النهضة في العهد الكوشي (الدراما المنفية أو تمثيلية بدء الخليقة) (1) |
![]() ![]() |
أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-04-18
![]()
التاريخ: 2024-12-03
![]()
التاريخ: 2024-03-15
![]()
التاريخ: 2023-07-23
![]() |
تدل الأحوال على أن عصر النهضة الذي ينتسب عادة للأسرة السادسة والعشرين كما سنرى بعد كان قد بدأ فعلًا في عهد الأسرة الخامسة والعشرين، وأن المبتدعين لهذه النهضة هم ملوك «كوش» الذين أدخلوا على البلاد قوة جديدة من حيث الفنون الحربية والفنية والأدبية والدينية، بل والفلسفة الحقيقية التي لم نرها ممثلة في مصر القديمة حتى هذا العهد، وقد رأينا فيما سبق كيف أن «بيعنخي» قد وضع خططًا جديدة في فنون القيادة الحربية لم نسمع بمثلها من قبل، وكيف أنه دون لنا لوحة عن حروبه في لغة سهلة بسيطة تذكرنا بلغة الدولة الوسطى التي يعد عصرها أعظم عصر ازدهرت فيه اللغة، وكيف أنه قد أظهر في نقوشه من التقى والصلاح والإيمان ما جعله يتكل في كل أعماله وأفعاله على خالقه، وأنه زار كل المعابد المصرية التي صادفها في رحلته من أول «نباتا» حتى أطراف الدلتا، وقد أعطى لكل إله عناية خاصة وقدم له القربان، ثم يلفت النظر أنه حط رحاله في منف وزار معبد الإله بتاح، وقام بشعائر تتويج نفسه هناك بوصفه الإله الأعظم، على الرغم من أن ميول هذا الملك كانت موجهة لإلهه الأعظم «آمون رع»، وعلى أي حال نلحظ في كل أعمال هذا الملك الميل إلى القيام بنهضة جديدة في كل مرافق الحياة المصرية، على أن ما جعل لهذه النهضة قيمتها العظيمة هو أن الملوك الذين خلفوه قد ساروا بها سيرًا حثيثًا بقدر ما سمحت لهم به الأحوال العالمية التي كانت تحيط بهم، ولا نزاع في أن أخاه الأصغر «شبكا» قد شجع هذه النهضة تشجيعًا مُحَسًّا، ولا أدل على ذلك مما تركه لنا من آثار عظيمة تدل على ميله لإحياء ما كان لمصر من مجد عريق في الدين والفلسفة.
والواقع أنه قد وصل إلينا من عهده المتن الحقيقي لوثيقة يقال إنها دونت في عهد بداية الاتحاد الثاني لمصر؛ أي من عهد مينا، ولدينا منها نسخة منقوشة على حجر أسود محفوظ الآن بالمتحف البريطاني، وكان من أمر هذا الحجر أنه استعمله أخيرًا القرويون المصريون قاعدة لطاحون تطحن عليه غلالهم، وقد وصل إلينا بصورة ناقصة لتآكل ما عليه من كتابة(2)، ومن يقرأ السطر المنقوش على قمته يعرف شيئًا عن أصله؛ إذ يوجد فيه اسم الملك «شبكا» الكوشي الذي حكم مصر في نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، ويلي اسم هذا الفرعون نقوش تقول: إن جلالته (يعني «شبكا») نقل تلك الكتابات من جديد في بيت والده بتاح القاطن جنوبي جداره (أي «منف»)، وقد وجدها جلالته بمثابة تأليف للأجداد قد أكلها الدود حتى أصبح لا يمكن قراءتها من البداية حتى النهاية، وإذ ذاك قام جلالته بكتابتها من جديد حتى أصبحت أكثر جمالًا مما كانت عليه من قبل، ومن ثم نفهم أن ملك مصر الكوشي كان مهتمًا بالمحافظة على الكتابات القديمة التي كتبها الأجداد وإحيائها من جديد، وهذا ما يوسم به عصر النهضة الذي يقال إنه بدأ في عهد الأسرة السادسة والعشرين، ولا نزاع في أن هذا المتن كان مدونًا على بردية وإلا لما استطاع الدود أن يأكله، ويلحظ أن هذا المتن قد سماه شبكا الكوشي «تأليف الأجداد»، وهذا التعبير منهم يوحي إلينا بأن كُتَّاب هذا الملك فاتهم أن الكتابة التي ينسخونها كان عمرها؛ إذ ذاك يزيد على 2500 سنة؛ لأن لغة الوثيقة تحتوي على اصطلاحات تدل على أنها قديمة جدًّا، كما أن المتن يكشف لنا عن موقف تاريخي يدل بداهة على أن وقوعه لا يمكن أن يكون إلا في بداية الاتحاد الثاني؛ أي في العهد الذي أسس فيه مينا الأسرة الأولى حوالي 3400 ق.م، ومعنى ذلك أنه قد أظهر لنا أقدم أفكار وصلت إلينا مدونة في تاريخ العالم لأقدم أقوام، ولكن من جهة أخرى لا نجد في ذلك إبهامًا ولا غموضًا؛ لأنه على ما يظهر كان غرض النهضة الجديدة التي قام بها ملوك «كوش» هو إحياء مجد مصر القديم والعودة إلى تقليد كل ما هو مصري يدل على مجد البلاد وعظمتها، فلا غرابة إذن أن نجد أن ملوك «كوش» هم أول من قاموا بهذه النهضة؛ لأنهم ينتسبون إلى السلالة الحامية التي نشأ منها المصريون، وعلى ذلك لن ندهش من قول «شبكا» عن هذا المتن إنه من «تأليف الأجداد»؛ «أي إنه ينسب إلى قوم مصر، وأنه هو من نسلهم، فحقه في ملك مصر طبعي»، والوثيقة تشبه كل الشبه «بحالة تجذب النظر» القصص المقدسة التي مثلت في المسرحيات الرمزية في القرون الوسطى، والمسرحية المنفية التي نحن بصددها تعد أقدم سلف لها، وقد وجدنا أن بتاح إله منف يقوم في كل من الجزء المسرحي والجزء الفلسفي بدور إله الشمس الذي يعد إله مصر الأعلى، وذلك يفسر لنا العادة التي كان يسعى بها هذا الإله المحلي للحصول على عظمة إله الشمس وبهائه، وذلك بأن يتقلد سلطته ويستولي على الدور الذي لعبه في تاريخ مصر الخرافي.
