أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-10-2016
2069
التاريخ: 3-10-2016
2014
التاريخ: 11-3-2021
2020
التاريخ: 24-6-2019
2117
|
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): "يا علي، حرّم الله الجنّة على كلّ فاحش بذيء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له" (1).
السنخيّة أو المجانسة:
السنخيّة أو المجانسة من قوانين الله سبحانه وتعالى التي تحكم الكون، والحكماء يرون أنّه يربط العلل بالمعاليل وإلّا لصدر كلّ شيء عن كلّ شيء كما يقولون فالنّار مثلاً لها سنخيّة مع الحرارة لا تنفكّ عنها ولذا فهي تعطي الحرارة دائماً ولا تعطي البرودة بعكس الثلج الذي له سنخيّة هو أيضاً مع البرودة ولا يعطي يوماً الحرارة، وهذا القانون من جهة ضروريّ ومن جهة أخرى مستحيل فهو ضروريّ بين النّار والحرارة والثلج والبرودة ومستحيل بين الخالق والمخلوق بل بين جميع العلل المختارة ومعلولاتها فالولد لا يولد ممّا يباينه كليّاً وإنّما يولد من الأب الذي يسانخه ويجانسه في الجوهر والحقيقة إذاً فكلّ مادة بإمكانها أن تلد أيّة مادة أخرى أو تولد منها إذ إنّ السنخيّة الجوهريّة المادّيّة سائدة في المادة مهما كانت، ومن المحال أن تنبثق اللامادة من المادة أو المادة من اللامادة انبثاقاً ولاديّاً من جوهر الذات؛ لأنّ فاقد الشيء لا يلد ولا يولد منه. وهذا الكلام ثابت ومتقرّر في العلل المادّيّة ومعاليلها على ضوء كافّة الفلسفات من مذاهبها العقليّة والتجريبيّة، وإذا لم يثبتوها للزم من عدم السنخيّة صدور كلّ شيء عن كلّ شيء والنّار ستعطي بدل الحرارة برودة أو حجراً أو شجراً، كما أنّ العكس صحيح ولكنّنا لا نرى ذلك في الخارج لوجود السنخيّة والمجانسة بين العلّة والمعلول.
العقول العشرة:
أمّا في العلّة الحقيقيّة لخلق العالم والمؤثّر الأوّل لها وهو الواجب تعالى فلا تجري هذه القاعدة بينه تعالى وبين مخلوقاته؛ لأنّ الأزليّ البسيط وهو الخالق تعالى لا يكون مسانخاً مع المادّيّ المركّب وهو المخلوق وإلا أصبحت حادثة لمعلولها أو يصبح المعلول أزليّاً أو يضطرّ إلى القول بوحدة حقيقة الوجود ومن هنا ذهب بعض الفلاسفة إلى القول بجريان قاعدة السنخيّة بين الواجب تعالى والممكن وبناءً على هذه القاعدة قالوا بأنّ الواحد لا يصدر منه إلا الواحد إذ إنّ الله تعالى مجرّد وبسيط فلا يصدر منه إلا المسانخ له أو المجانس وهو المجرّد فأصدر العقل الأول وهذا العقل فيه جهتان :
1- جهة وجوب من ناحية الوجود.
2- جهة ضعف من ناحية الماهية.
وبالوجود صدر عن العقل الأول العقل الثاني وعن جهة ماهيّته صدر الفلك الثاني وهكذا إلى الفلك التاسع والعقل الثاني أصدر العقل الثالث وهكذا إلى العقل العاشر الذي صدر منه جميع الممكنات في هذا العالم ويسمّونه أيضاً بالعقل الفعّال وهذه النظريّة أيضاً معروفة (بالعقول العشرة) عند الحكماء والمتكلّمين.
بين الخالق والمخلوق:
لكن هذه القاعدة التي يعتمدها بعض الفلاسفة الإلهيّين والتي ابتدعها الفهلويّون منهم باطلة عند المتكلّمين باعتبار أنّ قاعدة الواحد لا يصدر منه إلا الواحد خارجة تخصّصاً عن الواجب تعالى ومن ثمّ لا تجري بين الخالق والمخلوق أو بين العلّة الحقيقية لهذا العالم؛ لأنّ العلل على قسمين:
1 - علّة مجبورة أي ليس لها اختيار في إصدار المعلول مطلقاً.
2 -علّة مختارة أي لها اختيار وإرادة في الإصدار والتصرّف في شؤون المعلولات.
