المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

سيرة الرسول وآله
عدد المواضيع في هذا القسم 9100 موضوعاً
النبي الأعظم محمد بن عبد الله
الإمام علي بن أبي طالب
السيدة فاطمة الزهراء
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الإمام محمد بن علي الباقر
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الإمام علي بن موسى الرّضا
الإمام محمد بن علي الجواد
الإمام علي بن محمد الهادي
الإمام الحسن بن علي العسكري
الإمام محمد بن الحسن المهدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05
مـعاييـر تحـسيـن الإنـتاجـيـة
2024-11-05
نـسـب الإنـتاجـيـة والغـرض مـنها
2024-11-05
المـقيـاس الكـلـي للإنتاجـيـة
2024-11-05
الإدارة بـمؤشـرات الإنـتاجـيـة (مـبادئ الإنـتـاجـيـة)
2024-11-05
زكاة الفطرة
2024-11-05

قدر زكاة الفطرة
16-8-2017
التسمم الطعامي
8-4-2016
حكم سجود المأموم على ظهر غيره إذا زوحم.
17-1-2016
Coloring-Algorithmic aspects
27-7-2016
رعمسيس الأول والثاني والتجارة مع آسيا الصغرى.
2024-08-25
شروط التظلم الإداري
18-2-2022


غزوة فتح مكة  
  
994   04:35 مساءً   التاريخ: 2024-11-04
المؤلف : الشيخ علي الكوراني
الكتاب أو المصدر : السيرة النبوية عند أهل البيت عليهم السلام
الجزء والصفحة : ج2، ص398-435
القسم : سيرة الرسول وآله / النبي الأعظم محمد بن عبد الله / حاله بعد الهجرة /

1 - قريش تنقض معاهدة الحديبية

كان بنود المعاهدة : حرية المسلمين في مكة ، وحرية قبائل العرب أن تتحالف مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) أو قريش ، ووضع الحرب بينهما عشر سنين . وعدم مساعدة المعتدى على أحد الطرفين . وإرجاع النبي ( صلى الله عليه وآله ) من يأتيه مسلماً منهم . « فلما كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت : نحن في عهد محمد رسول الله وعقده وقامت بنو بكر فقالت : نحن في عهد قريش وعقدها » . القمي : 2 / 310 .

وبذلك جددت خزاعة وكنانة حلف المطيبين بين عبد المطلب وحلفائه من قريش وخزاعة ، وحلف لعقة الدم بين أمية وحلفائهم من قريش وكنانة !

قال اليعقوبي : 1 / 248 : « ولما رأت قريش أن عبد المطلب قد حاز الفخر ، طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزُّوا ، وكان أول من طلب ذلك بنو عبد الدار لما رأت حال عبد المطلب ، فمشت بنو عبد الدار إلى بنى سهم فقالوا : إمنعونا من بنى عبد مناف . . فتطيب بنو عبد مناف ، وأسد ، وزهرة ، وبنو تيم ، وبنو الحارث بن فهر ، فسموا حلف المطيبين . فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرةً وقالوا : من أدخل يده في دمها ولعق منه فهو منا ! فأدخلت أيديها بنو سهم وبنو عبد الدار وبنو جمح وبنو عدى وبنو مخزوم ، فسموا اللعقة . وكان تحالف المطيبين ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً . وقالت اللعقة : قد اعتدنا لكل قبيلةٍ قبيلة » .

وبعد توقيع معاهدة الحديبية جاءت خزاعة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بكتاب حلفها مع جده عبد المطلب « رحمه الله » فأكده . ونصه كما في أنساب الأشراف للبلاذري / 46 : « باسمك اللهم ، هذا ما تحالف عليه عبد المطلب بن هاشم ، ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة ومن معهم من أسلم ومالك ابني أفصى بن حارثة ، تحالفوا على التناصر والمؤاساة ما بلَّ بحر صوفة ، حلفاً جامعاً غير مفرق ، الأشياخ على الأشياخ ، والأصاغر على الأصاغر ، والشاهد على الغائب . وتعاهدوا وتعاقدوا أوكد عهد وأوثق عقد ، لا ينقض ولا ينكث ، ما أشرقت شمس على ثبير وحن بفلاة بعير ، وما قام الأخشبان ، وعمر بمكة إنسان ، حلف أبد لطول أمد ، يزيده طلوع الشمس شداً ، وظلام الليل سداً . وإن عبد المطلب وولده ومن معهم دون سائر بنى النضر بن كنانة ، ورجال خزاعة ، متكافئون متضافرون متعاونون . فعلى عبد المطلب النصرة لهم ممن تابعه على كل طالب وتر ، في بر أو بحر أو سهل أو وعر . وعلى خزاعة النصرة لعبد المطلب وولده ومن معهم على جميع العرب ، في شرق أو غرب ، أو حزن أو سهب . وجعلوا الله على ذلك كفيلا ، وكفى به حميلاً . هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة ، إذ قدم عليه سراتهم وأهل الرأي ، غائبهم مقر بما قضى عليهم شاهدهم ، أن بيننا وبينك عهود الله وعقوده ما لا ينسى أبداً ولا يأتي بلداً ، اليد واحدة ، والنصر واحد ما أشرف ثبير وثبت حراء وما بل بحر صوفه ، لا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجدداً أبداً أبد الدهر سرمد » .

جاءت به خزاعة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) « فقرأه عليه أبي بن كعب فقال : ما أعرفنى بحلفكم وأنتم على ما أسلمتم عليه من الحلف ، فكل حلف كان في الجاهلية ، فلا يزيده الإسلام إلا شدة ، ولاحلف في الإسلام » . مكاتيب الرسول : 3 / 234 .

وكانوا أخوال بني هاشم ، فأم وهب والد آمنة خزاعية ، وأم عبد مناف خزاعية وأم لؤي خزاعية . وكانوا يتعاطفون مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وينصحون له ويخبرونه أخبار قريش ، وعرفوا بأنهم : « عَيبَة نصح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » . مكاتيب الرسول : 3 / 133 . وعيبة النصح تشبيه للمملوء نصحاً بصرة الثياب المملوءة .

أما كنانة فكانت مع مشركي قريش كخزاعة مع بني هاشم ، وكان بينها وبين خزاعة عداوة وثارات فقامت كنانة بعملية مباغتة تشبه المجزرة ، فهاجمت بيوت خزاعة خارج الحرم وداخله وقتلت منهم أكثر من عشرين رجالاً ونساء وأطفالاً وساعدتها قريش بالسلاح وبمقاتلين ملثمين ، فنقضت بذلك معاهدة الحديبية ! وكانت الشرارة أن كنانياً هجا النبي ( صلى الله عليه وآله ) فضربه خزاعي . إعلام الوري : 1 / 215 .

وقَبِلَ الجميع رواية الواقدي / 469 ، وخلاصتها : « أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فسمعه غلامٌ من خزاعة فوقع به فشجه ، فخرج إلى قومه فأراهم شجته ، فثار الشر ، مع ما كان بينهم . . فلما دخل شعبان على رأس اثنين وعشرين شهراً من صلح الحديبية ، تكلمت بنو نفاثة من بنى بكر أشراف قريش . . أن يعينوا بالرجال والسلاح على عدوهم من خزاعة ، وذكروهم القتلى الذين أصابت خزاعة لهم . . فوجدوا القوم إلى ذلك سراعاً ، إلا أبا سفيان لم يشاور في ذلك ولم يعلم ، ويقال إنهم ذاكروه فأبى عليهم . . فأعانوهم بالسلاح والكراع والرجال ، ودسوا ذلك سراً لئلا تحذر خزاعة . . ثم اتعدت قريش الوتير موضعاً بمن معها فوافوا للميعاد ، فيهم رجالٌ من قريش من كبارهم متنكرون متنقبون : صفوان بن أمية ، ومكرز بن حفص بن الأخيف ، وحويطب بن عدب العزي ، وأجلبوا معهم أرقاءهم ورأس بنى بكر نوفل بن معاوية الدؤلي ، فبيتوا خزاعة ليلاً وهم غارُّون آمنون من عدوهم ، فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا بهم إلى أنصاب الحرم فقالوا : يا نوفل إلهك إلهك ، قد دخلت الحرم ! قال : لا إله لي اليوم ! يا بنى بكر ، قد كنتم تسرقون الحاج ، أفلا تدركون ثأركم من عدوكم ! فلما انتهت خزاعة إلى الحرم دخلت دار بديل بن ورقاء ، ودخلت رؤساء قريش في منازلهم وهم يظنون ألا يعرفوا وألا يبلغ هذا محمداً !

وجاء الحارث بن هشام ، وابن أبي ربيعة ، إلى صفوان بن أمية ، وإلى سهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، فلاموهم فيما صنعوا من عونهم بنى بكر وأن بينكم وبين محمد مدة وهذا نقضٌ لها ! ومشيا إلى أبي سفيان فقالا : والله لئن لم يصلح هذا الأمر لايروعكم إلا محمد في أصحابه ! فقال : لا والله ما شوورت ولا هويت حيث بلغني ! والله ليغزونا محمدٌ إن صدقني ظني وهو صادقي . وما لي بدٌّ أن آتى محمداً فأكلمه أن يزيد في الهدنة ويجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الأمر . فقالت قريش : قد والله أصبت الرأي ! وندمت قريش على ما صنعت ، فخرج أبو سفيان وخرج معه مولى له على راحلتين فأسرع السير وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله . وقدم ركب خزاعة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره بمن قتل منهم ، قال رسول الله : فمن تُهمتكم وظِنَّتُكم ؟ قالوا : بنو بكر . قال : كلها ؟ قالوا : لا ولكن تهمتنا بنو نفاثة قَصْرةً « كلهم » ورأس القوم نوفل بن معاوية النفاثي .

قال ( صلى الله عليه وآله ) : هذا بطنٌ من بنى بكر ، وأنا باعثٌ إلى أهل مكة فسائلهم عن هذا الأمر ومخيرهم في خصال . فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى ثلاث خلال : بين أن يدُوا خزاعة ، أو يبرؤوا من حلف نفاثة ، أو ينبذ إليهم على سواء .

فقال قرطة بن عبد عمرو : لا والله لا يودون ، ولا نبرأ من حلف نفاثة بن الغوث وهم بناء وأعمدة لشدتنا ، ولكن ننبذ إليه على سواء ! فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالأنقاب وعمَّى عليهم الأخبار ، حتى دخلها فجاءةً !

وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قد حرت في أمر خزاعة ! فقالت عائشة : يا رسول الله أترى قريشاً تجترئ على نقض العهد بينكم وبينهم ، وقد أفناهم السيف ؟

فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ينقضون العهد لأمرٍ يريده الله تعالى بهم . قالت عائشة : خيرٌ أو شرٌّ يا رسول الله ؟ قال : خيرٌ » !

وإذا صح قوله ( صلى الله عليه وآله ) « حِرْتُ في أمر خزاعة » فمعناه : همَّنى ذلك ، وليس التحير في تفسيره أو فيما يعمل . ولعله ( صلى الله عليه وآله ) قاله ليحير قريشاً ، فلا تدرى ماذا ينوي .

2 - خزاعة تطالب النبي « صلى الله عليه وآله » بنصرتها وفاءً بحلفهم

قال في الصحيح من السيرة : 21 / 64 ملخصاً : « ذكر المؤرخون قدوم بديل بن ورقاء على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليخبره بالمجزرة التي ارتكبتها كنانة وقريش في بيته وعلى باب داره ، في حق رجال وصبيان ونساء ، وذكروا أيضاً لقاءه أبا سفيان في عسفان حين كان أبو سفيان متوجهاً إلى المدينة ، وبديل عائد منها .