وتدل بوضوح سيادة «بتاح» في تلك المسرحية على تزعمه «منف» مدينته الأصلية تزعمًا سياسيًّا، وتلك الزعامة ترجع في هذه الحالة إلى انتصار «مينا» مؤسس الأسرة الأولى، وذلك الملك هو الذي أسس «منف» لتكون عاصمته ومقر ملكه، وهذا هو ما حدا بالملك «بيعنخي» لزيارة «منف» وإقامة الشعائر بتولي الملك فيها، وعلى الرغم من وجود أصل تلك المسرحية المنفية فإن المنبع الأصلي لمحتوياتها العجيبة كان بلا شك بلدة «هليوبوليس» «مما دعا «بيعنخي» لزيارتها وتقديم القربان للإله رع فيها» وبذلك نجد فيها أصل لاهوت كهنة «عين شمس» الفلسفي كما تطور في عهد الاتحاد الأول (3) أي عندما وصل إلى المرحلة التي نجد فيها كهنة «منف» يخصون به إلههم «بتاح»، فهذه المسرحية تُبرز لنا إذن إله الطبيعة القديم وهو إله الشمس رع متحولًا تمامًا إلى قاضٍ يحكم في شئون البشر «بمقتضى قانون أطلق عليه اسم «ماعت»، وهو يعني: الحق والصدق والعدالة والحكم الصالح».
ويمكن تلخيص محتويات هذه المسرحية بأنها محاولة لتفسير الأشياء على حسب نظرية كهنة «منف»، ويدخل في ذلك نظام العالم الخلقي، وكذلك تدل على أن أصلها يرجع إلى «بتاح» إله «منف»، أما كل العوامل التي ساعدت على خلق العالم أو المخلوقات التي كان لها نصيب في ذلك فلم تكن إلا مجرد صور أو مظاهر لبتاح إله «منف» المحلي المسيطر على أصحاب الحرف والصناعات والذي يعد إله كل حرفة «يقصد أنه كان الإله الأحد الفرد الصمد».
ولم يكن فتح «مينا» لمصر واتخاذ «منف» الواقعة بين الوجه القبلي والوجه البحري عاصمة ومقرًّا لملكه إلا خطوة نحو الاعتقاد بأن «بتاح» هو الصانع الأعظم الذي خلق العالم. على أن المجهود الذي بُذل لينال الإله «بتاح» هذه المكانة قد ساعده مساعدة جدية في الاستيلاء على السلطة والسيادة الفريدة التي كان يتمتع بها الإله «رع» الذي كان يتزعم في «منف» آمادًا طويلة آلهة مصر بما كان له من المكانة الممتازة في «هليوبوليس».
وعلى أية حال فإن اللاهوت المنفي الذي نقرؤه في هذه الوثيقة يقدم لنا التعاليم الدينية الخاصة بعاصمة «مينا» الجديدة، وهذا اللاهوت يجمع بين آراء نفهم منها أنها جديدة؛ وذلك لأنها خاصة بالتأسيس الجديد للدولة المصرية وبين آراء أخرى نشك في أنها جديدة؛ لأنها لا تتفق مع المعتقدات المصرية السائدة، ولم يكن في الاستطاعة الاعتراف بها؛ إذ لم تكن جزءًا من الحركة العظيمة التي قامت في فجر التاريخ.
هذا؛ وتوجد بعض عقائد أخرى يظهر أنها متأصلة في التقاليد المصرية، بل توجد في التقاليد الأفريقية وترجع إلى آماد بعيدة جدًّا في القدم، والواقع أن هذا المتن كما أشرنا خاص بنظام الكون، فهو يصف نظام الخليقة، ويجعل من مصر كما نظمها «مينا» جزءًا لا تنفصم عراه عن هذا النظام، ولكن «بتاح» الإله المحلي الذي أقيم له معبد جنوبي جدار منف قد أعلن بأنه خالق الكل، كما جمع بحجة غاية في الجسارة والعمق الفوائد العقلية للتوحيد، هذا مع تنوع الآلهة المصريين المعترف بهم وقتئذٍ، غير أن هذه التأملات الهامة التي يحتويها هذا المتن لا تؤلف إلا الجزء الخامس الذي اشتهر من أجله هذا المتن، وهو عبارة عن مقال يبحث في موضوع المجتمع الطبعي، وإنه لمن الغريب أن نرى رأي المصري عن الملكية قد وضح في مثل هذا السياق من الكلام.
ويمكن تقسيم المتن بحالته الراهنة ستة أقسام، وهذا التقسيم لا يعتمد على أصل، بل وُضع لسهولة الفهم، والقسم الأول قد هشم تهشيمًا مريعًا غير أن موضوعاته الرئيسية يمكن التعرف عليها، فمن جهة نجد أن أرض مصر قد أعلن أن وجودها في الإله الخالق «بتاح» «تاتنن»؛ أي بتاح هو الأرض التي رفعت، ومن جهة أخرى قد أشير إلى ظهور مملكة موحدة تحت حكم ملك واحد، وما بقي من الجزء الأول هذا هو:
… «بتاح» أي هذه الأرض المسماة بالاسم العظيم للإله تاتنن …
وإن الذي وحد هذه «الأرض» قد «ظهر ملكًا للوجه القبلي وملكًا للوجه البحري»، والجمل التي تتلو ذلك تذكر أن «آتوم» وهو إله الشمس الخالق للمعتقدات المصرية العامة، قد اعترف بأن «بتاح» قد برأه وكذلك خلق كل الآلهة الآخرين وسنفهم معنى ذلك فيما بعد.
والإشارات المختلفة التي تشير في المتن إلى كلمة أرض «تا» يجب أن تفهم بشيء من التقدير للمعاني الصوتية المختلفة «أي التورية» التي يحبها المصريون ويميلون إليها، فالكلمة تعني المملكة أي مصر بكل معانيها، وكذلك تعني التربة الخصبة، وبهذا المعنى الأخير تصبح موحدة باسم الخالق بتاح «تاتنن» «أي الأرض المرتفعة»، والأرض المرتفعة من جهة أخرى لها معانٍ شتى منها أنها ترمز إلى الاعتقاد المصري في العالم القائل بأن الخليقة ابتدأت بظهر تل، وهو التل الأزلي الذي ظهر فوق ماء العدم أو المحيط الأزلي، ومعلوم أن بتاح «أي الأرض المثمرة» موحد بهذا التل، وهو نقطة البداية لكل موجود وحتى للحياة نفسها، ولكن «التل الأزلي» يرمز كذلك في الوقت نفسه إلى الأرض التي قد جففها الملك مينا من مياه المستنقعات لأجل أن يقيم عليها مدينة «منف» ومعبد الإله بتاح، وفضلًا عن ذلك يرمز هذا التل إلى «الأرض العظيمة» وأعني بذلك إقليم ثس «طينة القريبة من العرابة» وسنرى بعدُ أن هذا التل له أهمية في اللاهوت الجديد.