فبالنسبة لعليّة النّار للحرارة، النّار علّة مجبورة على إصدار الحرارة والوالد علّة مجبورة لإصدار الولد؛ أي ليس بمعقول في وقت من الأوقات أن تكون النّار متقرّرة وموجودة في الخارج وليس فيها حرارة، فمتى ما تحقّقت النّار يجب تحقّق الحرارة؛ فقاعدة الواحد لا يصدر منه إلا الواحد أو السنخية أو المجانسة صحيحة وممكنة في هذه العلة. أمّا نار إبراهيم (عليه السلام) التي ألقي فيها وإعطاؤها البرودة فكان ذلك بأمر الله تعالى إمّا مباشرة أو لإعدام أحد أسباب صدور الحرارة من النار كوجود المانع أو عدم المقتضي وهي من الأمور التي تحتاجها العلّة غير الحقيقيّة حتّى تؤثر كالمقتضي في النار وعدم المانع، وقد جاء في قوله تعالى إشارة إلى إمكان انفكاك الحرارة عن النّار، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
إذ تحوّلت نار إبراهيم من حارّة إلى باردة بدلاً من إصدار الحرارة.
وذُكر في كون النّار برداً على إبراهيم (عليه السلام) وجوه:
أحدها: إنّ الله سبحانه أحدث فيها برداً بدلاً من شدّة الحرارة التي فيها فلم تؤذِ. وثانيها: إنّ الله سبحانه حال بينها وبينه فلم تصل إليه. وثالثها: إنّ الإحراق إنّما يحصل بالاعتمادات التي في النار صعداً فيجوز أن يذهب سبحانه تلك الاعتمادات (2).
وعلى الجملة فقد علمنا أنّ الله سبحانه منع النار من إحراقه وقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره الكبير أيضاً هذه المسألة وأشار إلى ثلاثة أقوال: أحدها: إنّ الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق والله على كلّ شيء قدير. وثانيها: إنّ الله تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفيّة مانعة من وصول أذى النّار إليه كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة. وثالثها: إنّه سبحانه خلق بينه وبين النار حائلاً يمنع وصول أثر النّار إليه.
قال المحقّقون والأوّل أولى؛ لأنّ ظاهر قوله "يا نار كوني برداً" أنّ نفس النّار صارت باردة حتّى سلم إبراهيم (عليه السلام) من تأثيرها (3).
الإرادة مصدر الكون:
أمّا في العلّة المختارة كالواجب تعالى فهذه القاعدة - السنخيّة - لا تجري؛ لأنّ الله تعالى ذاته خارجة عن قضيّة العلّيّة والمعلوليّة التي تحكم المخلوقات، وإنّما يصدر الأشياء بإرادته تعالى التي تتعلّق بالكثير كما تتعلّق بالواحد فإذا أراد الله سبحانه وتعالى الآن أن يخلق الإنسان يخلقه وإذا لم يرد لم يخلقه وغداً إذا أراد خلق الحيوان يستطيع ذلك وإذا لم يرد لا يخلقه، وهكذا بالنسبة لسائر المخلوقات.
إذن القضيّة لا علاقة لها بالذات الإلهيّة حتّى يلزم منّا القول بالسنخيّة بين الخالق والمخلوق والواحد لا يصدر إلا الواحد وإذا صدر من الله تعالى أكثر من واحد صار مركّباً، هذا الكلام لا يأتي هنا؛ لأنّ المخلوقات الإلهيّة لها علاقة بإرادة الله تعالى وليس بذاته فإذا صدر منه الكثير لا يستلزم التركيب؛ لأنّ الإرادة من صفات الفعل وليس من صفات الذات وقد فصّل المتكلّمون وبعض مراجعنا المعاصرين الكلام في هذه القاعدة وعدم جريانها في العلل المختارة وقد ذكروا لها ردوداً عديدة ومتينة، قال الخواجة نصير الدين الطوسي (قده) في تجريد الاعتقاد: «وأدلة وجوده مدخولة كقولهم الواحد لا يصدر عنه أمران ولا سبق لمشروط باللاحق في تأثيره أو وجوده وإلا لما انتفت صلاحيّة التأثير عنه؛ لأنّ المؤثّر ههنا مختار» (4).