وكانت مبادرة بديل بن ورقاء محاطة منه وممن معه بسرية تامة . . ولذلك لم يستطع أبو سفيان معرفة حقيقة الأمر ، فسكت عليه . كما قدم عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً من خزاعة يستنصرون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخبروه بالخبر ، فلما فرغوا من قصتهم ، قام عمرو بن سالم ، فقال :

يا رب إني ناشدٌ محمدا * حِلْفَ أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتمُ ولداً وكنا والدا * ثَمَّتَ أسلمنا فلم ننزعْ يدا

إن قريشاً أخلفوك الموعدا * ونقضوا ميثاقَك المؤكدا

وزعموا أن لست أدعو أحدا * هم أذلُّ وأقلُّ عددا

هم بيتونا بالوتير هُجَّدا * وقتلونا رُكَّعاً وسُجَّدا

وجعلوا لي في كداء رصدا * فانصر رسول الله نصراً أيدا

وادعُ عباد الله يأتوا مددا * فيهم رسول الله قد تجردا

إن سِيمَ خسفاً وجهُهُ تربَّدا * في فيلق كالبحر يجرى مُزبدا

قرمٌ لقرم من قروم أصيدا

فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : حسبك يا عمرو ، ودمعت عيناه . أو قال : نُصرت يا عمرو بن سالم . فلما فرغ الركب قالوا : يا رسول الله ، إن أنس بن زنيم الديلي قد هجاك فهدر رسول الله دمه ! فبلغ أنس بن زنيم ذلك ، فقدم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) معتذراً عما بلغه فقال قصيدة منها :

فما حملت من ناقة فوق رحلها * أبرُّ وأوفى ذمة من محمد

وبلغت رسول الله قصيدته واعتذاره ، وكلم نوفل بن معاوية الديلي النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيه فقال له : أنت أولى الناس بالعفو ، ومن منا لم يعادك ولم يؤذك ؟ ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع ، حتى هدانا الله بك من الهلكة ، وقد كذب عليه الركب وكثَّروا عندك ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : دع الركب فإنَّا لم نجد بتهامة أحداً من ذي رحم ولا بعيداً كان أبرَّ بنا من خزاعة ، فأسكت نوفل بن معاوية !

فلما سكت قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قد عفوت عنه . فقال نوفل : فداك أبي وأمي .

وقالوا إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال لعمرو بن سالم وأصحابه : إرجعوا وتفرقوا في الأودية ، مخافة اكتشاف قريش لهم وانتقامها منهم فرجعوا وتفرقوا ، وذهبت فرقة إلى الساحل بعارض الطريق ، ولزم بديل بن ورقاء في نفر من قومه الطريق » .

3 - أحست قريش بجريمتها فحاولت أن تسترضى النبي « صلى الله عليه وآله »

قال المفيد « رحمه الله » في الإرشاد : 1 / 132 : « ولما دخل أبو سفيان المدينة لتجديد العهد بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبين قريش ، عندما كان من بنى بكر في خزاعة وقتلهم من قتلوا منها ، فقصد أبو سفيان ليتلافى الفارط من القوم ، وقد خاف من نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لهم ، وأشفق مما حل بهم يوم الفتح ، فأتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكلمه في ذلك فلم يردد عليه جواباً ، فقام من عنده فلقيه أبو بكر فتشبث به وظن أنه يوصله إلى بغيته من النبي ( صلى الله عليه وآله ) فسأله كلامه له فقال : ما أنا بفاعل ، لعلم أبى بكر بأن سؤاله في ذلك لا يغنى شيئاً ، فظن أبو سفيان بعمر بن الخطاب ما ظنه بأبى بكر فكلمه في ذلك فدفعه بغلظة وفظاظة ، كادت أن تفسد الرأي على النبي ( صلى الله عليه وآله ) .

فعدل إلى بيت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فاستأذن عليه فأذن له وعنده فاطمة والحسن والحسين « عليهم السلام » فقال له : يا علي ، إنك أمسُّ القوم بي رحماً وأقربهم منى قرابة ، وقد جئتك فلا أرجعن كما جئت خائباً ! إشفع لي إلى رسول الله فيما قصدته . فقال له : ويحك يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه ! فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة « عليها السلام » فقال لها : يا بنت محمد ، هل لك أن تأمرى ابنيك أن يجيرا بين الناس فيكونا سيدي العرب إلى آخر الدهر ؟ فقالت : ما بلغ بنياى أن يجيرا بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .

فتحير أبو سفيان وسقط في يده ، ثم أقبل على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : يا أبا الحسن ، أرى الأمور قد التبست على فانصح لي . فقال له أمير المؤمنين : ما أرى شيئاً يغنى عنك ، ولكنك سيد بنى كنانة فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك . قال : فترى ذلك مغنياً عنى شيئاً ؟ قال : لا والله لا أظن ، ولكني لا أجد لك غير ذلك . فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيها الناس ، إني قد أجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره فانطلق !

فلما قدم على قريش قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئت محمداً فكلمته فوالله ما رد على شيئاً ، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً ، ثم لقيت ابن الخطاب فوجدته فظاً غليظاً لا خير فيه ، ثم أتيت علياً فوجدته ألين القوم لي ، وقد أشار في بشئ فصنعته ، والله ما أدرى يغنى عنى شيئاً أم لا ، فقالوا : بمَ أمرك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس ففعلت . فقالوا له : فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال : لا . قالوا : ويلك والله ما زاد الرجل على أن لعب بك ، فما يغنى عنك ؟

قال أبو سفيان : لا والله ما وجدت غير ذلك » .

ونحوه في مغازى الواقدي / 475 ، وفيه : « فقام بين ظهري الناس فصاح : ألا إني قد أجرت بين الناس ولا أظن محمداً يخفرني ! ثم دخل على النبي فقال : يا محمد ما أظن أن ترد جواري ! فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أنت تقول ذاك يا أبا سفيان . لم يزد على ذلك » !

يبقى سؤال : كيف دخل أبو سفيان إلى المدينة ، وهو رأس الأحزاب وإمام أئمة الكفر ؟ والجواب : أن الهدنة كانت نوعاً من الأمان تسمح بالذهاب والمجئ بين المسلمين والقرشيين ، ولا بد أنه أرسل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) يستأذن في المجئ .

4 - النبي « صلى الله عليه وآله » يتجهز لغزو مكة ويخفى مقصده

قرر النبي ( صلى الله عليه وآله ) غزو مكة وفتحها ، وأراد أن يكون ذلك مفاجأةً لقريش ، ولذلك دعا الله تعالى : « اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش ، حتى نَبْغَتَهَا في بلادها » . مناقب آل أبي طالب : 1 / 177 وابن هشام : 4 / 857 .

لكن كيف يمكن تجهيز جيش من ألوف والمسير به إلى مكة بدون أن تشعر قريش ؟ هنا كان الإعجاز ، مضافاً إلى ما قام النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو ما يلي :

1 - حرص أن لا يقول كلاماً يفهم منه العفو عن قريش ، وفى نفس الوقت أن لا يصرح بأنه سيغزوهم بسبب نقضهم للعهد !

2 - سكت ( صلى الله عليه وآله ) عن الأمر فترة : « مكث بعد خروج أبي سفيان ما شاء الله أن يمكث ، ثم قال لعائشة : جهزينا وأخفى أمرك » . الصحيح من السيرة : 21 / 139 .

3 - ثم أصدر أمره بالتجهز للغزو ولم يفصح إلى أين : « وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهى تحرك بعض جهاز رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أي بنية أأمركم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن تجهزوه ؟ قالت : نعم فتجهز ، قال : فأين ترينه يريد ؟ قالت : لا والله ما أدري » . ابن هشام : 4 / 857 .

4 - أرسل إلى القبائل أن يوافوه في شهر رمضان للذهاب في غزوة ولم يخبرهم أين : « ودعا رئيس كل قوم ، فأمره أن يأتي قومه فيستنفرهم » . إعلام الوري : 1 / 219 .

5 - وأمر بضبط الداخل إلى المدينة والخارج منها : « وضع حرساً على المدينة ، وكان على الحرس حارثة بن النعمان » . إعلام الوري : 1 / 216 .

ولكن ذلك لم يكن كافياً بسبب فعالية قريش ، وكثرة المنافقين المرتبطين بها ، ولذلك احتاج الأمر إلى تدخل جبرئيل ( عليه السلام ) .

5 - الوَحْى يكشف خيانة بعض الصحابة

في تفسير القمي : 2 / 361 : « يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيهِمْ بِالْمَوَدَّةِ . . نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، ولفظ الآية عام ومعناها خاص . وكان سبب ذلك أن حاطب بن أبي بلتعة كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة ، وكان عياله بمكة ، وكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألوه عن خبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهل يريد أن يغزو مكة ؟ فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك ، فكتب إليهم حاطب إن رسول الله يريد ذلك ، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية ، فوضعته في قرنها ومرَّت ، فنزل جبرئيل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره بذلك ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والزبير بن العوام في طلبها فلحقوها فقال لها أمير المؤمنين : أين الكتاب ؟ فقالت : ما معي ! ففتشوها فلم يجدوا معها شيئاً ، فقال الزبير : ما نرى معها شيئاً ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والله ما كذَبَنَا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا كذَبَ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على جبرئيل ، ولا كذب جبرئيل على الله جل ثناؤه ! والله لتظهرن لي الكتاب أو لأوردن رأسك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فقالت : تنحيا حتى أخرجه فأخرجت الكتاب من قرنها ، فأخذه أمير المؤمنين وجاء به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا حاطب ما هذا ؟ فقال حاطب : والله يا رسول الله ما نافقت ولا غيرت ولا بدلت ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله حقاً ، ولكن أهلي وعيالي كتبوا إلى بحسن صنيع قريش إليهم ، فأحببت أن أجازى قريشاً بحسن معاشرتهم ! فأنزل الله جل ثناؤه على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيهِمْ بِالْمَوَدَّةِ . . . إلى آخر سورة الممتحنة .

وفى رواية أبى الجارود عن أبي جعفر ( عليه السلام ) : فإن الله أمر نبيه والمؤمنين بالبراءة من قومهم ما داموا كفاراً فقال : قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ . . إلى قوله : وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قطع الله عز وجل ولاية المؤمنين منهم وأظهروا لهم العداوة فقال : عَسَى اللهُ أَنْ يجْعَلَ بَينَكُمْ وَبَينَ الَّذِينَ عَادَيتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ، فلما أسلم أهل مكة خالطهم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وناكحوهم » .

وفى الإرشاد : 1 / 56 : « فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بعزيمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على فتحها ، وأعطى الكتاب امرأة سوداء كانت وردت المدينة تستميح بها الناس وتستبرهم ، وجعل لها جعلاً على أن توصله إلى قوم سماهم لها من أهل مكة ، وأمرها أن تأخذ على غير الطريق . إلى أن قال : فأخذه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وصار به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأمر أن ينادى بالصلاة جامعة ، فنودي في الناس فاجتمعوا إلى المسجد حتى امتلأ بهم ، ثم صعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المنبر وأخذ الكتب بيده وقال : أيها الناس ، إني كنت سألت الله عز وجل أن يخفى أخبارنا عن قريش ، وإن رجلاً منكم كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخبرنا فليقم صاحب الكتاب وإلا فضحه الوحي ! فلم يقم أحد فأعاد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مقالته ثانية ، وقال : ليقم صاحب الكتاب وإلا فضحه الوحي ! فقام حاطب بن أبي بلتعة وهو يرعد كالسعفة في يوم الريح العاصف ، فقال : يا رسول الله أنا صاحب الكتاب ، وما أحدثت نفاقاً بعد إسلامي ولا شكاً بعد يقيني . فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) : فما الذي حملك على أن كتبت هذا الكتاب ؟ فقال : يا رسول الله إن لي أهلاً بمكة وليس لي بها عشيرة ، فأشفقت أن تكون الدائرة لهم علينا فيكون كتابي هذا كفاً لهم عن أهلي ويداً لي عندهم ، ولم أفعل ذلك لشك في الدين . فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله مرني بقتله فإنه قد نافق ! فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إنه من أهل بدر ولعل الله تعالى اطلع عليهم فغفر لهم ، أخرجوه من المسجد . قال : فجعل الناس يدفعون في ظهره حتى أخرجوه ، وهو يلتفت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليرق عليه ، فأمر النبي برده وقال له : قد عفوت عنك وعن جرمك ، فاستغفر ربك ولا تعد لمثل ما جنيت » !

