المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الأخلاق والأدعية والزيارات
عدد المواضيع في هذا القسم 6427 موضوعاً
الفضائل
آداب
الرذائل وعلاجاتها
قصص أخلاقية

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية



الأمانة والخيانة  
  
33   11:47 صباحاً   التاريخ: 2025-01-21
المؤلف : الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : الأخلاق في القرآن
الجزء والصفحة : ج3/ ص145-169
القسم : الأخلاق والأدعية والزيارات / أخلاقيات عامة /

تنويه :

(الأمانة) من أهمّ الفضائل الأخلاقية والقيم الإسلامية والإنسانية والتي وردت كثيراً في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ، وقد أولاها علماء الأخلاق والسالكون إلى الله تعالى أهميّة كبيرة على مستوى بناء الذات والشخصية ، وعلى العكس من ذلك (الخيانة) التي تعدّ من الذنوب الكبيرة والرذائل الأخلاقية في واقع الإنسان وسلوكه الاجتماعي.

الأمانة هي في الحقيقة رأس مال المجتمع الإنساني والسبب في شدّ أواصر المجتمع وتقوية الروابط بين الناس في نظامهم الاجتماعي وحياتهم الدنيوية والاخروية في حين أنّ الخيانة بمثابة النار المحرقة التي تحرق جميع العلاقات الاجتماعية وتؤدّي إلى الفوضى والفقر والشقاء وبالتالي تخريب الاطر الإنسانية والحضارية في المجتمعات البشرية.

الأمانة من الصفات التي تربط الإنسان من جهة مع الله تعالى وكذلك تربطه مع غيره من أفراد البشر ، ومن جهة ثالثة ترسم علاقته مع نفسه أيضاً ومع الطبيعة والبيئة كذلك وقد اعتبرت الكتب السماوية والشرائع الإلهية أنّها أمانة بيد البشر.

إنّ جميع النعم المادية والمواهب المعنوية الإلهية على الإنسان في بدنه ونفسه هي في الحقيقة أمانات بيد الإنسان.

وهكذا الأموال والثروات المادية والمقامات والمناصب الاجتماعية والسياسية هي أمانات بيد الناس ويجب عليهم مراعاتها من موقع الحفظ وأداء المسؤولية.

الأولاد أمانة أيضاً بيد الوالدين ، والطلاب أمانة بيد المعلمين ، الماء والتراب والهواء وجميع ما خلقه الله تعالى من الكائنات الطبيعية لتيسير حياة الإنسان في حياته الدنيا كل ذلك يعتبر أمانة غالية بيد الإنسان والتي يعدّ التفريط فيها وعدم أداء حقّها خيانة بالنسبة إلى هذه المواهب ومن الذنوب الكبيرة.

ونظراً إلى سعة مفهوم الأمانة والخيانة واستيعابها لأبعاد مختلفة وواسعة من حياة الإنسان ندرك جيداً أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الحكيمة ما يلقي الضوء على صفة الأمانة والخيانة في حركة الإنسان والمجتمع.

إنّ «الأمانة» وردت في القرآن الكريم مرّات متعددة بصورة مفردة أحياناً وبصورة جمع أحياناً اخرى.

وقد وردت بالنسبة إلى ستة من الأنبياء الكبار بعبارة : «إِنّي لَكُم رَسُولٌ أَمِينٌ» عن النبي نوح (عليه‌ السلام) في سورة (الشعراء ، 107) والنبي هود (عليه‌ السلام) (الشعراء ، 125) والنبي صالح (عليه‌ السلام) (الشعراء ، 143) والنبي لوط (عليه‌ السلام) (الشعراء ، 162) والنبي شعيب (الشعراء ، 178) والنبي موسى (الدخان ، 18) وهذا يدلّ دلالة واضحة على أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية إلى جانب مهمّة إبلاغ الرسالة الإلهية ، وبدون ذلك لا يمكن لهؤلاء الأنبياء من كسب ثقة الناس واعتمادهم على أقوالهم.

ومضافاً إلى ذلك فهناك آيات متعددة في سور مختلفة تتحدّث عن أهميّة الأمانة ولزوم رعايتها في سلوك الإنسان الفردي والاجتماعي حيث نستعرض الآن هذه الآيات ونفسّرها :

1 ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ)([1]).

2 ـ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً)([2]).

3 ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)([3]).

4 ـ (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ)([4]).

5 ـ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)([5])

تفسير واستنتاج :

«الآية الاولى» تتحرّك من خلال بيان أوصاف المؤمنين الحقيقيين وضمن تبشيرهم بالفلاح والنجاة في الآخرة ، وبعد بيان أهميّة الصلاة والابتعاد عن اللغو والكلام لفارغ وأداء الزكاة واجتناب أي لون من ألوان الانحراف الجنسي يشير القرآن الكريم في الآية الخامسة والسادسة إلى مسألة حفظ الأمانة والالتزام بالعهد ويقول : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ).

ونفس هذا التعبير ورد في سورة المعارج الآية 32 ضمن بيان أوصاف الإنسان الجميلة والفضائل الأخلاقية ومنها الأمانة والوفاء بالعهد.

والملفت للنظر أنّ (الأمانات) الواردة في هذه الآية ذكرت بصورة الجمع وهي إشارة إلى أنّ الأمانة لها أنواع وأشكال مختلفة والكثير من المفسّرين ذكروا أنّ مفهوم الأمانة في هذه الآية لا يقتصر على الأمانة المالية بل يشمل الأمانات المعنوية كالقرآن الكريم والدين الإلهي والعبادات والوظائف الشرعية وكذلك النعم الإلهية المختلفة على الإنسان في حركة الحياة المادية والمعنوية.

ومن هنا يتّضح أنّ المؤمن الواقعي والإنسان الذي يتمتع باللّياقة الكاملة هو الذي يتحرّك في سلوكه من موقع مراعاة الأمانة بصورها المختلفة ويهتم بالحفاظ عليها من موقع المسؤولية وأداء الوظيفة.

أمّا عطف الوفاء بالعهد على حفظ الأمانة فيبيّن هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذين المفهومين يعودان إلى جذر واحد ويشتركان في الأصل ، لأنّ نقض العهد يعتبر نوع من الخيانة في العهد والميثاق ، ورعاية الأمانة نوع من الوفاء بالعهد والميثاق أيضاً.

وتعبير (راعون) مأخوذ من مادة (رعاية) وهي من مادة (رعى) التي يراد بها رعي الأغنام ومراقبتها في عملية سوقها إلى حيث الماء والكلاء في الصحراء ، وهذا إنّما يدلّ على أنّ المقصود من هذه العبارة في الآية الكريمة هو أكثر من أداء الأمانة في مفهومها الظاهري ، أي النظر والمحافظة والمراقبة للشيء من جميع الجوانب.

وبديهي أنّ الأمانة تارة تكون ذات بعد فردي وتسلّم بيد شخص معين (كالأمانات المالية التي يودعها الإنسان لدى الآخرين) وتارة اخرى لها بعد جماعي مثل حفظ القرآن الكريم من التحريف والدفاع عن الإسلام والمحافظة على كيان الدول الإسلامية ، فهي كلّها أمانات وضعت بيد المسلمين وعليهم أن يتحرّكوا بصورة جماعية ويتكاتفوا فيما بينهم من أجل حفظ وصيانة هذه الأمانات الإلهية.

وتتحرك «الآية الثانية» لتثبيت أمرين إلهيين :

الأول : يتحدّث عن أداء الأمانة.

الثاني : يتحدّث عن الحكم بالعدل فتقول الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً).

ومع أنّ مسألة الحكومة العادلة أو التحكيم الصحيح والسليم بين الناس له مكانة سامية في نظر القرآن الكريم ، ولكن في نفس الوقت ورد الأمر بأداء الأمانة قبله وهذا يبيّن الأهميّة العظيمة للأمانة وأنّ لها مفهوم عام يستوعب في مضمونه التحكيم بين الناس من موقع العدل وأنّه أحد مصاديق أداء الأمانة ، لأنّ الأمانة بمفهومها العام تشمل جميع المقامات والمناصب الاجتماعية التي تعتبر أمانات إلهية ، وكذلك أمانات بشرية من قبل الناس بيد أصحاب المناصب هذه.