والقسم الثاني من المتن يعالج موضوعًا حدث قبل تمكين النظام في كل من الكون والدولة المصرية. وتفسير ذلك أن كلًّا من الإلهين «حور» «وست» كان يتشاجر مع صاحبه على حكم مصر، وقد فصل بينهما في هذا الأمر الإله «جب» «إله الأرض» فقسم البلاد بينهما، غير أنه ندم على القرار الذي اتخذه في هذا الشأن ورجع فيه وأعطى كل البلاد حور. ومن ثم قيل ان تاجي الوجه القبلي والوجه البحري ينموان من رأس حور. ثم يظهر «حور» يلعب دور الملك «مينا». «وهذا الدور يقوم به كل ملك لمصر عند تتويجه» موحدًا الأرضين في حكمه المنفرد، يضاف إلى ذلك أن التاسوع أو تسعة الآلهة الذين كانوا يساعدونه يفسرون العلاقة التي بين الملك والآلهة.
ومما يؤسف له أن المتن وجد مهشمًا في بداية هذا القسم من المتن، وهاك ما تبقى منه:
… واجتمع إليه التاسوع «أي إلى جب» وفصل بين حور وست … ومنعهما عن الشجار، ونصب «ست» ملكًا على الوجه القبلي في الجنوب في المكان الذي ولد فيه؛ أي في بلدة «سو» «وتقع بالقرب من مدينة هيراكليوبوليس، وهي الكاب الحالية» ثم نصب «جب» حور ملكًا مصريًّا للدلتا في الوجه البحري في المكان الذي غرق فيه والده «أوزير» عند «منتصف الأرضين»، «يحتمل أن ذلك المكان كان بالقرب من منف»، وعلى أثر ذلك وجد «حور» في مكانه «وست» في مكانه، واتفقا معًا فيما يخص الأرضين في عيان «مكان قبالة القاهرة» وهو الحد أو الفاصل للأرضين … غير أنه كان كريهًا لقلب «جب» أن يكون نصيب «حور» مثل نصيب «ست» وعلى ذلك منح «جب» كل إرثه إلى «حور».
أي إلى ابن ابنه البكر «والمعنى الحرفي في المتن المصري إلى أول من فتح جسمه»، وقد سمى «جب» «حور» فاتح الجسم، إشارة إلى أنه أول مولود لابنه «أوزير»، ومن ثم نجد أن «حور» أصبح يوحد بالإله الذي كان يصور في صورة ذئب وهو «وبوات»، ومعنى اسمه فاتح الطرق، ويرتبط كل من صورته ورمزه بالفرعون ارتباطًا تامًّا في كل الأحفال العظيمة كما سنراه بعد. ويلفت النظر في هذا المتن معالجة موضوع «حور»، فنجد عند التقسيم الأول للبلاد أن «ست» كان قد ذهب إلى المكان الذي ولد فيه، ولكن «حور» ذهب إلى المكان الذي غرق فيه والده، ومن ثم نفهم أن «حور» على عكس «ست» لم يعين ملكًا بحق مباشر على ما يظهر؛ بل كان يعتبر الخلف الشرعي لوالده «أوزير».
وثانيًا نجد أن «جب» عندما غير فكره وأعطى كل البلاد «حور» قد برر عمله بإعلان «حور» في ابتهاج وسرور أنه هو بكر والده «أوزير» وقد تولى «حور» الملك على الأرضين لا بوصفه فاتحًا مظفرًا؛ بل بوصفه الوارث الشرعي لأبيه «أوزير» الذي كان حاكمًا على الأرضين قبل مماته.
وإذا تذكرنا أن هذا المتن كان قد ألف في عهد الملك «مينا» وهو يعد ملكًا في صورة «حور»، وأنه كان قد انتهى من فتح مصر كلها وتوحيدها تحت سلطانه فإنه يمكننا أن نقدر الأهمية النسبية في العقل المصري لهذا الحادث من حيث الحقائق التاريخية واللاهوتية.
وإنه لمن المهم أن نرى الإله «جب» يقوم في هذا الموضوع بدور الحكم، ولا نزاع في أنه كان له الحق في أن يقوم بهذا الدور بوصفه والد «أوزير» وبكونه إله الأرض، ففي الحالة الأولى كان يعمل بوصفه رأس الأسرة بما له من سلطان بدائي، معترف به في كل العالم، أما في الحالة الثانية فكان بطبيعة الحال يقوم بقسمة أرض مصر؛ لأنه إله الأرض.
ويلحظ أن قراريه المتتاليين يمثلان بوضوح الأسطورة التي يمكن أن يوضح بها كل الآراء المركبة الخاصة بملكية «مينا» الثنائية، وأعني بذلك الرأي الأساسي الذي يعبر عن عالم ممثل في توازن ثابت لا يتحرك بين قوتين متضادتين وهما «حور» «وست»، وبعبارة أخرى ملك الوجه القبلي والوجه البحري، بوصفه صورة سياسية لما نشب بينهما من شجار، يضاف إلى ذلك قيام حكومة ممثلة في شخص واحد في نهاية الأمر.
ثم يستمر المتن بعد ذلك مؤكدًا من جديد صلة الأرض بالإله «بتاح»، وهي الصلة التي كانت موضوع القسم الأول من هذا المتن فيقول:
وقف حور بوصفه ملكًا على الأرض، وبذلك أصبحت هذه البلاد موحدة وسميت باسمها العظيم تاتنن الذي في جنوب جداره «كلمة الجدار هنا تعني بلدة «منف»» رب الأبدية …
وقد نما من رأسه العظيمان في السحر «أي التاجان» وعلى ذلك حدث أن «حور» ظهر ملكًا على الوجه القبلي وملكًا على الوجه البحري ضامًّا الأرضين في أقليم الجدار الأبيض عند المكان الذي ضمت فيه الأرضان. ويتلو ذلك شعيرة دينية كان المقصود منها ظهور رضاء قسمي مصر بالاتحاد، فقد وضع كل من البنائين الذين يمثلان الوجه القبلي والوجه البحري عند مدخل معبد الإله «بتاح» وهاك النص:
وحدث أن البشنين والبردي قد وضعا على البوابتين الخارجيتين لمعبد «بتاح» ويعني ذلك: أن «حور» «وست» حملا سويًّا وضما للتآخي معًا، وبذلك انتهى شجارهما في أي مكان يكونان فيه، وقد ضما في معبد «بتاح» وهو ميزان الأرضين الذي وزن فيه الوجه القبلي والوجه البحري.