وفى المسترشد للطبري الشيعي / 540 ، أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لعمر : « أتريد يا عمر أن تقول العرب إن محمداً يقتل أصحابه » ؟ !

أقول : تقدم أن ابن بلتعة كان مبعوث النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى المقوقس ، وكان تاجراً له معرفة بمصر ، وكان يمانياً من لخم ، متحالفاً مع بنى أسد عبد العزى القرشيين .

وفى المبسوط للطوسي : 2 / 15 : « وإذا تجسس مسلم لأهل الحرب . . وللإمام أن يعفو عنه ، وله أن يعزره لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عفا عن حاطب » .

ورووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لعمر : « وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر ، فقال اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم » ! ابن هشام : 4 / 858 .

كما روت مصادرنا عن علي ( عليه السلام ) ذماً لابن بلتعة . تأويل الآيات : 2 / 465 والجمل / 208 .

وذكر الثعلبي في تفسيره : 9 / 291 ، « أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان سأل سارة السوداء التي حملت الكتاب : أمسلمة جئت ؟ قالت : لا ، قال : أمهاجرة جئت ؟ قالت : لا ، قال : فما جاء بك ؟ قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالى واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني ، فقال لها : فأين أنت من شباب مكة وكانت مغنية نائحة ! قالت : ما طلب منى شئ بعد وقعة بدر ! فحث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنى عبد المطلب وبني المطلب ، فكسوها وأعطوها نفقة » .

كما روت مصادر السلطة أن أبا بكر حاول أن يعرف قصد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهل يقصد غزو قريش أو غيرها ، وسأل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وألحَّ بالسؤال .

وروى الواقدي : 2 / 796 والمقريزي في الإمتاع : 1 / 352 أن أبا بكر سأل النبي ( صلى الله عليه وآله ) :

« يا رسول الله أردت سفراً ؟ قال رسول الله : نعم . قال : أفأتجهز ؟ قال : نعم . قال أبو بكر : وأين تريد يا رسول الله ؟ قال : قريشاً وأخفِ ذلك يا أبا بكر ! وأمر رسول الله بالجهاز قال : أوليس بيننا وبينهم مدةٌ قال : إنهم غدروا ونقضوا العهد فأنا غازيهم . وقال لأبى بكر : إطو ما ذكرت لك ! فظانٌّ يظن أن رسول الله يريد الشام وظانٌّ يظن ثقيفاً وظانٌّ يظن هوازن » .

وقال صاحب الصحيح : 21 / 129 إن أبا بكر وعائشة عرفا قصد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأفشيا سره ، لكن خيانة حاطب بن أبي بلتعة متفق عليها !

أما خيانة غيره ، فإن صحت ، فقد عولجت وبقيت مخفية .

6 - جاءت القبائل إلى المدينة وتحرك النبي « صلى الله عليه وآله » إلى مكة

سبب توافد القبائل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنهم أحسوا بعد انتصاراته ( صلى الله عليه وآله ) وصلح الحديبية أن ميزان القوة تحول إلى جانبه ، فأخذوا يدخلون في الإسلام أو يتقربون اليه ، ويطمعون أن يشاركوه في حروبه لينالوا من الغنائم !

وخرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالناس ولم يعلن عن مقصده : « ولما انتهى إلى قٌدَيد قيل له : يا رسول الله هل لك في بيض النساء وأدم الإبل ، بنى مدلج ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) إن الله عز وجل حرَّمهن على بصلة الرحم » . الصحيح : 21 / 233 .

أقول : بنو مدلج عند ينبع ، عشيرة من بنى كنانة ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) غزاهم في ذات العشيرة ، وكتب معهم صلحاً أن يكونوا حياديين . وقد مدح نساءهم بصلة الرحم . وعرف بنو مدلج بأن فيهم خبراء في القيافة .

قال في الصحيح من السيرة : 21 / 215 ملخصاً : « خرج النبي ( صلى الله عليه وآله ) في المهاجرين والأنصار وطوائف من العرب وقادوا الخيل وامتطوا الإبل ، وقدَّم أمامه جريدة من الخيل الزبير بن العوام في مائة فارس . . ولما بلغ قديداً لقيته سُليم هناك فعقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل . وقبل أن يصل النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى مكة وجد عيناً لهوازن ، فاعترف أنهم يجمعون جيشاً لحربه فأمر بحبسه ، فظن الظانون أنه يقصد هوازن . وجاءه عيينة بن حصن رئيس بنى فزارة لأنه سمع وهو بنجد أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قاصد وجهاً وأن العرب تجتمع اليه ، فوصل اليه وهو في الطريق في القديد ، فسأله عن مقصده فأجابه : إلى حيث يشاء الله !

وقد بالغوا في عدد جيش النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا كان عشرة آلاف ، وقد يكون جيشه بلغ ستة آلاف . وقال بعضهم كان الأنصار أربعة آلاف معهم خمس مائة فرس ، ومزينة ألفاً وفيها مائة فرس ، وأسلم أربع مائة معها ثلاثون فرساً ، وجهينة ثمان مائة معها خمسون فرساً ، وبنى سليم سبع مائة ، وغفار أربع مائة ، وأسلم أربع مائة ، وطوائف من العرب من تميم وقيس وأسد . » راجع : الصحيح : 21 / 230 .

7 - فاجأ النبي « صلى الله عليه وآله » قريشاً وعسكر قرب مكة

عسكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بجيشه في « مَرّ الظهران » وهو قرب عرفات ، وكان ذلك مفاجأة لقريش ، فأسقط في يد زعمائها لأنهم لا يريدون الخضوع له ، ولا طاقة لهم بحربه ! فسارع أبو سفيان بالذهاب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليتفاوض معه .

قال في إعلام الوري : 1 / 218 : « سار حتى نزل مرَّ الظهران ومعه نحو من عشرة آلاف رجل ونحو من أربعمائة فارس ، وقد عميت الأخبار من قريش ، فخرج في تلك الليالي أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء هل يسمعون خبراً ، وقد كان العباس بن عبد المطلب خرج يتلقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومعه أبو سفيان بن الحارث « ابن عم النبي ( صلى الله عليه وآله ) » وعبد الله بن أبي أمية « أخ أم سلمة » وقد تلقاه بنيق العقاب ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في قبته وعلى حرسه يومئذ زياد بن أسيد ، فاستقبلهم زياد فقال : أما أنت يا أبا الفضل فامض إلى القبة ، وأما أنتما فارجعا . فمضى العباس حتى دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فسلم عليه وقال : بأبى أنت وأمي هذا ابن عمك قد جاء تائباً وابن عمتك . قال : لا حاجة لي فيهما إن ابن عمى انتهك عرضي ، وأما ابن عمتي فهو الذي يقول بمكة : وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ ينْبُوعًا . فلما خرج العباس كلمته أم سلمة وقالت : بأبى أنت وأمي ابن عمك قد جاء تائباً لا يكون أشقى الناس بك ، وأخي ابن عمتك وصهرك فلا يكونن شقياً بك ! ونادى أبو سفيان بن الحارث النبي ( صلى الله عليه وآله ) : كن لنا كما قال العبد الصالح : لاتَثْرِيبَ عَلَيكم ! فدعاه وقبل منه ، ودعا عبد الله بن أبي أمية ، فقبل منه .

وقال العباس : هو والله هلاك قريش إلى آخر الدهر إن دخلها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عُنْوَةً قال : فركبت بغلة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) البيضاء وخرجت أطلب الحطَّابة أو صاحب لبَن لعلى آمره أن يأتي قريشاً فيركبون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يستأمنون إليه ، إذ لقيت أبا سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام ، وأبو سفيان يقول لبديل : ما هذه النيران ؟ قال : هذه خزاعة . قال : خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانهم ! ولكن لعل هذه تميم أو ربيعة ! قال العباس : فعرف صوت أبي سفيان ، فقلت : أبا حنظلة ؟ قال : لبيك فمن أنت ؟ قلت : أنا العباس ، قال : فما هذه النيران فداك أبي وأمي قلت : هذا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في عشرة آلاف من المسلمين قال : فما الحيلة ؟ قال : تركب في عجز هذه البغلة ، فأستأمن لك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . قال : فأردفته خلفي ثم جئت به ، فكلما انتهيت إلى نار قاموا إلى فإذا رأوني قالوا : هذا عم رسول الله خلوا سبيله ، حتى انتهيت إلى باب عمر فعرف أبا سفيان فقال : عدو الله الحمد الله الذي أمكن منك ، فركضت البغلة حتى اجتمعنا على باب القبة ، ودخل عمر على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : هذا أبو سفيان قد أمكنك الله منه بغير عهد ولا عقد ، فدعني أضرب عنقه ! قال العباس : فجلست عند رأس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقلت : بأبى أنت وأمي أبو سفيان قد أجرته . قال : أدخله فدخل فقام بين يديه فقال : ويحك يا أبا سفيان أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ؟ قال : بأبى أنت وأمي ما أكرمك وأوصلك وأحلمك ، أما الله لو كان معه إله لأغنى يوم بدر ويوم أحد ، وأما أنك رسول الله فوالله إن في نفسي منها لشيئاً ! قال العباس : يضرب والله عنقك الساعة أو تشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ! قال : فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، تلجلج بها فوه !

فقال أبو سفيان للعباس : فما نصنع باللات والعزي ؟ فقال له عمر : إسلح عليهما . فقال أبو سفيان : أفٍّ لك ما أفحشك ! ما يدخلك يا عمر في كلامي وكلام ابن عمي ؟ ! فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : عند من تكون الليلة ؟ قال : عند أبي الفضل . قال : فاذهب به يا أبا الفضل فأبته عندك الليلة ، واغد به علي . فلما أصبح سمع بلالاً يؤذن قال : ما هذا المنادى يا أبا الفضل ؟ قال : هذا مؤذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قم فتوضأ وصل ، قال : كيف أتوضأ ؟ فعلمه . قال : ونظر أبو سفيان إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو يتوضأ وأيدي المسلمين تحت شعره ، فليس قطرة تصيب رجلاً منهم إلا مسح بها وجهه فقال : بالله إن رأيت كاليوم قط كسرى ولا قيصر !

فلما صلى غدا به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله إني أحب أن تأذن لي بالذهاب إلى قومك فأنذرهم وأدعوهم إلى الله ورسوله فأذن له ، فقال العباس : كيف أقول لهم بين لي من ذلك أمراً يطمئنون إليه ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) : تقول لهم : من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً رسول الله وكف يده ، فهو آمن . ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه ، فهو آمن . فقال العباس : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فلو خصصته بمعروف ؟

فقال ( صلى الله عليه وآله ) : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن . قال أبو سفيان : داري ؟ ! قال : دارك ! ثم قال : من أغلق بابه فهو آمن . ولما مضى أبو سفيان قال العباس : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل من شأنه الغدر ، وقد رأى من المسلمين تفرقاً . قال : فأدركه واحبسه في مضايق الوادي حتى يمر به جنود الله . قال : فلحقه العباس فقال : أبا حنظلة ! قال : أغدراً يا بني هاشم ؟ قال : ستعلم أن الغدر ليس من شأننا ولكن اصبر حتى تنظر إلى جنود الله . . » .

وفى الصحيح من السيرة : 22 / 17 ، ملخصاً : « وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منادياً ينادي : لتصبح كل قبيلة قد أرحلت ووقفت مع صاحبها عند رايته ، وتظهر ما معها من الأداة والعدة ! فأصبح الناس على ظهر ، وقدَّم بين يديه الكتائب . ومرت القبائل على قادتها والكتائب على راياتها ، وكان أول من قدم خالد بن الوليد في بنى سليم وهم ألف ومعهم لواءان وراية ، فلما مروا بأبى سفيان كبروا ثلاث تكبيرات ، ثم مضوا ! فقال أبو سفيان : يا عباس هذا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكن هذا خالد بن الوليد في المقدمة . قال : الغلام ؟ قال : نعم . قال : ومن معه ؟ قال : بنو سليم . قال : ما لي وبنى سليم !