والتأكيدات الواردة في ذيل الآية الشريفة تقرّر من جهة أنّ الأمر بالأمانة والعدالة ما هي إلّا موعظة إلهية حسنة للناس ، ومن جهة اخرى تحذّر الجميع بأنّ الله تعالى يراقب أعمالكم وسلوكياتكم ، وهذا يعطي أهميّة مضاعفة على هذين المفهومين وهما رعاية الأمانة والعدالة.

ونقرأ في التفسير الكبير للفخر الرازي أنّ الأمانة لها ثلاث موارد وفروع :

الأمانة الإلهية ، وأمانة الناس ، وأمانة النفس ، ثم يتطرّق الفخر الرازي إلى شرح كل واحدة من هذه الفروع والأغصان للأمانة بالتفصيل ومن جملتها أداء الواجبات وترك المحرمات حيث يعتبرها من موارد الأمانات الإلهية ، ويقسّمها إلى تقسيمات عديدة ، منها أمانة اللسان ، أمانة العين والاذن (أي أنّ الإنسان يجب أن لا يتحرّك بالمعصية ، والعين لا تنظر بنظر الخيانة ، والاذن لا تسمع الكلام المحرّم).

أمّا الأمانات البشرية فهي من قبيل الودائع التي يضعها بعض الناس لدى البعض الآخر وكذلك ترك التطفيف في الميزان وترك الغيبة ورعاية العدالة من جهة الحكّام والامراء وعدم تحريك العوام من موقع التعصّب للباطل وأمثال ذلك ، أمّا أمانة الإنسان بالنسبة إلى نفسه فيرى الفخر الرازي أنّ على الإنسان أن يختار لها خير الدين والدنيا ولا يستسلم لدوافع الشهوة والغضب وما يترتب عليهما من ذنوب وآثام. ([6])

إنّ سعة مفهوم الأمانة وشمولها لكثير من الوظائف المهمّة والنعم الكثيرة قد ورد في الكثير من التفاسير المهمّة ، منها تفسير (أبو الفتوح الرازي) و (القرطبي) وتفسير (في ظلال القرآن) وتفسير (مجمع البيان) وغيرها من التفاسير الاخرى.

وقد ورد التصريح بهذا المعنى أيضاً في الروايات الإسلامية التي سوف نشير إليها لاحقاً.

أمّا ما ورد في شأن نزول هذه الآية فأنّه يشير بوضوح إلى سعة مفهوم الأمانة أيضاً ، لأنّ سبب نزول هذه الآية كما ورد في الروايات هو أنّ النبي (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) عند ما دخل مكّة منتصراً جاءه (عثمان بن طلحة) خازن الكعبة بأمر من رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله)‌وسلم إليه مفاتيح الكعبة ليطهرها من الأصنام الموجودة في داخلها ، وبعد أن تمّ تطهير الكعبة من الأوثان جاء العباس عمّ النبي (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) وطلب من رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أن يكون خازن بيت الله وأن يسلّمه مفاتيح الكعبة والذي يعتبر منصباً مهمّاً لدى المجتمع العربي والإسلامي آنذاك ، ولكن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) لم يوافق على هذا الطلب وأعاد المفتاح إلى (عثمان بن طلحة) ثم تلى هذه الآية الشريفة ((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ...) هذا في حين أنّ عثمان بن طلحة لم يعتنق الإسلام بعد.

«الآية الثالثة» تتحرّك من موقع النهي عن ثلاثة أشياء مخاطبة المؤمنين في هذا النهي وهي : خيانة الله ، خيانة الرسول ، خيانة أمانات الناس ، وتقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ)([7])(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»).

والمشهور بين المفسرين أنّ المقصود بحفظ أمانة الله ورسوله والنهي عن خيانتهما هو عدم إفشاء أسرار المسلمين حيث قام بعض الأفراد من ضعفاء الإيمان إلى إفشاء أسرار المسلمين إلى المشركين بهدف حفظ منافعهم الشخصية ولكنّ الله تعالى أعلم بيّنة ذلك ، وكنموذج على هذا المضمون هو قصة (أبو لبابة) الذي أخبر عن بعض الأسرار العسكرية للمسلمين وكشفها لأعدائهم من اليهود من (بني قريظة) ، أو قصة حركة النبي لفتح مكّة وإفشاء هذا السر لأبي سفيان ، والمراد من الخيانة في أماناتكم الوارد في الآية الشريفة هو الأمانات المتداولة بين الناس.

ويرى بعض آخر من المفسّرين أنّ المراد من خيانة الله هي ما يتعلق بالوظائف والواجبات الدينية والشرعية ، أمّا الخيانة للنبي فهي ما يتعلق بالسنن والسلوكيات الأخلاقية ، وأمّا خيانة أمانات الناس فهي ما يتعلّق بأموالهم المودعة لدى الآخرين.

وهناك احتمال آخر أيضاً أفضل وأشمل من الاحتمالات السابقة ، وهو أنّ مفهوم الآية عام وشامل لجميع مصاديق ومفردات الأمانات المعنوية والمادية والمالية وغير المالية ، وعلى هذا الأساس فالخيانة محرّمة لجميع أشكال الأمانة : الإلهية منها وأمانة النبي وهو الدين الذي أودعه النبي لدى امته ، وكذلك أمانات الناس بيد بعضهم للبعض الآخر سواءً كانت متعلّقة بالأمور المالية أو بأسرار المعيشة والحياة الشخصية لدى الأشخاص ، ولذلك ورد في الحديث النبوي أنّ رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) قال لأبي ذر رضى الله عنه : «يا أبا ذر المَجالِس بِالأمانَةِ وإفشَاءِ سرّ أَخِيكَ خِيانَة» ([8]).

وتوضح الآية 28 من سورة الأنفال هذه اللاحقة لهذه الآية أنّ الخيانة محرّمة حتى لو عرّضت أموال الإنسان ومنافع أولاده إلى الخطر (كما قرأنا في قصة أبي لبابة وأنّ وجود أمواله وأولاده لدى اليهود هو السبب في إفشاءه أسرار المسلمين العسكرية للعدو) فتقول الآية (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) وعلى هذا فالأمانات الإلهية والبشرية ليست شيئاً يمكن التضحية والتساهل معه وخيانة هذه الأمانات بأعذار وتبريرات مختلفة.

«الآية الرابعة» تتعرض للأمانات والودائع المالية لدى الناس وتتحدّث في سياقها عن لزوم تنظيم الوثائق والمستندات بالنسبة إلى هذه الودائع وتقول : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ).

أي يمكنه ذلك بدون كتابة السند أو أخذ الرهن ، وفي هذه السورة على الأمين حفظ الأمانة وردّها إلى صاحبها بالموقع المناسب وعليه أن يخاف الله فيما لو تحدّثت له نفسه بالخيانة.

أنّ تعبير الأمانة في الآية أعلاه يمكن أن يكون إشارة إلى القروض المالية التي يقرضها المسلم لأخيه المسلم من دون كتابة وثيقة أو تأمين وديعة ورهن وذلك بسبب الثقة المتبادلة بين الأفراد ، أو أنّها إشارة الى الأموال التي توضع لدى الشخص بعنوان الرهن ، أو كليهما ، وعلى كل حال فانّ الآية فيها دلالة واضحة على لزوم احترام الأمانة وأدائها في أيّة حالة.

أمّا «الآية الخامسة» والأخيرة من الآيات مورد البحث فتتحدّث أيضاً عن الأمانة الإلهية العظيمة التي عجزت السماوات والأرض والجبال عن حملها وحفظها ولكن الإنسان حملها لوحده وتقول : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً).

فما هي هذه الأمانة العظيمة التي خشيت السماوات مع عظمتها والأرض مع سعتها والجبال مع صلابتها أن يحملنها في حين أنّ الإنسان الضعيف والصغير جدّاً قد حملها؟

ولقد أورد المفسّرون من القدماء والمعاصرين احتمالات كثيرة في تفسير هذه الآية ، ولكنّ ما يقرب للنظر هو أنّ المقصود من الأمانة الإلهية الكبيرة هذه هو المسؤولية والتكليف الملقى على عاتق الإنسان حيث لا يتيسّر ذلك إلّا بوجود العقل والحرية والإرادة.