القسم الثالث «وجد مهشمًا جدًّا» والظاهر مما بقي من هذا المتن أنه بعد أن قررت وراثة «حور» للملك بوصفه الوارث الشرعي يعود الآن إلى سلفه «أوزير» ويفسر علاقة هذا الإله بالإله «بتاح» وبالعاصمة الجديدة، غير أن الجزء المفقود من المتن كبير جدًّا، مما يجعل من الصعب الحكم على هذه العلاقة بصفة قاطعة، ويقال إن بلدة «منف» قد استقت أهميتها من كونها مخزن غلال مصر، وذلك يرجع إلى أن الإله «أوزير» قد دفن هناك، وهذه الحقيقة ذكرت ثانية في القسم الخامس من هذا المتن حيث وجدنا المتن أكثر حفظًا هناك كما سنرى بعد.
والقسم الرابع من هذا المتن يعالج موضوع إقامة القلعة الملكية في «منف» وهي التي ذكرت من قبل بأنها المكان الذي دفن فيه «أوزير»، وهي هامة كذلك بوصفها مقر الحكومة لكل مصر التي أسسها ووحدها «مينا». والمتن في حالته التي وجد عليها لا يحتمل تعليقًا أكثر من ذلك لتهشمه.
والقسم الخامس وهو البيان المشهور الذي فاه به «بتاح» بوصفه الخالق الأحد، وهو برهان لاهوتي معقول نفهم منه أن آلهة مصر ليست إلا مظاهر من صور الإله «بتاح»، ويمكن تلخيصه فيما يأتي:
دل البحث على أن كل شيء موجود يرجع أصله إلى أفكار عقل «بتاح» «وكلمة عقل هنا عبر عنها بالمصرية القلب»، وهي التي قد جسمت فنطقها بلسانه، وبوساطتها أوجد «بتاح» العالم المرئي وغير المرئي وكل المخلوقات الحية وكذلك العدالة والفنون … إلخ.
وهذا البيان يقدم لنا في الوقت نفسه صورة نظام مقرر صالح لكل زمان في عالمنا الواقعي، فالمدن والمعابد المصرية ليست في الواقع إلا جزءًا من هذا النظام، والجملة الأخيرة من هذا القسم تختم بالدائرة التي يتألف منها هذا الجزء من المتن، ففي حين نجدها قد ابتدأت بالقول إن الآلهة قد خرجوا من الإله «بتاح» بوصفهم أفكارًا واقعية لعقله؛ فإنها تحتم بجعل هؤلاء الآلهة يدخلون في أجسامهم «أي تماثيلهم» من كل نوع من المواد كالحجر والمعدن والخشب الذي قد نما من «الأرض»؛ أي من الإله «بتاح».
ويلاحظ أن المتن يبتدئ بسلسلة معادلات إلهية عددها ثمانٍ، نرى فيها تعدد الآلهة في مصر «وبهذه الطريقة للخلق برأ «بتاح» الآلهة الواحد تلو الآخر»، غير أنه قد أضيف إليها الفكرة الجديدة القائلة في النهاية بوحدانية الله، فقد أعلن أن الآلهة ليسوا إلا مظاهر للإله «بتاح»، وقد اختير ثمانية الآلهة دفاعًا عن رأي شائع الانتشار خاص بالخلق يعترف فيه بأن إله الشمس هو الخالق، ولكن في الوقت نفسه يدل هذا الرأي على أن الشمس قد انبثقت أو خلقت من مياه العدم بوساطة ثمانية آلهة غريبين لم يكونوا بدورهم إلا ممثلين لمياه العدم، كما يدل على ذلك أسماؤهم وهم:
«نون»: هو ماء العدم أو المحيط الأزلي.
«نونت»: هي زوجة وكانت تمثل السماء التي فوقه، وبعضهم يفضل القول إن نون هو المادة غير المنتظمة الأولية، ونونت هي الفضاء الأولي، وقد صارت «نونت» في العالم المخلوق؛ أي المقابل للسماء وهي تمثل محنية على العالم السفلي وتقابل «نون» وتشبهها كما أن «نون» قد أصبح الأقيانوس الذي يحيط بالأرض ويسندها.
«كوك» «وكوكت»: ويمثلان غير المحدود أو اللانهاية.
«هوه» «وهوهت»: ويمثلان الظلام والعتمة.
«آمون» «وأمونت»: ويمثلان الخفي والمستتر (4).
ومن ثم توجد نقطة هنا يمكن للاهوتي المنفي أن يتخذها أساسًا يدعي بها أن «بتاح» هو الخالق؛ إذ نجد في المتن آلهة أقدم من إله الشمس هذا، ويؤكد المتن الذي في أيدينا أنه حتى هؤلاء الآلهة — أو بعبارة أخرى العدم — كانوا هم مادة «بتاح»؛ أي مظهرًا من كينونته لم يكونوا قد وجدوا بعد، ومن ثم نجد أن المعادلة الثانية من المعادلات الثمانية السالفة الذكر تُقرأ هكذا: ««بتاح-نون» الوالد الذي أنجب «آتوم» ونعرف أن «نون» هو المحيط الأزلي الذي خرج منه «آتوم»؛ أي الشمس الخالقة، ولكن نعرف أن «بتاح» يظهر في كل إله، وعلى ذلك يظهر في الإله «آتوم» «وبتاح» الواحد العظيم هو قلب التاسوع ولسانه».
ومن ثم نفهم أن الواحد العظيم يعادل «آتوم» الذي خلق تاسوع «عين شمس»، وهو الذي يسمى قلبه ولسانه؛ وذلك لأن هذين العضوين هما عضوا التكوين على حسب اللاهوت المنفي، ونعت «الواحد العظيم» قد ذكر هنا؛ لأنه يبرز أمامنا بصورة واضحة القوة الفريدة للإله «بتاح»؛ «أي إن «آتوم» الذي كان يعبد بوجه عام بوصفه الخالق للآلهة والعالم ليس إلا منبثقًا من «بتاح» أو بعبارة أخرى خرج منه».