ثم مر على أثره الزبير بن العوام في خمس مائة من المهاجرين وأفناء العرب ومعه راية سوداء . فلما مروا بأبى سفيان كبروا ثلاثاً ! فقال أبو سفيان : من هؤلاء ؟ قال : هذا الزبير بن العوام . قال : ابن أختك ؟ قال : نعم .

ثم مرت بنو غفار في ثلاث مائة يحمل رايتهم أبو ذر ، فلما حاذوه كبروا ثلاثاً ! فقال أبو سفيان : من هؤلاء ؟ قال : بنو غفار . قال : ما لي ولبنى غفار ؟

ثم مرت أسلم في أربع مائة فيها لواءان ، فقال : من هؤلاء ؟ قال العباس : أسلم . قال : ما لي ولأسلم ؟ ما كان بيننا وبينهم تِرَةٌ قط ! قال العباس : هم قوم مسلمون دخلوا في الإسلام . ثم مرت بنو كعب بن عمرو « من خزاعة » في خمس مائة يحمل رايتهم بسر بن سفيان فقال : من هؤلاء ؟ قال العباس : بنو عمرو بن كعب بن عمرو إخوة أسلم . قال : نعم هؤلاء حلفاء محمد ! ثم مرت مزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية ومائة فرس ، قال : من هؤلاء ؟ قال العباس : مزينة . قال : ما لي ولمزينة ؟ قد جاءتني تقعقع من شواهقها !

ثم مرت جهينة في ثمان مائة فيها أربعة ألوية فقال : من هؤلاء ؟ قال : جهينة . قال : ما لي ولجهينة ؟ ثم مرت كنانة بنو ليث وضمرة وسعد بن بكر في مائتين ، فقال : من هؤلاء ؟ قال العباس : بنو بكر . قال : نعم أهل شؤم والله ! هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم ! أما والله ما شُووِرت فيهم ولا علمته ، ولكنه أمر حُتِم !

ثم مرت أشجع وهم آخر من مر ، وهم ثلاث مائة معهم لواءان ، قال العباس : هؤلاء أشجع . قال أبو سفيان : هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد ! ثم قال أبو سفيان : أبعدُ ما مضى محمد ؟ فقال العباس : لا ، لم يمض بعد لو أتت الكتيبة التي فيها محمد رأيت فيها الحديد والخيل والرجال ، وما ليس لأحد به طاقة . قال : ومن له بهؤلاء طاقة ؟ حتى طلعت كتيبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الخضراء التي فيها المهاجرون والأنصار ، مع كل بطن من بطون الأنصار لواء وراية ، وهم في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق ، وعمر بن الخطاب يقول : رويداً حتى يلحق أولكم آخركم . فقال أبو سفيان : يا أبا الفضل من هذا المتكلم ؟ ! قال : عمر بن الخطاب . فقال أبو سفيان : لقد أَمِرَ أَمْرُ بنى عدي ، بعد والله ، قلة وذلة ! « يقصد مشى أمرهم وصار منهم شخص مذكوراً » . وأعطى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رايته سعد بن عبادة ، فلما مر براية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نادى « سعد » أبا سفيان فقال : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تُستحَل الحرمة ، اليوم أذل الله قريشاً » .

8 - أرسل النبي « صلى الله عليه وآله » الأمان إلى أهل مكة مع أبي سفيان

« قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأبى سفيان : تقدم إلى مكة فأعلمهم الأمان . قال العباس : فقلت لأبى سفيان : أُنج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . فخرج أبو سفيان فتقدم الناس كلهم حتى دخل مكة من كداء ، فصرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش ، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به ، أسلموا تسلموا ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن . قالوا : قاتلك الله ، وما تغنى دارك ؟ ! قال : ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن . فقامت إليه هند بنت عتبة زوجته فأخذت بشاربه وقالت : أقتلوا الحميت الدسم الأحمس ، قُبِّح من طليعة قوم ! فقال أبو سفيان : ويلكم لاتغرنكم هذه من أنفسكم ، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به ! . . البيوت البيوت ، من أغلق بابه فهو آمن ، من دخل دارى فهو آمن . فعرفت هند فأخذت تطردهم ، فقال لها : ويلك إني رأيت ذات القرون ورأيت فارس أبناء الكرام ، ورأيت ملوك كندة وفتيان حمير يسلمون آخر النهار ، ويلك أسكتي ، فقد والله جاء الحق ودنت البلية . فجعل الناس يقتحمون الدور ويغلقون عليهم » . الصحيح : 22 / 58 و 85 .

9 - نصب النبي « صلى الله عليه وآله » خيمته عند قبر خديجة « عليها السلام » !

أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الزبير بن العوام أن يدخل من كداء من أعلى مكة ، وأن يغرز رايته بالحجون ، أي عند قبر خديجة « عليها السلام » ، ولا يبرح حتى يأتيه .

وأمر خالداً وكان على المجنبة اليمنى وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من العرب ، أن يدخل من الليط موضع بأسفل مكة ، وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت ، وبها بنو بكر ، وبنو الحارث بن عبد مناة ، والأحابيش الذين استنفرتهم قريش .

وأمر سعد بن عبادة أن يدخل من كداء والراية مع ابنه قيس ، وأمرهم أن يكفوا أيديهم ، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم .

وأقبل ( صلى الله عليه وآله ) في كتيبته الخضراء ، وعليه عمامة سوداء وقد أرخى طرفها بين كتفيه وهو على ناقته القصواء ، فاستشرفه الناس فوضع رأسه على رحله متخشعاً ، وقد طأطأ رأسه تواضعاً لله تعالي ، وهو يقرأ سورة الفتح يرجع بها صوته ، ثم قال : اللهم إن العيش عيش الآخرة . ومضى ( صلى الله عليه وآله ) فدخل من أذاخر بأعلى مكة يوم الاثنين ، وكان أبو رافع قد ضرب له قبة من أدم بالحجون ، فأقبل رسول الله حتى انتهى إلى القبة ، ومعه أم سلمة وميمونة زوجتاه .

وأقبل الزبير بمن معه من المسلمين حتى انتهى إلى الحجون ، فغرز الراية عند منزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ورووا أن لواء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم دخل مكة كان أبيض ، ورايته سوداء تسمى العقاب ، وكانت قطعة مرط مرجل .

وسأله أسامة : يا رسول الله أنَّى تنزل غداً ، تنزل في دارك ؟ قال : وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دار ! وقيل للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : ألا تنزل منزلك من الشعب ؟ فقال : وهل ترك لنا عقيل منزلاً ؟ وكان عقيل قد باع منزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومنزل إخوته

من الرجال والنساء بمكة ، فقيل لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فانزل في بعض بيوت مكة غير منازلك ، فأبى وقال : لا أدخل البيوت ! وبقى في قبته بالحجون ، وكان يأتي المسجد لكل صلاة . وقال جابر بن عبد الله : كنت ممن لزم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فدخلت معه يوم الفتح ، فلما أشرف من أذاخر ورأى بيوت مكة وقف عليها ، فحمد الله وأثنى عليه . ونظر من موضع قبته فقال : هذا منزلنا يا جابر ، حيث تقاسمت قريش علينا في كفرها « يشير إلى الشعب » وكنا بالأبطح وِجَاهَ « مقابل » شعب أبى طالب ، حيث حصر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبنو هاشم ثلاث سنين » . الصحيح : 22 / 77 .

وقال الطبري : 2 / 342 : « أقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة » .

10 - قريش تسترحم النبي « صلى الله عليه وآله » بشعر ضرار بن الخطاب

خافت قريش من انتقام الأنصار منها ، وكانت رايتهم كانت بيد سعد بن عبادة ، فاستغاثت بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) من سعد خشية أن يأخذ منهم ثار أحُد ، فطمأنهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأنه قرر أن لا يسفك دماً في الحرم ، إلا أربعة نفر هدر دمهم !

وفى الإرشاد : 1 / 134 : « ولما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سعد بن عبادة بدخول مكة بالراية ، غلظ على القوم وأظهر ما في نفسه من الحنق عليهم ، ودخل وهو يقول : اليوم يوم الملحمه اليوم تسبى الحرمة ، فسمعها العباس فقال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : أما تسمع يا رسول الله ما يقول سعد بن عبادة ؟ إني لا آمن أن يكون له في قريش صولة !

فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) أدرك يا علي سعداً فخذ الراية منه ، وكن أنت الذي يدخل بها مكة ، فأدركه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأخذها منه » .

« فأخذ الراية فذهب بها إلى مكة ، حتى غرزها عند الركن » . الصحيح : 22 / 26 .

وفى الإمتاع : 8 / 386 ، أن أبا سفيان شكى إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) قول سعد فقال له : « يا أبا سفيان اليوم يوم المرحمة ، اليوم يعز الله قريشاً ، وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه » .

وقال ضرار بن الخطاب شاعر قريش أبياتاً يستعطف النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأرسلوا امرأة فاعترضت طريقه وأنشدته إياها :

يا نبي الهدى إليك لجا * حي قريش ولات حين لجاء

حين ضاقت عليهم سعة الأر * ض وعاداهم إلهُ السماء

والتقت حلقتا البطان على القوم * ونودوا بالصيلم الصلعاء

إن سعداً يريد قاصمة الظهر * بأهل الحجون والبطحاء

خزرجى لو يستطيع من الغيظ * رمانا بالنسر والعواء

وَغِرُ الصدر لا يهمُّ بشئ * غير سفك الدما وسبى النساء

قد تلظى على البطاح وجاءت * عنه هندٌ بالسوءة السواء

إذ ينادى بذل حي قريش * وابن حرب بذا من الشهداء

فلئن أقحم اللواء ونادي * يا حماة الأدبار أهل اللواء

ثم ثابت إليه من بهم الخز * رج والأوس أنجم الهيجاء

لتكونن بالبطاح قريشٌ * فقعة القاع في أكف الإماء

فانهينهُ فإنه أسد الأسد * لدى الغاب والغ في الدماء

إنه مطرق يريد لنا الأمر * سكوتاً كالحية الصماء

11 - طاف النبي « صلى الله عليه وآله » بالبيت وحَطَّم الأصنام

دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مكة وعليه السلاح ، ومكث في منزله ساعة من النهار حتى اطمأن الناس ، فاغتسل ثم دعا براحلته القصواء فأُدنيت إلى باب قبته ، وعاد فلبس السلاح والمغفر على رأسه ، وركب راحلته وقد حفَّ الناس به والخيل تجول من الخندمة إلى الحجون . فلما انتهى إلى الكعبة ومعه المسلمون ، تقدَّم على راحلته واستلم الركن بمحجنه « عصاه » وكبَّر فكبَّر المسلمون بتكبيره فارتجت مكة تكبيراً حتى جعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يشير إليهم أن اسكتوا والمشركون فوق الجبال ينظرون ! وطاف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالبيت ، وأقبل على الحجر فاستلمه ونزل عن راحلته ، فأخرجوها وأناخوها بالوادي ، ثم انتهى إلى المقام فصلى ركعتين ، ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها فنزع له الحرث بن عبد المطلب دلواً فشرب منه وتوضأ والمسلمون يبتدرون وضوءه يصبونه على وجوههم ، والمشركون ينظرون إليهم ويتعجبون ويقولون : ما رأينا ملكاً قط أبلغ من هذا ولا سمعنا به !

وكان حول الكعبة ثلاث مائة وستون صنماً مرصعة بالرصاص ، لكل حي من أحياء العرب صنم ، وكان هبل أعظمها وهو وجاهَ الكعبة ، وإساف ونايلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح ، فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كفاً من حصى فرماها وفى يده عود ، فجعل كلما مر بصنم منها يشير إليه ويطعن في عينه أو في بطنه ويقول : جَاء الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ، فما يشير إلى صنم إلا سقط لوجهه من غير أن يمسه ! فأمر بها فأخرجت من المسجد فطرحت فكسرت .