أجل فإنّ التكليف والمسئولية أمام الله تعالى والناس والنفس هي وظيفة ثقيلة لا يكاد يتحملها ولا يليق بحملها أي موجود آخر سوى الإنسان ، وبتبع ذلك فقد جعل الله تعالى العقل والحرية والإرادة في عملية الانتخاب هي الثواب والعقاب ، ومجموع هذه الصفات الثلاث تبيّن عظمة الإنسان بين المخلوقات بحيث اختاره الله لمقام الخلافة الإلهية وميزه على سائر المخلوقات الاخرى في عالم الوجود.

ولكن هذا الإنسان الظلوم والجهول لم يقدّر هذا المقام الرفيع وتورّط في منزلقات الشهوة والأهواء الرخيصة وبذلك ظلم نفسه وحرمها من نيل السعادة العظيمة التي تنتظره في حركته التكاملية نحو الحق والانفتاح على الله.

وعلى هذا الأساس فكون الإنسان ظلوماً وجهولاً إنّما هو لم يكن بسبب قبول هذه الأمانة الإلهية ، لأنّ قبولها علامة العقل وسبب الافتخار ، ومن دون ذلك لا يصل إلى مقام الخلافة الإلهية ، بل كونه ظلوماً وجهولاً بسبب عدم حفظ هذه الأمانة وسلوكه طريق الخيانة في أداء هذه المسؤولية الكبيرة.

أجل فإنّ الأمانة التي من شأنها أن توصله إلى ذروة السعادة الحقيقية في حال حفظها ، فإنّ خيانتها يتسبب كذلك في سقوط هذا الإنسان في مستنقع الذلّة والمسكنة والشقاء حتى أنّه يكون مصداق (بَل هُم أَضَلُ مِنَ الأنعامِ والدّوابِ).

وبعبارة اخرى : أنّ السموات والأرض والجبال مع عظمتها وسعتها ليست لها القابلية على قبول هذه الأمانة الإلهية ، وأعلنت عدم صلاحيتها لذلك بحالتها التكوينية وبلسان حالها ، ولكن الإنسان وبسبب وجود هذه القابلية والقوى الكريمة التي منحه الله تعالى إيّاها أصبح لائقاً تكوينياً لقبول هذه المنحة والأمانة الإلهية ، وهذا بحدّ ذاته افتخار عظيم للإنسان من بين المخلوقات.

ولكن بما أنّ أكثر الناس لم يراعوا حق هذه الأمانة الإلهية ولم يتحرّكوا في سبيل حفظها وأدائها فلذلك استحقوا عنوان الظلوم والجهول ، لأنّهم ظلموا أنفسهم أشدّ الظلم بحرمانها من نيل هذا الافتخار العظيم الذي منحه الله تعالى للإنسان وعاشوا الغفلة عن هذه الموهبة الإلهية العظيمة وتركوها وراء ظهورهم.

وفي ذيل هذه الآية نجد إشارة إلى هذه النقطة المهمّة ، وهي أنّ الخيانة في الأمانة إنّما تنشأ من الظلم والجهل ، وهذا هو ما نسعى لتحقيقه وتقريره في هذا البحث الأخلاقي ، أجل فانّ حفظ الأمانة يدل على العقل والعدالة ، بينما الخيانة هي دليل على الظلم والجهالة.

وممّا تقدّم آنفاً يتّضح جيداً أنّ المراد من كون الإنسان ظلوماً وجهولاً هم الأشخاص الذين يعيشون حالة الكفر أو الذين يعيشون ضعف الإيمان والتقوى ، وإلّا فإنّ أولياء الله تعالى والصالحين من العباد الذين يتحرّكون في سلوكهم الأخلاقي والاجتماعي تبعاً للأنبياء والأولياء فإنّهم يراعون حق هذه الأمانة ويسعون لأدائها والقيام بهذه المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم ، وفي الحقيقة إنّ هؤلاء يمثّلون الهدف الأسمى من وجود عالم الخليقة ووجود الإنسان.

ومن مجموع ما ورد من الآيات أعلاه يتّضح جيداً أهميّة حفظ الأمانة (سواءً الأمانات الإلهيّة أو الإنسانية) وجعله من علامات العقل والإيمان والعدالة.

الأمانة والخيانة في الروايات الإسلامية :

أمّا ما ورد من الأحاديث الشريفة عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) والأئمّة المعصومين (عليهم ‌السلام) فإنّه يحكي عن الأهميّة البالغة لهذه المسألة حيث وردت الأمانة تارة بعنوان أنّها من الاصول والمبادئ الأساسية المشتركة بين جميع الأديان السماوية ، وتارة اخرى بعنوان أنّها علامة للإيمان ، وثالثة بعنوان أنّها سبب نيل الرزق والثروة والثقة والاعتماد لدى الناس وسلامة الدين والدنيا والغنى وعدم الفقر وأمثال ذلك ، وفيما يلي نختار من هذه الروايات الشريفة ما يتضمّن هذه المعاني والمفاهيم العميقة :

1 ـ ورد في حديث عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال للإمام علي (عليه‌ السلام) : «يا أبا الحَسَنِ أَدِّ الأَمانَةَ للِبِرِّ والفاجِرِ فِي ما قَلَّ وَجَلَّ حتّى فِي الخَيطِ وَالمَخِيطِ» ([9]).

ويقول الإمام علي (عليه‌ السلام) أنّ النبي قال لي ذلك في الساعة الأخيرة من حياته وكررها عليّ ثلاث مرّات.

2 ـ وفي حديث آخر عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «لا إِيمانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ» ([10]).

3 ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادق أنّه قال : «إنّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَم يَبعَثً نَبِيّاً إلّا بِصِدقِ الحِدِيثِ وَأَداءِ الأَمانَةِ إِلىَ البِرِّ وَالفاجِرِ» ([11]).

وهذا التعبير يوضّح أنّ جميع الأديان السماوية قد جعلت الصدق والأمانة جزءً مهمّاً من تعليماتها الدينية والإنسانية ومن الاصول الثابتة في الأديان الإلهية.

4 ـ ورد عن الإمام أيضاً على مستوى امتحان إيمان الناس أنّه قال : «لا تَنظُروا إلى طُولِ رُكُوعِ الرَّجُلِ وَسُجُودِهِ فَإنَّ ذَلِكَ شَيءٌ إِعتَادَهُ فَلَو تَرَكَهُ إِستَوحَشَ لِذلِكَ وَلَكِنْ انظُرُوا الى صِدقِ حَدِيثِهِ وَأَداءِ أَمانِتِهِ» ([12]).

5 ـ ومثل هذا المعنى ورد عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) تعبير شديد حيث قال : «لا تَنظُروا إلى كَثْرَةِ صَلاتِهِم وَصَومِهِم وَكَثْرَةِ الحَجِّ وَالمَعرُوفِ وَطَنطَنَتِهِم بِالَّليلِ وَلَكِنْ انظُرُوا إِلى صِدقِ الحَدِيثِ وَأَداءِ الأَمانَةِ» ([13]).

والهدف من هذا التعبير ليس هو أنّ هؤلاء لا يهتمّون بصلاتهم وصومهم أو يستخفّون بحجّتهم وإنفاقهم بل الهدف هو أنّ هذه الامور ليست هي العلامة الوحيدة لإيمان الفرد بل هناك ركنان أساسيان لدين الشخص أي الصدق والأمانة.

6 ـ وورد عن الإمام زين العابدين (عليه‌ السلام) في هذا المجال تعبير عجيب حيث يقول لشيعته : «عَلَيكُم بِأَداءِ الأَمانَةِ فَو الَّذي بَعَثَ مُحَمَّداً (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) بِالحَقِّ نَبِيَّاً لَو أَنَّ قاتِلَ أَبِي الحُسَينِ ابنِ عَلَيٌّ (عليه‌ السلام) ائتَمَننِي عَلَى السَّيفِ الَّذِي قَتَلَهِ بِهِ لَأَدَّيتُهُ إِلَيهِ» ([14]).

7 ـ ومثل هذا المعنى ولكن بتعبير آخر ورد عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) أيضاً: «إنَّ ضارِبَ عَلِيٌّ بِالسَّيفِ وَقاتِلَهُ إِذا ائتَمَننِي وَاستَنصَحَنِي وَاستِشارَنِي ثُمَّ قَبِلتُ ذَلِكَ مِنهُ لأَدَّيتُ إِلَيهِ الأمانَةَ» ([15]).

