المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17761 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24



قصة إبراهيم  
  
3267   02:49 صباحاً   التاريخ: 2-06-2015
المؤلف : د. محمود البستاني
الكتاب أو المصدر : دراسات فنية في قصص القران
الجزء والصفحة : ص384-401
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / قصص الأنبياء / قصة النبي ابراهيم وقومه /

تبدأ قصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ [في سورة الأنبياء] على النحو التالي :

{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } [الأنبياء : 51]

إن هذه المقدمة القصصية تشدد على إبراز ظاهرة (الرشد) الذي يسم شخصية إبراهيم ـ عليه السلام ـ : مما يعني [من حيث البناء العماري للأقصوصة] ان محتوياتها ستصاغ وفاقا لمنطق (المعرفة) الحقة التي يتعامل إبراهيم ـ من خلالها ـ مع أحداث القصة ومواقفها وشخوصها.

وبالفعل : فإن أول موقف تصوغه القصة في هذا الصدد ، إنما يتصل بطريقة اللغة التي واجه بها إبراهيم : أباه وقومه ، العاكفين على عبادة التماثيل ، وبطريقة السلوك الذي مارسه حيال التماثيل المذكورة ، وبطريقة المناقشة المنطقية التي اتمها معهم : وهي جميعا ـ لغة وسلوكا ومحاجة ـ تفصح عن (الرشد) الذي يسم شخصيته عليه السلام.

والآن : لنتقدم إلى تفصيلات المواقف والاحداث التي بدأها القسم الأول من القصة ، بالحوار التالي :

{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء : 52]

وفي البدء ، يحسن بنا ان نلفت انتباه المتلقي إلى ان اقصوصة إبراهيم ستحوم بأكملها على قضية (التماثيل) وما يرافقها من احداث ومواقف وشخوص : دون ان تتجاوزها إلى قضايا أخرى.

وهذا يعني ان الأقصوصة [من حيث الشكل والمضمون تتميز ببناء هندسي خاص قائم على [وحدة الموضوع] من جانب ،… وعلى صياغة الاحداث والمواقف والشخوص التي تصب في [الوحدة الموضوعية] المذكورة ، وفق خطوط : تتنامى وتتلاحم بنحو بالغ الإثارة ، فنيا وفكريا ، من جانب آخر.

وواضح ، ان هذا النحو من الصياغة القصصية ، يتميز عن منحى صياغي آخر تتوفر القصة القرآنية الكريمة عليه ، حينما تحققه من خلال [الوحدة الفكرية] التي تعني أن موضوعات مختلفة تطرحها القصة أمام المتلقي ،… لكنها تصب في رافد فكري (يوحد) بين الموضوعات المختلفة.

المهم : أن النص القرآني الكريم ، يسلك طرائق شتى في صياغة الأقاصيص… ، ينطوي كل منها على إمتاع جمالي وفكري بالغ الاثارة : ومنها ، هذا المنحى القائم على [وحدة الموضوع] في قصة إبراهيم ، قبال المنحى القائم على [وحدة الفكر] في اقاصيص أخرى عن إبراهيم نفسه ، أو عن الابطال الآخرين.

والآن : لنتابع القسم الأول من هذه الأقصوصة التي تحوم على [موضوع واحد] هو : (التماثيل) ، واستجابة إبراهيم ـ عليه السلام ـ حيالها ، فيما تجسدت أولا في استجابته الثائرة على أبيه وقومه ، مخاطبا اياهم :

{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [الأنبياء : 52]

إن المتلقي ، يظل في بداية الأمر ، مترددا في استخلاص نوع الاستجابة الصادرة عن إبراهيم حيال هذه الأصنام.

هل هي استجابة غاضبة؟ أم هي استجابة ساخرة؟ أم هي مزيج منهما؟

لا شك ، ان أية استجابة من الأشكال الثلاثة ، تنطوي على دلالة ممتعة [فنيا وفكريا] ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن صياغة الاحداث والمواقف ، انما تتلون وفقا لنمط الاستجابة الصادرة عنه عليه السلام ، وصلة ذلك [من حيث المبنى الجمالي] بالمقدمة القصصية التي شددت على سمة (الرشد) في شخصية إبراهيم عليه السلام.

إن احداث القصة ومواقفها ، ستكشف [في البعض منها] عن ان استجابته ـ عليه السلام ـ كانت (غاضبة). مثلما كانت (ساخرة) أيضا [في البعض الآخر منها] : مما نتوقع حينا من ان تكون الاستجابة مزيجا من الغضب والسخرية ، أو غضبا في بعض المواقف ، وسخرية في الآخر منها ،… أو اننا ـ أساسا ـ لا نملك يقينا حاسما على تحديد ذلك.