وعن علي ( عليه السلام ) قال : انطلق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى أتى بي الكعبة ، فقال : أجلس فجلست بجنب الكعبة فصعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على منكبي فقال : إنهض فنهضت فلما رأى ضعفي تحته قال : أجلس فجلست ثم قال : يا علي ، إصعد على منكبي ففعلت ، فلما نهض بي خُيل إلى لو شئت نلت أفق السماء ! فصعدت فوق الكعبة وتنحى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : ألق صنمهم الأكبر ، فألقى الأصنام ولم يبق إلا صنم خزاعة وكان من نحاس موتد بأوتاد من حديد إلى الأرض ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : عالجه : جَاء الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً . فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه . فقال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إقذف به فقذفت به فتكسر كما تتكسر القوارير ، ثم نزلت . ثم إن علياً ( عليه السلام ) أراد أن ينزل فألقى نفسه من صوب الميزاب تأدباً وشفقة على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولما وقع على الأرض تبسم فسأله النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن تبسمه ؟ فقال لأنى ألقيت نفسي من هذا المكان الرفيع وما أصابني ألم . قال : كيف يصيبك ألم وقد رفعك محمد وأنزلك جبريل ؟ ! وقال بعض الشعراء ، وقد نسبه القندوزي إلى الإمام الشافعي ، ونسبه عطاء الله في الأربعين إلى حسان بن ثابت :

قيل لي قل في علي مدحاً * ذكره يخمد ناراً مؤصده

قلت لا أقدم في مدح امرئ * ضل ذو اللب إلى أن عبده

والنبي المصطفى قال لنا * ليلة المعراج لما صعده

وضع الله بظهرى يده * فأحسَّ القلب أن قد برده

وعلى واضع أقدامه * في محل وضع الله يده

وأمر بهبل فكسر وهو واقف عليه ، فقال الزبير بن العوام لأبى سفيان بن حرب : يا أبا سفيان قد كسر هبل ، أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور ، حين تزعم أنه أنعم . فقال أبو سفيان : دع عنك هذا يا ابن العوام ، فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان » ! الصحيح : 22 / 190 .

ودخل الكعبة ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة والفضل بن عباس ، وكبر في زواياها وأرجائها وحمد الله تعالى . وروى أنه صلى ركعتين . الصحيح : 22 / 235 .

12 - جبرئيل يفضح زعماء قريش

عن سعيد بن المسيب قال : لما دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مكة ليلة الفتح لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا ، فقال أبو سفيان لهند : أترين هذا من الله ؟ قالت : نعم ، هذا من الله . قال : ثم أصبح فغدا أبو سفيان إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قلت لهند : أترين هذا من الله ؟ ! قالت : نعم هذا من الله . فقال أبو سفيان : أشهد أنك عبد الله ورسوله ، والذي يحلَف به ما سمع قولي هذا أحد من الناس إلا الله عز وجل وهند ! فقال أبو سفيان في نفسه : أفشت على هند سرى لأفعلن بها ولأفعلن ! فلما فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من طوافه لحق بأبى سفيان فقال : يا أبا سفيان ، لا تكلم هنداً فإنها لم تفش من سرك شيئاً . فقال أبو سفيان : أشهد أنك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) !

ورأى أبو سفيان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يمشى والناس يطؤون عقبه ، فقال في نفسه : لو عاودت هذا الرجل القتال وجمعت له جمعاً ؟ فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى ضرب بيده في صدره فقال : إذن يخزيك الله ! فقال : أتوب إلى الله تعالى وأستغفر الله مما تفوهت به ، ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة ، إني كنت لأحدث نفسي بذلك !

وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأبو سفيان جالس في المسجد ، فقال أبو سفيان في نفسه : ما أدرى بما يغلبنا محمد ؟ فأتاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فضرب صدره وقال : بالله تعالى نغلبك ! فقال أبو سفيان : أشهد أنك رسول الله ! الصحيح : 22 / 321 .

وزعم فضالة بن عمير أنه أراد اغتيال النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو يطوف فعرف ذلك النبي ووضع يده على صدر فضالة فتاب وأسلم . قال : « والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق شئ أحب إلى منه » ! الصحيح : 22 / 190 .

وأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بلالاً وقت الظهر أن يصعد على سطح الكعبة ويطلق الأذان ، فتنغص عيش أبي سفيان ورفقائه الذين « أسلموا » ! « فقال خالد بن أسيد : الحمد لله الذي أكرم أبى فلم يسمع بهذا اليوم ! وكان أسيد مات قبل الفتح بيوم !

وقال الحارث بن هشام : واثكلاه ليتني متُّ قبل أن أسمع بلالاً ينهق فوق الكعبة ! وقال الحكم بن أبي العاص : هذا والله الحدث الجلل أن يصبح عبد بنى جمح ينهق على بُنَية « الكعبة » أبى طلحة !

وقال سهيل بن عمرو : إن كان هذا سخطاً لله فسيغيره الله ! وقال أبو سفيان بن حرب : أما أنا فلا أقول شيئاً ، لو قلت شيئاً لأخبرته هذه الحصاة !

فأتى جبريل ( عليه السلام ) رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره ، فأقبل حتى وقف عليهم فقال : أما أنت يا فلان فقلت كذا ، وأما أنت يا فلان فقلت كذا ، وأما أنت يا فلان فقلت كذا ! فقال أبو سفيان : أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئاً ! فضحك رسول الله » ! « أخبار مكة : 1 / 142 » وفى أسباب النزول للواحدي / 264 : « وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به رب السماء » ! وفى تاريخ أبي الفداء : 1 / 181 : « فقالت بنت أبي جهل : لقد أكرم الله أبى حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة » !

13 - خطبة النبي « صلى الله عليه وآله » في فتح مكة وإعلانه العفو عن الطلقاء

في الكافي : 4 / 225 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مكة يوم افتتحها ، فتح باب الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست ، فأخذ بعضادتي الباب فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده . ماذا تقولون وماذا تظنون ؟ قالوا : نظن خيراً ونقول خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم ، وقد قدرت ! قال : فإني أقول كما قال أخي يوسف : لا تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ الْيوْمَ يغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة ، لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها ، ولا يختلى خلاها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد . فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه للقبر والبيوت ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلا الإذخر » .

ويظهر أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمر بإحضار فراعنة قريش وشخصياتها إلى المسجد .

قال في إعلام الوري : 1 / 225 ومجمع البيان : 10 / 472 ، ملخصاً : « ودخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم ، فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) البيت وأخذ بعضادتي الباب ثم قال : لا إله إلا الله أنجز وعده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده . . ألا إن كل دم ومال ومأثرة كان في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي ، إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما ، ألا إن مكة محرمة بتحريم الله ، لم تحل لأحد كان قبلي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ، فهي محرمة إلى أن تقوم الساعة . . ثم قال : ألا لبئس جيران النبي كنتم ، لقد كذبتم وطردتم ، وأخرجتم وفللتم ، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني ، فاذهبوا فأنتم الطلقاء . فخرج القوم كأنما أنشروا من القبور ، ودخلوا في الإسلام ، وكأن الله أمكنه من رقابهم عنوة فكانوا له فيئاً ، فلذلك سمى أهل مكة الطلقاء !

وكان فتح مكة لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان ، واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر دخلوا من أسفل مكة وأخطأوا الطريق فقتلوا » .

وفى مجمع البيان : « وجاء ابن الزبعرى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأسلم ، وقال :

يا رسول الإله إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بورُ

إذ أبارى الشيطان في سنن الغى * ومن مال ميله مثبور

آمن اللحم والعظام لربى * ثم نفسي الشهيد أنت النذير » .

14 - الذين هدر النبي « صلى الله عليه وآله » دمهم

عدهم صاحب الصحيح من السيرة : 23 / 9 اثنين وعشرين شخصاً ، ثم بحث أسباب هدر النبي ( صلى الله عليه وآله ) دمهم فقال ما خلاصته : « يتساءل البعض عن التوفيق بين احترام الكعبة وتعظيمها واعتبار مكة بلداً آمناً ، وبين أمره ( صلى الله عليه وآله ) بقتل أفراد هذه الجماعة حتى لو كانوا متعلقين بأستار الكعبة ! والجواب : أن الأمر بقتل هؤلاء الناس هو من مفردات تعظيم الكعبة وحفظ حرمة الحرم ، لأنهم بشركهم وبصدهم عن سبيل الله وسعيهم في الأرض فساداً ، وجدهم واجتهادهم لإبطال دين الله ، وقتل الأنبياء والمؤمنين من أجل نصرة الباطل ، يمثلون الرجس والقاذورات التي لا بد من تطهير بيت الله وحرمه منها ، فقتْلهم حتى لو كانوامتعلقين بأستار الكعبة تكريمٌ للكعبة وتكريسٌ لمعنى الطهر والقداسة فيها .

1 - عكرمة بن أبي جهل : كان هو وأبوه أشد الناس أذية للنبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين . ولما بلغه أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أهدر دمه فرّ إلى اليمن ، فقالت امرأته أم حكيم لرسول الله : يا رسول الله قد ذهب عكرمة عنك إلى اليمن وخاف أن تقتله ، فأمِّنه يا رسول الله ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هو آمن . فخرجت في طلبه ومعها غلام لها رومى فراودها عن نفسها ، فجعلت تمنِّيه حتى قدمت به على حي من عك فاستعانتهم عليه فأوثقوه رباطاً ، وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى البحر فركب سفينة وجعلت تليح إليه وتقول : يا ابن عم جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس وخير الناس ، لا تهلك نفسك . فرجع وأسلم . وزعموا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : لا تسبوا أبا جهل ، ولا يصح ذلك . وقد عظموا عكرمة حتى ادَّعوا أنه ( صلى الله عليه وآله ) رأى في منامه أنه دخل الجنة ورأى فيها عذقاً فأعجبه وقال : لمن هذا ؟ فقيل : لأبى جهل ! وأنه حين أسلم قام إليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) واعتنقه ، وقال : مرحباً بالراكب المهاجر .

وكان عكرمة من المحرضين على حرب أحُد ، وكان على ميسرة المشركين وخالد بن الوليد على ميمنتهم ، وقد عبر الخندق يوم الأحزاب مع عمرو بن عبد ود ، وضرار بن الخطاب الفهري ، وهبيرة بن أبي وهب ، ونوفل بن عبد الله . وفى بدر قتل من المسلمين رافع بن المعلى الزرقي ، وضرب معاذ بن عمرو بن الجموح على عاتقه فطرح يده حين رآه قتل أباه أبا جهل .

وكان من المناوئين لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولعل هذا هو السبب في إغداقهم الأوسمة عليه ونسجهم له الكرامات .

2 - صفوان بن أمية : هرب مع عبد له اسمه يسار إلى جدة ، ليذهب إلى اليمن فقال عمير بن وهب : يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومي وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر ، فأمنه صلى الله عليك . قال : هو آمن . فقال : أعطني آية يعرف بها أمانك ، فأعطاه عمامته التي دخل بها مكة ، فخرج عمير حتى أدركه فقال : يا أبا وهب جعلت فداك ، جئت من عند أبر الناس ، وأوصل الناس ، فداك أبي وأمي ، الله الله في نفسك أن تهلكها ، هذا أمان من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد جئتك به . قال : ويحك أُغرب عنى فلا تكلمني إني أخافه على نفسي ! قال : هو أحلم من ذلك وأكرم . قال : ولا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها . فرجع معه صفوان حتى انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يصلى بالمسلمين العصر في المسجد ، فلما سلم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صاح صفوان : يا محمد إن عمير بن وهب جاءني ببردك وزعم : أنك دعوتني إلى القدوم عليك ، فإن رضيت أمراً وإلا سيرتنى شهرين . فقال : إنزل أبا وهب . قال : لا والله حتى تبين لي . قال : بل لك تسيير أربعة أشهر . فنزل صفوان . ولما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى هوازن أرسل إليه يستعير سلاحه ، فأعاره سلاحه مائة درع بأداتها ، فقال : طوعاً أو كرهاً ؟ . قال ( صلى الله عليه وآله ) : عارية مؤداة فأعاره فأمره رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فحملها إلى حنين ، فشهد حنيناً والطائف ، ثم رجع إلى الجعرانة ، فبينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يسير في الغنائم ينظر إليها ، وفرق غنائمها فرأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صفوان ينظر إلى شعب ملآن نعماً وشاء ورعاء ، فأدام النظر إليه ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يرمقه ، فقال : يا أبا وهب يعجبك هذا الشعب ؟ قال : نعم . قال : هو لك وما فيه . فقبض صفوان ما في الشعب ، وقال عند ذلك : ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله . وأسلم مكانه !