8 ـ وفي حديث آخر عن الإمام أيضاً يستفاد أنّ الوصول إلى المقامات السامية حتّى للأئمّة المعصومين (عليهم ‌السلام) مثل الإمام علي (عليه‌ السلام) يتم عِبر صدق الحديث وأداء الأمانة ، حيث يقول الإمام الصادق لأحد أصحابه ويدعى (عبد الله بن أبي يعفور): «انظُر ما بَلَغَ بِهِ عِندَ رَسُولِ اللهِ (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) فَأَلزَمَهُ» ثم قال : «فَإنَّ عَلِيّاً (عليه‌ السلام) إِنّما بَلَغَ ما بَلَغَ عِندَ رَسُولِ الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) بِصدقِ الحَدِيثِ وَأداءِ الأمانَةِ» ([16]).

9 ـ ونقرأ في حديث آخر بالنسبة إلى الآثار والنتائج الدنيوية المهمّة للأمانة والخيانة فقد ورد عن علي (عليه‌ السلام) أنّه قال : «الأمانَةُ تَجُرُّ الرِّزقَ وَالخِيانَةُ تَجُرُّ الفَقرَ» ([17]).

10 ـ وفي حديث مختصر وعظيم المعنى عن هذا الإمام (عليه‌ السلام) أيضاً أنّه قال : «رَأَسُ الإسلامُ الأَمانَةُ» ([18])

11 ـ وورد شبيه لهذا الحديث مع اختلاف يسير عن لقمان الحكيم حيث أنّه قال : «يا بُنَيَّ أَدِّ الأَمانَةَ تَسلُمُ لَكَ الدُّنيا وَآخِرَتُكَ وَكُنْ أَمِيناً تَكُن غَنِيّاً» ([19]).

12 ـ ونختم هذا البحث بحديث شريف آخر عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «لا تَزَالُ امتِي بِخَيرٍ ما تَحابُوا وَتَهادُّوا وَأَدُّوا الأَمانَةَ وَاجتَنبُوا الحَرامَ وَوَقَّرُوا الضَّيفَ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكاةَ فَاذا لَم يَفَعَلُوا ذَلِكَ إبتَلَوا بِالقَحطِ وَالسِّنِينَ» ([20]).

* * *

هذه الروايات ما هي إلّا موارد مختارة من المصادر الإسلامية الواردة في باب الأمانة وتوضّح جيداً أن هذا المفهوم الأخلاقي على درجة عالية من الأهمية من بين التعليمات الإسلامية ، وكذلك الصفة التي تقع في مقابل الأمانة أي الخيانة ومدى اضرارها بدين الإنسان وشخصيته من موقع تخريب الإيمان وأنّها تورث الشقاء والبعد عن الله تعالى ، وكل واحدة من هذه الروايات المذكورة آنفاً تشير إلى أحد الأبعاد والآثار البنّاءة للأمانة أو  الأبعاد والنتائج السلبية والمخربّة للخيانة ، بحيث إنّ الإنسان عند مطالعتها والتأمل والتدبّر فيها يستوحي الكثير من المفاهيم الإسلامية والقيم الأخلاقية والاجتماعية المهمّة والبنّاءة في حركة الحياة والمجتمع.

فروع الأمانة :

عند ما نتحدّث عن الأمانة فإنّ أغلب الناس يتبادر إلى أذهانهم الأمانة في الامور المالية ، ولكن كما تقدّم في تفسير الآيات الواردة عن الأئمّة المعصومين (عليهم ‌السلام) أنّ الأمانة لها مفهوم واسع جدّاً بحيث تستوعب جميع المواهب الإلهيّة والنعم الربانيّة على الإنسان.

هذه النعم والمواهب الإلهيّة المندرجة في مفهوم الأمانة تشتمل على مصاديق لا تعد ، فهي ترد بالنسبة إلى القرآن الكريم والإسلام والإيمان والولاية وحتّى إلى أقل النعم والمواهب المادية والمعنوية.

الأحاديث الشريفة التي تؤكد على أنّ الأمانة تورث الغنى ، وأنّ الخيانة تورث الفقر ناظرة إلى الأمانة المالية والمادية ، ولكنّ الآية الشريفة وبعض الروايات التي تشير إلى عرض الأمانة على السموات والأرض لا تقصد الأمانة المادية والمالية قطعاً بل تمتد أبعد من ذلك وتنظر إلى الأمانات المعنوية.

ونقرأ في حديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) عند ما يحين وقت الصلاة فإنّ حاله يتغيّر وعند ما سئل عن ذلك قال : «جَاءَ وَقتُ الصَّلاةِ ، وَقتُ أَمانَة عَرضَها اللهُ عَلَى السَّمواتِ وَالأَرضِ فأَبَينَ أنْ يَحمِلنَها وأَشفَقنَ مِنها» ([21]).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) أنّه قال : «إِنَّ اللهَ تَباركَ وَتَعالى خَلَقَ الأَرواحَ قَبَلَ الأَجسَادِ بِأَلفَي عامٍ فَجَعَلَ أَعلاها وَأَشرَفَها أَرواحَ مُحَمَّدٍ وَعَليٍّ وَفاطِمَةَ وَالحَسنِ والحُسَينِ وَالأَئِمَةُ بَعدَهُم صَلَواتُ اللهِ عَلَيهِم فَعَرضَها عَلى السَّمواتِ والأرضِ وَالجِبالِ ... إلى أن يقول : فولايَتُهُم أَمانَةٌ عِندَ خَلقِي» ([22]).

ويستفاد من أحاديث اخرى أنّ مفهوم خلافة رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) ([23]) أيضاً مصداق مهم من مصاديق الأمانة.

وكذلك الصلاة والزكاة والحج هي أمانات وودائع إلهيّة. ([24])

وكذلك الزوجة أيضاً أمانة إلهيّة ([25]).

ونقرأ في نهج البلاغة في كتاب أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) إلى الأشعث بن قيس ، يقول له : «وإنَّ عَمَلَكَ لَيسَ لَكَ بِطُعمَةٍ وَلَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمانَةً» ([26]).

وكذلك نقرأ في الحديث النبوي الشريف الذي ذكرنا فيما سبق أنّ «المَجالِس بِالأمانَةِ» ([27])، لأنّ في المجالس الخصوصية تذكر أسرار تخص المجلس.

وحتى ورد في بعض الروايات أنّ غسل الجنابة (بعنوان أنّه تكليف إلهي) هو أمانة إلهية لدى المسلم ([28]).

وعلى أي حال فإنّ الأمانة والخيانة لا تختصان بعمل معيّن ومصداق خاص ومحدود ، لأنّ النتائج المترتبة على هاتين الصفتين لا تتحدد بالأمانة والخيانة المالية.

معطيات الخيانة والأمانة :

إنّ أهمّ معطيات الأمانة على المستوى الاجتماعي هي مسألة الاعتماد وكسب ثقة الناس ، ونعلم أنّ الحياة الاجتماعية مبتنيّة على أساس التعاون والتكاتف بين أفراد المجتمع لحل المشاكل والتخفيف من تحدّيات الواقع والظروف القاهرة والاستفادة الأفضل من مواهب الحياة والطبيعة ، ولهذا فإنّ مسألة الثقة والاعتماد لها دور أساس في تأصيل هذا المفهوم الاجتماعي لأنّه لو لا وجود الاعتماد المقابل فإنّ المجتمع سيتحوّل إلى جهنّم لا يطاق ، ويتعامل الأفراد بينهم من موقع التوحّش والأنانية ، ويسود قانون الغاب في مثل هذا المجتمع ، وبدلاً من أن تتكاتف القوى والطاقات على مستوى بناء المجتمع والتصدي لتحدّيات الظروف القاهرة فإنّ هذه القوى سوف تتحرّك بالجهة المقابلة لتعميق التوحّش والتنفّر في المجتمع.

وبعبارة اخرى : إنّ المجتمع البشري سيفقد كل شيء بدون وجود حالة الاعتماد المتقابل بالرغم من توفّر كافة الأمانات والمواهب الطبيعية الاخرى ، وبعكس ذلك إنّ المجتمع الذي تتوفّر فيه حالة الاعتماد المتقابل سيحصل على كل شيء بالرغم من فقدانه للإمكانات والموارد الطبيعية.

وهذا الاعتماد الاجتماعي يرتكز على ركنين :

1 ـ الأمانة.

2 ـ الصدق.

وما ورد في الروايات المذكورة آنفاً أنّ الأمانة تورث الغنى وعدم الحاجة والخيانة تورث الفقر فإنّ ذلك إنّما يشير إلى هذا الدليل.

