أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-7-2022
1581
التاريخ: 30-1-2017
2287
التاريخ: 11-4-2017
2319
التاريخ: 2023-09-04
1054
|
لقد أولى الإسلام اهتماماً كبيراً بمسألة الشخصية الاجتماعية للفرد من ناحية الصفات الطبيعية والمكتسبة وكذلك مسألة التآلف مع الناس وحسن معاشرتهم. وقد أشارت الأحاديث النبوية الشريفة والروايات الواردة عن أئمة الهدى سلام الله عليهم أجمعين ، إلى الصفات الحميدة لإحراز الشخصية وأهمية التآلف مع الناس. نورد هنا بعضاً منها :
عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في آخر خطبته : طوبى لمن طاب خلقه وطهرت سجيته وصلحت سريرته وحسنت علانيته وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله وأنصف الناس من نفسه(1).
وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): المؤمن مألوف ولا خير لمن لا يألف ولا يؤلف(2) . وعن عبسة بن العابد قال : قال لي أبوعبد الله الصادق (عليه السلام) : ما يَقدَمُ المؤمن على الله عز وجل بعمل بعد الفرائض أحب إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخلقه(3).
من العوامل المهمة والأساسية لإحراز الشخصية والتكيف مع المحيط الاجتماعي، اعتماد المرونة والليونة إزاء الأحداث الاجتماعية. فأولئك الذين يواجهون المستجدات بحكمة وتعقل ويجتنبون الشدة والصلابة والتعصب غير المطلوب، باستطاعتهم تذليل العقبات والتغلب على الصعاب بسهولة، وإثبات الشخصية ، أما أولئك الذين يعتمدون العند واللجاجة إزاء الأحداث دونما حاجة ، فإنهم يحطون من شخصيتهم ويواجهون أحياناً مصائب وويلات لا تحمد عقباها.
قابلية التكيف :
تحمل الفشل:
«إن الإنسان السليم الذي يمتلك قابلية المرونة وقدرة العودة إلى حالته الطبيعية بمقدوره أن يتحمل كل فشل قد يواجهه ، إذ ما ان يفشل حتى يستأنف جهوده ومساعيه من جديد ، وما ان يسد بوجهه طريق حتى يسلك غيره ويختار لنفسه هدفاً آخر ، لكن الإنسان صاحب النفس العليلة فهو لن يملك في هذه الحياة سوى طريق واحد وهدف واحد ، إن تعثر وأخطأ فإنه سيصاب بالإحباط واليأس».
«وكلما زادت قابلية الإنسان على المرونة كلما قلت مخاوفه من الفشل وانطلق في ميادين النجاح محققاً آماله في هذه الحياة ، وكلما تضاءلت هذه القابلية لديه ، كلما أسرع في الهروب من الواقع والإستسلام لليأس»(6).
إن الهدف الأساس من كل ما ورد من أحاديث وروايات ، هو بناء الشخصية وتعزيز المكانة الاجتماعية للإنسان . وقد كان لتعاليم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) الدور الكبير في بناء الشخصية الإسلامية وحثها على التحلي بالصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة ، وتوجيهها نحو الآداب الاجتماعية وحسن الاختلاط والمجاورة.
إن منشأ الشخصية هو من المسائل المهمة التي تناولها علماء النفس في أبحاثهم وتحاليلهم النفسية ، ومعرفة منشأ الشخصية تعتبر مفيدة جداً لجيل الشباب ، فهي تساعدهم على بناء الشخصية بشكل سليم والنجاح في التكيف مع المجتمع ، لذا نرى من الضروري أن يعرف كل شاب منشأ شخصيته.
الوراثة والمحيط:
إن الصفات التي تتحلى بها شخصية كل فرد من أفراد المجتمع وتكون ركيزته في التآلف مع مجتمعه، تقوم على عاملين أساسيين ، الوراثة الطبيعية والمحيط التربوي. بعبارة اخرى ، تقسم مميزات وصفات الشخصية إلى قسمين ، صفات طبيعية وأخرى مكتسبة.