وقال العلّامة الحلّي (ره) في شرح قول التجريد: «إنّ أكثر الفلاسفة ذهبوا إلى أنّ المعلول الأوّل هو العقل الأوّل وهو موجود مجرّد عن الأجسام والمواد في ذاته وتأثيره معاً، ثم إنّ ذلك العقل يصدر عنه عقل وفلك لتكثّره باعتبار كثرة جهاته الحاصلة من ذاته ومن فاعله. ثم يصدر من العقل الثاني عقل ثالث وفلك ثان وهكذا إلى أن ينتهي إلى العقل الأخير وهو المسمّى بالعقل الفعّال وإلى الفلك الآخر التاسع وهو فلك القمر واستدلّوا على إثبات الجواهر المجرّدة التي هي العقول بوجوه» (5).
وقد ذكر أوجهاً خمسة لإثبات العقول ثم ردّها العلامة (ره) جميعاً وأثبت بطلان قاعدة العقول العشرة فلتراجع في محلّها (6).
وقد جاء في القول السديد في شرح التجريد وجوه أُخر لإبطال نظرية الفلاسفة القائلة بأنّ الواحد لا يصدر منه إلا الواحد في العلّة المختارة أي بين الخالق والمخلوق وكان فيما ذكره: «إنّ الواحد الذي لا يصدر منه إلا الواحد إنّما هو في العلّة بالجبر كالنّار لا بالاختيار كالباري تعالى، فإنّ الفاعل بالاختيار إنّما يوجد بالإرادة على وفق المصلحة، ولا يحتاج إلى السنخيّة (7).
وعلى أيّ حالٍ فإذا ثبتت قاعدة السنخيّة في غير الواجب تعالى فإنّها تجري على سائر المخلوقات فيما بينها ومنها الجنّة والنّار والإنسان والحيوان والشجر والحجر وما شابه من المخلوقات. ولذا جاء في حديث الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): «يا علي حرّم الله الجنّة على كلّ فاحش بذيء..» فالجنّة مكان طاهر لا تناسب إلا الطاهرين بحسب المجانسة والسنخيّة بينهما وأمّا غير الطاهر فلا محلّ له في الجنّة؛ لأنّها لا تتجانس معه.
القرب والبعد من الجنّة:
إنّ الفحش من الأعمال القبيحة التي تلوّث الإنسان وتجعله بعيداً عن الجنّة؛ لأنّ الجنّة مكان طاهر لا يتجانس مع غير الطاهر. وللفحش معانٍ نذكرها كما في مجمع البحرين لنرى بأيّ معنى منهنّ يمكن تفسير حديث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) به:
أولاً: الفحش بمعنى الزنا، قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15].
ثانياً: المعاصي والقبائح، قال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] أراد بها الزنا والسرقة وكلّ كبيرة إلا اللمم وهو الرجل الذي يلمّ بالذنب فيستغفر منه. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] وأراد منها المعاصي والقبائح ما ظهر منها وما بطن.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «ما ظهر هو الزنا وما بطن هو المحالة» (8). وعن العبد الصالح وقد سُئل عن ذلك فقال: «إن القرآن له ظهر وبطن، فجميع ما حرّم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحلّ الله في الكتاب هو الظاهر والباطن من ذلك أئمّة الحق» (9).
ثالثاً: كلّ مستقبح من الفعل والقول، في الفعل يُقال للبخل فحش وكلّ سوء جاوز حدّه فهو فحش، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268] وفي الخبر «إيّاكم والفحش فإنّ الله عزّ وجلّ لا يحبّ الفاحش المتفحّش» (10).
الفاحش ذو الفحش في كلامه وفعاله والمتفحّش من يتكلّمه ويتعمّده.
رابعاً: الفحش بمعنى الزيادة والكثرة، وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا التفتّ في صلاة مكتوبة من غير فراغ فأعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشاً» (11) أي: كثيراً.
ومن جملة هذه المعاني المذكورة في الفحش يبدو أنّ الظاهر من حديث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) من الفاحش هو المعنى الثالث أي كلّ سوء جاوز حدّه الفاحش في كلامه وفعاله بقرينة إضافته إلى البذيء، وذيل الحديث الشريف: «لا يبالي ما قال ولا ما قيل له».
سقوط الإنسان:
جاء في معنى البذيء:
في الحديث: «إنّ الله حرّم الجنّة على كلّ فاحش بذيء" (12) والبذيء على وزن فعيل: السفيه، من قولهم «بذا على القوم يبذو بذاءً» بالفتح والمد سفه عليهم وأفحش في منطقه، وإن كان صادقاً فيه، ولعلّهما في الحديث واحد مفسّر بالآخر.