والمعادلات الثمانية التي ذكرناها فيما سبق ظهرت بالعنوان التالي: الآلهة الذين خرجوا من «بتاح» «أي نبعوا منه»، والواقع أنهم يقدمون كل الآلهة الذين في المتن بمثابة صيغة متفق عليها، ولكن هذه النظرية تذكر بعد ذلك مرة أخرى في صورة قصة خلق العالم، وهنا يمكننا أن نلحظ كيف أن اللغة المصرية القديمة بوصفها أداة للتعبير العقلي كانت تميل إلى الأشياء المُحَسَّة، ولم تكن على استعداد للتعبير عن آراء معنوية، وقد استعملت هنا أداة للتعبير عن بعض معنويات تدعو إلى الدهشة، والواقع أن مؤلف هذا المتن قد عبر بوضوح عن الاعتقاد بأن أسس الوجود روحية، وهي آراء تصورها الخالق وجسَّمها بأقواله؛ أي بقلبه ولسانه، والواقع أن المتن يعبر عن هذا بأن القلب واللسان هما عضوا التكوين، وهذان اللفظان مُحَسَّان بدرجة كافية، غير أننا نكون قد أخطأنا قراءة المتن إذا فهمناهما بمعناهما الظاهر؛ فنحن نعرف من متون أخرى عدة أن «القلب» يعبر عن العقل أو الفهم أو حتى عن الروح، واللسان هو الذي ينفذ الفكر، فهو يترجم الآراء إلى حقيقة بواسطة «حو» الذي معناه النطق والأمر؛ أي النطق الآمر، وعلى ذلك يجب علينا أن نقرأ هذه الفقرات بوصفها الحقيقي الذي يقابله ما جاء في إنجيل «يوحنا» وهو: «في البدء كان الكلمة، والكلمة عند الله، وكان الكلمة الله» (إنجيل يوحنا الإصحاح الأول سطر واحد).
وهاك النص المصري لهذا المتن:
لقد أوجد في قلب الإله «بتاح» وعلى لسانه «شيء» في صورة «آتوم»، إن «بتاح» الذي ورث قوته كل الآلهة والأرواح عظيم ورفيع بوساطة قلبه وعلى لسانه … واتفق أن القلب واللسان قد تغلبا على كل الأعضاء الأخرى، باعتبار أنه «أي الإله بتاح» قلب في كل جسم، ولسان في كل فم، لكل الآلهة والناس والحيوان والزواحف وكل شيء آخر يعيش، في حين أنه يفكر بمثابة قلب، ويأمر بوصفه لسانًا بكل شيء يرغب فيه، وكل كلمة مقدسة قد صارت في حيز الوجود بوساطة ما فكر فيه القلب وأمر به اللسان.
وعلى ذلك برأت الأرواح «كاو» وخلقت «حمسوت» «مؤنث كلمة كاو» وهم الذين يصنعون كل المؤن وكل الطعام بهذا الكلام «الذي فكر فيه بالقلب ونطق به لسانه» وعلى ذلك يقضي بالحق لمن يفعل ما يحب، ويقضي بالشر على من يفعل ما هو ممقوت، وعلى ذلك تمنح الحياة للمسالم والموت للمجرم.
وعلى ذلك ينجز كل عمل وكل صناعة، وكذلك ينجز عمل الذراعين ومشي الساقين وحركة كل الأعضاء على حسب هذا الأمر الذي فكر فيه القلب وخرج من اللسان، وهو الذي ينظم أهمية كل الأشياء. ولا نزاع في أننا نجد هنا إيضاحًا بطريقة فيها شذوذ عن بيان يعلن وحدة الله وصفته الروحانية وانتشاره في الطبيعة الحية.
وقد حذفنا هنا برهانًا لاهوتيًّا يقرر مرة أخرى أن فكرة «بتاح» ونطقه هما أساس عمل «آتوم» في تكوين الخليقة، ولدينا تأكيد آخر لهذا مماثل يأتي بعد الأسطر التي اقتبسناها هنا فنقرأ ما يأتي:
وهكذا ارتاح «بتاح» بعد أن خلق كل الأشياء وكل الكلمات المقدسة، وقد برهنا من قبل على أن هذه الكلمات المقدسة تعني في الحقيقة الأمر الإلهي الذي وجدت فيه كل الأشياء أماكنها اللائقة بها.
وعلى أية حال فإنه مما لا شك فيه أن المتن يصف لنا كيف أن «بتاح» قد قرر أمرًا معينًا، وما اقتبسناه هنا قد فسر لنا أن الآلهة والمخلوقات الأخرى وكذلك نفس حياتها وسر حياتها قد اشتقت من عمل «بتاح» بوصفه فاطر الخلق، ثم يستمر المتن ناسبًا للإله «بتاح» وضع نظام ديني للأرض، وهو العبادات المحلية وكل خصائصها، حتى نفس أشكال الآلهة التي كانت تُعبد؛ وذلك لأن تماثيلها كان قد صنعها «بتاح» من مادة تنمو على جسمه بوصفه إله الأرض، وهاك المتن:
لقد خلق الآلهة «المحلية»، وصنع المدن وأسس الأقسام الإقليمية، ووضع الآلهة في أماكن عبادتهم، وجدد قربانهم وأقام محاريبهم، وجعل أجسامهم تنطبق على ما يشرح صدورهم «أي الأشكال التي يريدون أن يظهروا فيها»، وهكذا دخلت الآلهة في أجسامهم من كل نوع من الخشب، ومن كل نوع من الحجر، ومن كل نوع من الطين، ومن كل نوع من شيء ينمو عليه مما مثلوا فيه؛ وهكذا فإن كل الآلهة وأرواحهم كانت في اتحاد معه راضية وموحدة مع رب الأرضين. ومن ذلك نفهم أن كل العبادات المختلفة قد ظهرت هنا بوصفها من ابتكار إله البلاد الموحدة.
القسم السادس: والقسم السادس والأخير من هذا المتن يستمر في تنسيق العلاقات الوثيقة بين الإله وأرض مصر، وذلك بالتحدث عن «منف» وهي موقع معبد الإله «بتاح» وعاصمة البلاد الجديدة، وذلك أن «منف» يقال عنها إنها ذات أهمية خاصة في تموين مصر، وهذه حقيقة يفسرها ما قيل عن وجود جسم «أوزير» مدفونًا في تربتها، ويعترف المتن أن «أوزير» لم يكن دائمًا مرتبطًا بمنف؛ «أي إنه لم يكن قد نبت فيها، بل وصل إليها بماء النيل»، ويتحدث إلينا المتن على نسخ الأسطورة التي نسبت إليه فيما بعد، وهي القائلة بأن «أوزير» الغريق هو الذي أخرج جسمه بعد ذلك إلى الشاطئ بواسطة كل من «إزيس» «ونفتيس» غير أن كلمة الغريق هنا تحمل في طياتها معاني بالنسبة لهذا الإله لا يمكن أن تدل على الترجمة الحرفية للكلمة، والواقع أن التناقض في قصة «أوزير» ينحصر بالضبط في أن هذا الإله يصبح مركزه في الموت قوة إحياء، ومن ثم نجد أن النيل وبخاصة فيضان النيل («حعبي»؛ أي الفيضان أو إله الفيضان) يعد مظهرًا من مظاهر «أوزير»، وعلى ذلك فإن علاقة «أوزير» بالنهر لا يمكن التعبير عنها تمامًا بالقول إنه قد أهلك بالماء؛ أي أغرق، فالإله «أوزير» كان في المياه، وقد ترجم الفعل «أو يجب على الأقل أن يترجم هنا الفعل الدال على ذلك بلفظة: عامَ لا غَرِقَ»، والفكرة هنا أن الإله هو القوة الفعالة والتأثير المفيد للفيضان، وعلى ذلك يمكن التعبير هنا فقط بدقة في هذه الأسطورة بوصف صورة «أوزير» التي في هيئة إنسان بأنها كانت عائمة أو مغموسة في ماء النهر، أما العثور على «أوزير» الذي يصفه المتن هنا بانتشال جسمه بواسطة «إزيس» «ونفتيس» فقد مثل في الشعائر الدينية في صورة رفع جسمه من ماء النيل العذب.