«لا يمكننا أن نحدد أياً من الوراثة والمحيط هو الذي يلعب دوراً مؤثراً في بناء شخصيتنا ، لا بل علينا ان نتناول العاملين معاً ونحدد تأثير كل منهما. ومما لا شك فيه أن للوراثة دوراً كبيراً في تكوين العوامل الجسمانية من طول وقصر وكذلك في القوى المخية. من حدة أو قصور ، لكننا إذا ما أردنا أن نعرف سبب سوء الخلق أو حسنه ، والخجل والوقاحة وحب المعاشرة أو حب الانزواء ، والاعتماد على النفس أو العجز والضعف ، علينا أن نبحث عنه في تأثيرات المحيط»(7).
كذلك من الضروري أن نضع كلا العاملين ، الوراثة والمحيط التربوي على بساط البحث والمناقشة لنتعرف على الصفات الناجمة عنهما، ودورهما في تكوين شخصية الإنسان وتآلفه مع مجتمعه.
يختلف كل إنسان بشكل طبيعي في خلقته وخلقه عن الآخرين، ويرث كل إنسان بعض الصفات عن أبويه، لذا فإن العقل والذكاء والذاكرة والذوق وتناسب الهندام والجمال والشكل والصوت والجاذبية وغيرها من الصفات الطبيعية للإنسان تختلف من شخص لآخر ، ولكل منها دور مستقل ومؤثر في بناء شخصية الإنسان وتعامله مع محيطه واحتكاكه بمجتمعه.
«يشعر الطفل الذي يكون أقل ذكاء ممن هم في عمره أو من زملائه في المدرسة ، بأنه غريب عنهم ، إذ انه لا يستطيع أن ينسجم معهم في مختلف النشاطات التي يقومون بها ، وهو يعجز عن التكيف معهم لاختلاف ميله عنهم ، وهذا ما يجعله يشعر بالحقارة ، وتأخذ شخصيته طابع هذا الشعور))(8).
«وعندما يضطر طفل غبي أو متخلف عقلياً إلى منافسة من هم أكثر منه ذكاءً وفطنة في المدرسة فإنه سيواجه الفشل ، وسيقف عند قصور عقله وخفوت ذكائه ، وسيتضاعف شعوره بالحقارة الذاتية عندما يستهزئ به زملاؤه ويبعدونه عن كل نشاط يقومون به ، وقد يختلط سلوك مثل هذا الطفل في البيت وتجاربه في المدرسة ليولد في أعماقه عقدة خطيرة من الحقارة»(9).
«قد يتعامل الناس مع إنسان يملك تكويناً جسمانياً معيناً ، وهذا التعامل لا بد وأن يترك أثره في شخصية هذا الإنسان ، مثلاً قد يحظى إنسان يمتلك جسماً قوياً وقامة منتصبة باحترام الآخرين وعدم جرأتهم على مخاصمته ومنازعته ، فإن هكذا إنسان تتكون لديه ثقة بالنفس كبيرة. أما من يعاني من ضعف في جسمه وهزل، ولا يحظى باحترام الآخرين ، ويكون دائماً عرضة لسخريتهم ، فإن شخصيته ستكون ضعيفة ومهزوزة . وهنا لا بد من القول : قد لا يؤثر تركيبنا الجسماني على شخصيتنا بشكل مباشر ، إلا أن تعامل الناس معنا على أساس هذا التركيب سيترك في نفوسنا آثاراً جمة))(10).
طلاقة الوجه:
إن من صفات الشخصية ، التي لها أثر بارز في التكيف مع المحيط والتآلف مع المجتمع، طلاقة الوجه وحسن المعاشرة . فالإنسان الذي يواجه الناس بطلاقة الوجه وبشاشته وحلاوة الكلم، يستطيع بكل سهولة أن يذوب في مجتمعه وينال محبة الناس ومودتهم.