وفي الخبر: «البذاء من الجفاء» يعني الفحش من القول (13).
ولذا يبدو من المعنى المنقول أنّ البذيء هو من الفحش في القول والكلام ولذا ينبغي على الإنسان أن يطهّر لسانه من الكلام البذي ليتجانس مع طهارة الجنّة من ناحية ومن ناحية أخرى فإنّ اللسان قد يقود الإنسان إلى الكثير من الآثام والموبقات التي تسوقه إلى النار لأنّ النّار تتجانس مع الآثام وفي الحديث الشريف: «وهل يَكبّ النّاس في النّار على وجوههم إلا حصاد ألسنتهم» (14).
دور اللسان:
لسان الإنسان عجيب في آثاره غريب في أفعاله؛ لأنّه قد يفعل الأفعال المتضادة والمتباينة إذ هو في نفس الوقت الذي يعدّ من أكبر النعم الإلهيّة على الإنسان في أفعاله وآثاره الخيّرة، يمكن أن يكون من المصائب على الإنسان أيضاً في بعض الحالات. إذ باللسان والنطق يميّز الكافر من المؤمن، وبه يرتكب المعاصي كالغيبة والنميمة والبذاءة وما شابه وبه يعمل الطاعات من تسبيح وإصلاح بين الناس وصلاة وما شابه وقد يعمل به الفواحش والكفر ونحوها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه» (15) فمَن استطاع منكم أن يلقى الله سبحانه نقيّ الراحة من دماء المسلمين وأموالهم سليم اللسان من أعراضهم فليفعل.
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «واجعلوا اللسان واحداً، وليخزن الرجل لسانه، فإنّ هذا اللسان جموح بصاحبه، والله ما أرى عبداً يتّقي تقوى تنفعه حتّى يخزن لسانه وإنّ لسان المؤمن من وراء قلبه، وإنّ قلب المنافق من وراء لسانه لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبّره في نفسه فإن كان خيراً أبداه وإن كان شراًّ واراه وإنّ المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه» (16).
واللسان هذا العضو البسيط تميّز أيضاً عن باقي الأعضاء الحسيّة في الإنسان إذ إنّ كلّ عضو له وظيفة واحدة إلا اللسان. فالعين للبصر، والأذن للسمع، والأنف للشم، والأنامل أشدّ جوانب الجلد إحساساً باللمس.
أمّا اللسان فقد شاء له تعالى أن يكون آلة للذوق، وآلة للمضغ والبلع، وآلة للحس واللمس، والة للتكلّم.
ومن عوارض اللسان أنّه ترجمان الضمير وآلة المنطق والبيان وإن كان عضواً بسيطاً مركّباً من اللحم والدم والأعصاب والشرايين والأوردة كباقي الأعضاء إلا أنّه سرّ الحياة الصحيحة حتّى عبّروا عنه بنصف الإنسان كما في قول زهير بن أبي سلمى:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدم
لذا فإنّ الضمير يوحي إلى اللسان ما يشاء والإرادة تحرّكه، فينطق بمكنونات الضمير.
بين النجاة والهلاك:
إنّ خطر اللسان عظيم ولا نجاة من خطره إلا بالصمت وقد حثّت الروايات الشريفة على الصمت، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَن صمت نجا» (17). وقال (صلى الله عليه وآله): «الصمت حكم وقليل فاعله» (18) كما أنّ في الصمت راحة الجسم والحواس والأمان من اللوم والإثم وقد قيل في هذا المعنى:
جراحات السنان لها التئام *** ولا يلتام ما جرح اللسان
أو التكلّم، ولكن بذكر الله تعالى وبعمل الطاعات والمنفعة للناس والإصلاح وفي أعمال الخير والبر؛ لأنّ اللسان مِن نعم الله تعالى علينا لذلك يجب علينا أن نعطيه حقّه بأن نصونه من مبتذل القول وبذيء الكلم، وأن نجنّبه الآفات التي تعود علينا بالضرر والخسارة وأن نعوّده على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر العلوم النافعة وإصلاح ذات البين لذا فإنّ العجيب في اللسان أنّه صغير حجمه ولكنّه كبير الخطر والضرر وقد استخدم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمة المطهّرون (عليهم السلام) هذا اللسان خير استخدام لعلمهم بفضله ودوره وقد أوصلوا به صوت الحق والرسالة الإسلاميّة إلى بلاد واسعة، بل إنّهم كانوا مؤدّبين في الكلام حتّى مع ذي الكلام البذيء وهذا أحد الأسباب التي جعلت البشريّة تحبّهم وتواليهم وتقتدي بهم، وقصص التأريخ والروايات تنقل لنا عظيم صنعهم وحسن أخلاقهم وتأدبهم في الكلام.