المهم ، في الحالات كلها ، يظل هذا النمط من الصياغة الفنية لاستجابة إبراهيم حيال التماثيل ، وانطوائها ـ من جانب ـ على نمطين من الاستجابة : (الغاضبة) و(الساخرة) ،… ثم ترددنا في معرفة ما إذا كانت السخرية والغضب سلوكين يمتزجان بعضا بالآخر في كل المواقف والاحداث أم ينفصلان في موقف دون آخر مثلا…

أقول : هذا النمط من الصياغة الفنية لاستجابة إبراهيم ـ عليه السلام ـ لم يكن مجرد ظاهرة جمالية ، تستشير احاسيسنا في نطاق محدود أو عابر ، بقدر ما ينطوي الأمر على خطورة فنية وفكرية ، تدلنا على طرائق السلوك التي ينبغي أن نختطها في التعامل مع الظواهر التي تواجهنا : بحيث تترك (فاعلية) لها قيمتها في ميدان التعامل.

والآن : فان أول استجابة صادرة عن إبراهيم حيال التماثيل ، لا تكشف لنا عن نمط الاستجابة ، بل يظل الأمر ملفعا بغموض فني : تبدأ الاحداث اللاحقة بتبيين ذلك ، فيما بعد.

ولكن قبل أن نتبين ذلك ، ينبغي أن نتابع جواب قومه حيال السؤال الذي وجهه إلى أبيه وقومه ، بقوله :{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [الأنبياء : 52]

لقد أجابه القوم بما يلي :

{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } [الأنبياء : 53]

وهنا ، اجابهم إبراهيم مباشرة :

{قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء : 54]

ثم ، أجابه القوم ، أيضا :

{ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ } [الأنبياء : 55]

وعندها ، أجابهم مباشرة :

{قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء : 56]

إلى هنا ، فإن هذه السلسلة من الحوارات المتبادلة بين إبراهيم وقومه ، تدع المتلقي مترددا في تحديد ما إذا كان إبراهيم غاضبا في مواجهته للقوم ، أم ساخرا ، أم غاضبا وساخرا في آن واحد؟؟

مما لا شك فيه ، ان القوم بصفتهم مجموعة من الاغبياء والحمقى ، قدموا اجابات مثيرة للسخرية حينما قدموا أولا إجابة تدل على تخلفهم الفكري من أنهم وجدوا آباءهم عبدة تماثيل ، فاقتفوا آثارهم ،… وحينما قدموا ـ ثانيا ـ اجابة تدل على حماقتهم في التساؤل الذي مزجوه بالسخرية في قولهم : {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ } [الأنبياء : 55]

إن تقديم مثل هذه الاستجابة الحمقاء ، قد تستدعي نمطا من الاستجابة التي يواجههم إبراهيم بها ، بحيث تتناسب مع الموقف ، مما يعني أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ سيمارس سلوكا (ساخرا) حيالهم فيما بعد.

وهذا ما سنراه فعلا في مواقف لاحقة من القصة : مع ملاحظة أن (الغضب) لله ، قد غلف سلوك إبراهيم أيضا ، بنحو بالغ الشدة ، على نحو ما سنوضحه لاحقا.

يتضمن القسم الأول من قصة إبراهيم عليه السلام ، موقعا يحوم على مناقشة أبيه وقومه في عبادتهم للتماثيل.

ويلاحظ ان إبراهيم ـ عليه السلام ـ وجه خطابا مشتركا لأبيه وقومه ، دون ان يفرد لأبيه خطابا خاصا ، أو منفصلا عن الخطاب الذي وجهه للقوم ، بل تم توجيه الخطاب على النحو التالي : {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [الأنبياء : 52]

والسؤال هو : لماذا جاء ذكر (الاب) في سياق الخطاب الموجه للقوم؟ [من حيث المبنى الفني للحوار].

إن إقراد (الأب) في هذا الصدد ، ينطوي على سمة فنية هي : التشدد على ما يسمى بدافع (البنوة) نحو الأب ، ولفت الانتباه إلى ان العاطفة النسبية [مع انها موضع أهمية كبيرة في نطاق العلاقات] لكنها في نطاق التعامل مع السماء ، ينبغي الا تحتجز الفرد من إلغاء العاطفة المذكورة ، بل ينبغي الاتجاه إلى السماء فحسب ، والالتزام بمبادئها.

وهناك سمة فنية ثانية وراء إفراد الأب في سياق الخطاب الموجه للقوم. فالملاحظ أن إبراهيم تسلم جوابا من قومه على هذا النحو :

{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء : 53]

فهذا الجواب يتضمن دلالة واضحة إلى أن (الأنبياء) قد وجدوا (آباءهم) عاكفين على الأصنام ، أي : انهم مقلدون ومحاكون لآبائهم ، دون ان يمارسوا عملية (تفكير) في هذا الموقف.

وهذا يعني أن (الوعي) أو (الرشد) غائب عن اذهانهم تماما. إن ما نود من لفت الانتباه إليه ، هو : ان القصة قد استخدمت طريقة فنية غير مباشرة ، أي : طريقة قائمة على فسح المجال للقارئ أو السامع أن يستكشف بنفسه بعض الدلالات المهمة التي يستهدفها النص من وراء هذا الحوار الفني ، دون أن توضحها القصة ذاتها.

الدلالة التي تستهدفها القصة هي : ان إبراهيم ـ عليه السلام ـ قد ترك تقليد الآباء في عبادتهم للأصنام : بدليل ، انه وجه اعتراضا لأبيه.