يمتلك البعض وجهاً بشوشاً وحُسناً بهياً، وهذه الحالة التي تعتبر من صفات الشخصية في حسن التآلف مع المحيط الاجتماعي ، تبدو واضحة تماماً على وجوههم. ومثل هؤلاء ليسوا مجبرين على تحمل عناء التصنع والتكلف ، لأنهم يمتلكون وجهاً جميلا وساحراً وجذاباً ، وبات حسن الخلق من خصالهم ، فهم لا يستطيعون في الحالات الطبيعية أن يظهروا أمام الآخرين وعلامات الغضب والإنفعال بادية على وجوههم ، ولمزيد من التوضيح نقول : إن طلاقة الوجه وحسن البشر، وهما من صفات الشخصية وعوامل النفوذ الاجتماعي ، قد اجتمعا فيهم تلقائياً .
الوجه العبوس:
أما أولئك الذين يمتلكون وجهاً عادياً غير بشوش أو وجهاً عبوساً ، فينبغي عليهم أن يحاولوا كثيراً لاكتساب البشاشة ، وأن يسعوا إلى التحلي بهذه الصفة عن طريق التمارين حتى يتمكنوا من تحقيق نجاح في تعاملهم الاجتماعي وتآلفهم مع المحيط .
ومن الواضح أن بشاشة الوجه وحلاوة الكلم وفصاحة اللسان وغير ذلك من صفات الشخصية الحميدة ، إن كانت فطرية وطبيعية ، فإن صاحبها سرعان ما ينجح في إحراز شخصيته وتكيفه مع محيطه الاجتماعي ، ولكن مثل هذه الصفات ليس لها أي قيمة تربوية وأخلاقية ، لأن صاحبها لم يتعب أو يشقى من أجل الحصول عليها.
عن إسحق بن عمار، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال : إن الخلق منيحة يمنحها الله عز وجل خلقه ، فمنه سجية ومنه نية. فقلت فأيتهما افضل؟ فقال: صاحب السجية وهو مجبول لا يستطيع غيره وصاحب النية يصبر على الطاعة تصبراً فهو أفضلهما(12).
ونخلص إلى أن التركيبة الطبيعية لجسم الإنسان وعقله ونوعية صفاته حميدة كانت أم ذميمة ، لها أثرها العميق في تكوين شخصية الإنسان وتآلفه مع مجتمعه، وبعبارة أدق نقول إن جانباً من شخصية كل إنسان يقوم على الصفات الموروثة .
«يؤدي قوام الإنسان وقدرته الجسمانية دوراً هاماً في تحديد سلوكه تجاه الآخرين وردود فعل الآخرين تجاهه. إن الطفل بكل مواصفاته الجسمانية والأخلاقية عادة ما يحظى باهتمام أو تحقير الآخرين له، ومعرفة الطفل بأحاسيس الآخرين حياله وحيال تركيبته. الجسمانية وحالته الصحية، لا شك أن لها أثرها البالغ في رؤيته لنفسه واهتمامه بها ، وبالتالي فإن هذه المعرفة ستؤثر على سلوكه وفعاله» .
«إن الفتيان الذين يملكون قواماً متعادلاً عادة ما يكونون من أصحاب الشخصية الموزونة. أما الفتيان الذين يعانون من نقص جسماني ، فإنهم يلجأون إلى القيام بأعمال قبيحة للتعويض عما يعانونه ، وهذا الأمر يعيقهم عن التكيف مع المجتمع ، وبالتالي فإنه يؤثر كل التأثير على نمو شخصيتهم وتكاملها»(13) .
إن الشاب الذي يتمتع ظاهره وباطنه ، جسمه وعقله بكل الصفات والشروط المؤاتية للتآلف مع المحيط الاجتماعي العام، ينجح وبكل سهولة في إحراز شخصيته وتحقيق سبل تآلفه مع المجتمع.