خُلق عظيم:
في رواية عن أنس قال: كنّا مع النبي (صلى الله عليه وآله) وعليه برد غليظ الحاشية، فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة، حتّى أثرت حاشية البُرد في صفحة عاتقه، ثم قال: يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك، فإنّك لا تحمل لي من مالك، ولا مال أبيك.
فسكت النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال: ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟! قال: لا. قال: لم؟ قال: لأنّك لا تكافئ بالسيئة السيئة. فضحك النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعيراً، وعلى الآخر تمراً (19).
لم يقابل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) هذا الأعرابيّ بالكلام البذيء حاشا له ذلك وإنّما ذكّره بالأخلاق والآداب بكلمة لطيفة وصغيرة بقوله: (ويقاد منك يا أعرابيّ) ولم يقل له إنّك فعلت السوء بجذبك الرداء حتّى أثرت حاشيته في عاتق النبي (صلى الله عليه وآله) بما يستحق عليه القصاص.
أحب خلق الله:
وقد ورث الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) هذا الأدب الوافر في الكلام من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكانت لكل إمام (عليه السلام) منقبة وأدب رفيع في الكلام مع الصديق والعدو، نكتفي هنا بذكر ما يتّسع له المجال ونبتدىء بالإمام الحسن (عليه السلام).
روى المبرّد وابن عائشة أنّ شاميّاً رآه راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يرد فلما فرغ أقبل الحسن (عليه السلام) فسلّم عليه وضحك فقال: أيّها الشيخ أظنّك غريباً، ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك؛ لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً. فلمّا سمع الرجل كلامه بكى ثم قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته وكنت أنت أبغض خلق الله إليّ والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبّتهم (20).
والكاظمين الغيظ:
وفي رواية عن أبي محمد الحسن بن محمد العلويّ بإسناده قال: وقف على علي بن الحسين رجل من أهل بيته فأسمعه وشتمه، فلم يكلّمه فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتّى تسمعوا منّي ردّي عليه، قالوا نفعل فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: {والكاظمين الغيظ} الآية فعلموا أنّه لا يقول شيئاً قال: فأتى منزل الرجل وصرخ به، فخرج الرجل متوثّباً للشر، فقال علي بن الحسين (عليه السلام): يا أخي إن كنت قد قلت ما فيّ فأستغفر الله منه وإن كنت قلت ما ليس فيّ فيغفر الله لك، قال: فقبّل الرجل بين عينيه وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك، وأنا أحقّ به (21).
هذه الشواهد غيض من فيض في أدبهم وحسن أخلاقهم وابتعادهم عن الكلام البذيء وطهارة لسانهم كما هم معدن الطهارة في الأبدان والمولد طهّرهم الله تعالى وخلقهم من طينة الجنة والجنة طاهرة تتجانس مع الطاهرين. وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «خلقنا من عليّين وخلق أرواحنا من فوق ذلك وخلق أرواح شيعتنا من عليّين وخلق أجسادهم من دون ذلك فمن أجل تلك القرابة بيننا وبينهم قلوبهم تحنّ إلينا» (22).
هدية العلماء:
وقد سار علماؤنا الأعلام على سيرة أهل البيت الطاهرة (سلام الله عليهم أجمعين) في حسن معاشرتهم للناس والتعامل معهم بأخلاق فاضلة والتكلم بالكلام المؤدب واللطيف وابتعدوا عن الكلام الفاحش البذيء مع الناس بل حتّى مع أعدائهم.
السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدّس سرّه) الذي كان المرجع الأعلى للشيعة في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري، كان يتمتّع بمواصفات عديدة نادرة كالعلميّة والأخلاق وحسن الإدارة والأدب الرفيع، يُنقل في أحواله أنّه كان في النجف الأشرف شاعر يهجو السيد أبو الحسن الأصفهانيّ بقصيدة كتبها وكان يلقيها بين أبناء المجتمع آنذاك وفي المحافل وفي يوم من الأيام ذهب السيد أبو الحسن الأصفهاني إلى زيارة هذا الشاعر وعند وصوله إلى بيته طرق الباب وعندما فتح الشاعر الباب ورأى السيد واقفاً أمامه اضطرب وخجل كثيراً، عندها قال السيد أتسمح لنا بالدخول؟ فأذن له الشاعر في الدخول فلمّا جلس عنده، قال له السيد أحب أن أسمع قصيدتك التي قلتها في حقي!! فامتنع الشاعر من تلبية الطلب وأصرّ السيد عليه حتّى قرأها الشاعر له ثم أخذ السيد القصيدة من الشاعر بعد استئذانه وقدّم له هدية، ولمّا امتنع الشاعر من أخذها قال له السيد اعتاد العرب على تقديم جائزة لمن قال شعراً وهذه جائزتك فأخذها الشاعر خجلاً ولم يعد إلى ذلك، بل انعكس الأمر إذ قام هذا الشاعر بإلقاء قصيدة يمدح فيها السيد وصار يحبّه، وفي زمن الخواجة نصير الدين الطوسي (ره) كتب له شخص مكتوباً مشتملاً على فحش وسباب كثير وكان من عباراته (يا كلب ابن الكلب) فكتب في جوابه له بكل لين ورأفة أمّا قولك يا كذا فليس بصحيح؛ لأنّ الكلب من ذوات الأربع وهو نابح طويل الأظفار ناطق ضاحك فهذه الفصول والخواص غير تلك الفصول والخواص، إلى آخر ما أطال في نقض ما اشتمل عليه المكتوب من غير انزعاج ولا ذكر كلمة قبيحة (23).
التعبيرات القرآنية:
القرآن الكريم معجزة الإسلام وهو كلام الله تعالى أنزله على الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وتحدّى به فصحاء العرب وطاولهم في المعارضة ولكنّهم انهزموا أمام تحدّيه وعجز السابقون واللاحقون عن تقليده؛ لأنّه ليس من كلام البشر، ولقد كان هذا الإعجاز خليقاً أن يثير في حياة المسلمين مباحث على جانب عظيم من الأهمية ومنها التعبيرات القرآنية اللطيفة والمؤدبة كما يحمل القرآن في طياته البلاغة العظيمة وأسلوبه الفذ في التصوير والتعبير بالإضافة إلى احتوائه على الأحكام والعقائد والأخلاق والقصص والمواعظ والحكم والتعليم وضرب الأمثال وإذا أراد الله تعالى أن يعبر عن الغاية من المعاشرة الزوجية رمز إلى ذلك بألفاظ لطيفة ك «الحرث» في قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] ويكمل وصف تلك العلاقة بين الزوجين - بما فيها من مخالطة وملابسة - بأنّها لباس كل منهما للآخر {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] ومن الإيحاء اللطيف الذي يعلمنا أدب التعبير، قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]. وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]. وكذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} [الأعراف: 189].
وفي مسألة أخرى مثل التخلّص من الفضلات الزائدة في جسم الإنسان يعبّر عنها القرآن الحكيم بلفظ مؤدّب وتعبير لطيف فيقول في ذلك: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]. والغائط أصله المطمئنّ من الأرض يُقال غائط وغيطان وكانوا يتبرّزون هناك ليغيبوا عن عيون الناس ثم كثر ذلك حتّى قالوا للحدث غائط وكنّوا بالتغوّط عن الحدث في الغائط.
وقال مؤرج الغائط قرارة من الأرض تحفّها آكام تسترها والفعل منه غاط يغوط مثل عاد يعود (24).
والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان إذا أراد الموعظة والتبليغ والإشارة إلى أفعال الناس يعبّر بتعابير مؤدّبة ولطيفة.
ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): «ما بالُ أقوام يفعلون كذا وكذا».
ولم يكن يواجه أولئك الأقوام بتشهيرهم وسبّهم أو بالكلام البذيء.
ما قال وما قيل:
وقد جاءت تعبيرات القرآن الحكيم وتعبيرات الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمة المطهّرين والعلماء الأتقياء مؤدّبة وبعيدة عن الفحش. والتعبيرات هذه كانت مؤدّى الكلام لتجانسهم مع الطهارة وهم بالتالي من سنخ الجنّة الطاهرة أمّا مَن لا يبالي بقوله وكلامه فهو بعيد عن الجنّة؛ لأنّه لا يتجانس معها إذ قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): "حرّم الله الجنّة على كلّ فاحش بذيء لا يبالي ما قال ولا ما قيل له" (25).
وبعد أن بيّنا أنّ معنى الفحش هو تجاوز الحدود في الكلام فالفاحش لا يبالي بما قال من كلام سيّئ فتحرم الجنّة عليه لدناسته وعدم طهارته والجنّة لا تتجانس مع غير الطاهر فإنّ الفحش في الكلام ينقص أيضاً من اعتبار المتكلم وقيمته الاجتماعية لصفاته ومساوئه العديدة التي لا يقبلها المجتمع المتديّن كوصفه بالمغتاب والنمّام والكذّاب والبذيء والفاحش وما شابه فيبتعد الناس عنه إمّا للنهي الوارد في الشريعة عن هذه الصفات السيئة أو لأنّها مصدر المشاكل والسلبيّات الاجتماعية، ومقابل ذلك فإنّ الذي لا يبالي بما قال لا يبالي بما قيل له أو عنه من مساوىء. وعادة هذه الصفات لا تجد محلاً لها إلا فيمن يتقبّلها وتصدّر عنه لأنّه هيّن النفس وضعيف الشخصيّة لا يتأثر بذلك لأنه لا يحترم الناس ويجترىء عليهم بشتّى الأساليب فكما استعملها ضدّهم يستعملونها ضدّه وهو لا يبالي كما قال الشاعر:
من يهن يسهل الهوان عليه *** ما الجرح بميتٍ إيلام
فإنّ الميّت لا يحسّ ولا يشعر لانفصال روحه عن جسده وكلّ ما تحدثه من جرح في جسمه فهو لا يشعر به وهكذا الفاحش أو الذي لا يبالي بما قال من كلام بذيء فإنّه يُعتبر كالميت معنوياًّ لا يهمّه من قال فيه سوءاً أو أدانه بتصرّفاته لانعدامه من الإحساس وطهارة الضمير ولفقدان شخصيته الإجتماعيّة بين الناس وانجراره وراء مساوىء اللسان التي تبعده عن الله سبحانه، حرّم الله تعالى الجنّة عليه بسبب:
1 - عدم تجانسه مع الجنّة لكونه دنّس نفسه بالخبائث والجنّة طاهرة لا تقبل غير الطاهر.
2 - ارتكاب المعاصي والآثام التي نهى الله عنها كالغيبة والنميمة.
3 - فقدان شخصيّته الاجتماعيّة والمعنويّة ومَن فقد شخصيّته بين النّاس انحطّت إنسانيّته ومنزلته في الآخرة أيضاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كلمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): ص153.
(2) مجمع البيان: المجلد الرابع، ص 55.
(3) التفسير الكبير المجلّد (11)، ص189، ج 22، ط 3، بيروت.
(4) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص 185، الفصل الرابع في الجواهر المجرّدة، المسألة الأولى.
(5) المصدر نفسه: ص 186.
(6) المصدر نفسه.
(7) القول السديد في شرح التجريد: ص 166.
(8) مجمع البحرين: ج 4، ص 147 (فحش).
(9) تفسير البرهان: المجلّد الثاني، ص 13.
(10) البحار: ج 76، ص 110، باب 83، حديث 10.
(11) فروع الكافي ج 3، ص 365، باب ما يقطع الصلاة، حديث 10.
(12) تحف العقول: ص 31، ط ـ الخامسة.
(13) مجمع البحرين: المجلد الأول، ص48، باب "بذا".
(14) الترغيب والترهيب: ج 3، ص 528.
(15) نهج الفصاحة: ص528، حديث 2542.
(16) نهج البلاغة: خطبة176، ص 253، صبحي الصالح.
(17) نهج الفصاحة: ص 581، حديث 2816.
(18) المصدر نفسه: ص 397، حديث 1879.
(19) سفينة البحار: ج 1، ص 412، مادة "خلق".
(20) البحار: ج43، ص 344، باب 16، حديث 16، ط ـ بيروت.
(21) أعلام الورى: ص 261، فضائل الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)، ط 3.
(22) بصائر الدرجات: ص 40، باب 10، حديث 1.
(23) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص 6، موجز من حياة المصنّف (قده).
(24) مجمع البيان: المجلّد الثاني، ص 51.
(25) كلمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): ص153.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|