وأمّا ما ورد في الروايات الشريفة أنّ جميع الأنبياء الإلهيين جعلوا من الأمانة وصدق الحديث محوراً لتعليماتهم فهو أيضاً ناظر إلى هذا المعنى.

ويذكر الكليني في (الكافي) قصّة جميلة في هذا الصدد ويقول : عن الحسين بن محمد ، عن محمد بن أحمد النهدي ، عن كثير بن يونس ، عن عبد الرحمن بن سيّابة قال : لما هلك أبي سيّابة ، جاء رجل من إخوانه إليَّ فضرب الباب عليَّ ، فخرجت إليه فعزّاني ، وقال لي : هل ترك أبوك شيئاً فقلت له : لا ، فدفع إليَّ كيساً فيه ألف درهم وقال لي : أحسن حفظها وكُلْ فضلها ، فدخلت إلى امّي وأنا فرح ، فأخبرتها ، فلمّا كان بالعشيّ ، أتيت صديقاً كان لأبي فاشترى لي بضائع سابري ، وجلت في حانوت فرزق الله جلّ وعزّ فيها خيراً كثيراً ، وحضر الحج ، فوقع في قلبي ، فجئت إلى امّي وقلت لها : إنّه قد وقع في قلبي أن أخرج إلى مكّة؟

فقالت لي : فردّ دارهم فلان عليه فهاتها ، وجئت بها إليه فدفعتها إليه فكأني وهبتها له ، فقال : لعلّك استقللتها فأزيدك؟

قلت : لا ، ولكن قد وقع في قلبي الحج فأحببت أن يكون شيئك عندك ، ثم خرجت فقضيت نسكي ، ثمّ رجعت إلى المدينة فدخلت مع الناس على أبي عبد الله (عليه‌ السلام) ـ وكان يأذن إذناً عاماً ـ فجلست في مواخير الناس وكنت حدثاً ، فأخذ الناس يسألونه ويجيبهم ، فلما خفّ الناس عنه ، أشار إليَّ فدنوت إليه ، فقال لي : ألك حاجة؟ فقلت : جُعلتُ فداك أنا عبد الرحمن بن سيّابة ، فقال لي : ما فعل أبوك؟ قلت : هلك ، قال : فتوجّع وترحّم ، ثم قال : قال لي : أفترك شيئاً قلت : لا ، قال : فمن أين حججت؟ قال : فابتدأت وحدثته بقصّة الرجل ، قال فما تركني أفرغ منها حتّى قال لي : فما فعلت في الألف؟ قال : قلت : رددتها على صاحبها ، قال : فقال لي : قد أحسنت ، قال لي : ألا اوصيك؟ قلت : بلى جُعلت فداك.

قال (عليه‌ السلام) : «عَلَيكَ بِصدقِ الحَديثِ ، وَأَداءِ الأمانَةِ تُشرك النّاسَ فِي أَموالِهِم هكذا وجمع بين أصابعه » ، فحفظت ذلك عنه ، فزكيّت ثلاثمائة ألف درهم ([29]).

ونحن أيضاً رأينا في حياتنا أشخاصاً مثل هؤلاء الأشخاص فقد كان هناك تاجر متدّين في النجف الأشرف يعرفه الكثير من المعاصرين أيضاً وبسبب اشتهاره بالأمانة فإنّ الناس كانوا يودعون عنده أموالهم وودائعهم مطمئنون إلى حد أنّ الكثير من العلماء والفضلاء وطلّاب العلوم الدينية كانوا يسجّلون سندات بيوتهم باسمه لأنّه كان يمتلك الجنسية العراقية ولعلّه كان عند وفاته قد بلغ عدد البيوت المسجّلة باسمه ما يربو على الخمسمائة بيت لهؤلاء العلماء والطلّاب ولم يواجه أي واحد منهم مشكلة في هذا المورد.

ومن جهة اخرى عند ما تسود الأمانة في المجتمع وفي العائلة فإنّها ستكون سبباً لمزيد من الهدوء والسكينة الفكرية والروحية ، لأنّ مجرّد احتمال الخيانة فإنّ ذلك يسبب القلق والخوف للأفراد بحيث يعيشون حالة من الارتباك في علاقاتهم مع الآخرين ومن الخطر المحتمل الذي ينتظر أموالهم أو أنفسهم أو أغراضهم أو مكانتهم الاجتماعية ، ومن المعلوم أنّ الاستمرار في مثل هذه الحياة المربكة والموحشة عسير جدّاً وقد يورثهم الكثير من الأمراض الجسمية والروحية أيضاً.

ومن جهة ثالثة فإنّ الأمانة تقلل كثيراً من نفقات المعيشة ومصاريف الحياة وتسبب في الاقتصاد في الوقت والعمر والمال ، لأنّ الخيانة إذا فتحت طريقها إلى المجتمع فانّ المسؤولين وأصحاب المواقع الاجتماعية يضطرون إلى تخصيص نفقات باهظة لإيجاد سجّلات خاصة ومحاسبين ومفتشين لدرء احتمال الخيانة في حساباتهم ، وأحياناً يضطرون إلى إيجاد مفتشين على المفتشين الأوائل لضبط أعمالهم ويشرفوا على حساباتهم ، ومع ذلك فانّ مثل هذه الامور لا تستطيع أن تحلّ المشاكل الناشئة من الخيانة تماماً ، ولكن على أي حال يقتضي الواقع المفروض تخصيص هذه النفقات للتصدّي إلى هذه المشكلة ، ونشاهد في مجتمعنا الحالي أيضاً مثل هذه الامور الأليمة بالنسبة إلى الامور المالية وعدم الأمن الاقتصادي وكثرة من يلقى في السجن بسبب زوال الثقة وعدم الاعتماد المتقابل بين الناس ، ولو أنّ أفراد المجتمع تحلّوا بقليل من الصدق والأمانة بدلاً من هذه النفقات والمصروفات والجهود المهدورة ، فإننا سوف لا نبتلى بمثل هذا الاسراف الفظيع وإتلاف الثروات الاجتماعية الكبيرة.

ومن جهة رابعة فإنّ الأمانة قد تسبب في كسب المحبّة وتعميق أواصر الصداقة بين الأفراد ، في حين أنّ الخيانة تعتبر عاملاً للكثير من الجرائم والحوادث السلبية وأشكال الخلل الاجتماعي ، وإذا طالعنا وثائق المحاكم والسجون لرأينا أنّ الكثير من هذه الجرائم معلولة لحالة الخيانة ، وعند ما ندرس ظاهرة كثرة الطلاق وحالة انحلال الأُسر وتلاشي العوائل نرى أنّ الكثير من هذه الحالات يعود إلى خيانة أحد الزوجين بالنسبة للآخر.

وفي بعض الروايات إشارة لطيفة إلى هذا المعنى حيث يقول النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) : «لا تَزَالُ امتِي بِخَيرٍ ما تَحابُوا وَتَهادُّوا وَأَدُّوا الأَمانَةَ وَاجتَنبُوا الحَرامَ وَوَقَّرُوا الضَّيفَ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكاةَ فَاذا لَم يَفَعَلُوا ذَلِكَ إبتَلَوا بِالقَحطِ وَالسِّنِينَ» ([30]).

ومن جهة خامسة فإنّ مفهوم الأمانة يمتد ويتسع ليشمل الموارد والمسائل العلمية ، فإنّ تطور العلوم والمعارف البشرية كان بسبب وجود العلماء الذين كانوا يتحرّكون من موقع الأمانة والصدق في تحقيقاتهم ومطالعاتهم وتجاربهم العلمية فكانوا يقدّمون للآخرين ما اكتسبوه من تجارب ثمينة وعلوم جديدة بأمانة وصدق ، وهذا هو الذي أدّى إلى التطور الحضاري والعلمي في عالمنا المعاصر في حين أنّه لو لم يكن أصل الأمانة في المطالعات العلمية فإنّ ذلك قد يفضي إلى التيه العلمي ويتسبب في اضلال الناس ووقوعهم في التخبط الثقافي والعلمي.

ونقرأ في هذا الصدد حديث عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) يقول : «كُلُّ ذِي صَناعَهٍ مُضطَرٌّ إِلى ثَلاثِ خِلالٍ يَجتَلِبُ بِها المَكسَبَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حاذِقاً بِعَمَلِهِ مُؤَدِّياً لِلأَمانَةِ فَيهِ ، مُستَمِيلاً لَمَنْ إِستَعمَلَهُ» ([31]).