أما الشاب الذي يعاني من الغباء وضعف التفكير ، أو من قبح في الشكل أو نقص في الهندام لازمه منذ ولادته ، أو من عيوب وعاهات اكتسبها خلال حياته ، فإنه سيواجه صعوبات في تعامله الاجتماعي وسعيه لإثبات شخصيته، وأحياناً قد يصاب بانتكاسات نفسية تبقى ملازمة له طوال حياته ، وتكون السبب في فشله في مطابقة نفسه مع بيئته الاجتماعية.
وأولئك الذين يعانون من نقص أو عاهة في تركيبتهم الطبيعية، ينبغي عليهم أن يتناسوا ما هم عليه ويحيوا روح الأمل في نفوسهم، حتى يتمكنوا من إحراز شخصيتهم وبلوغ الكمال والسعادة. وعليهم أيضاً أن يقدموا على ما يليق بهم من أعمال ، ويسعوا جاهدين إلى إبراز طاقاتهم واستعداداتهم الباطنية ، للتعويض عما يعانونه من نقص وإحراز الشخصية المناسبة.
«يقول «هـ . شاختر» : كان هناك ولد من أقاربي يعيش دائماً في العزلة والإنطواء، حتى في فرص المدرسة كان يجول الملعب بمفرده غارقاً في أحلامه وخياله ، وبعد خروجه من المدرسة كأن يسرع بالعودة إلى البيت ، إذ لم يكن يحب اللعب مع رفاقه ، ولم ينتسب إلى أية جمعية خيرية ، ولم يصادف يوماً أن دعا رفيقاً له إلى البيت ، أو أن زاره هو كضيف ، كان يدعي أن أكثر ما يحب في هذه الدنيا غرفته وكتبه» .
«ولكن الحقيقة ان ذلك الفتى لم يكن يملك جسماً قوياً وقواماً رشيقاً يساعده في ان يكون كغيره من رفاقه في الالعاب الرياضية ، فكان يتجنب اللعب ليستر ضعفه ويجنب نفسه نظرات الشفقة او الاستحقار ، وقد اصبحت هذه الحالة عادة له شيئاً فشيئاً ، مما جعله يتطبع على الانطواء في مجمل مواقف الحياة» .
«لو ان هذا الفتى كان يدرك مرضه او يستشير طبيباً نفسانياً عن حالته ، لعلم أنه من الممكن جداً تقوية الجسم الهزيل والعضلات الضعيفة، وأن الإنسان إذا ما افتقر لمقومات المشاركة في الألعاب الرياضية ، فإنه قد يكون يحمل في باطنه مقومات المشاركة في حقل آخر، قد ينجح فيه ويبرع إذا ما جد وسعى»(14).
إن مما لا شك فيه أن المربي الكفوء والمؤدب الحريص باستطاعته أن يؤدي دوراً مؤثراً في إحياء شخصية مثل هؤلاء الأفراد وتعزيز إرادتهم ، وبمقدوره أن ينقذهم من معاناتهم النفسية وإحباطهم المعنوي، وأن يحي في نفوسهم الأمل بإمكانية التآلف مع المجتمع.
لقد كان أحد صحابة الإمام الصادق (عليه السلام) يدعى يونس بن عمار ، وذات يوم اصيب يونس بمرض البرص أو الجذام، وغطت بقع بيضاء كامل وجهه، فأثرت في نفسه ، وأخذت شخصيته تضمحل شيئاً فشيناً فاقدة مكانتها الاجتماعية ، وقد قيل في حقه : لو كان للإسلام به حاجة أو كان لوجوده أدنى أثر أو قيمة لما ابتلي بهذا البلاء، فجاء يونس بن عمار إلى الإمام الصادق (عليه السلام) شاكياً لسان الناس، فقال له (عليه السلام) : لقد كان مؤمن آل فرعون مكنع الأصابع فكان يقول هكذا ويمد يديه ويقول يا قوم اتبعوا المرسلين(15) .