أما القول بأن «أوزير» قد دفن في العاصمة الجديدة فإن ذلك يعد إعلانًا عنها بأنها المركز الذي تنتشر منه القوى المحيية، ومن ثم يمكن أن نطلق على «منف» مخزن الغلال … حيث يُعنى بالمؤن اللازمة للأرضين.
ولما كان المتن هنا يعترف صراحة بأن «أوزير» لم يكن في «منف» في موطنه الأصلي فإنه يمكن أن يتساءل الإنسان: من أين جاء «أوزير» إلى هذه المدينة؟ والواقع أن «العرابة المدفونة» قد ادعت أنه من أهلها، ولذلك يمكن الإنسان أن يتساءل هنا: لماذا يُنسب هذا الإله للعاصمة التي أسسها «مينا» عند نهاية الدلتا؟ والظاهر أن «أوزير» كان جد أسرة الملوك الذين منهم «مينا»، ولا يخفي أن أهمية الملوك المتوفين في مصر القديمة كما هي الحال في أفريقيا «الحديثة» كانت عظيمة لدرجة أنه لا يمكن للإنسان أن يرمق بالعناية الإلهية نقل المقر الملكي من مقاطعة «طينة» التي فيها العرابة المدفونة إلا إذا نقلت إليها صورة «أوزير» جد الأسرة لتكون على اتصال أكيد بالعاصمة الجديدة، وهذا الاتصال قد أوجده النيل الذي ظهر فيه «أوزير» ومثَّله، وهو الذي كان يمر بمنف كما كان يمر بالعرابة، وقد فسر ذلك أسطوريًّا في قصة خلاص جسم «أوزير» من المياه، وينسب خلاص «أوزير» الفعلي في اللاهوت المنفي وفي أسطورته إلى الإلهتين «إزيس» «ونفتيس»، غير أن اللاهوت على عكس الأسطورة يؤكد أن الإلهتين قد عملتا بأوامر من «حور» بن «أوزير»، ويتفق اللاهوت مع متون الأهرام في ذلك؛ حيث نجد أن «حور» الملك العائش يظهر بوصفه الحاث على كل الأعمال المفيدة لأوزير سلفه ووالده.
ويستمر المتن في وصف مصير «أوزير» بعد دفنه، وهنا نجد مصير «أوزير» كان مزدوجًا، فمن جهة نجده ينضم إلى إله الشمس في دورته اليومية من الشرق إلى الغرب، ومن جهة أخرى ينضم إلى بلاط «بتاح تاتنن» ورجال حاشيته الذين كان لزامًا عليهم أن يسكنوا حيث كان الإله «بتاح» في بطن الأرض. والواقع أنه صار أرضًا، وهذه العبارة هي المحك في هذا القسم من المتن؛ وذلك لأنها تفسر كما رأينا في القسم الثالث الخصوبة الفائقة الحد لإقليم «منف» حيث دفن «أوزير»، وعلى أثر دفن «أوزير» مباشرة يذكر أن الإله «حور» قد اعتلى عرش الملك، وبذلك ينتهي المتن.
وهاك نص هذا القسم:
إن مخزن غلال الإله «بتاح تاتنن» كان العرش العظيم «أي منف» الذي يشرح قلوب الآلهة الذين في معبد بتاح سيدة الحياة «لقب للمعبد»؛ حيث يُعنى بمؤن الأرضين؛ لأن «أوزير» سبح في مياهه «النيل»، وقد لحظه كل من «إزيس» «ونفتيس» وقد رأتاه وذهلتا، ولكن «حور» أمر كلًّا من «إزيس» «ونفتيس» أن تمسك بأوزير بدون تأخير وتمنعاه السباحة بعيدًا، وأدارتا رأسيهما في الوقت المناسب وجعلتاه يصل إلى اليابسة.
ودخل البوابات السرية «في العالم السفلي» وكان فخار أرباب الأبدية «أي الأموات» وكانوا يسيرون مع الذي يضيء في الأفق «الشمس» على طريق «رع» وفي العرش العظيم «أي منف»، وقد دخل البلاد «أي «أوزير»» وتآخى مع الإلهين «تاتنن» «وبتاح» رب السنين.
وبذلك صار «أوزير» أرضًا في القصر الملكي على الجانب الأيسر لهذه الأرض التي وصل إليها، وقد ظهر ابنه «حور» ملكًا للوجه القبلي وملكًا للوجه البحري بين ذراعي والده «أوزير» في حضرة الآلهة الذين كانوا أمامه والذين كانوا من خلفه.
وإذا فحصنا الآن اللاهوت المنفي في مجموعه فإن أهم ما يتسم به «غير الوجهة الروحية التي تتصل بخلق العالم» أنه هو الكيفية التي اختلطت فيها الحقيقة بالخرافة، حقًّا إن كل الشخصيات التي ذكرت في المتن آلهة، غير أننا نعلم أن الفن المصري يقدم لنا الفرعون بوصفه إلهًا، وقد رأينا في القسم الثاني من هذه الوثيقة أن الإلهين «حور» «وست» كانا يتخاصمان، غير أن موضوع خصامهما كان من أجل التسلط على ملك مصر، ونعلم من جهة أخرى أن الملك كان يدعى أحيانًا بعبارة «حور» «وست» ليدل على أن حكمه يعلن نهاية الخلاف الذي وقع بين هذين الإلهين، ولا يفوتنا أنه ذكر في القسم الخامس من هذه الوثيقة قصة خلق العالم، وذلك بمنح الخالق اللقب الملكي «رب الأرضين» في حين أن القسم السادس وهو النهائي كان خالصًا صراحة بالعاصمة «منف» وبأسطورة «أوزير»، ولا نزاع في أن المكان الذي حدثت فيه القصة حقيقي لا خرافي، فقد حدثت في «منف» وبعبارة أدق في القصر الملكي، وهو المقر الذي أسس حديثًا للمملكة المتحدة والمكان الذي دفن فيه «أوزير»، ويلحظ أن صورة «أوزير» ليست إطلاقًا في موطنها من الوجهة الأسطورية؛ وذلك لأن كل ملك عند موته كان يصير «أوزير»، كما أن كل ملك على قيد الحياة متربع على عرش مصر كان يدعى «حور»، ومن ثم نفهم أن كل ملك يكون «حور».