ومع هذاتجدهم يعظمون أمثال صفوان ويعتقدون عدالته ! فما أعجب أمرهم !

3 - عبد العزى بن خطل : أهدر النبي ( صلى الله عليه وآله ) دمه وكان أسلم فسماه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عبد الله وهاجر إلى المدينة ، وبعثه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ساعياً وبعث معه رجلاً وكان يصنع له طعامه ويخدمه ، فعدى عليه فضربه فقتله وارتد عن الإسلام ، وساق ما أخذ من الصدقة وهرب إلى مكة ، وقال : لم أجد ديناً خيراً من دينكم !

وكان يقول الشعر يهجو به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وكانت له قينتان فاسقتان يأمرهما أن تغنيا بهجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . ولما دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى ذي طوى أقبل ابن خطل من أعلى مكة مدججاً بالحديد على فرس وبيده قناة ، فمر ببنات سعيد بن العاص فقال لهن : أما والله لا يدخلها محمد حتى ترين ضرباً كأفواه المزاد .

ثم رأى خيل الله فدخله رعب فنزل عن فرسه وطرح سلاحه وأتى البيت فدخل تحت أستاره . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أقتلوه ، إن الكعبة لا تعيذ عاصياً ، ولا تمنع من إقامة حد واجب ، فقتله سعيد بن حريث وأبو برزة .

4 - عبد الله بن سعد بن أبي سرح : وإنما أمر بقتله لأنه كان أسلم قبل الفتح ، وكان يكتب لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الوحي وكان إذا أملى عليه : سميعاً بصيراً ، كتب عليماً حكيماً ! وإذا أملى عليه : عليماً حكيماً كتب غفوراً رحيماً ! وكان يفعل مثل هذه الخيانات حتى صدر عنه أنه قال : إن محمداً لا يعلم ما يقول ! فلما ظهرت خيانته لم يستطع أن يقيم بالمدينة فارتدّ وهرب إلى مكة وقال : إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلي ! وعندما دخل النبي ( صلى الله عليه وآله ) مكة لجأ ابن سرح إلى عثمان بن عفان أخيه من الرضاعة فقال له : يا أخي استأمن لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن يضرب عنقي ! فغيبه عثمان حتى هدأ الناس واطمأنوا فاستأمن له وأتى به إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأعرض عنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فصار عثمان يقول : يا رسول الله أمنته والنبي ( صلى الله عليه وآله ) يعرض عنه ! ثم قال : نعم ، فبسط يده فبايعه ، فلما خرج عثمان وعبد الله قال ( صلى الله عليه وآله ) لمن حوله : أعرضت عنه مراراً ، ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه !

فقال عباد بن بشر : يا رسول الله خفتك ، أفلا أومضتَ إلى أي أومأت ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إنه ليس لنبي أن يومض . إن النبي لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين .

وعندما صار عثمان خليفة ولاه على مصر ! وشكاه المصريون إلى عثمان فقَتَل بعض من اشتكوا عليه فكان ذلك من أسباب خروج المصريين على عثمان حتى قتل ! وذكر عكرمة والحسن البصري أن الذين توسطوا لابن أبي سرح هم : أبو بكر وعمر وعثمان .

5 - عبد الله بن الزبعري : كان شاعراً يهجو النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين ويحرض عليهم كفار قريش ، وهو الذي تمثَّل يزيد بأبياته لما جئ له برأس الحسين ( عليه السلام ) فأخذ ينكت ثنايا الإمام ( عليه السلام ) بقضيب في يده . وهو الذي ألقى الفرث والدم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو يصلى ثم جاء أبو طالب وسل سيفه ، فأمرَّ ذلك الفرث على لحاهم وشواربهم ! ويوم الفتح سمع أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أهدر دمه فهرب إلى نجران وسكنها فأرسل اليه حسان بن ثابت بأبيات فجاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : السلام عليك يا رسول الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك عبده ورسوله ، الحمدالله الذي هداني للإسلام ، لقد عاديتك وأجلبت عليك ، وقال :

يا رسول المليك إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بور

إذ أبارى الشيطان في سنن الغي * ومن مال ميله مثبور

آمن اللحم والعظام لربي * ثم قلبي الشهيد أنت النذير

إنني عنك زاجر ثم حيا * من لؤي وكلهم مغرور

وقال أيضاً حين أسلم :

منع الرقاد بلابل وهموم * والليل معتلج الرواق بهيم

مما أتاني أن أحمد لامني * فيه فبت كأنني محموم

يا خير من حملت على أوصالها * عيرانة سرح اليدين غشوم

إني لمعتذر إليك من الذي * أسديت إذ أنا في الضلال أهيم

أيام تأمرني بأغوى خطة * سهم وتأمرنى بها مخزوم

وأمد أسباب الردى ويقودني * أمر الوشاة وأمرهم مشؤم

فاليوم آمن بالنبي محمد * قلبي ومخطئ هذه محروم

مضت العداوة فانقضت أسبابها * ودعت أواصر بيننا وحلوم

فاغفر فدى لك والداي كلاهما * زللى فإنك راحم مرحوم

وعليك من علم المليك علامة * نور أغر وخاتم مختوم

أعطاك بعد محبة برهانه * شرفاً وبرهان الإله عظيم

ولقد شهدت بأن دينك صادق * حق وأنك في العباد جسيم

والله يشهد أن أحمد مصطفي * مستقبل في الصالحين كريم

قرم علا بنيانه من هاشم * فرع تمكن في الذرى وأروم

6 - الحويرث بن نقيد كان يؤذى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونخس بزينب بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما هاجرت إلى المدينة فرمى بها عن بعيرها ، فأهدر النبي ( صلى الله عليه وآله ) دمه فخرج في مكة يوم الفتح يريد أن يهرب فتلقاه على ( عليه السلام ) فضرب عنقه .

7 - هبار بن الأسود : كان شديد الأذى للمسلمين ، وتعرض لزينب بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما هاجرت فنخس بها أو ضربها بالرمح ، فسقطت عن راحلتها فأسقطت ولم يزل ذلك المرض بها حتى ماتت ! فلما كان يوم الفتح وبلغه أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أهدر دمه أعلن بالإسلام فقبله منه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعفا عنه . وزعموا : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : إن لقيتم هباراً هذا فأحرقوه ، ولا يصح قولهم .

ونقول : إذا كان ( صلى الله عليه وآله ) قد أهدر دم هبار بن الأسود والحويرث بن نقيد لأنهما روَّعا زينب وأوقعاها عن الراحلة إلى الأرض ، فماذا سيكون موقفه ( صلى الله عليه وآله ) ممن ضرب فاطمة « عليها السلام » وأسقط جنينها وكسر ضلعها وتسبب لها بعلَّتها التي ماتت منها فكانت صدِّيقة شهيدة ؟ !

8 - الحارث بن هشام : أخو أبى جهل لأبويه . وقد أسلم بعد ذلك .

9 - زهير بن أمية : وكان قد استجار بأم هانى وأراد على ( عليه السلام ) قتله فأمضى النبي ( صلى الله عليه وآله ) جوارها وأسلم بعد ذلك .

10 - عبد الله بن ربيعة : ذكره الأزرقي بدل زهير بن أمية .

11 - زهير بن أبي سلمى الشاعر .

12 - مقيس بن صبابة : كان أسلم ثم أتى على رجل من الأنصار فقتله وارتد ، فقتله نميلة بن عبد الله بحكم النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوم الفتح .

13 - الحويرث بن الطلاطل الخزاعي : كان يؤذى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، قتله على ( عليه السلام ) .

14 - كعب بن زهير : وهو الشاعر الذي كان يهجو رسول الله وجاء بعد ذلك فأسلم ، ومدحه بقصيدة : بانت سعاد .

15 - وحشى بن حرب : قاتل حمزة في حرب أحُد ، وقد هرب في فتح مكة إلى الطائف فلما أسلم أهلها جاء مع وفدهم فقال له ( صلى الله عليه وآله ) : غيب عنى وجهك !

16 - هبيرة بن أبي وهب : زوج أم هانى يقال : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أهدر أيضاً دمه .

17 - سارة : مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وكانت مغنية نواحّة بمكة تغنى بهجاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقالوا : استؤمن لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأمنها ، فأسلمت وعاشت إلى خلافة عمر بن الخطاب .

18 - أرنب مولاة ابن خطل .

19 - فرتني : أو قرينا .

20 - قريبة ويقال : هي أرنب السابقة . وهما قينتان لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاستؤمن لإحداهما فأسلمت وقتلت الأخري ، قتلها على ( عليه السلام ) .

21 - أم سعد : قتلت فيما ذكره ابن إسحاق ، ويحتمل أن تكون هي أرنب .

22 - هند بنت عتبة : وهى التي لاكت كبد حمزة بن عبد المطلب ( عليه السلام ) . أتت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو بالأبطح فأسلمت وقالت : الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه ، لتمسنى رحمتك يا محمد ، إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة به . ثم كشفت عن نقابها فقالت : أنا هند بنت عتبة . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : مرحباً بك . وقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح فهل على حرج أن أطعم من ماله عيالنا ؟ فقال : لاحرج عليك أن تطعميهم بالمعروف .

15 - علي « عليه السلام » ينفذ أمر النبي « صلى الله عليه وآله » فتعترضه أخته أم هاني !

قال في إعلام الوري : 1 / 223 : « عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى المسلمين أن لا يقتلوا بمكة إلا من قاتلهم ، سوى نفر كانوا يؤذون النبي ( صلى الله عليه وآله ) منهم : مقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وعبد الله بن خطل ، وقينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : أقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة . فأدرك ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً فقتله . وقتل مقيس بن صبابة في السوق . وقتل على ( عليه السلام ) إحدى القينتين وأفلتت الأخري ، وقتل ( عليه السلام ) أيضاً الحويرث بن نقيذ بن كعب . وبلغه أن أم هانئ بنت أبي طالب قد آوت ناساً من بنى مخزوم ، منهم الحارث بن هشام وقيس بن السائب ، فقصد نحو دارها مقنعاً بالحديد فنادي : أخرجوا من آويتم ! فجعلوا يذرقون كما تذرق الحبارى خوفاً منه « اطائر كبير السلحة ! » فخرجت إليه أم هانى وهى لاتعرفه فقالت : يا عبد الله ، أنا أم هانى بنت عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخت علي بن أبي طالب ، انصرف عن داري . فقال على ( عليه السلام ) : أخرجوهم ! فقالت : والله لأشكونك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فنزع المغفر عن رأسه فعرفته فجاءت تشتد حتى التزمته فقالت : فديتك حلفت لأشكونك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فقال لها : فاذهبي فبرى قسمك ، فإنه بأعلى الوادي . قالت أم هاني : فجئت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو في قبة يغتسل وفاطمة « عليها السلام » تستره ، فلما سمع رسول الله كلامي قال : مرحباً بك يا أم هاني . قلت : بأبى وأمي ما لقيت من على اليوم ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : قد أجرتُ من أجرتِ ! فقالت فاطمة « عليها السلام » : إنما جئت يا أم هانئ تشكين علياً في أنه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله ! فقلت : إحتملينى فديتك ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قد شكر الله لعلى سعيه ، وأجرت من أجارت أم هانئ لمكانها من علي بن أبي طالب » !