لقد رد الإمام الصادق (عليه السلام) بهذه العبارة القصيرة على أقاويل الناس الجوفاء ، حيث حاول (عليه السلام) أن يثبت لنا إمكانية ابتلاء المؤمن بالله وسنة نبيه ببلية أو عاهة ما ، مثلما ابتلي مؤمن آل فرعون بتلك العاهة. كما أنه (عليه السلام) قد ساعد في رفع معنويات يونس بن عمار، حيث دعاه إلى عدم الابتعاد عن الناس بسبب البقع البيضاء التي انتشرت في وجهه ، وطلب منه الاستمرار بواجباته في التبليغ كما كان يفعل مؤمن آل فرعون ، حيث كان يمد يده التي كانت تنقصها الأصابع ويقول يا قوم اتبعوا المرسلين، فتلك العاهة لم تثن عزيمة مؤمن آل فرعون، ولم تحبط من معنوياته وشخصيته.
وقد جاء كلام الإمام الصادق (عليه السلام) ليخفف عن يونس معاناته ويزيل قلقه ، ويشجعه على معاودة التآلف مع الناس ، ويثبت شخصيته ، وهذه هي حال كل مرب كفوء ، فهو قادر على إنقاذ الناس من معاناتهم النفسية وإحباطهم المعنوي ، وتعزيز شخصيتهم.
لابد من القول إن مشكلة إحراز الشخصية وحسن التآلف الاجتماعي لا تنحصر بالأغبياء وأصحاب القصور الفكري أو قبيحي الشكل والمعاقين فقط ، بل هي مشكلة أصحاب الذكاء الخارق وجميلي الشكل من الشباب ايضاً ، حيث تواجههم موانع عديدة في طريقهم لإحراز الشخصية والتآلف الاجتماعي.
فالشاب الذي يعاني من الغباء وقصور العقل أو من القبح وفقدان عضو من أعضاء جسمه أو من عدم تناسق قوامه وهندامه ، يصبح أسير الإحساس بالحطة والحقارة ، وتنقصه الجرأة على الاندفاع للتعايش مع الناس خشية إهمالهم وتحقيرهم له ، وهذا ما يجعله محروماً من حسن التكيف مع البيئة الاجتماعية وإثبات الشخصية.
أما الشاب الخارق الذكاء وكذلك الجميل الوجه والرشيق القوام ، فإنه يشعر دائماً بالتفوق والأفضلية ، ويرى نفسه فوق كل الناس ، وهذا الشعور يولد في نفسه احياناً روح التكبر والغرور، مما يجعله ينظر إلى الآخرين نظرة استحقار، ولا يراعي الجانب الأخلاقي والأدبي في تعامله معهم، ويمس بغروره وتكبره كرامات الناس ، وبالتالي يصبح محروماً من الألفة الاجتماعية وإثبات الشخصية نتيجة سوء معاشرته للناس .
«يواجه الطفل الخارق الذكاء أيضاً مشاكل جمة في مسيرته نحو التكيف مع محيطه الأسري والاجتماعي بسبب حدة ذكائه .
إن المغالاة في مدح الطفل على كل ما يقوم به في سني حياته الأولى ، قد تثير في نفسه الغرور باستعداداته الفطرية ، كما أن ذكاءه الخارق قد يثير كراهية سائر أقرانه له وحقدهم عليه ، كما أن نموه الجسماني لم يكن بالقدر الكافي الذي يجعل من هم اكبر منه سنا يصادقونه ويلاعبونه» .
«والطفل الذي يفوق من هم في سنه ذكاءً ، خاصة في أواخر عهد الطفولة وأوائل عهد البلوغ ، يستطيع أن يدرك جيداً الجوانب السلبية لفترة البلوغ وكل ما يلف لف هذه الفترة من أصول وأحكام وقوانين ، وقد يدفعه ذلك إلى اتخاذ أسلوب أو مسلك سلبي تجاه قدرة البالغين والنفور منهم»(16).