فمن الجائز أن «حور» الذي يظهر في نهاية المتن بوصفه ملك مصر بين ذراعي والده «أوزير» على الرغم من أن الأخير قد مات ودفن لم يكن الإله فحسب بل الملك أيضًا، والواقع أن التوراث الملكي كما يظهر لنا كان في مستوى فوق مستوى البشر الذي يشار إليه هنا، أما كون «حور» «وأوزير» هنا هما إلهان أو ملكان فإن ذلك لا معنى له في نظر المصريين؛ إذ الواقع أن هذين الملكين هما الملك المتوفى وخليفته على العرش، وهذان الملكان هما هذان الإلهان، ولدينا البرهان الذي يثبت حقيقة ذلك، وهو أن تعانق «حور» «وأوزير» المتوفى الذي ذكر في العبارة التي ينتهي بها المتن نجده ممثلًا في شعيرة من شعائر دراما التتويج (راجع كتاب «الأدب المصري القديم»، الجزء الثاني، ص16)؛ ففي هذا المنظر نجد أن الملك الجديد يقوم بنفسه بتأدية شعيرة دفن والده صوريًّا، فالتعانق هو اتصال الروحين حقًّا، وهو يتضمن الحاكم الفعلي وسلفه المتوفى في شعيرة تُؤدى عند تولي كل ملك جديد العرش، وتظهر هذه الشعيرة بنفس الطريقة دون تحديد الوقت في اللاهوت المنفي متضمنة الإلهين «حور» «وأوزير» وهما يتعانقان، وهذا التعانق يبرز لنا صفة بينة أخرى للملكية المصرية تؤكد لنا أكثر من أي صفة أخرى أن الملكية كان قد فكر فيها كحقيقة في عالم الآلهة كما فكر فيها في عالم الناس، ولهذا السبب نجد أن نظرية الملكية قد ضمنت في متن دنيوي، والواقع أن الطبيعة نفسها لا يمكن تصورها دون وجود ملك لمصر، وهذا ما يظهره لاهوت منف بوجه خاص؛ إذ يبرهن على أن المملكة الثنائية «أي الوجه القبلي والوجه البحري» التي اتخذت مركزها «منف» قد حققت تصميمًا إلهيًّا.
هذا إلى أن نظام المجتمع كما وضعه «مينا» قد مثل بمثابة جزء من النظام العالمي.
والآن يجب علينا أن نفحص ما تحتويه النظرية المصرية عن الملك، فلدينا رأي ذكرناه من قبل وهو أن الملك مقدس والرأي الآخر وهو أكثر أهمية يشير بوضوح إلى أن الملكية قد صورت في أعمق صورة لها «أي في مستوى الآلهة» بأنها تتضمن جيلين «أي الملك السابق وخلفه على العرش».
وقد رأينا عند التعليق على الجزء الثاني من هذا المتن الخاص باللاهوت أن «حور» قد اعترف به الآلهة مجتمعين بوساطة «جب» إله الأرض، لا لأنه يملك سلطة أعظم من سلطة «الإله ست»، ولكن فقط لأنه بِكر أولاد «أوزير» والوارث الشرعي له، وقد رأينا في الجمل الأخيرة من هذا المتن مرة ثانية أن كلًّا من «حور» «وأوزير» لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر حتى في اللحظة التي يظهر فيها «حور» ملكًا بعد دفن والده، فقد مثل وهو يعانقه، ومن ثم يظهر أن الاعتلاء الفعلي للعرش يولد اندماج قوى الملك المتوفى في قوى خليفته على العرش.
وهذا الرأي بوجه خاص مصري الصبغة، وإن كان مرتبطًا بالعقيدة الكثيرة الانتشار في العالم المصري، وهي القائلة بأن الملك إلهي، ولذلك فإنه من المهم أن نجدد العلاقة بين الرأيين اللذين تتألف منهما نظرية الملكية المصرية.
والرأي الأساسي هو أن الحكم يتضمن أشياء خاصة محرمة على الرجل العادي، وهذا رأي تقليدي، فنجد مثلًا في الجماعات البدائية ومن بينها عدد كبير يقطن شرقي أفريقيا أن الرئيس فوق منصب الرياسة يكون رجل الطب أو السحر، وبعبارة أخرى يعتقد فيه قومه أنه يتمتع باتصال وثيق بقوى الطبيعة أكثر من أناس كثيرين غيره، فالملك الأفريقي صانع المطر يعد مثالًا معروفًا جيدًا من هذا الطراز من الحكام، فيقال في قبيلة «دنكا»: إن صانع مطر قد دفن في حظيرة الماشية التي استمرت تستعمل «وهذا على غرار القصر الملكي في «منف» حيث دفن «أوزير»»، وقد قيل عن هذا الملك أنه يأخذ طعام الجماعة معه إلى القبر إلى أن يحل الفصل التالي فيحفر ثقب في جانب الحظيرة ليخرج منه الطعام(5) ثانية، وكذلك قيل عن «كومدي» أن صحة (شونجر) ومصلحة كل الجماعة مرتبط بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا(6)، هذا وكون «شونجر» (= الرئيس) في صحة وقوة يعني أرضًا تؤتي أكلها؛ «أي إن المطر يأتي إليها في ميعاده وأن الشر يبعد عنها»، وعلى مسافة من هذه القبيلة من جهة الغرب نجد القوم يخاطبون ملك «جوكون» هكذا: «قمحنا الأصفر اللون وبندق أرضنا وفولنا»، ومن ذلك نرى أن الملك «جوكون»(7). كان في مقدوره أن يسيطر على المطر والرياح، وإذا اتفق تتابع سني قحط أو محصول رديء؛ فإن ذلك ينسب إلى إهماله أو اضمحلال قوته، وعلى ذلك كان يخنق سرًّا. وغرضنا من التحدث عن هذا النوع من الملكية في أفريقيا هو أننا نريد أن نشير إلى المقدمات التي ارتكز عليها «مينا» في موقفه.