ولا يغب عن بالنا ، ان (القصة) في مقدمتها قد وسمت إبراهيم بصفة (الرشد) ، فقالت : {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ } [الأنبياء : 51]

ثم تقدمت الآن ـ بطريقة فنية غير مباشرة ـ بتوضيح هذه الصفة ، حيث أبانت من خلال الاعتراض الذي وجهه إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلى أبيه وقومه على عبادتهم للتماثيل ،… ومن خلال الاجابة التي تقدم بها القوم من انهم وجدوا آباءهم عابدين للتماثيل ، وانهم مقلدون لاباءهم في هذا الموقف… أبانت من خلال ذلك كله ، ان إبراهيم ـ عليه السلام ـ لم يكن (مقلدا) لأبيه وقومه ، بل كان (رشدا) متصفا بسمة (الرشد) التي تعني عدم انغلاق الفكر ، أو سذاجته.

إذن : هناك دلالتان فنيتان يستوحيهما القارئ أو السامع من الإجابة التي تقدم بها القوم : { قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء : 53]

الدلالة الأولى : ان إبراهيم ـ عليه السلام ـ لم يقلد آباءه ، بدليل انه وجه اعتراضا لهم.

الدلالة الثانية : أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ موسوم بسمة (الرشد) ، طالما لم يقتص أفكار الآباء ، بل اتسم بـ(الرشد) الذي جعلته مقدمة القصة : سمة أو طابعا لشخصية إبراهيم ـ عليه السلام ـ الذي ستحوم كل احداث القصة على مصاديق (الرشد) الذي تتسم به شخصيته عليه السلام.

والآن : لنتابع مواقف القصة من خلال الحوار المتبادل بين إبراهيم وقومه ، بعد ان أوضحنا كلا من البناء العضوي للحوار ، ولصلته بمقدمة القصة.

لقد خاطبهم إبراهيم أولا : {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [الأنبياء : 52]

فأجابوه : {وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء : 53]

ثم رد عليهم : { لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [الأنبياء : 54]

وهذا الرد يعكس بعدا آخر من طابع (الرشد) الذي يتسم به إبراهيم : حيث أوضح بأن المقلد والمقلد في ضلال مبين ، بصفة ان المقلد [وهم الآباء] لم يصدروا عن فكر صائب (رشيد) في عبادتهم للتماثيل طالما يعبدون مالا ينفعهم شيئا ولا يضرهم ،… وطالما يعبدون ما لا يملك حتى فاعلية (النطق).

وأما المقلد [وهم الابناء] ، فيتسمون بنفس الطابع الضال ما داموا مجرد مقلدين لم ينتبهوا إلى حقيقة الموقف الذي سار الآباء عليه.

طبيعي ، لم تتحدث القصة القرآنية بنحو مباشر عن هذه التفصيلات ، بل ان هذه التفصيلات المتصلة بعبادة ما (لا ينطق) ، وما (لا ينفع شيئا أو يضر)… هذه التفصيلات سنجدها في تضاعيف القصة عبر أحداث ومواقف لاحقة ،… بيد أن القارئ أو السامع يكتشف بنفسه أصداء هذه الدلالات ، عندما يتابع القصة… مثلما يكتشف القيمة الفنية لمثل هذا المنحى من صياغة الحوار الذي يقدم جوابا مجملا مثل (انتم وآباؤكم في ضلال مبين) ، ثم (يفصل) ما هو مجمل ، في الاجزاء اللاحقة من القصة : محققا بذلك إمتاعا جماليا للمتلقي عندما يواجه مثل هذه العمارة الفنية التي خضعت القصة لها.

والآن : بعد أن ألمح إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلى القوم بانهم وآباؤهم في ضلال مبين ،… ماذا كانت الإجابة من قبلهم ؟

{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء : 55]

إن مما يثير السخرية ، أن تجيء الإجابة باهتة ، ساذجة ، تتوافق ونمط (العقلية) أو الثقافة التي تغلف هؤلاء القوم.

فما داموا (مقلدين) بلا إعمال للفكر ،… حينئذ نتوقع أن يخيل إليهم أن إبراهيم كان (لاعبا) هازلا في اعتراضه على عبادة الأصنام : لأن مثل هذا الاعتراض يزلزل أسس (التقليد) الذي طبعت اذهانهم عليه.

ومع ذلك ، فان إبراهيم ـ عليه السلام ـ [تبعا لسمة (الرشد) الذي طبع شخصيته] أجابهم بما يلي : (قال : بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين).

أن الفقرة الأخيرة {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء : 56] ، تؤكد ـ من جديد ـ سمة (الرشد) الذي طبع شخصيته ،… مثلما تؤكد يقينه التام بالقضية التي يتحرك من خلالها ، ثائرا على قومه.

وبالفعل ، تبدأ ثورته على الواقع الفاسد ، متمثلة أولا : في قسم لفظي :

{لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء : 57]

ثم : في ممارسة عملية ، ثانيا :

{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } [الأنبياء : 58]

إن احداث القصة تبدأ [فيما يسمى بـ(التأزم) في لغة الادب القصصي] تبدأ من (القسم) الذي أعلنه أو أضمره [حسب بعض النصوص المفسرة] بان يكيد أصنامهم ،… وتبلغ ذروتها أو تأزمها في تهشيمه فعلا للأصنام ، وفي جعلها قطعا قطعا ، أو حطاما.

