلس الدولة في قضائه في قضية Abbe Bauteye القس يوتير ان لوزير المعارف العمومية رفض السماح لرجال الدين في دخول مسابقة (الاب جايسون) في الفلسفة. إذ لا يعدو ذلك ان يكون استخداماً لحق التقدير المخول له مراعاة لصالح العمل الخاضع لإشرافه. وهو وحده الذي يستطيع تقدير مصلحة العمل ، وان مجلس الدولة وهو لا يعدو ان يكون قاضياً إداريا لا يملك ان يحل محله في تقدير هذه المصلحة إذ يكون ذلك منه قياماً بعمل خارج عن نطاق سلطته القضائية. وبناءً على ذلك استبعد قضاء المجلس رجال الدين من وظائف التعليم الثانوي . وانتقد الأستاذ فالين هذا القضاء لاستبعاد هذا دون الاستناد إلى نص تشريعي بعض أنواع من المواطنين عن وظائف معينة دون الاستناد الى نص تشريعي . في حين انه لم يصدر أي قانون يشترط استبعاد رجال الدين من وظائف التعليم الثانوي كما هو الأمر بالنسبة للتعلم الابتدائي بموجب قانون 30 أكتوبر لسنة 1883 في المادة 17 منه على استبعاد رجال الدين من التعليم الابتدائي. فيما أيده (جيز) وعارضه (دريجي) استناداً إلى انه لا يجوز استبعاد شخص من التعيين بالوظائف العامة إلا إذا كان هناك حكم جنائي مانع من تعيينه(34). يتضح من هذا ان المبادئ التي اقرها مجلس الدولة في حكمه كان لها أثرها وانعكاسها في القضاء اللاحق من ناحيتين الأولى بالتفرقة ما بين الأفكار والآراء التي يعتنقها طالب الالتحاق بالوظيفة وبين التعبير الخارجي عن هذه الأفكار والآراء . يستشف من ذلك ان الاستبعاد من الوظائف العامة لأسباب دينية في فرنسا محدود للغاية ونادر نظراً للضمانات التي كفلت الفصل بين حالة الشخص الدينية والعقائدية وبين حقه في المساواة مع بقية المواطنين دون تمييز في الحصول على الحقوق كافة ومنها حق تولي الوظائف العامة. فالاحترام الحقيقي والمنطقي لمبدأ المساواة في تولي الوظائف العامة يستبعد كلياً التمييز بين المرشحين للوظيفة العامة استناداً لمعتقداتهم الدينية ، ولكن هذه القاعدة العامة كذلك لا تخلو من الإستثناءات التي ترد عليه فهناك بعض الوظائف والمناصب ذات الطابع الديني التي يجب ان يتولاها معتنقو ديانة معينة. فطبيعة هذه الوظائف ومسؤولياتها توجب استبعاد بعض الطوائف من توليها دون هذه الطائفة . لذلك لا يعد مثل هذا الحجز لبعض الوظائف مخالفاً لمبدأ المساواة بين المواطنين في تولي الوظائف العامة لان طبيعة هذه الوظائف والمناصب تقتضي مثل هذا الحجز أو مثل هذا الاستبعاد(35). ومن خلال الاطلاع على النصوص الدستورية والتشريعية المنظمة لهذه الحرية في كل من العراق ومصر وفرنسا يتضح لنا انه لا يمكن ان يكون لعقيدة المتقدم لتولي إحدى الوظائف العامة إلا إذا كانت طبيعة تلك الوظيفة تشترط توافر ديانة معينة تكون سبباً في استبعاد الأشخاص من تولي الوظائف العامة إذا ما توفرت الشروط العامة لتلك الوظيفة. كما لاحظنا ان قانون الخدمة المدنية العراقي أو المصري لم يتضمن أية إشارة أو نص قانوني في قانون الخدمة العراقي أو العاملين المدنيين بالدولة لتمتع الموظفين بحرية العقيدة عكس ما هو موجود عليه في جمهورية فرنسا ، حيث ان النظام الوظيفي الفرنسي أشار إلى حرية العقيدة للموظف العام وحض على عدم التمييز بين الموظفين بسبب عقائدهم . نأمل من المشرع العراقي ان يعمل على إيراد نص دستوري وتشريعي يتضمن هذه الضمانة الرئيسية للموظف على ما هو موجود عليه في فرنسا. كما انه يجب ان يلاحظ انه وان كانت حرية العقيدة مكفولة بالدستور وفرضت على الدولة توفير حمايتها لكل فرد إلا انه يجب ان لا تكون مطلقة من كل قيد بل يجب ان تخضع للعادات المرعية وعدم مخالفتها للنظام العام أو منافياً لحرمة الآداب . والموظف العام وان كان يتمتع بحرية العقيدة واعتناق الأفكار الدينية إلا ان ذلك يجب ان يكون في إطار القواعد العامة للشريعة الإسلامية باعتبارها الدين الرسمي للدولة والمصدر الأساسي للتشريع . فاحترام مبادئ واحكام الشريعة