والجدير بالذكر أنّ الأمانة تدعو الإنسان إلى صدق الحديث أيضاً كما أنّ صدق الحديث يدعو الإنسان إلى الأمانة في الجهة المقابلة ، لأنّ صدق الحديث نوع من الأمانة في القول ، والأمانة نوع من الصدق في العمل ، وعلى هذا الأساس فإنّ هاتين الصفتين يرتبطان بجذر مشترك ويعبّران عن وجهين لعملةٍ واحدة ، ولذلك ورد في الأحاديث الإسلامية عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أنّه قال : «الأمانَةُ تُؤدِّي إِلى الصُّدقِ» ([32]).

وفي حديث آخر عن هذا الإمام (عليه‌ السلام) أيضاً أنّه قال : «إذا قَويَتْ الأَمانَةُ كَثُرَ الصّدقُ» ([33]).

دوافع الأمانة والخيانة :

إنّ أغلب الأشخاص الذين يتحرّكون في سلوكياتهم من موقع الخيانة ويفضّلونها على الأمانة فأنّهم يعيشون ضيق الافق في منافعهم ومصالحهم ويفكّرون في المنافع العاجلة فحسب ، لأنّ الخيانة توفّر لهم في الكثير من الموارد هذه المنافع العاجلة وتحقق لهم بعض المصالح الفردية على حساب اهتزاز كرامتهم المعنوية ومن دون أن يتفكّروا في العواقب الوخيمة لهذا السلوك في المستقبل على المستوى الدنيوي والاخروي ومكانتهم الاجتماعية.

هؤلاء الأفراد يعيشون في سجن الحرص والطمع فلذلك قليلاً ما يفكّرون في عواقب الخيانة ، لأنّ المنافع العاجلة حجبت أعينهم وعقولهم عن مشاهدة ما يترتب على ذلك من سلبيات كثيرة في المستقبل.

هؤلاء وبسبب ضعف الإيمان وعدم الالتفات إلى القدرة الإلهيّة المطلقة التي تكفّلت برزق الناس جميعاً ووعدت من يعيش الأمانة والصدق منهم بالثواب العاجل والآجل فإنّهم قد حجبوا بصيرتهم عن ذلك جميعاً وتحرّكوا من موقع التغافل عن الوجدان وعن تحذيرات الشرع وتورّطوا في شراك الخيانة وفخاخ الشيطان.

وعلى هذا الأساس يمكننا في هذا الصدد ذكر دوافع الخيانة فيما يلي :

1 ـ ضعف الإيمان واهتزاز العقيدة وعدم التوجّه إلى حالة التوحيد الأفعالي لله تعالى وحاكميته المطلقة على جميع الأشياء.

2 ـ غلبة الأهواء والشهوات وحبّ الدنيا.

3 ـ تسلّط حالة الحرص والطمع على الإنسان.

4 ـ عدم التفكّر في نتائج الخيانة في حركة الحياة المادية والمعنوية.

5 ـ ترك السعي المستمر والعمل الدؤوب لتحصيل المقاصد الدنيوية بطرق مشروعة وذلك بسبب التكاسل وحبّ الراحة وضعف الإرادة.

وعند الالتفات إلى هذه الامور تتّضح النقطة المقابلة لها، وهي دوافع الأمانة وذلك :

إنّ الأمانة تنبع من الإيمان واليقين بقدرة الله تعالى وعلمه المطلق والاعتماد عليه في جميع الامور.

الأمانة تعدّ من معطيات العقل والتدبّر السليم والالتفات إلى عواقب الامور ونتائج الأفعال.

الأمانة هي دليل على أنّ الإنسان يعيش الواقع الحاضر ويرى حقائق الامور ويترك الخوض في الأوهام والخرافات والتصورات الزائفة.

الأمانة تنبع من شخصية الإنسان السامية وتمثّل نتيجة لحالة التفاني والتعالي في الروح الإنسانية ، لأنّ مثل هذا الإنسان لا يكون مستعداً لئن يبيع شخصيته ووجدانه لتحصيل المال والمقام وزخارف الدنيا عن طريق الخيانة.

وبكلمة واحدة فإنّ الأمانة وليدة الفهم والشعور والعقل والإيمان والاخلاص وأصالة الشخصية ، وأحياناً يكون الفقر والظلم عاملان من عوامل الخيانة ، فمن لا يحصل على حقوقه المشروعة في المجتمع من الطرق الصحيحة ويقع تحت طائلة الفقر والعوز فإنّه قد يؤدّي به إلى التلّوث بالخيانة ، ولهذا نرى أن التعاليم الدينية أكّدت على أن يموّل القاضي من بيت المال بشكل تام كيما يحفظ أمانته في القضاء بين الناس ، ونقرأ في عهد الإمام علي أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) لمالك الأشتر أنّه يقول : «وَافسَحْ لَهُ فِي البَذلِ ما يُزِيلُ عِلَّتَهُ ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ ، وَأَعطِهِ مِنَ المَنزِلَةِ لَديكَ ما لا يَطمَعُ فِيهِ غَيرُهُ مِنْ خاصَّتِكَ لَيأَمَنَ بِذَلِكَ اغتِيالَ الرِّجالَ لَهُ عِندَكَ فَانظُر فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً» ([34]).

ونختم هذا البحث بحديث مهم عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) في هذا الصدد يشير فيه إلى مصادر الخيانة المتنوعة ويوصي بالتوجّه إليها لحفظ الأمانة في واقع الإنسان والمجتمع فيقول : «مَنْ اؤتُمِنَ عَلى أَمانَةٍ فَأَدّاها فَقَد حَلَّ أَلفَ عُقدَةٍ مِنْ عُقَدِ النّارِ ، فَبادِرُوا بِأَداءِ الأَمانَةِ ، فَإنَّ مَنْ اؤتِمِنَ عَلى أَمانَةٍ وَكَّلَ بِهِ إبلِيسَ مِائةَ شَيطانٍ مِنْ مَردَةِ أَعوانِهِ لِيُضِلُّوهُ وَيُوسوِسُوا إِلَيهِ حتّى يُهلِكُوه إلّا مَنْ عَصَمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ» ([35]).

طرق الوقاية والعلاج :

إنّ تعميق روح الأمانة في أفراد المجتمع والوقاية من الخيانة لا يتسنى إلّا في ظل التقوى والإيمان والالتزام الديني والأخلاقي ، لأنّه كما تقدّم في الأبحاث السابقة أنّ أحد جذور الخيانة هو الشرك وعدم الاعتقاد الكامل بقدرة الله تعالى ورازقيته ، ولهذا فالأشخاص الذين يعيشون ضعف الإيمان ويتصوّرون أنّهم سوف يعيشون الفقر في حالة تحلّيهم بالأمانة والصدق وأنّهم سوف لا يحصلون على ما يحتاجونه إلّا بواسطة الخيانة يكبلون أنفسهم بطوق الخيانة ، ولكن عند ما يتحرّكون من موقع تقوية دعائم الإيمان في قلوبهم وتعميق حالة التوكّل والاعتماد على الله تعالى والثقة بوعده ، فانّ ذلك يتسبب في تصحيح مسارهم في عملية الوصول وتحصيل مواهب الحياة.

ومن جهة اخرى فبما أنّ أحد العوامل المهمّة للخيانة هي الحاجة فاذن لا بدّ للإنسان من تدبير حاجاته وحاجات من يلوذ به المعقولة والمشروعة بصورة حسنة لئلّا يضطرّ إلى كسر قيود الأمانة والتلّوث بالخيانة بدافع من حاجاته المادية والنفسانية.

ومن جهة ثالثة فانّ من الأسباب والعوامل المهمّة في الوقاية من التورط بالخيانة هو التفكّر في عواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة وما يترتب عليها من فضيحة وحرمان وزوال الثقة وماء الوجه أمام الخلق والخالق وبالتالي الابتلاء بالفقر المزمن الذي سعى إلى الفرار منه بارتكاب الخيانة ، ومن المعلوم أنّ التأمل في هذه النتائج والافرازات السلبية لسلوك طريق الخيانة سوف يضعف الدافع في الإنسان لارتكابها.