« وروت مصادرهم مجئ أم هانى إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعفوه عن المخزوميين الذين أجارتهم ، واتفقوا على أن علياً ( عليه السلام ) لم يدخل البيت ، مع أنه يحمل أمراً قضائياً من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأن أم هانى لم تخرجهم بل أغلقت الغرفة عليهم ، وذهبت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) تشتكي علياً ( عليه السلام ) ! وروى أن أم هانى أمسكت بساعد على ( عليه السلام ) لتمنعه من دخول دارها ، فكشف قناعه فعرفته ، وأن ذلك أعجب النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : لله در أبى طالب ! لو ولد الناس كلهم كانوا شجعاناً » . كشف الغمة : 2 / 235 .

كما رووا أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يدخل بيت أحد في مكة إلا بيت أم هاني !

ففي مجمع الزوائد : 6 / 175 : « دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على أم هانئ بنت أبي طالب يوم الفتح وكان جائعاً . وقال هل عندك من طعام نأكله ؟ فقالت : ليس عندي إلا كسر يابسة ، وإني لأستحى أن أقدمها إليك ! فقال : هلمى بهن فكسرهن في ماء وجاءت بملح فقال : هل من إدام ؟ فقالت ما عندي يا رسول الله إلا شئ من خل . فقال : هلميه فصبيه على الطعام فأكل منه ثم حمد الله ، ثم قال : نعم الإدام الخل يا أم هانئ لا يفتقر بيت فيه خل » . وذخائر العقبي / 223 والطبراني الصغير : 2 / 67 .

16 - النبي « صلى الله عليه وآله » ينصب حاكماً لمكة

كان على زعماء قريش أن يتفهموا الوضع الجديد ، فقد داهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) مكة بألوف من جنود الله تعالى وأجبرهم على الاستسلام وخلع سلاحهم ، وبذلك صاروا أسرى حرب في يده ، وكان من حقه أن يضرب أعناقهم ويغنم أموالهم ، لكنه منَّ عليهم وأطلقهم ! فكان عليهم أن يشكروه ويقبلوا بالحاكم الذي ينصبه لمكة . لكنهم لم يفعلوا ! وفى الأيام الأولى لدخوله مكة عين النبي ( صلى الله عليه وآله ) حاكماً هو الشاب الأموي عَتَّاب بن أسَيد ، وجعل معه أنصارياً يساعده هو معاذ بن جبل ، وجعل عتاباً نائبه في الصلاة .

ففي المسترشد / 129 : « استخلف عتاب ابن أسيد على مكة ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مقيم بالأبطح ، وأمره أن يصلى بالناس بمكة الظهر والعصر والعشاء الآخرة ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصلى بهم الفجر والمغرب » .

وفى إعلام الوري : 1 / 243 : « استخلف عتاب بن أسيد وخلف معه معاذاً يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن ، وحج بالناس في تلك السنة وهى سنة ثمان عتاب بن أسيد . ثم كانت غزوة تبوك . وبعث إلى عتاب بن أسيد عامله على مكة يستنفرهم لغزو الروم » .

وفى المغني : 4 / 372 : « واستخلف النبي عتاب بن أسيد على مكة ، والياً وقاضياً » .

وفى الدرر / 236 و 237 : « واستخلف على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص ، وهو ابن نيف وعشرين سنة . . وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام ، وحج المشركون على مشاعرهم . وكان عتاب بن أسيد خيراً فاضلاً ورعاً » .

وقال ابن هشام : 4 / 891 : « استعمل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس على مكة ، أميراً على من تخلف عنه من الناس ، ثم مضى رسول الله على وجهه يريد لقاء هوازن » .

17 - بعث النبي « صلى الله عليه وآله » سرايا إلى المناطق القريبة من مكة

في إعلام الوري : 1 / 227 : « وبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) السرايا فيما حول مكة يدعون إلى الله عز وجل ، ولم يأمرهم بقتال ، فبعث غالب بن عبد الله إلى بنى مدلج فقالوا : لسنا عليك ولسنا معك ، فقال الناس : أغزهم يا رسول الله ، فقال : إن لهم سيدا أديباً أريباً ، ورب غاز من بنى مدلج شهيد في سبيل الله .

وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى بنى الديل فدعاهم إلى الله ورسوله ، فأبوا أشد الإباء فقال الناس : أغزهم يا رسول الله ، فقال : أتاكم الآن سيدهم قد أسلم فيقول لهم : أسلموا ، فيقولون : نعم . وبعث عبد الله بن سهيل بن عمرو إلى بنى محارب بن فهر ، فأسلموا وجاء معه نفر منهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » .

18 - بعث خالد بن الوليد في سرية فغدر بهم

في إعلام الوري : 1 / 228 : « بعث خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة بن عامر ، وقد كانوا أصابوا في الجاهلية من بنى المغيرة نسوة وقتلوا عم خالد ، فاستقبلوه وعليهم السلاح وقالوا : يا خالد إنا لم نأخذ السلاح على الله وعلى رسوله ونحن مسلمون فانظر فإن كان بعثك رسول الله ساعياً فهذه إبلنا وغنمنا فاغد عليها ، فقال : ضعوا السلاح ، قالوا : إنا نخاف منك أن تأخذنا بإحنة الجاهلية وقد أماتها الله ورسوله . فانصرف عنهم بمن معه فنزلوا قريباً ثم شن عليهم الخيل فقتل وأسر منهم رجالاً ثم قال : ليقتل كل رجل منكم أسيره فقتلوا الأسري !

وجاء رسولهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأخبره بما فعل خالد بهم ، فرفع ( عليه السلام ) يده إلى السماء وقال : اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد ، وبكي ! ثم دعا علياً ( عليه السلام ) فقال : أخرج إليهم وانظر في أمرهم وأعطاه سفطاً من ذهب ، ففعل ما أمره وأرضاهم » .

وفى أمالي الصدوق / 237 : « عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خالد بن الوليد إلى حي يقال لهم بنو المصطلق من بنى جذيمة ، وكان بينهم وبين بنى مخزوم إحنة في الجاهلية ، فلما ورد عليهم كانوا قد أطاعوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخذوا منه كتاباً ، فلما ورد عليهم خالد أمر منادياً فنادى بالصلاة فصلى وصلوا فلما كانت صلاة الفجر أمر مناديه فنادى فصلى وصلوا ، ثم أمر الخيل فشنوا فيهم الغارة فقتل وأصاب فطلبوا كتابهم فوجدوه فأتوا به النبي ( صلى الله عليه وآله ) وحدثوه بما صنع خالد بن الوليد ، فاستقبل القبلة ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ! قال : ثم قدم على رسول الله تبر ومتاع ، فقال لعلى ( عليه السلام ) : يا علي إئت بنى جذيمة من بنى المصطلق فأرضهم مما صنع خالد . ثم رفع ( صلى الله عليه وآله ) قدميه فقال : يا علي ، اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك ! فأتاهم على ( عليه السلام ) فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله ، فلما رجع إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا علي أخبرني بما صنعت ، فقال : يا رسول الله عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة ، ولكل مال مالاً ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لا يعلمون ، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي أعطيتهم ليرضوا عني ، رضى الله عنك يا علي ، إنما أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » .

وفى أمالي الطوسي / 498 : « فأدى إليهم ديات رجالهم ، وما ذهب لهم من أموالهم ، وبقى معه من المال زعبة فقال لهم : هل تفقدون شيئاً من أموالكم وأمتعتكم ؟ فقالوا : ما نفقد شيئاً إلا ميلغة كلابنا فدفع إليهم ما بقي من المال فقال هذا لميلغة كلابكم وما أنسيتم من متاعكم . وأقبل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : ما صنعت ؟ فأخبره حتى أتى على حديثهم فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أرضيتنى رضى الله عنك يا علي أنت هادي أمتي ، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك ، ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة » .

أقول : روته مصادرهم وحذفوا منه مدح النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلى ( عليه السلام ) ! وتجاهلوا براءة النبي ( صلى الله عليه وآله ) من فعل خالد ، وحاولوا تبرير فعل خالد بأنه لم يفهم كلام بنى جذيمة فأسرهم وقتلهم ! وتجرأ بعض المتأخرين وهو العقاد في كتابه عبقرية عمر ، فأدان خالداً قال : « بعث رسول الله خالداً إلى بنى جذيمة داعياً إلى الإسلام ولم يبعثه للقتال وأمره ألا يقاتل أحداً إن رأى مسجداً أو سمع أذاناً . ثم وضع بنو جذيمة السلاح بعد جدال بينهم واستسلموا فأمر بهم خالد فكتفوا ! ثم عرضهم السيف فقتل منهم وأفلت من القوم غلام يقال له السميدع حتى اقتحم على رسول الله وأخبره وشكاه إليه » . النص والاجتهاد / 460 .

قتل خالد عاشقاً غريباً ولم يرحمه

وروى ابن حجر في فتح الباري : 8 / 46 حالة مؤثرة من مجزرة خالد في بنى جذيمة ! قال : « وذكر ابن إسحاق من حديث ابن أبي حدرد الأسلمي قال : كنت في خيل خالد ، فقال لي فتى من بنى جذيمة قد جمعت يداه في عنقه برمَّة « حبل » : يا فتى هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدى إلى هؤلاء النسوة ؟ فقلت : نعم ، فقدته ، ثم ضربتُ عنق الفتى فأكبت عليه فما زالت تقبله حتى ماتت !

وقد روى النسائي والبيهقي في الدلائل بسند صحيح من حديث ابن عباس نحو هذه القصة ، وقال فيها : فقال إني لست منهم إني عشقت امرأة منهم فدعونى أنظر إليها نظرة ! فضربوا عنقه فجاءت المرأة فوقعت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت ! فذكروا ذلك للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أما كان فيكم رجل رحيم » !

ونقل ابن هشام : 4 / 883 قول عبد الرحمن بن عوف لخالد : كذبت ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة !

وروى الطبري : 2 / 342 حوار العاشِقَين شعراً ، وقال : « قامت إليه حين ضربت عنقه فأكبت عليه ، فما زالت تقبله حتى ماتت عنده » !

19 - قريش تعزل أبا سفيان وتنصب بدله سهيل بن عمرو

اعتبر زعماء قريش أن أبا سفيان خانهم فوافق على استسلام قريش وخلع سلاحها بدون شروط لمصلحتها ، ومال إلى محمد ( صلى الله عليه وآله ) تعصباً للمنافية أي لجدهم المشترك عبد مناف ! وإنه يطمع بمناصب لبنى أمية في دولة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وهاهو محمد ينصب حاكماً أموياً على مكة ، مجازاة لأبى سفيان !

وكانوا معجبين بسهيل بن عمرو الذي انتزع من محمد في الحديبية شروطاً لمصلحتهم ، لذلك قاموابعزل أبي سفيان عن قيادة قريش ، ونصبوا سهيل بن عمرو ، ونشطوا في دعمه والالتفاف حوله !

وقد كتبنا في آيات الغدير / 138 ، أن سهيلاً تصرف بعد فتح مكة وكأن شيئاً لم يحدث وتجاهل حاكم مكة الذي نصبه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وكتب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) مطالباً بأناس جاؤوا من مكة اليه ليتفقهوا في الدين ، وجاء إلى المدينة مطالباً بهم ، ونزل عند أبي بكر وعمر ، فذهبا معه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأيدا مطلبه ! يقول بذلك للنبي ( صلى الله عليه وآله ) هؤلاء أولادنا وعبيدنا هربوا منا وجاؤوك ، فإن كانت حجتهم التفقه فنحن نفقههم في الدين ، فأرجعهم إلينا !

ومعنى ذلك أن قريشاً بقيت على كبريائها ولم تعترف بالحاكم الشرعي لمكة ، وتريد منه الاعتراف بأنها وجود سياسي في مقابله !

روى الحاكم في المستدرك : 2 / 138 : « عن ربعي بن حراش عن علي قال : لما افتتح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مكة أتاه ناس من قريش فقالوا : يا محمد إنا حلفاؤك وقومك ، وإنه لَحِقَ بك أرقاؤنا ليس لهم رغبة في الإسلام ، وإنما فروا من العمل فارددهم علينا ! فشاور أبا بكر في أمرهم فقال : صدقوا يا رسول الله ! فقال لعمر : ماتري ؟ فقال مثل قول أبى بكر . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا معشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للإيمان فيضرب رقابكم على الدين ! فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا . قال عمر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنه خاصف النعل في المسجد وقد كان ألقى نعله إلى علي يخصفها . هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه » .

ورواه الحاكم : 4 / 298 ، وصححه بشرط مسلم وفيه : « لما افتتح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مكة أتاه أناس من قريش . . يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلاً فيضرب أعناقكم على الدين ، ثم قال : أنا أو خاصف النعل ، قال علي : وأنا أخصف نعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) » .

لقد جاؤوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في عاصمته يطالبونه بالاعتراف باستقلالهم ، وهى وقاحة ما فوقها وقاحة ! وقالوا له « يا محمد » كما رواه الحاكم وأبو داود : 1 / 611 ! لكن الترمذي جعلها : « يا رسول الله » ! وحاول بعض علماء قريش أن يجعل الحديث قبل فتح مكة ، لكن نصوصه ذكرت أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) غضب من طلبهم وهو لا يغضب إلا بحق ! فلو كان طلبهم قبل نقضهم العهد وفتح مكة لكان حقاً لهم لا يوجب الغضب ! ومما يؤكد أنه بعد فتح مكة أنه ( صلى الله عليه وآله ) قال : « يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة » ولا يمكن أن يطالبهم بالصلاة قبل فتح مكة ! وقول سهيل « سنفقههم » وهذا لا يقوله إلا الطلقاء الذين يدعون الإسلام ! مضافاً إلى أن رواية الحاكم وغيرها صرحت بأنه بعد فتح مكة .

ونلاحظ أن سهيل بن عمر ومن أيده اعتبروا أن فتح مكة « ودخولهم » في الإسلام لا يعنى خضوعهم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وذوبانهم في الأمة الإسلامية ، بل هو تحالف الند للند مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! فعليه الآن أن يعترف بكيانهم القرشي المستقل ! ويعيد لهم الفارين إليه من أبنائهم وعبيدهم ! والعنصر الجديد في الأمر أن أبا بكر وعمر أيدا مطلبهم ! فقال أبو بكر : « صدقوا يا رسول الله ! وقال عمر مثل قوله : صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم » ! الحاكم : 3 / 122 ، الزوائد : 9 / 134 و 5 / 186 وصححه .

وجاء الرد النبوي غاضباً حاسماً ، فأعلن يأسه من أن تصلح قريش ويحسن إسلامها إلا بقوة السيف ! ففي عدد من روايات الحادثة كالحاكم : 2 / 125 : « فقال : ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا » أي على الإسلام ! وأبو داود : 1 / 611 ، البيهقي : 9 / 229 وكنز العمال : 10 / 473 !

وهو تصريح بأنهم لم يسلموا ولن يسلموا إلا تحت سيف على الذي ترتعد منه فرائصهم ، فهذا هو الدواء الوحيد لفراعنة قريش !

وفى تلك الفترة أكمل النبي ( صلى الله عليه وآله ) تهديده « لمسلمة » الفتح بأن أمر علياً ( عليه السلام ) أن يعلن الحرب عليهم إن هم أعلنوا ارتدادهم بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) !

فقد روى في مجمع الزوائد : 9 / 134 : « عن ابن عباس : إن علياً كان يقول في حياة رسول الله : إن الله عز وجل يقول : أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ! والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى . والله لئن مات أو قتل ( صلى الله عليه وآله ) لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت ! لا والله ، إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه ، فمن أحق به مني ؟ ! » .

وأشد ما في موقف النبي ( صلى الله عليه وآله ) حكمه بكفرهم ! ولعمرى إن مجرد طلبهم كاف لإثبات كفرهم ! ثم إنه ( صلى الله عليه وآله ) أبى أن يرد عليهم أولادهم وعبيدهم المملوكين ، وأخبرهم أنه أعتقهم فصاروا عتقاء الله تعالى ، ومعناه أنه اعتبرهم من أموال الكفار التي أحلها له الله تعالى ! ولو كان الطلقاء مسلمين وكانت ملكيتهم محترمة لم يجز للنبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يعتق عبيدهم ، فهو أتقى الأتقياء ( صلى الله عليه وآله ) وهو القائل : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه !

وهكذا دخلت قريش بعد فتح مكة معركة « استقلال مكة » مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) والحاكم الذي نصبه عليهم ، وحاول عتاب أن يلزمهم بالصلاة والزكاة وهم يتملصون ، ولا يعرفون حاكماً لهم إلا سهيل بن عمرو !

ففي السيرة الحلبية : 3 / 59 : « فكان شديداً على المريب ليناً على المؤمن وقال : والله لا أعلم متخلفاً يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه ، فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق ! فقال أهل مكة : يا رسول الله لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد ، أعرابياً جافياً ! فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إني رأيت فيما يرى النائم كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالاً شديداً حتى فتح له فدخلها ، فأعز الله به الإسلام فنصرته للمسلمين على من يريد ظلمهم .

ولما ولاه على مكة جعل له في كل يوم درهماً . ويروى أنه قام فخطب الناس فقال : أيها الناس ، أجاع الله كبد من جاع على درهم أي له درهم ، فقد رزقني رسول الله درهماً في كل يوم فليست لي حاجة إلى أحد » . وبعضه ابن هشام : 4 / 936 .

وبقى عتَّاب والياً على مكة والطائف من قبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأمره أن يحج بالناس في تلك السنة لكن القرشيين لم يحجوا معه !

قال اليعقوبي : 2 / 76 : « فوقف عتاب بالمسلمين ، ووقف المشركون على حدتهم » .

وتواصلت مؤامرتهم على عتاب ، وكانت أول أعمالهم لأخذ خلافة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإبعاد عترته « عليهم السلام » ! فقد كانت قريش تعتبر عتاباً من « عُبَّاد محمد » الذين يريدون فرض عترته بعده ! وقد جاءتهم الفرصة لقتله عندما جاءهم خبر وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) فشاع في مكة أن قريشاً ارتدت عن الإسلام ، وخاف منهم عتَّاب فاختبأ ، مع أنه مكي قرشي أموي ! وعندما وصلهم خبر يطمئنهم بعزل بني هاشم وبيعة أبى بكر اطمأن سهيل بن عمرو وخطب في قريش بنفس خطبة أبى بكر في المدينة ، وقال كلمتهم المشهورة : من كان يعبد محمداً فإن إلهه قد مات ، ونحن لا نعبد محمداً ، بل هو رسول بلغ رسالته ومات ، وهو ابن قريش وسلطانه سلطان قريش ، وقد اختارت قريش حاكماً لنفسها بعده وهو أبو بكر ، فاسمعوا له وأطيعوا . وأصدر سهيل أمره إلى عتاب الحاكم : أخرج من مخبئك واحكم مكة ، لكن ليس باسم رسول الله ، بل باسم الزعيم القرشي أبى بكر بن أبي قحافة » !

قال ابن هشام : 4 / 1079 : « حدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم أن أكثر أهل مكة لما توفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هموا بالرجوع عن الإسلام وأرادوا ذلك ، حتى خافهم عتاب بن أسيد فتواري ! فقام سهيل بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله ، وقال : إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة ، فمن رابنا ضربنا عنقه ، فتراجع الناس وكفوا عما هموا به ، وظهر عتاب بن أسيد » !

ومن الواضح أن عتاباً بقي حاكماً إسمياً لأن أبا بكر لم يرد عزل ولاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى لا يقال نصبهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعزلهم أبو بكر ! أما الحاكم الحقيقي لمكة فكان سهيل بن عمرو ! ولم يطل الأمر بعتاب حتى قتلوه ! فهو أحد من يجب تصفيتهم لتصل الخلافة إلى عمر ! قال الطبري : 2 / 611 : « ومات عتاب بن أسيد بمكة في اليوم الذي مات فيه أبو بكر ، وكانا سُمَّا جميعاً « في المدينة »

ثم مات عتاب بمكة » !

قتلوه بالسم في ريعان شبابه « رحمه الله » ، لأنه كان متمسكاً بالنص النبوي ، موالياً لعترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولم يكن كأبى سفيان عارضهم حتى وصل اليه سهم فدعا لأبى بكر !

قال الطبري : 2 / 449 : « لما استخلف أبو بكر قال أبو سفيان : ما لنا ولأبى فصيل ؟ ! إنما هي بنو عبد مناف ! قال فقيل له : إنه قد ولَّى ابنك ! قال : وصلته رحم » !




يحفل التاريخ الاسلامي بمجموعة من القيم والاهداف الهامة على مستوى الصعيد الانساني العالمي، اذ يشكل الاسلام حضارة كبيرة لما يمتلك من مساحة كبيرة من الحب والتسامح واحترام الاخرين وتقدير البشر والاهتمام بالإنسان وقضيته الكبرى، وتوفير الحياة السليمة في ظل الرحمة الالهية برسم السلوك والنظام الصحيح للإنسان، كما يروي الانسان معنوياً من فيض العبادة الخالصة لله تعالى، كل ذلك بأساليب مختلفة وجميلة، مصدرها السماء لا غير حتى في كلمات النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) وتعاليمه الارتباط موجود لان اهل الاسلام يعتقدون بعصمته وهذا ما صرح به الكتاب العزيز بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، فصار اكثر ايام البشر عرفاناً وجمالاً (فقد كان عصرا مشعا بالمثاليات الرفيعة ، إذ قام على إنشائه أكبر المنشئين للعصور الإنسانية في تاريخ هذا الكوكب على الإطلاق ، وارتقت فيه العقيدة الإلهية إلى حيث لم ترتق إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم ، فقد عكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روحه في روح ذلك العصر ، فتأثر بها وطبع بطابعها الإلهي العظيم ، بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتجاه إلا نحو المبدع الأعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار الوجود)





اهل البيت (عليهم السلام) هم الائمة من ال محمد الطاهرين، اذ اخبر عنهم النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) باسمائهم وصرح بإمامتهم حسب ادلتنا الكثيرة وهذه عقيدة الشيعة الامامية، ويبدأ امتدادهم للنبي الاكرم (صلى الله عليه واله) من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) الى الامام الحجة الغائب(عجل الله فرجه) ، هذا الامتداد هو تاريخ حافل بالعطاء الانساني والاخلاقي والديني فكل امام من الائمة الكرام الطاهرين كان مدرسة من العلم والادب والاخلاق استطاع ان ينقذ امةً كاملة من الظلم والجور والفساد، رغم التهميش والظلم والابعاد الذي حصل تجاههم من الحكومات الظالمة، (ولو تتبّعنا تاريخ أهل البيت لما رأينا أنّهم ضلّوا في أي جانب من جوانب الحياة ، أو أنّهم ظلموا أحداً ، أو غضب الله عليهم ، أو أنّهم عبدوا وثناً ، أو شربوا خمراً ، أو عصوا الله ، أو أشركوا به طرفة عين أبداً . وقد شهد القرآن بطهارتهم ، وأنّهم المطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون ، كما أنعم الله عليهم بالاصطفاء للطهارة ، وبولاية الفيء في سورة الحشر ، وبولاية الخمس في سورة الأنفال ، وأوجب على الاُمّة مودّتهم)





الانسان في هذا الوجود خُلق لتحقيق غاية شريفة كاملة عبر عنها القرآن الحكيم بشكل صريح في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وتحقيق العبادة أمر ليس ميسوراً جداً، بل بحاجة الى جهد كبير، وافضل من حقق هذه الغاية هو الرسول الاعظم محمد(صلى الله عليه واله) اذ جمع الفضائل والمكرمات كلها حتى وصف القرآن الكريم اخلاقه بالعظمة(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، (الآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك) فقد جمعت الفضائل كلها في شخص النبي الاعظم (صلى الله عليه واله) حتى غدى المظهر الاولى لأخلاق رب السماء والارض فهو القائل (أدّبني ربي بمكارم الأخلاق) ، وقد حفلت مصادر المسلمين باحاديث وروايات تبين المقام الاخلاقي الرفيع لخاتم الانبياء والمرسلين(صلى الله عليه واله) فهو في الاخلاق نور يقصده الجميع فبه تكشف الظلمات ويزاح غبار.