الإسلامية فيه احترام للقانون والدستور ، وان لا تكون حرية العقيدة خروجاً عن العادات والقيم السائدة في المجتمع العراقي. لذا يجب عدم الخلط بين حرية العقيدة والتلاعب بالأديان والاستخفاف بمبادئها بحيث يعد ذلك انحرافاً عن الغاية من حرية العقيدة. واتضح لنا ان الموظف في فرنسا وان كان يتمتع بحرية العقيدة كما يتضح من ظاهر النصوص إلا ان الواقع يظهر عكس تلك النصوص حيث ان الدولة ترمي في الأساس للحفاظ على مبدأ العلمانية وهي في سبيل ذلك تهدر كل قيمة لتلك النصوص وخصوصاً في مرفق التعليم حيث لا يمكن لذوي الميول الدينية أو رجال الدين شغل وظائف التدريس في المدارس الابتدائية أو الثانوية والقضاء في فرنسا أيد هذا الاتجاه من الدولة. حيث ذهب بعض الفقه الفرنسي إلى ان مفهوم القضاء الفرنسي للعلمانية هو مفهوم لبرالي يتبلور في تأكيد حياد الدولة ومنع أي تفرقة بسبب المعتقدات الدينية. فالعلمانية عندهم ليست إنكاراً للظاهرة الدينية ولكن النظرة المتساوية لجميع العقائد بما فيها الإلحاد(36). والذي حصل في فرنسا ان هناك تداخلاً ما بين النصوص الدستورية كحق للمواطنين ومبدأ العلمانية كاتجاه للدولة في حياد المرافق العامة. فحرية العقيدة التي نص عليها الدستور الفرنسي وكفلها للموظفين في اعتناق الأفكار الدينية مشروطة بان يكون اعتقاده لنفسه ولا يظهر على أعمال وظيفته أو سلوكه الخارجي ، أي ان تظل أفكاره حبيسة نفس وصدر الشخص. فيلاحظ مقدار الشك الذي يعتمر المشرع الفرنسي رغم اعترافه بحرية العقيدة الدينية واعتناق الأفكار الدينية للموظفين وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بمرفق التعليم حيث افرد له قواعد خاصة به لكي لا يتأثر الطلاب بفكر أو عقيدة معينة دون الأخرى. واتضح ان حرية العقيدة للموظفين في فرنسا تجد أضيق نطاق لها في نطاق التعليم الابتدائي ، إذ خص المشرع وظائف التعليم بقواعد خاصة تتفق في مجملها مع مبدأ العلمانية . وفي هذا تعارض مع مبدأ المساواة المنصوص عليها في كل الإعلانات والدساتير الفرنسية إذ في مقتضاه ان الأفراد سواسية أمام تولي الوظائف العامة بحيث لا يجوز ان يحرم أحد منها بسبب آرائه أو عقيدته وفي إقصاء رجال الدين عن تولي وشغل وظائف التعليم إهدار لهذا المبدأ . كما ان حجب وظائف التعليم عن رجال الدين كما رأينا وجعلها قاصرة على العلمانيين فقط دون سواهم فيه إخلال بحياد المرفق ، حيث ان إتاحة الفرصة للعلمانيين دون سواهم يجعل عقيدة التلاميذ تصطبغ بصبغة العلمانية وفي هذا إعدام لحرية الاختيار لديهم مما يفرض عليهم الاتجاه العلماني دون غيره. كما ان القول بعدم إتاحة الفرصة للأديان جميعاً يجعل الأطفال لا يكونوا عقيدتهم بحرية فان هذا القول يمكن التعويل عليه لو ان الإدارة عرضت فكرة الأديان والعلمانية عموماً بغير تحيز للعلمانية، فان في هذا يكون للأطفال حرية الاختيار. فيتضح مقدار التباين ما بين الواقع النظري والواقع العملي التطبيقي. وبالمقارنة بما هو عليه الحال في العراق ومصر فان الموظف يتمتع بالحرية التامة في ممارسة عقيدته ولا يمكن ان تكون سبباً لحرمانه من شغل أو تولي الوظائف العامة أو الاستمرار فيها . حتى على الصعيد الابتدائي أو الثانوي لا تحول الإدارة بين رجال الدين وتولي وظائف التدريس في تلك المدارس حيث ان مادة التربية الإسلامية أو المسيحية مادة أساسية في مناهج تلك المراحل. وهذا ما يجعلنا نقول ان الموظف في العراق ومصر يتمتع بحرية أوسع من تلك التي يتمتع بها الموظف الفرنسي. وما صدور قانون منع الرموز الدينية الفرنسي وحظر الحجاب إلا تأكيد على علمانية الدولة وخرقها للمبادئ الدستورية التي كفلت للمواطنين ممارسة هذه الحرية وإهدارا لمبدأ المساواة ما بين المواطنين في تولي الوظائف العامة بسبب استبعاد شريحة واسعة من المجتمع الفرنسي من حق التوظف أو التعليم بسبب هذا القانون وما يعتقده ويؤمن به الأفراد في فرنسا.