عند ما يتأمل الشخص نصيحة لقمان لابنه على مستوى بيان معطيات الأمانة حيث يقول: «يا بُنَيَّ أَدِّ الأَمانَةَ تَسلُمُ لَكَ الدُّنيا وَآخِرَتُكَ وَكُنْ أَمِيناً تَكُن غَنِيّاً» ([36]).

فعندها يعيش الشوق في وجوده نحو تحصيل هذه الفضيلة الأخلاقية أي الأمانة ويجتنب التحرّك في خط الخيانة ، ولو تأملنا كذلك كلام أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) حيث يقول : «رَأسُ الكُفِر الخِيانَةُ» ([37]).

ويقول في مكان آخر : «رَأسُ النِّفاقِ الخِيانَةُ» ([38]).

ويقول أيضاً في حديث آخر : «جانِبِ الخِيانَةَ فَإنَّها مُجانِبَةِ الإِسلامِ» ([39])

فعندها يسيطر عليه الخوف من الخيانة ويدرك عظمة هذا الذنب الكبير الذي يساوق في إثمه وابتعاده عن الله تعالى والإسلام الكفر والنفاق ، وحينئذٍ سيتحرّك بعيداً عن ممارسة الخيانة أو التفكير بها.

وإذا أردنا أن نتعمّق في خطر الخيانة وشؤمها فلنستمع إلى الرسول الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) في حديثه المثير عن بعض عناصر الشر وعوامل الانحراف حيث يقول : «أَربَعٌ لا تَدخُلِ بَيتاً وِاحُدَةٍ مِنهُنَّ إلّا خَرَبَ وَلَم يَعمُرْ بِالبَرَكَةِ الخِيانَةِ والسَّرقَةُ وَشُربُ الخَمرِ والزِّنا» ([40]).

ومن المعلوم أنّ المجتمع الذي يعيش أحد هذه العناصر الأربعة أو كلّها فانّه يكون مصداقاً لهذا الحكم النبوي وسوف يخلو من البركة وبالتالي يصيبه الدمار والاندثار.

ومن الملفت للنظر أنّه كما أنّ الشخص الأمين يجب أن لا يخون الأمانة ، فكذلك المودع للأمانة وصاحب المال يجب أن يكون ذكيّاً ولا يودع أمانته عند أي شخص كان ، فإذا وضع أمانته تحت تصرّف شخص سيء السمعة ثمّ خانه هذا الشخص فعليه أن يلوم نفسه كما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم أنّه قال : «من ائتمن غير أمين فليس له على الله ضمان لأنّه قد نهاه أن يأتمنه».

ويقول الإمام الباقر (عليه‌ السلام) : «من أتمن غير مؤتمن فلا حجة له على الله».

وعلي هذا الأساس يجب على جميع الإداريين وأصحاب المسؤوليّات في المجتمع الإسلامي أن يكونوا على درجة من الذكاء والحنكة ولا يضعوا امور الناس والمناصب الحسّاسة في الحكومة والتي هي أهم أمانة إلهيّة بيدهم عند الأشخاص الذين يشم منهم رائحة الخيانة ، فإنّه عند ذلك سوف يفسد دينهم ودنياهم ويكونون مسؤولين أمام الله تعالى.

الأمانة والخيانة في بيت المال :

إنّ الأمانة خلق محمود ومطلوب في أي مكان ومورد ، ولكن بالنسبة إلى بيت المال ورؤوس الأموال المادية والمعنوية المتعلّقة بالمجتمع لا بشخص معيّن فقد ورد التأكيد على الأمانة فيها بشكل خاص في النصوص الدينية ، والحكمة في ذلك واضحة لأنّه أولاً : أنّ البعض يتصوّر أنّ مثل هذه الأموال بما أنّها لا تقع في دائرة الممتلكات لشخص معيّن بل هي ملك عموم الناس فإنّهم أحرار في تصرفاتهم وتعاملهم بها.

وثانياً : إذا تفشّت الخيانة بالنسبة إلى الأموال العامة وبيت المال فإنّ نظم المجتمع سوف يتلاشى وينهار ، فلا يرى مثل هذا المجتمع البشري وجه السعادة أبداً.

ومن أجل درك أهميّة هذا الموضوع يكفي مطالعة قصّة(الحديدة المحماة) حيث ورد أنّ عقيل رضى الله عنه جاء إلى أخيه علي بن أبي طالب (عليه‌ السلام) وطلب منه أن يزيده قليلاً من حصّته وسهمه من بيت المال دون مراعاة ضوابط العدالة والمساواة بين المسلمين على أساس العلاقة الاخويّة بينه وبين الإمام علي (عليه‌ السلام) ، فما كان من الإمام علي (عليه‌ السلام) إلّا أن أحمى له حديدة وقرّبها منه ، صرخ عقيل من حرارتها فقال له الإمام (عليه‌ السلام) : «يا عَقِيلُ أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحماها إِنسانَها لِلَعبِهِ وَتَجِرُّنِي إِلى نارٍ سَجَرَها جَبارُها لِغَضَبِهِ ، أَتَئِنُّ مِنْ الأَذى وَلا أَئِنُّ مِنْ لَظى» ([41]).

وقال أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) في مكان آخر كلاماً مثيراً بالنسبة إلى عطايا عثمان من بيت المال إلى أقربائه وذويه حيث عزم الإمام علي (عليه‌ السلام) على ردّها جميعاً إلى بيت المال وقال : «وَاللهِ لَو وَجَدته قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّساءُ ومُلِكَ بِهِ الإِماءُ لَرَدَدتُهُ ، فَإنَّ فِي العَدلِ سَعَةً ، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيهِ العَدلُ فَالجَورُ عليه أَضيَقُ» ([42]).

وعند ما اقترح عليه استخدام الأشخاص المعروفين في تدبير أمر الحكومة وزيادة رواتبهم وعطاياهم من بيت المال لغرض الاستعانة بهم في امور الدولة والحكومة (ولا أقل في بداية خلافته) فقال : «أَتَأمُرُنِي أَنْ أَطلُبَ النَّصرَ بِالجَورِ فِيمَن وُلِّيتُ عَلَيهِم وَاللهِ لا أَطُورُ بِهِ ما سَمَرَ سَمِيرٌ وَما أَمَ نَجمٌ فِي السَّماءِ نَجمَاً ، وَلَو كانَ المَالُ لِي لَسَويَّتُ بَينَهُم فَكَيفَ وَإِنَّما المَالُ مالُ اللهِ» ([43]).

بل إنّ الإمام علي (عليه‌ السلام) تحرّك لحفظ الأمانة في بيت المال من موقع التهديد الشديد لأقرب المقرّبِينَ إليه حتّى يتّعظ بذلك الأبعد من الناس ويعلم أنّ المسألة هنا جدّية فلا مهادنة في بيت المال ، ولذلك نقرأ في الكتاب الذي أرسله أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) إلى بعض امرائه في البلد الإسلامي الذي أساء الاستفادة من بيت المال وأنفقه في موارد اخرى ، فكتب له الإمام يقول : «فَاتَّقِ اللهَ واردُد إلى هَؤلاءِ القَومِ أَموالَهُم فَإِنَّكَ إنْ لَم تَفعَل ثُمَّ أَمكَننِي اللهُ مِنكَ لأَعذِرنَّ إِلى اللهِ فِيكَ وَلأَضرِبَنَّكَ بِسَيفِي الَّذِي ما ضَربَتُ بِهِ أَحَداً إِلّا دَخَلَ النَّارَ ، وَاللهِ لَو أَنَّ الحَسَنَ والحُسَينَ فَعَلا مِثلَ الَّذِي فَعَلتَ ما كَانَتْ لَهُما عِندِي هَوادَةٌ ، ولا ظَفِرَا مِنِّي بِإرَادَةٍ حَتّى آخُذَ الحَقُّ مِنهُما» ([44]).