والآن : فإن القسم الثاني من القصة ، يبدأ مع قسم إبراهيم بان يكيد الأصنام ، ومع تحطيمه الفعلي للأصنام بأكملها ، عدا الصنم الكبير منها.

ولكن : ينبغي ان نتعرف على تفصيلات هذا الحدث الخطير ، بدء من (القسم) ، مرورا بتهشيمه للأصنام ، وانتهاء بتركه كبير الأصنام : ثم : تعليل ذلك كله : فنيا وفكريا ، وصلته بمقدمة القصة ، وقسمها الأول!!

يبدأ القسم الثاني من قصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ [في سورة الأنبياء] بحادثة تهشيمه للأصنام. وقد سبق حادثة التهشيم ، (قسم) بالله ، بأن يكيد الأصنام.

إن هذه الحادثة تنطوي ـ بوضوح ـ على دلالة فكرية تتصل بشجاعة إبراهيم عليه السلام ، وبثقته بالله ، وبتحسيس الآخرين أن التعامل مع الله ينبغي ألا يعوقه الخوف من أي ظالم مهما عتا وتجبر ، ومهما بلغت قوته.

ومثلما أشارت بعض النصوص المفسرة عن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ بما مؤداه : من أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ بلغت شجاعته الذروة ، حين كان وحده يقف قبال الآلاف من عبدة الأصنام ،… وحتى من الزاوية النفسية الخالصة ، فإن الوحشة لم تداخل الخوف حينما كانت (وحدة) إبراهيم حتى من (أبيه) الذي لم يحتج إلى عاطفته.

إذن : مثل هذه الشجاعة المستمدة من الركون إلى الله ، تظل أمرا لافتا ، للانتباه ،… وبخاصة انها ـ أي الشجاعة المذكورة ـ سيصاحبها يقين مماثل كما سنرى في القسم الثالث من القصة ، عبر حادثة إلقاء إبراهيم في النار ،… يقين برعاية الله في المواقف كلها على تنوع مستوياتها : سواء أكان ذلك متصلا بمجابهة أعداد ضخمة من الطواغيت ، أم كان متصلا بمجابهة (نار) تحرق الجسد بطبيعتها.

المهم : إن وضوح مثل هذه الدلالة الفكرية ، يظل متصلا بسمة (الرشد) التي وسم الله بها إبراهيم عليه السلام ، فيما تفصح هذه السمة عن مدى (الوعي) الذي غلق إبراهيم ـ عليه السلام ـ في ثقته بالسماء ، ومعرفته بقدراتها غير المحدود ،… حيث أمدته بشجاعة بالغة المدى في ممارسته : تحطيم الأصنام وحده : قبال الآلاف ، وفي يقينه بالسماء في حادثة إلقائه في النار : على نحو ما سنتحدث عنه لاحقا.

وحين نتجه إلى واقعة تهشيمه للأصنام ، نلحظ : ان النصوص المفسرة ، تقدم تفصيلات قد اختزلها النص القصصي ، فيما لا حاجة إلى (سردها) فنيا : ما دام الأمر يتصل بإبراز (دلالة) خاصة هي : عملية تحطيم الأصنام ، وما يرافقها من شجاعة : ثم ، ما يرافقها من دلالات أخرى تظل في الصميم من اهتمامات إبراهيم عليه السلام ، وحرصه على إبرازها أمام الوثنيين ، بغية كشف السذاجة والغفلة التي تطبع عقولهم.

على أن حادثة تحطيم الأصنام قد رافقها موقف وحادث آخر ، ينبغي الوقوف عندهما مليا ، ما دمنا أمام نص قرآني عظيم : لا يرسم موقفا أو حدثا جانبيا إلا إذا انطوى على دلالة فنية كبيرة أو دلالة نفسية متصلتين بالبناء الهندسي للقصة.

أما الموقف ، فهو قول إبراهيم ـ عليه السلام ـ : (لأكيدن أصنامكم) ، قبل ان يقدم على كسر الأصنام.

وأما الحادثة فهي : إبقاؤه كبير الأصنام سالما ، دون أن يحطمه.

لا شك ، ان كلا من الموقف والحادثة ، يرتبطان عضويا : أحدهما بالآخر. مثلما يرتبطان بمواقف سابقة في القصة ، كما يرتبطان بمواقف لاحقة في القصة أيضا.

ويمكننا ملاحظة هذا الإحكام الهندسي وجماليته الفائقة في القصة : حين نشرع بتوضيح كل من ملابسات الموقف والحادثة : موقف كيده للأصنام ، وحادثة ابقائه كبير الأصنام.

أما (الموقف) ، فتقول النصوص المفسرة عنه ، أنه ممارسة لفظية وجهها لعبدة التماثيل من انه سيكيد لها بنحو أو بآخر.