_____________________
1- د. فاروق عبد البر / مصدر سابق ، ص161.
2- المادة 6 من القانون الأساسي العراقي السابق لسنة 1925.
3- المادة 13 من القانون الأساسي العراقي السابق لسنة 1925.
4- المادة 18 من القانون الأساسي العراقي السابق لسنة 1925.
5- المادة 9 من دستور جمهورية العراق لسنة 1958.
6- المادة 10 من دستور جمهورية العراق لسنة 1958.
7- المادة 12 من دستور جمهورية العراق لسنة 1958.
8 المادة 19 من دستور جمهورية العراق لسنة 1964.
9- المادة 28 من دستور جمهورية العراق لسنة 1964.
10- المادة 21 من دستور جمهورية العراق لسنة 1968.
11- المادة 30 من دستور جمهورية العراق لسنة 1968.
12-المادة 19 من دستور جمهورية العراق لسنة 1970.
13- المادة 7 من قانون إدارة الدولة المؤقت للعراق.
14- المادة 13/و من قانون إدارة الدولة المؤقت للعراق.
15- المواد 12،13 من دستور 1923 لجمهورية مصر العربية السابق .
16- المادة 43 من دستور 1956 لجمهورية مصر العربية السابق .
17- المواد 34،35 من دستور 1964 لجمهورية مصر العربية .
18- المادة 47 من دستور 1971 لجمهورية مصر العربية .
19- الفتوى الصادرة من إدارة الفتوى والتشريع لوزارة العدل الاستشاري للفتوى والتشريع ، النصف الثاني من السنة التاسعة والسنة العاشرة ، قاعدة رقم 169 ص253 مشار إليها بمقال د. جودت الملط / الموظف العام وممارسة الحرية ، مجلة العلوم الإدارية ، ع3 1969 ، ص115.
20- حكم المحكمة التأديبية لوزارة التربية والتعليم المصرية في 16/2/1959 ، ق33 س1 ، أشار إلى هذا د. فاروق عبد البر / مصدر سابق ، ص162 .
21- ع في 21/6/1958 ، س3 ، مجموعة السنة الثالثة ، بند 157 ، ص1486 أشار إلى هذا الحكم ، د.فاروق عبد البر / مصدر سابق ، ص164 وما بعدها .
22- د. فاروق عبد الله / مصدر سابق ، ص167.
و د. جودت الملط / حرية الرأي ، مجلة العلوم الإدارية ، ع3 1969 ، ص97.
23- د. محمد حامد الجمل / مصدر سابق ، ص777-778.
24- المادتين 10 و 11 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي.
25- V.Francois Gazier : La fonction publique dans le monds ,1972, p.159.
وللمزيد يراجع
Claude – Albert colliard : Libertes publiques sixiem edition, Dalloz, 1982 p491.
26- المادة 2 من دستور جمهورية فرنسا لسنة 1958.
27- د. طارق حسنين الزيات / حرية الرأي لدى الموظف العام في فرنسا ومصر ، بدون دار نشر ،1997 ، ص22.
28- المادة 2 من دستور فرنسا 1958.
29- المادة 16 من قانون الوظيفة العامة الفرنسي.
30- المادة 13 من نظام الموظفين الفرنسي بالامر المرقم 244 لسنة 1959.
31- المادة 6 من قانون الوظيفة العامة في فرنسا لسنة 1983.
32- د. عبد الحميد محمد عبد القادر / مصدر سابق ، ص126.
33- انظر حكم مجلس الدولة الفرنسي في قضية Deme weis في 28/4/1938، ص413.
34- د. محمد حامد الجمل / مصدر سابق ، ص779. وبنفس المعنى يراجع
د. محمد حسنين عبدالعال / مصدر سابق ، ص589 وما بعدها.
ود. عبدالحفيظ الشيمي / القضاء الدستوري وحماية الحريات الأساسية في القانون المصري والفرنسي ، دار النهضة العربية ، مصر ، 2001 ، ص 265 وما بعدها.
35- للمزيد من المعلومات يراجع د. الشطناوي / مصدر سابق ، ص46.
ود. سليمان سليم بطارسة / نظام الوظيفة العامة في المملكة الاردنية الهاشمية " النظرية والتطبيق " ، ط1 ، 1997 ، عمان ، ص14.
36- د. عبد الحميد محمد عبد القادر / مصدر سابق ، ص126.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|