ونعلم أنّ النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) عند ما فتح مكّة قد عفى عن قريش وجميع المجرمين والجناة من قريش وغير قريش الذين حاربوه قرابة عشرين سنة وسفكوا دماء الكثير من المسلمين ورغم ذلك فقد أصدر النبي أمره بالعفو عنهم وإسدال الستار على ما مضى من جرائمهم وعداوتهم ، ولكن مع ذلك فقد استثنى النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) عدّة أشخاص من هذا العفو وأهدر دمهم وأمر بقتلهم في أي مكان كانوا ، وأحد هؤلاء هو (ابن خطل) وكان ذنبه أنّه اعتنق الإسلام في الظاهر وهاجر إلى المدينة ، فجعله النبي (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) على الزكاة وجمعها وأرسل معه شخصاً من قبيلة خزاعة ، فعند ما ذهب لجمع الزكاة واجتمع لديه مقدار مهم من الزكاة قتل صاحبه وهرب بالأموال إلى مكّة ، وعند ما سأله المشركون في مكة عن سبب رجوعه قال : «لم أجد ديناً أفضل من دينكم» ، وأخذ يهجو النبي بقصائد من الشعر وكانت لديه بعض الجواري المغنيّات والراقصات ، فكان يجلس مجالس الطرب واللهو ويشترك معه مجموعة من المشركين فيشربون الخمر ويهجون النبي بهذه الأشعار ، وبما أنّه بلغ من الوقاحة والخيانة في بيت المال إلى هذه الدرجة العظمية حتّى أنّ هذه الخيانة تسببت في ارتداده عن الإسلام وهتكه لحرمة النبي الأكرم ، فلذلك أصدر النبي أمره هذا ، فلّما سمع بذلك التجأ إلى الكعبة ، وبما أنّ من يلوذ بالكعبة سوف يصان دمه ، فلذلك سحبوه إلى خارج الحرم وقتلوه ([45]).

فهذه التصريحات الشديدة والأحاديث المثيرة تشير إلى أنّ الخيانة في بيت مال المسلمين ورغم أنّ البعض يتصوّر أنّها سهلة ويسيرة فإنّها من أعظم الذنوب والخطايا ، وعقوبتها من أشدّ أنواع العقوبات الدنيوية والاخروية.

ونختم هذا البحث بالإشارة إلى حادثة وقعت في زمان رسول الله حيث تبيّن الأهميّة الكبيرة لبيت المال ، والحادثة هي أنّ رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) عند ما عاد من خيبر ووصل إلى وادي القرى كان معه غلام أهداه له رفاعة بن زيد الجذامي قال : فو الله إنّه ليضع رحل رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) إذا أتاه سهم غرب فأصابه فقتله ، فقلنا : هنيئاً له الجنّة ، فقال رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) : «كَلّا والذي نفس محمد بيده إنّ شَملتّهُ الآن لتحترق عليه في النار كان غلها من فيء المسلمين يوم خيبر».

قال : فسمعها رجل من أصحاب رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) فأتاه فقال : يا رسول الله أصبت شراكين لنعلين لي ، قال :

فقال (عليه‌ السلام) : «يُقد لك مثلهما من النار» ([46]).


[1] سورة المؤمنون ، الآية 8 ؛ سورة المعارج ، الآية 32.

[2] سورة النساء ، الآية 58.

[3] سورة الانفال ، الآية 27.

[4] سورة البقرة ، الآية 283.

[5] سورة الأحزاب ، الآية 72.

[6] تفسير فخر الرازي ، ج 10 ، ص 139 ذيل الآية المبحوثة.

[7] وردت احتمالات عديدة حول اعراب جملة «وتخونوا أماناتكم» والأنسب ما قيل في هذا المورد أن تخونوا مجزوم ب «لاء» محذوفة ومعطوف على لا تخونوا التي وردت في الجملة ، فعليه أنّ الواو ، واو عاطفة لا واو حالية بمعنى «مع».

[8] بحار الانوار ، ج 74 ، ص 89.

[9] بحار الانوار ، ج 74 ، ص 273.

[10] المصدر السابق ، ج 69 ، ص 198.

[11] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 104.

[12] المصدر السابق ، ص 105 ، ح 13.

[13] بحار الانوار ، ج 72 ، ص 114 ، ح 5.

[14] المصدر السابق ، ح 3.

[15] مجموعة ورام ، ج 1 ، ص 20.

[16] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 104 ، ح 5.

[17] بحار الانوار ، ج 78 ، ص 60.

[18] غرر الحكم.

[19] معاني الأخبار ، 259 ؛ بحار الانوار ، ج 72 ، ص 117.

[20] بحار الانوار ، ج 72 ، ص 115.

[21] نور الثقلين ، ج 4 ، ص 313.

[22] بحار الانوار ، ج 26 ، ص 320.

[23] المصدر السابق ، ج 99 ، 175.

[24] المصدر السابق ، ص 274.

[25] المصدر السابق ، ج 21 ، ص 381.

[26] نهج البلاغة ، الرسالة 5.

[27] المحجة البيضاء ، ج 3 ، ص 327.

[28] بحار الانوار ، ج 10 ، ص 181.

[29] فروع الكافي ، ج 5 ، ص 134 (مع التلخيص).

[30] بحار الانوار ، ج 72 ، ص 115.

[31] المصدر السابق ، ج 75 ، ص 236.

[32] غرر الحكم.

[33] المصدر السابق.

[34] نهج البلاغة ، الرسالة 53.

[35] بحار الانوار ، ج 72 ، ص 114.

[36] ميزان الحكمة ، ج 1 ، ص 215.

[37] غرر الحكم.

[38] المصدر السابق.

[39] المصدر السابق.

[40] بحار الانوار ، ج 76 ، ص 125.

[41] نهج البلاغة ، الخطبة 224.

[42] المصدر السابق ، الخطبة 15.

[43] نهج البلاغة ، الخطبة 126.

[44] المصدر السابق ، الرساله 41.

[45] شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، ج 18 ، ص 14 و 15.

[46] سيرة ابن هشام ، ج 2 ، ص 353.




جمع فضيلة والفضيلة امر حسن استحسنه العقل السليم على نظر الشارع المقدس من الدين والخلق ، فالفضائل هي كل درجة او مقام في الدين او الخلق او السلوك العلمي او العملي اتصف به صاحبها .
فالتحلي بالفضائل يعتبر سمة من سمات المؤمنين الموقنين الذين يسعون الى الكمال في الحياة الدنيا ليكونوا من الذين رضي الله عنهم ، فالتحلي بفضائل الاخلاق أمراً ميسورا للكثير من المؤمنين الذين يدأبون على ترويض انفسهم وابعادها عن مواطن الشبهة والرذيلة .
وكثيرة هي الفضائل منها: الصبر والشجاعة والعفة و الكرم والجود والعفو و الشكر و الورع وحسن الخلق و بر الوالدين و صلة الرحم و حسن الظن و الطهارة و الضيافةو الزهد وغيرها الكثير من الفضائل الموصلة الى جنان الله تعالى ورضوانه.





تعني الخصال الذميمة وهي تقابل الفضائل وهي عبارة عن هيأة نفسانية تصدر عنها الافعال القبيحة في سهولة ويسر وقيل هي ميل مكتسب من تكرار افعال يأباها القانون الاخلاقي والضمير فهي عادة فعل الشيء او هي عادة سيئة تميل للجبن والتردد والافراط والكذب والشح .
فيجب الابتعاد و التخلي عنها لما تحمله من مساوئ وآهات تودي بحاملها الى الابتعاد عن الله تعالى كما ان المتصف بها يخرج من دائرة الرحمة الالهية ويدخل الى دائرة الغفلة الشيطانية. والرذائل كثيرة منها : البخل و الحسد والرياء و الغيبة و النميمة والجبن و الجهل و الطمع و الشره و القسوة و الكبر و الكذب و السباب و الشماتة , وغيرها الكثير من الرذائل التي نهى الشارع المقدس عنها وذم المتصف بها .






هي ما تأخذ بها نفسك من محمود الخصال وحميد الفعال ، وهي حفظ الإنسان وضبط أعضائه وجوارحه وأقواله وأفعاله عن جميع انواع الخطأ والسوء وهي ملكة تعصم عما يُشين ، ورياضة النفس بالتعليم والتهذيب على ما ينبغي واستعمال ما يحمد قولاً وفعلاً والأخذ بمكارم الاخلاق والوقوف مع المستحسنات وحقيقة الأدب استعمال الخُلق الجميل ولهذا كان الأدب استخراجًا لما في الطبيعة من الكمال من القول إلى الفعل وقيل : هو عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ.
وورد عن ابن مسعود قوله : إنَّ هذا القرآن مأدبة الله تعالى ؛ فتعلموا من مأدبته ، فالقرآن هو منبع الفضائل والآداب المحمودة.