وظاهر النص القصصي الكريم يسند مثل هذه الممارسة اللفظية الموجهة إلى القوم ، وبخاصة أنها قد اقترنت بقسم بالله ، من انه سيكيد الأصنام : مما يعني أن القسم موجه لأولئك الذين سخروا منه حينما تساءلوا : أجاد أم هازل : أنت يا إبراهيم في اعتراضك على تماثيلنا؟؟

بيد ان بعض النصوص المفسرة ، تذهب إلى ان إبراهيم قد أسر ذلك على قومه ، ولم يوجه خطابه إلا إلى واحد من القوم فحسب.

وأيا كان الأمر ، فان المهم هو أن إبراهيم كان في صدد القيام بكيد محدد سيعكس أثره [من الزاوية الفنية] على مواقف لاحقة من القصة : كما سنرى.

كان إبراهيم (غاضبا) لله عبر رؤيته غفلة القوم وعكوفهم على التماثيل. وكان ـ فيما يبدو ـ ساخرا من أولئك أيضا ، عندما مزج الغضب بالسخرية ، قائلا : ما هذه التماثيل التي انتم لها عاكفون.

وتبعا لذلك قرر إبراهيم ان يعمل كيدا بالنسبة إلى الأصنام ، حتى يعرفهم حقيقة ما هم عليه من الضلال المبين.

وفعلا ، أقسم بالله أولا : {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء : 57]

وبدأ بتنفيذ العملية ذات يوم ، مستثمرا فرصة أحد الاعياد عند القوم ، وخروجهم من مساكنهم. وها هو يحمل فأسا في يده ، ويبدأ ـ في ثقة الفارس الشجاع الذي لا تضاهيه شجاعة ـ بتكسير الأصنام واحدا بعد آخر ، غير مبال بالنتائج المترتبة على هذا العمل الخطير ، ما دام واثقا أنه يكسر مجموعة أصنام لا تضر ولا تنفع ،… إلا تعي ولا تنطق… وما دام واثقا انه حيال قوم غافلين ، منعزلين عن السماء ... وما دام واثقا – وهذا هو مكمن الخطورة – أنه يستمد فاعليته من (السماء) التي لا تكف لحظة عن إمداده بالقوة ، ... بالمعطيات .. بالإنقاذ.

وفعلا : تم كل شيء.

لكنه ، ابقى صنما واحدا هو : كبير الاصنام ، فيما تقول النصوص المفسرة ، ان ابراهيم (عليه السلام) أبقاه – علق الفأس في عنقه – دون ان يهشمه. وكان موقعه في مقدمة الأصنام.

ثم عاد القوم من تجوالهم في يوم العيد.

لكنهم فوجئوا بما لم يدر في حسبانهم.

لقد وجدوا تماثيلهم مهشمة جميعا ، خلا التمثال الكبير ، .. التمثال المعلم الذي وضع الفأس في عنقه.

مثل هذه الحادثة لم تمر على القوم دون مبالاة ، .. بل انها ستحدث لديهم رد فعل له دلالته في أذهانهم دون ادنى شك.

وطبيعي ان يتساءلوا – بادئ ذي بدء- عن هوية الفاعل .. عن الشخصية التي تجرأت على القيام بمثل هذه العملية.

لقد تساءلوا بمرارة ساذجة قائلين :

{مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا } [الأنبياء : 59]

ويبدو ، ان البعض منهم كان على وعي وتذكر بأن إبراهيم كان معارضا ، منتقدا تماثيلهم ، وعكوفهم عليها ، .. أو –على الأقل – قد سمع البعض منهم ان إبراهيم -عليه السلام- أقسم ذات يوم بأن يكيد أصنامهم.

ولذلك : اجاب البعض منهم ، على سؤال البعض منهم ، قائلين :

{سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } [الأنبياء : 60]

إذن : عرف القوم ان البطل هو إبراهيم –عليه السلام-.

الى هنا ، فإن الأحداث والمواقف تمضي على نحوها المذكور.

ولكن : هناك إجابة خاصة أعدها ابراهيم ، لمواجهة الموقف وقبل ذلك : هناك أسرار وسمات وخصائص فنية ، ينبغي ان نقف عندها : حيال صياغة القصة بنحوها المذكور.

عندما هشم إبراهيم –عليه السلام- تماثيل القوم ، وتعرفوا على شخصيته بدأت الأحداث والمواقف تأخذ منعطفا خطيرا في هيكل القصة.

فالقوم [وهم مشدودون إلى أصنامهم] لا يعقل أن يقفوا حيال البطل إبراهيم موقف المتفرج ، او حتى موقف المعاتب الذي لا يثير ضجيجا قبل إقدامه على الجريمة ، جريمة إلقائه في محرقة خاصة.

ولذلك ، اقترحوا ما يلي :

{ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء : 61]

وفعلا ، جيء بالبطل الى مشهد يغص بالناس .. ووجهوا إليه هذا السؤال :

{ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ } [الأنبياء : 62]

وأجابهم إبراهيم –عليه السلام- على الفور ، إجابة ذكية ، أعد لها إدادا خاصا من قبل ، حينما أقسم بالله أنه [ليكيدن أصنامهم]... لقد أجابهم – ساخرا- [وإنها لسخرية الحق من الباطل] أجابهم قائلا :

{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ } [الأنبياء : 63]

بهذه الاجابة ، تتكشف أبنية القصة وخطوطها الهندسية ، في ترابط بعضها بالآخر ، ... وفي إنارة أحدها للآخر...