فمن المعلوم أن الملك المصري «عقرب» الذي يحتمل أنه حكم قبل «مينا» كان يعد متقمصًا للإله «حور»، ومن ثم يمكننا أن نزعم أنه حتى عهد ما قبل الأسرات كان الاعتقاد أن الرؤساء يحملون في نفوسهم قوة الإله، وقد زاد اتحاد الأرضين في أهمية الملكية، ولم يقض على مظهر من مظاهرها، فالارتباطات التي كانت خارقة للطاقة البشرية بقيت قوية، والخدمات غير المؤكدة التي كان يقدمها رجل الطب للجماعة قد أصبحت مقررة، وظلت الملكية في مصر هي المجرى الذي تنساب فيه قوى الطبيعة في جسم السياسة لتجعل المجهود البشري مثمرًا.
ولكن نجد أن هذا الرأي أو الفكرة عن الملكية يتطلب فضلًا عن ذلك جيلين من الزمن، فإذا كان الحاكم العائش هو الوسيط بين الناس والطبيعة فإن قوته تستمر مفيدة للمجتمع حتى بعد موته، وهذا الاعتقاد شائع أيضًا؛ إذ نجد حكام يوغندة يستمرون بعد مماتهم يعقدون المجالس ويقدمون النصائح لقومهم بوساطة الوحي، كما نجد قبائل أخرى كذلك يطلبون النصيحة عند قبور حكامهم الأموات في وقت الشدة، ولا يدفنونهم إلا بعد أن ينظموا من يخلفهم(8). هذا؛ وتشاهد قبيلة «كيزبو» روح ملك قديم يحكم الآن الأموات على الرغم من أن أهلها يعترفون بوجود إله «سام».
وكذلك نعلم أن «نياكانج» حاكم قبيلة الشلوك المتوفى يلعب دورًا عظيمًا في حياتهم الدينية أعظم من الدور الذي يلعبه إلههم الأكبر «جوك»، فهو الذي يرسل لهم الغيث والحصاد.(9)
هذا؛ وقد رأينا فيما سبق أن صانع المطر لقبيلة «الدنكا» كان المفروض فيه أن يأخذ معه طعام القوم عند مماته، وفي مصر نجد أن قوة الملك المدفون كانت تشق الأرض التي تسكن فيها وتخرج منها؛ أي إن النباتات التي تنبت من الأرض، وماء النيل الذي يفيض على الشاطئين، والقمر والجوزاء اللذين يطلعان في الأفق، كانت كلها مظاهر تدل على قوته الحية، ولكن ينبغي علينا أن نقف عند هذه النقطة تاركين دائرة الفكر البدائية العالمية، وننتقل إلى التصورات المصرية العجيبة في بابها، ففي أرض الكنانة نجد أن الملوك الأموات كانوا يمثلون بصورة إلهية واحدة؛ إذ الواقع أن كل ملك منهم بعد الموت يصير إله العالم السفلي مثل «أوزير»، ويتجلى في الظواهر الطبعية المختلفة التي تخرج من الأرض بعد الموت الظاهري، ومن ثم نجد أن تعاقب الحكام الدنيويين كان يأخذ شكلًا خرافيًّا ثابتًا.
ومن ثم نرى أن «حور» كان يخلف «أوزير» عند كل خلافة جديدة للملك إلى الأبد، ويلحظ أن الميل إلى تفسير تغييرات في التعابير الأسطورية الثابتة كان قويًّا في مصر، ونرى ذلك في موضوع الإلهين المتخاصمين؛ أي «حور» «وست»، وهما اللذان يمثلان كل ما يدل على مخاصمة في الطبيعة والدولة، وفي هذا الخصام يظهر الإله «حور» منتصرًا.
والواقع أن المصريين كانوا ينظرون إلى العالم على أنه في الأصل كان هامدًا لا يتحرك، وعلى ذلك كانت حوادث التاريخ تحتاج إلى وجود حقيقة نهائية، ولا ريب في أن الملوك كانوا يموتون، وأن الحاكم كان يخلفه آخر، غير أن ذلك كان يبرهن للمصري على أن الصفة الأصلية للملكية لا يمكن أن يعبر عنها إلا بصيغة المضارع فقط، فيقال: هذا الملك يحكم»، ولكن كان لا بد أن يعبر عنها بصيغة الماضي القريب فيقال: هذا الملك اعتلى عرش الملك أو يعبر عنها بالتعبير الأسطوري: «حور خلف أوزير». هذا؛ ونجد في كل التاريخ المصري أن المتون التي بقيت لدينا تردد حالة غريبة عما تم حديثًا وهي: إن الأرض قد اتحدت والخلاف قد انتهى والملك قد اعتلى العرش، وقد وضع الصدق مكان الكذب.
والواقع أن اللاهوت المنفي ينتهي بهذه النغمة، وذلك أن الجمل الختامية فيه تظهر «حور» يعانق والده على الرغم من أن الأخير قد دفن وصار أرضًا، تبرهن على أن الموت لم يقضِ على الملوك قضاء تامًّا؛ إذ كان يوجد اتصال خفي بين الوالد والابن عند لحظه تولي الخلافة، وذلك يعد اتحادًا واستمرارًا لقوة إلهية توحي بوجود تيار جارٍ يأتي فيه ويذهب أفراد الحكام كالموج.
هذه لمحة عن محتويات هذه الوثيقة التي أنقذها الملك «شبكا» كما يقول هو من الضياع، وهي تدل على ما كان يرمي إليه هو وأفراد أسرته من تجديد في الروح المصري القديم بالرجوع للقديم وإحيائه بعد أن كان قد اندثر وعفت عليه الأيام، ولا شك في أن ما أوردناه هنا من تحليل لهذه الوثيقة الفذة فيه نقص كبير لتهشيم المتن وغموضه، هذا بالإضافة إلى أن ما استنبطناه أحيانًا قد لا يصيب الحقيقة التي كان يعنيها المصري القديم.
.............................................
1-راجع ما كتب في هذا الموضوع في كتاب «الأدب المصري القديم»، جزء 2، ص7–16.
2-راجع: Sethe, Dramatische Texte. pp. 12–22.
3-إن موضوع الاتحاد الثاني فيه شك.
4-راجع: Kingship and The Gods, p. 154.
5-راجع: Seligman, Egypt and Negro Africa, a Study in Divine Kingship (London 1934) P. 22.
6-راجع: Ibid, 28.
7-راجع: Ibid, P. 38.
8-راجع: P. M. Kastors, Das Grab der Afrikaner, Anthropos XVI-XVII (1921-22) P. 919
9- راجع: Fraser, The Golden Bough, Part IV, Vol. II, p. 166–174.
|
|
مريض يروي تجربة فقدانه البصر بعد تناوله دواءً لإنقاص الوزن
|
|
|
|
|
كارثة تلوح في الأفق بعد تحرك أكبر جبل جليدي في العالم
|
|
|
|
|
قسم التطوير يناقش بحوث تخرج الدفعة الثانية لطلبة أكاديمية التطوير الإداري
|
|
|