مفهومة وتأثيراته السياسية

فكرة المعمور (الأكيومين) في الدولة فكرة شديدة الأهمية، لأن لها انعكاسات سياسية خطيرة غالبا. ولا يقصد بها أن اللا معمور خال تماما من السكان، ولكنه في الأغلب مخلخل جدة، بحيث يتلاشى وزنه السياسي في جرم الدولة، حتى يصبح المعمور هو مركز الثقل السياسي فيها ونواتها.

ويميز برستون حيس في هذا الصدد بين المساحة القزمية الكلية وبين المساحة القزمية الفعالة. ويمكننا أن نعالج هذا الموضوع من زاويته السياسية من نواح ثلاث لكل منها مغزاها وأثرها على الدولة: نسبة المعمور من الدولة، وشكله فيها، ثم موقعه منها.

فنسبة المعمور من مساحة الدولة له أثر سياسي كبير عليها، كذلك يؤثر شكل المعمور تأثيرا عميقا على التركيب السياسي للدولة. فقد يتألف المعمور الفعال من كتلة أو نواة واحدة ضخمة متماسكة، أو من نواتين متكافئتين منفصلتين، أو من عدد من النوايات الصغيرة المبعثرة كالأرخبيل، ولكل هذا رد فعل جيوبوليتيكى من حيث مدى التماسك السياسي وأحيانا من حيث شكل الدولة الدستورية: وحدة أو اتحاد أو نزعات انفصال, ويتأكد هذا الوضع إذا اقترن الانقطاع العمراني في داخل الدولة بانقطاع اثنولوجي وهو أمر شائع، إذ يشتد الميل حينئذ إلى استقطابات سياسية متنافرة بدرجة أو بأخرى. والأمثلة واضحة.

فالمعمور المصري - على طوله - كتلة واحدة شديدة التماسك والالتئام، ومنذ أربعة ألاف ق.م ومصر دولة موحدة تماما. على أن الشكل الخطى للمعمور لا يمكن أن يعد خطة اقتصادية من الوجهة السياسية أو المادية أو الثقافية. ففي مصر يمتد شق الصعيد اكثر من ٨٠٠ كم، ولكن مساحته يمكن أن تحتويها جميعا دائرة كل قطرها 5 ١٢ كم تقريبا، ومع ذلك فإن هذا النمط غير الاقتصادي داخليا هو بعينه الذي تعمق بمصر خارجيا فدفع بها في اتجاه إفريقيا المدارية وقربها منها وأعطاها بعدا إفريقيا أصيلا ومنحها اثرها ونفوذها التاريخي والحضاري المرموق فيها.

وبالمثل نجد المعمور في الجزائر خطيا بامتداد التل، له طول وليس له عرض. ولعل الأثر السياسي الأكبر لهذا التمعط هنا هو ضعف تماسكه النسبي وسيادة اللامركزية فيه وانعدام بورة قوية تسيطر عليه. ومن هنا سنجد العواصم السياسية دائمة الهجرة على طول هذا المحور، وهي حين تسيطر على نقطة فيه لا تحقق لنفسها سيادة مطلقة على المدن التالية من حيث الحجم والأهمية، كذلك يتألف المعمور في النيجر من نطاق خطى ضيق على طول الحدود الجنوبية.

كذلك موقع المعمور الفعال من الدولة بالنسبة لرقعة هذه الدولة أهمية سياسية كبيرة. سواء من وجهة نظر الداخل أو الخارج مع الجيران. فليس المعمور المتوسط الموقع كالعمور المتطرف الموقع، لا في الضبط والربط، والتماسك الداخلي، ولا في طبيعية العلاقات أو المشاكل مع الدول الجارات. ولعل خير ما نفعل في دراستنا هنا لموقع المعمور، أن نبدأ بتجديد الأنماط الرئيسة النظرية التي يتخذها موقع المعمور بعامة.

ولا شك أن توسطه في الرقعة السياسية هو النمط المثالي، ولكنه بداهة النادر. أما المتطرف فاكثر شيوعا، وهو يخلق لنا عدة تكوينات هندسية أو أنماط جغرافية. أولها يحدث حين تتطرف كتلة المعمور على أحد هوامش الدولة بينما يتطرف المعمور في الدولة المجاورة على الهامش المقابل عبر الحدود. فهذا هو التطرف على التقابل، كما قد نسميه، وهو إذا اشتد أو تبلور يمكن أن يتحول إلى التحام عمراني تبدو الحدود فوقه حدودا اصطناعية مفتعلة. وعدا هذا ففيه تكمن بذور الشقاق والمنازعات السياسية.

وعلى العكس من ذلك التطرف على التباعد، حين يتطرف معمور كل من الدولتين الجارتين على الجانب الأبعد القصي بالنسبة للآخر, وهذا على العكس من النمط السابق يضعف إمكانيات العلاقات التجارية والتبادل بين الدولتين، وقد يقلل من احتمالات النزاع، ولكن ليس دائما، فوجود الفراغ العمراني الحالي بينهما قد يغرى إحدى الدولتين بالتوسع وملئه, أما النمط الأخير فيمكن أن نسميه التطرف اعلى التناظر، وذلك حين يقع معمور كل من الجارتين على جانب ثابت جغرافيا من رقعتيهما, وهذا من شأنه نظريا أن يخلق انحدارات جيوبوليتيكية غير متكافئة على جانبي الحدود المشتركة، لمصلحة إحدى الدولتين دون الأخرى شكل (12).

شكل (12) التشكيلات النظرية الاساسية لموقع المعمور من الدولة

فاذا كان التوقيع المثالي لاكيومين الدولة هو أن يتوسطها بقدر الإمكان ثم يأخذ الدقة كلما اقترب من الحدود حتى تصبح هذه خط تقسيم عمراني, كما هى خط تقسيم سياسي، مما يحقق التماسك الداخلي والحماية الخارجية للدولة, أما من أسوأ أنماط المعمور أن يتركز على الحدود السياسية ويترك القلب خاليا او ميتا, فتكون النتيجة أن الحدود تتعامد بالذات على المعمور، تقطع بقسوة في الغطاء البشري، ممزقة له وفاصلة بين أبناء جماعة أو قبيلة واحدة, أي أن هذا التمعط ينتهى إلى ظاهرة القبيلة الممزقة, وهنا تصبح الحدود بحق إما حد الموسى أو قفصا حديديا - وإما أن تتجاهل في الأمر الواقع.