فالقارئ او السامع سيدرك على الفور بعض السمات الفنية وراء هيكل القصة.

إنه القارئ او السامع – سيدرك على الفور ، أن إبراهيم –عليه السلام- عندما قال ذات يوم (تالله لأكيدن أصنامكم) ، فإنه لم يقل هذا عبثا ، بل ان القصة قدمت مثل هذا الكلام ، ليشكل تمهيدا لـ (فعل) لاحق تكشفه تضاعيف القصة فيما بعد.

وهل هناك كيد أشد وقعا على النفوس من ان يقوم إبراهيم بتحطيم الأصنام ، ثم يقول للقوم : اسألوهم عن الفاعل إن كانوا ينطقون.

أليس من حق إبراهيم –عليه السلام- [من الزاوية الفنية في صياغة القصة] أن يناقش القوم في البداية قائلا : (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) ، ثم : بعد ان يستمع إلى الى إجابتهم الهزيلة (وجدنا آبائنا لها عابدين) ، ثم بعد اجابتهم الساخرة {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء : 55] : أليس من حق إبراهيم ـ بعد تسلمه مثل هذه الاجابات التي تحيا في غفلة من العقل ـ أن يواجههم بكيد يتناسب مع [الغفلة العقلية] التي يحيونها : غفلة العكوف على أصنام لا تعي ولا تنطق؟؟

ان من حقه ان يفعل ذلك ، وأن يقدم لهم إجابة ساخرة كل السخرية ، داعية إلى الاشفاق كل الاشفاق عليهم ، قائلا لهم : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء : 63].

وهذا كله فيما يتصل بالموقف الساخر.

أما ما يتصل فنيا بحادثة ابقاء الصنم الكبير سالما دون ان يناله التحطيم ، فإن الأمر يبدو واضحا تماما [من حيث الموقع الهندسي لهذه الحادثة بهيكل القصة].

فلقد أبقى إبراهيم عليه السلام ،… أبقى صنما كبيرا في مقدمة الأصنام ، بغية ان يكون لهذا الحادث دلالة فنية [من حيث بناء القصة] ودلالة فكرية [من حيث سلوك إبراهيم]… هذه الدلالة هي : إن تحطيم الأصنام من الممكن أن يقترن في اذهان هؤلاء الحمقى ، بأنها قد اصبحت في حكم العدم ،… وإلى ان بقاء واحد منها حيا من الممكن أن يسعفهم بالإجابة على أسئلتهم. بل ، يمكن الذهاب ـ بنحو أو بآخر من انحاء الاستخلاص الفني ـ أن ابقاء الصنم الكبير سيحسم الأمور تماما ، عندما يعي القوم ـ ولو للحظة ـ أن الصنم الكبير لا يملك قابلية على النطق أبدا… وفي هذا كفاية لتحسيس القوم بواقع الغفلة التي يحيونها.

ولكن السؤال : هل ان القوم اتعظوا بهذه الحادثة أم لا؟

إن القصة ذاتها ، تجيب على هذا السؤال.

إذن : فنتابع الموقف…

تقول القصة ، ساردة رد الفعل الذي احدثته إجابة إبراهيم ـ عليه السلام ـ لدى القوم ، بعد ان قال لهم{فَاسْأَلُوهُمْ –اي الاصنام- إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء : 63]

{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء : 64]

{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء : 65]

لقد ، أفحم القوم تماما ، حينما تنبهوا إلى حقيقة الأمر ، وأدركوا ان الصنم لا يملك قابلية على النطق.

وعندها اضطروا إلى مواجهة الحقيقة ، وتقينوها في أعماقهم تماما للدرجة التي خاطب بعضهم ، بعضا ، فقالوا : انكم أنتم الظالمون.

أكثر من ذلك : لقد تملكهم الخجل تماما ، للدرجة التي طأطأوا من خلالها رؤوسهم ، مضطرين إلى الإقرار بحجة إبراهيم ـ عليه السلام ـ حيث خاطبوه : {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء : 65]

ان مثل هذا الاقرار يعد نصرا ضخما دون أدنى شك في ميدان (الفكر) : قد أعد له إبراهيم إعدادا ذكيا حتى انتهى به إلى هذا المطاف.

ولذلك ، تحدث إبراهيم ـ عليه السلام ـ ـ بعد هذه الواقعة ـ بلغة المنتصر [وليس بلغة من يحاول اقناع القوم] ، قائلا لهم :

{أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ } [الأنبياء : 66]

{ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [الأنبياء : 67]

وواضح ، ان هذا التعقيب جاء مناسبا للموقف الجديد ، ما دام الأمر فيما يتصل بالمنغلقين ذهنيا لا يحقق فاعليته المنشودة المتمثلة في عبادة ما لا ينفع شيئا ولا يضر ، … إلا بعد تقديم ممارسة تحطيم الأصنام ، وابقاء الكبير منها ، ومطالبة القوم بتوجيه السؤال إلى الصنم في التعرف على هوية الفاعل.