«يصاب من يمتلك ذكاءً حاداً بالكثير من الإحباط والعديد من الموانع والمشاكل في تآلفه الاجتماعي، ويعمد إلى ممارسة أعمال مذمومة كالسلوك السيء والتعصب والتهجم والانطواء والغرور والتكبر والشعور بعدم حاجته للآخرين إرضاءً لميوله ورغباته»(17).
كان ابن المقفع رجلا ذكياً ذا شأن عظيم في عصره ، وكان يمتاز عن غيره بقوة عقله وحدة ذكائه. وقد نجح في بداية شبابه في تلقي العلوم وترجمة بعض الكتب العلمية إلى اللغة العربية لفطنته وكفائته الفطرية، إلا أن تفوقه العقلي والفكري جعل منه إنساناً مغروراً وترك في سلوكهم وأخلاقه آثاراً سيئة ، مما جعله يواجه مشاكل جمة في علاقاته الاجتماعية . وكان ابن المقفع يستهزئ بالناس ويحقرهم بكلمات وألفاظ بذيئة ليثير في نفوسهم روح الحقد والعداء.
وكان سفيان بن معاوية الذي نصبهم المنصور الدوانيقي والياً على البصرة من جملة الأشخاص الذين لم يأمنوا لسان ابن المقفع ، إذ كان هذا الأخير يستهزئ بسفيان بن معاوية أمام الناس ويثير حياءه .
وكان سفيان بن معاوية ذا أنف كبير قبيح الشكل، وكلما دخل عليه ابن المقفع في دار الولاية قال بأعلى صوته أمام الملأ : السلام عليكما ، ويعني به السلام عليك وعلى أنفك الكبير ، وذات يوم رد عليه سفيان بالقول : إنني لست نادماً أبداً على إلتزامي الصمت حيالك ، فقال له ابن المقفع : إن من خصلته التلعثم في الكلام يجب أن لا يندم أبداً على إلتزام الصمت . وأحياناً كان ابن المقفع يعير سفيان بن معاوية بأمه ، حيث كان يناديه بأعلى الصوت وأمام الجميع (يبن المغتلمة) أي يابن المنقادة للشهوة . وذات يوم أراد ابن المقفع ان يظهر جهل وسذاجة سفيان، فسأله في محفل عام عن رجل يموت ويخلف زوجة وزوجاً ، كيف يتم تقسيم الميراث بنهما؟.
إثارة العداء:
لقد أثار ابن المقفع ذلك الرجل الذكي الفطن بكلامه المهين النابع من غروره وتكبره، حقد سفيان عليه وعداءه له ، وبات سفيان يتعين الفرص للإنتقام من ابن المقفع شر انتقام .
وصادف أن ادعى عبد الله بن علي الخلافة على ابن أخيه المنصور الدوانيقي ، وخرج لقتاله. فطلب الخليفة المنصور من أبي مسلم الخراساني الخروج إلى البصرة بجيش جرار لقتال عمّه، وأخيراً انتصر جيش ابي مسلم على جيش عبد الله بن علي الذي لجأ إلى اخويه سليمان وعيسى متخفياً عندهما. وبعد فترة توجه الأخوان إلى المنصور وطلبا منه الصفح عن اخيهما عبد الله ، فقبل المنصور شفاعتهما ، وتقرر أن يكتبا عهد أمان ليوقعه المنصور الدوانيقي.
وبعد عودتهما إلى البصرة أوكلا إلى ابن المقفع الذي كان يعمل حينها كاتباً لدى عيسى ، كتابة عهد الأمان ، وطلبا منه أن يكون الكتاب من القوة بمكان بحيث يسلب الدوانيقي كل قدرة على إلحاق الأذى بأخيهما عبد الله. فكتب ابن المقفع عهد لأمان وغالى في تنظيمه ، حيث ذكر فيه أن المنصور الدوانيقي إذا ما مكر بعمه عبد الله بن علي وألحق به الأذى فإن أمواله ستوزع على الرعية وسيعتق عبيده وجواريه ويصبح المسلمون في حل من بيعته. وعندما دخلا على المنصور وهما يحملان كتاب الأمان ليوقعه ، ثارت ثائرته فسأل عن الكاتب ، فقيل له إنه ابن المقفع ، فأمر المنصور بعد أن امتنع عن التوقيع، امر والي البصرة سراً بقتل ابن المقفع.
ولما كان سفيان والي البصرة يحمل ما يحمل في جوفه من عداءٍ لابن المقفع الذي طالما مس كرامته وجرح شعوره ، ويتحين الفرصة للإنتقام ، جاءت أوامر الخليفة المنصور بقتل ابن المقفع لتثلج صدر سفيان الذي استغل هذه الفرصة المناسبة للإنتقام من غريمه.
فأمر سفيان بحبس ابن المقفع في حجرة ، فدخل عليه وقال له : أتذكر ما قلته في شأني وشأن أمي؟، والله إن أمي لمغتلمة إن لم أقتلك قتلة لم ير الرعية مثلها من قبل ، فأمر سفيان بإشعال التنور ، وجيء بابن المقفع وكان حينها في السادسة والثلاثين من العمر، فأخذ يقتطع من جسمه قطعة قطعة ويرميها أمام ناظريه داخل التنور، وما زال كذلك حتى قضى بهذه الطريقة المفجعة(18).
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : من زرع العدوان حصد الخسران(19).
وقال أبوعبد الله الإمام الصادق (عليه السلام): من زرع العداوة حصد ما بذر(20).
إن عقل ابن المقفع وذكاءه الخارق ليس فقط لم يساعداه في بناء شخصيته وحسن تآلفه مع مجتمعه ، بل كان لهما أثر سلبي عليه أيضاً ، فقد كان يستهزئ بالناس ويستحقرهم بسبب غروره وتكبره ، وهذا ما أوصله في النهاية إلى هذه الخاتمة المفجعة لحياته وهو في عز شبابه .
ونخلص إلى أن الخصائص الوراثية لكل شاب لها أثرها البالغ في تكوين شخصيته وتحقيق تآلفه مع المجتمع ، وأن التركيبة الطبيعية لعقل الشاب وجسمه تشكل مصدر جانب من صفات شخصيته الاجتماعية ، فاذا ما كانت تلك الصفات معتدلة وضمن حدودها الطبيعية ، استطاع الشاب إحراز شخصيته بسهولة ، أما إذا كانت صفاته الطبيعية دون حدها الطبيعي نتيجة عيوب وعاهات يعاني منها ، أو أنها تفوق حدها الطبيعي نتيجة الذكاء الخارق الذي يتمتع به ، فإنه سيواجه مشاكل جمة في مسيرته لإثبات شخصيته .
_________________________
(1و2و3) الكافي ج2،ص144و102 و100.
(4) نهج البلاغة، الكلمة، 11 .
(5) تفسير روح البيان ، 4 ص 356.
(6) سلامة الروح، ص40.
(7) نمو الشخصية ، ص35.
(8) علم نفس النمو، ص417.
(9) علم نفس الطفل، ص 318 .
(10) مبادئ علم النفس، ص155.
(11) الكافي2، ص103.
(12) الكافي2، ص101.
(13) علم نفس النمو، ص 414.
(14) نمو الشخصية، ص 116 .
(15) الكافي 2 ، ص 259 .
(16) علم نفس الطفل، ص 316.
(17) علم نفس النمو، ص 417 .
(18) موسوعة دهخدا، آ-أبو سعد، ص 352 .
(19) غرر الحكم، ص 630.
(20) الكافي2، ص302.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
جمعية العميد تناقش التحضيرات النهائية لمؤتمر العميد الدولي السابع
|
|
|