بهذا الموقف الذي أعقب حادثة تكسير الأصنام ، وابقاء الكبير منها ، وإقرار القوم بغفلتهم ، وظلمهم… ينتهي القسم الثاني من قصة إبراهيم.

ثم يواجهنا القسم الثالث منها ـ وهو القسم الذي تختتم به القصة.

وقبل ان نتعرف على المواقف والاحداث التي يتضمنها هذا القسم من القصة ، يواجهنا السؤال التالي :

إذا كان إبراهيم ـ عليه السلام ـ قد حقق انتصارا ملحوظا في حادثة تحطيم الأصنام ، وانتزع من القوم إقرارا بخطأ ما هم عليه ،… فهل أن ذلك يعني أن القوم قد رجعوا إلى رشدهم ، وتركوا فعلا عبادة التماثيل؟ أم ان البعض منهم فحسب ، قد اهتدى إلى الحقيقة ، وبقي الأخرون على ضلالهم؟

إن القسم الأخير من القصة ، يجيب على هذا السؤال مع ملاحظة ، أن الحمقى : من الصعب ان يستسلموا للواقع. وتبعا لذلك نتوقع من عبدة التماثيل ـ وسائر الذين يحيون في غفلة من الله ـ ألا يكفوا عن إيقاع الأذى بكل الشخوص الخيرة التي تدعوهم إلى عبادة الله.

بيد انهم ـ غافلون أيضا ـ عن ان السماء لن تدع عبادها المخلصين في قبضة من يكيدون لهم ،… بل تتدخل لانقاذهم : على نحو ما سنلحظه في تعامل القوم مع إبراهيم عليه السلام ، وانقاذ السماء لهذه الشخصية المصطفاة بنحو من المعجز المذهل كما ستوضحه القصة.

يبدأ القسم الأخير من قصة إبراهيم عليه السلام ، بحادثة إلقائه في النار.

فبالرغم من ان إبراهيم عليه السلام ، قد أفحم القوم ، وجعلهم يخاطب بعضهم بعضا بأنهم ظالمون في عكوفهم على التماثيل. وبالرغم من أنهم نكسوا على رؤوسهم خجلا من الخطاب الذي وجهه إبراهيم ـ عليه السلام ـ إليهم بقوله : (فسألوهم ان كان ينطقون). وبالرغم من انهم أقروا أمام إبراهيم ـ عليه السلام ـ بقولهم عن هذه الأصنام {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء : 65] .

بالرغم من ذلك كله ، فإن القوم أبوا إلا أن يلحقوا الأذى بإبراهيم ـ عليه السلام ـ ما دام قد تجرا على تهشيم أصنامهم.

لقد اقترحوا ـ في غوغائية تدعو إلى الاشفاق ، وفي هياج الرعاع الذين ألغوا حتى المسكة الصغيرة من التفكير ـ اقترحوا ما يلي :

{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [الأنبياء : 68]

إلى هنا ، فإن احداث القصة تبدأ بالتأزم ، وتبلغ ذروتها من ذلك. فالقضية تتصل بتدبير جريمة كان من الممكن ان تتم بنحو آخر كالقتل مثلا [وهو الأسلوب الاعتيادي في مقارفة الجريمة] ،… لكنهم يقترحون نمطا آخر ،… إنه الاحراق في النار…

لقد خيل إليهم أن إحراق إبراهيم ـ عليه السلام ـ في النار ، يضع حدا لأي تصرف حكيم حيال أوثانهم التي عكفوا عليها… فلعله ـ أي الاحراق ـ نظرا لتميزه بإثارة لافتة للانتباه مثلا ، أو : نظرا لتساوقه مع طبيعة أعماقهم التي طبعتها القسوة ، … وهي قسوة تبحث ـ دون أدنى شك ـ عن أسلوب مطبوع بنفس الانغلاق الذهني الذي قادهم إلى عبادة ما لا ينطق ولا يعي ، بحيث يحقق مثل هذا الأسلوب من الانتقام مزيدا من التلذذ بتعذيب الآخرين ، وهو تلذذ يطبع الشخصيات السادية التي نزعت الرحمة منها تماما.

المهم ، ان الوحش الكامن في اعماق هؤلاء القوم ، بدأ يتلذذ فعلا ، بمشهد الإحراق الذي تصفه النصوص المفسرة على نحو يبتعث الإثارة حقا.

تقول النصوص المفسرة ، أن القوم بدأوا بجمع الحطب من هنا وهناك.

أكثر من ذلك ،… بدأوا يتسابقون في بذل الأموال لتهيئة الحطب. وإنه لمرأى مثير حقا ، حينما نجد أن نزعة التلذذ بالتعذيب تستاقهم ـ كالخراف ـ إلى البحث عن الحطب بأية وسيلة كانت : تلهفا إلى مشهد الإحراق الذي سيصعد من تلذذهم بتعذيب إبراهيم عليه السلام.

وتبلغ نزعة التلذذ بالتعذيب ذروتها ، عند كبير خرافهم (نمرود) ، حيث بني له بناء خاص لينظر إلى إبراهيم ـ عليه السلام ـ كيف تأخذه النار.

حتى (آزر) أب إبراهيم ـ كما تقول بعض النصوص المفسرة ـ كان في موقف المتلذذ بتعذيبه ، مستغلا هذه الواقعة في ثنيه عن سلوكه الثائر على مهزلة عبادة الأصنام ، ممارسا حياله بعض انماط التعذيب البدني.

وأيا كان الأمر ، فإن مشهد الإحراق بدأ في مرحلته العملية… لكن البطل إبراهيم لا يلوي على شيء ،… لقد ضجت الأرض والسماء من هول الجريمة… ولسان حالها يقول : ليس على ظهر الأرض أحد يعبد الله غير إبراهيم… فهل ستر حقه النار؟؟

حتى أن جبرئيل ـ تقول بعض النصوص المفسرة ـ قال لإبراهيم : هل لك إلي من حاجة؟ بيد أن البطل أجابه بلغة الواثق بالله ،… بلغة غير الآبه بالدنيا وما فيها ،… أجابه بهذه اللغة العظيمة : [أما إليك فلا!! وأما إلى رب العالمين ، فنعم].

هذه الإجابة تحسم كل شيء ،… إنها تلغي كل القوى ،… تتجه إلى القوة الوحيدة… (الله)… وفعلا ،… كانت السماء عند حسن ظن إبراهيم عليه السلام.

إن بلوغ القصة ذروة تأزمها ،… سيظل عند حدث (الاحراق) كما هو واضح. مثلما سيظل عند تفصيلاته التي سكت النص القصصي عنها تماما ، تاركا ذلك لنصوص التفسير التي اكتفت بالتفصيلات التي قدمناها. أو لنقل : تاركا ذلك للقارئ أو السامع الذي سيستخلص بوضوح ان عملية الاحراق قد تحققت فعلا… لكنه لم يتعرف بعد على نتائجها.

وها هي الواقعة ،… عند بلوغها ذروة التأزم ، تعقبها ـ حسب لغة الأدب القصصي [لحظة الإنارة] التي ستحسم كل شيء ، وتضع (خاتمة) للقصة.

انها (خاتمة) تقوم على عنصر (المفاجأة) المذهلة ،… انها : (المفاجأة) التالية :

(قلنا : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم).

إن هذه الحادثة المذهلة التي ختم النص بها قصة إبراهيم عليه السلام ، تبعث الإثارة ، والدهشة ، التي ما بعدها من دهشة ،… لكنها ـ في منطق السماء التي لا حدود لرعايتها ،… لا حدود لمعطياتها التي تغدقها على عبادها المصطفين الذين يخلصون في عبادتهم للسماء ـ هذه الدهشة ستأخذ طابع الوضوح في ذهن القارئ أو السامع…

ألسنا نتوقع ان تكون السماء عند حسن ظن إبراهيم عليه السلام؟؟… ذلك ما نتوقعه كل التوقع!!.

ولنتابع هذه (الخاتمة) القصصية : {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء : 69]

هذه البيئة القصصية للنار ، منطوية ـ كما هو واضح ـ على عنصري (البرد) و(السلام)…

النص القصصي ، ساكت عن التفصيلات.

المهم ، انه في صدد تبيين المعجز ، وكفى.

بيد ان النصوص المفسرة ، تسرد التفصيلات ، ومنها : ان الحرارة تبدلت (بردا) : وهذا ما يصرح النص القصصي به بوضوح. ومنها : ان البيئة تحولت إلى روضة خضراء…

ومنها : أن قميصا وبساطا قد انزلا إليه…

والمهم ، أن النجاة غلفت حياة البطل ، وكفى بهذه عظة ودلالة.

والمهم أيضا ، ان القارئ أو السامع ،… له أن يدقق في ملابسات الموقف ، وأن يستخلص ما عسى أن يكون رد الفعل لدى الطغاة (الخراف) الذين جمعوا قواهم في (حطب) : وهم يتطلعون ـ في قمة تلذذهم بتعذيب البطل ـ إلى تحقيق اللذة المنكرة… لكنهم يفاجأون بالنار : وقد تحولت بردا وسلاما!!

لقد بهت الذين كفروا حينما لطمهم البطل بقوله : (فسألوهم ان كانوا ينطقون)… والآن : يواجههم البطل بهذا الحادث المعجز المذهل : فما عسى ان يكون رد الفعل حيال ذلك؟؟

كان أبسط رد فعل لكبير خرافهم (نمرود) أن طرد (آزر) عنه ، كما تقول بعض النصوص المفسرة…

لكننا ما عسى أن نتوقع من الاستجابة العامة لديهم ؟

ان ابسط ذلك ، يمكننا ان نتوقعه ، متمثلا في : خفوت وانطفاء كل تلك الآمال المتوحشة التي صعدتها نزعة التلذذ بتعذيب الآخرين… ثم وقوعهم باهتين ،… يلفهم دوار الهزيمة ، والخذلان ، والضياع ، والتمزق…

ولعل تعقيب السماء على الحادثة المذكورة ، بقولها : {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء : 70]

لعل هذه الفقرة التي ختمت القصة بها ، تحسم كل شيء ، وترسم لنا مبلغ الهزيمة التي لحقت بهؤلاء القوم.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .