أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-12-2016
1596
التاريخ: 31-7-2019
2456
التاريخ: 24-5-2021
2526
التاريخ: 6-2-2017
3940
|
قتل الأسرى هو الأصوب :
لا شك في أن الأصوب كان قتل أسرى المشركين ، وذلك للأمور التالية :
قتل الأسرى هو الأصوب :
لا شك في أن الأصوب كان قتل أسرى المشركين ، وذلك للأمور التالية :
١ ـ إن المأسورين كان فيهم عدد من سادات قريش ، ومن هم رأس الأفعى ، وقد حاربوا الرسول «صلى الله عليه وآله» والمسلمين ، وأخرجوهم من ديارهم ، وواجهوهم بشتى أنواع الإهانات والأذى ، وهؤلاء الناس هم المستكبرون الذين لا يرتدعون ولا يرجعون إلى دين ، بل يصرون على استئصال شأفة الإسلام ولا يقبلون بأي خيار منطقي يعرض عليهم.
وبعد الذي نالهم من ذل الهزيمة ، وذل الأسر ، قد أصبحوا أكثر حقدا على الإسلام والمسلمين. ولسوف يعاني المسلمون منهم ـ لو بقوا أحياء ـ الأمرين حسبما أشار إليه «صلى الله عليه وآله» ، حيث أوعد المسلمين إن هم فادوهم : أن يقتل منهم بعددهم.
٢ ـ وقد ظهر صحة ذلك ، من الدور الهام الذي كان لهم بعد ذلك في وقعة أحد وغيرها ، الأثر البارز في إلحاق الأذى بالمسلمين باستمرار في المراحل المختلفة. وما أحسن قول سعد بن معاذ : «إنها أول حرب لقينا فيها المشركين ، والإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال».
ويرى البعض : أن الله تعالى يريد بالتأكيد على قتل الأسرى : «أن يفهم المسلمين : أن النظرة إلى المال مرفوضة ، مهما كانت الظروف ، إلا إذا كانت في خدمة الهدف الأعظم وهو الدين».
٣ ـ إن قتلهم جزاء أعمالهم إن لم يقبلوا الإسلام يكون أيضا ضربة عسكرية وروحية موفقة لقريش ، وإضعافا لشوكة المشركين بصورة عامة ، وتشريدا لمن خلفهم من اليهود ومن مشركي العرب ، من غطفان ، وهوازن ، وثقيف ، وغيرهم.
وقد اتضح للجميع أنه إذا كان النبي «صلى الله عليه وآله» لا يحابي قومه على حساب دينه وعقيدته ، وقد قتلهم ؛ لأنهم أرادوا أن يمنعوه من أداء رسالته ، ويطفئوا نور الله ؛ فإنه سوف لا يحابي غيرهم ، إذا أرادوا أن يطفئوا نور الله ، وأن يقفوا في وجه دعوته ودينه.
وهذا سوف يؤثر في بث اليأس في قلوب اليهود ، وقريش والمشركين في جزيرة العرب كافة ، ولسوف يسهل على النبي «صلى الله عليه وآله» : أن يقنعهم بأن من الأفضل لهم أن يتركوا محاولاتهم العدوانية جانبا ؛ فإن الوقوف في وجه الدعوة سوف لا يكون حصاده إلا الدمار والفناء لهم.
٤ ـ ثم إن قتلهم سوف يطمئن الأنصار إلى أن النبي «صلى الله عليه وآله» سوف لن يصالح قومه ، ولن يعود إليهم ما داموا مصرين على شركهم. وبالتالي فهو لن يترك الأنصار ولن يتخلى عنهم ، لأنه يعتبر ـ انطلاقا من تعاليم دينه ـ أن رابطة الدين هي الأقوى ، ولا قرابة فوق قرابة العقيدة ، ولا نسب ولا رحم فوق نسب الإسلام والإيمان.
ولذلك فلا مجال لأن تساور الوساوس والمخاوف نفوس الأنصار ، وهي ما عبروا عنه في بيعة العقبة ، وبعد ذلك في فتح مكة ، من أنه ربما يصالح قومه ، أو ربما أدركته رغبة في قومه.
مع موقف عمر من الأسرى :
إننا نلاحظ :
١ ـ إن عمر بن الخطاب يطلب من النبي «صلى الله عليه وآله» : أن يضرب علي «عليه السلام» عنق أخيه عقيل ، ويضرب حمزة عنق أخيه العباس ، ويعتبرهم أئمة الكفر.
وهو طلب غريب حقا : كما أن سكوته عن فراعنة وزعماء قريش أغرب وأعجب!! ولا سيما وهو يسمع الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» يأمر الجيش ـ وعمر من ومع الجيش ـ بعدم قتل بني هاشم وهؤلاء بالذات ، وبعض من غيرهم ، لأنهم خرجوا مكرهين. هذا عدا عن أنه كان يعرف دفاعهم عن النبي «صلى الله عليه وآله» في مكة ، ودخولهم معه الشعب ، وتحملهم المشاق والمتاعب في سبيله.
٢ ـ قد تقدم : أنه لم يشهد معركة بدر أحد من بني عدي (١) وهم قبيلة عمر ، إذا فلسوف تكون الضربة في جلد غيره؟. وماذا يهم لو قتل الناس كلهم ما دام هذا الرجل لا يخاف على قومه وأهله.
ومن هنا نعرف : أن ما أضافه بعضهم ، حين ذكره لقول عمر : ومكني من فلان ، فأضاف كلمة : «قريب لعمر» ، كما يظهر من مراجعة الروايات التي تذكر كلام عمر هذا.
لا يصح ، إذ لم يكن أحد من أقارب عمر في بدر ، إلا إذا كانت قرابة من ناحية النساء ، وهي ليست بذات أهمية لديهم آنئذ لو كانت.
وعلى كل حال ، فقد سبقنا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه إلى إساءة الظن بعمر من هذه الناحية ، وذلك حين فتح مكة ، حتى إنه ليقول له ـ حين أكثر في شأن أبي سفيان ، وأصر على قتله ـ : «لا ، مهلا يا عمر ، أما والله ، أن لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا ، ولكنك عرفت : أنه من رجال بني عبد مناف» (2).
٣ ـ إن من الواضح : أن قتل الأقارب أمر مستبشع ، تنفر منه النفوس ، ولربما يوجب ذلك ابتعاد الناس عن الإسلام ، ومنعهم حتى من التفكير في الدخول في دين يكلفهم بمباشرة قتل إخوانهم. بل وقد يدفع ضعفاء النفوس من المسلمين إلى الارتداد ، إذا رأوا أنفسهم مكلفين بقتل أحبائهم وآبائهم بأيديهم ، مع إمكان أن يقوم غيرهم بهذا الأمر.
النبي صلّى الله عليه وآله لا يقتل أسيرا هرب :
قال الواقدي : إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لما أقبل من بدر ومعه أسارى المشركين ، كان من بينهم سهيل بن عمرو مقرونا إلى ناقة النبي «صلى الله عليه وآله» ، فلما صار من المدينة على أميال اجتذب نفسه فأفلت ، وهرب ، فقال «صلى الله عليه وآله» : من وجد سهيل بن عمرو فليقتله ، وافترق القوم في طلبه ، فوجده النبي «صلى الله عليه وآله» فأعاده إلى الوثاق ولم يقتله.
وقد علل الشريف الرضي رحمه الله ذلك ، بأن الآمر لا يدخل تحت أمر نفسه ، لأن الآمر فوق المأمور في الرتبة أو يستحيل أن يكون فوق نفسه (3).
ونقول : إن كلام الرضي صحيح بالنسبة إلى شمول الإنشاء لنفس الآمر ، ولكن يبقى : أن ملاك الأمر بقتل سهيل إذا كان موجودا ، فلماذا لم يبادر النبي «صلى الله عليه وآله» إلى قتله ، ولو بأن يأمر بعض أصحابه بذلك؟ إذ إن الرسول «صلى الله عليه وآله» لم يكن ليقتل أحدا بيده الشريفة ، حسبما ستأتي الإشارة إليه.
فلا بد من القول بأن وجدان الرسول «صلى الله عليه وآله» له دونهم ، قد جعل من غير المصلحة أن يقتل ذلك الرجل.
أنين العباس في الوثاق :
وعلى كل حال ، فقد كان من جملة الأسرى عباس وعقيل. وقد سهر النبي «صلى الله عليه وآله» ليلة ، فقال له بعض أصحابه : ما يسهرك يا نبي الله؟
قال : أنين العباس.
فقام رجل من القوم ؛ فأرخى من وثاقه ، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : ما بالي ما أسمع أنين العباس؟
فقال رجل من القوم : إني أرخيت من وثاقه شيئا.
فقال : «فافعل ذلك بالأسارى كلهم» (4).
وهذه هي الرواية القريبة والمعقولة ، التي تمثل عدل النبي «صلى الله عليه وآله» ودقته في مراعاة الأحكام الإلهية ، وصلابته في الدين. وهي المناسبة لمقامه الأسمى ، وما عرف عنه من كونه لا تأخذه في الله لومة لائم. لا تلك الروايات التي تمثل النبي «صلى الله عليه وآله» متحيزا إلى أقاربه ، وأنه هو الذي طلب منهم أن يرخوا من وثاق العباس فقط ؛ فإن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن ليرفق بأقاربه ، ويعنف بغيرهم. والرواية التي تقول هذا لم ترد على الوجه الصحيح والكامل.
إلا أن يقال : إن علم النبي «صلى الله عليه وآله» بأنه قد خرج مكرها ، فكان ذنبه أخف من ذنب غيره ، يبرر أن يتصرف تجاهه بهذا النحو.
ونقول : إن الأمر وإن كان كذلك إلا أن النبي «صلى الله عليه وآله» وعدله إنما يقتضيان أن يعامل العباس كغيره من الأسرى ولا يفسح أي مجال للإيراد والإشكال. ولذلك نرى أنه لما قال له العباس إنه خرج مستكرها ، قال له النبي «صلى الله عليه وآله» : «أما ظاهر أمرك فقد كنت علينا».
والظاهر : أن مكان العباس كان قريبا من النبي «صلى الله عليه وآله» ، فمنعه أنينه من الراحة ، لا أنه كان يعطف عليه خاصة دون غيره من الأسرى.
فداء العباس وإسلامه :
وغنم المسلمون من العباس عشرين أو أربعين أوقية ذهبا ـ والأوقية أربعون مثقالا ـ فطلب أن تحسب من فدائه. فقال «صلى الله عليه وآله» : فأما بشيء خرجت تستعين به علينا ؛ فلا نتركه لك.
قالوا : وذلك لأنه خرج بها ليطعم بها المشركين (5).
وأمره «صلى الله عليه وآله» بمفاداة نفسه ، وعقيلا ، ونوفل ابني أخيه ؛ فأنكر أن يكون له مال.
فقال له «صلى الله عليه وآله» : أعط ما خلفته عند أم الفضل ، فقلت لها : إن أصابني شيء ، فأنفقيه على نفسك وولدك. فسأله من أخبره بهذا ، فلما عرف أنه جبرائيل قال : محلوفة (6) ، ما علم بهذا أحد إلا أنا وهي ، أشهد أنك رسول الله.
فرجع الأسارى كلهم مشركين ، إلا العباس وعقيلا ونوفل كرم الله وجوههم ، وفيهم نزلت هذه الآية. (قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(7).
وفي نص آخر : أنه «صلى الله عليه وآله» قال للعباس : يا عباس ، إنكم خاصمتم الله فخصمكم (8).
وفي رواية أخرى : أنه لما طلب منه الفداء ادعى : أنه كان قد أسلم ، لكن القوم استكرهوه.
فقال له «صلى الله عليه وآله» : الله أعلم بإسلامك ، إن يكن ما تقول حقا ؛ فإن الله يجزيك عليه ، فأما ظاهر أمرك فقد كنت علينا (9).
وهذا يدل على أنه لا مجال لدعوى : أن العباس كان قد أسلم قبل بدر سرا ، كما عن البعض (10). إلا إذا أراد أن يستند في ذلك إلى دعوى العباس نفسه ، وهي دعوى لم يقبلها منه رسول الله «صلى الله عليه وآله».
ومما يدل على أنه لم يكن في بدر مسلما عدا ما تقدم : أنه لما أسر يوم بدر أقبل المسلمون عليه ، يعيرونه بكفره بالله ، وقطيعة الرحم ، وأغلظ له علي القول : فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا ، ولا تذكرون محاسننا؟
فقال له علي : ألكم محاسن؟
قال : نعم ، إنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحيي الكعبة ، ونسقي الحاج ، ونفك العاني.
فأنزل الله تعالى: (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ)(11).
وفي رواية أخرى : أنه قال : لئن سبقتمونا بالإسلام والجهاد والهجرة ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحاج ؛ فأنزل الله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ) الآية (12).
ولكن هذه الآية ، والآية السابقة ، في الرواية المتقدمة هما في سورة التوبة ، التي نزلت في أواخر سني حياته «صلى الله عليه وآله» أي بعد بدر بعدة سنوات.
فلعل ما ذكرته الروايتان لم يكن في بدر ، بل كان يوم فتح مكة ، ويكون تصريح الرواية السابقة ببدر من اشتباه الرواة.
لكن يرد على ذلك : أن العباس لم يؤسر يوم الفتح ، فلماذا يغلظ له علي «عليه السلام»؟
إلا أن يقال : لعل ذلك قد كان قبل إعلان النبي «صلى الله عليه وآله» بالكف ، وإعطاء الأمان لهم.
وفي نص آخر : أن الأنصار كانوا يريدون قتل العباس ؛ فأخذه الرسول منهم ، «فلما صار في يده : قال له عمر : لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب ، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله يعجبه إسلامك» (13).
بل لقد جاء أنه لم يظهر للعباس إسلام إلا عام الفتح (14).
وهذا التعبير هو الأقرب إلى الصواب ؛ فإنه إن كان قد أسلم في بدر : كما يدل عليه ما تقدم ، ولا سيما رواية تفسير البرهان المعتبرة سندا. فإنما أسلم سرا ، وكان يتظاهر للمشركين بما يرضيهم ، حفاظا على مصالحه ، وأمواله ، وعلاقاته ، فإن قريشا لم تكن تتحمل وجود مسلم بينها هذه السنوات الطويلة ، وحروبها مع محمد قائمة على قدم وساق ، يقتل أبناءها وإخوانها ، ويعور عليها طريق متجرها ، ويذلها بين العرب ، ولا سيما إذا كان ذلك المسلم هو عم ذلك الرجل وقريبه.
وصداقته مع أبي سفيان لم تكن لتسمح له بالبقاء في مكة ، فإن القرشيين قد نكلوا بأحبائهم فكيف يسكتون عن أصدقائهم؟ وشروط قريش على النبي «صلى الله عليه وآله» في الحديبية أدل دليل على شدتها في هذا الأمر ، وعدم تسامحها فيه على الإطلاق.
نعم ، ربما يقال : إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أمره بالمقام بين أظهرهم ليكون عينا له.
ويقال : إنه كان يكتب للنبي «صلى الله عليه وآله» بأخبارهم ، وقد أخبره بحرب أحد على ما يظن. ولكن ذلك لا يدل على إسلام العباس ، نعم ، هو يدل على نصحه لرسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ولو بدافع الرحم والحمية ، فلا بد أن يعرف الرسول «صلى الله عليه وآله» ذلك له ، ويكافئه عليه.
إشارة :
وما دمنا في الحديث عن العباس ، فلا بأس بالإشارة إلى أن من الملاحظ : أنه كان يهتم في المال ، ويحب الحصول عليه.
ولقد رأيناه يطالب النبي «صلى الله عليه وآله» بالمال ، لأنه أعطى فداءه وفداء عقيل في بدر. فقد جاء : أنه جاء النبي «صلى الله عليه وآله» مال من البحرين ، وصار يقسمه ، فجاء العباس ، فقال : «يا رسول الله ، إني أعطيت فدائي ، وفداء عقيل (رض) يوم بدر ، ولم يكن لعقيل مال ، أعطني هذا المال». فأعطاه «صلى الله عليه وآله» (15).
وتضيف بعض الروايات : أنه «صلى الله عليه وآله» ما زال يتبعه بصره «حتى خفي علينا عجبا من حرصه» (16).
وليلاحظ أسلوبه للحصول على بقية من المال ، بقيت بعد القسم بين الناس في الرواية التالية :
أخرج ابن سعد : أنه بقي في بيت مال عمر شيء ، بعد ما قسم بين الناس ، فقال العباس لعمر وللناس : أرأيتم ، لو كان فيكم عم موسى «عليه السلام» أكنتم تكرمونه؟
قالوا : نعم.
قال : فأنا أحق به ، أنا عم نبيكم «صلى الله عليه وآله».
فكلم عمر الناس ؛ فأعطوه تلك البقية التي بقيت (17).
وعلى كل حال ، فقد حصل على ما كان يتمناه ، حتى لينقلون عنه قوله حينما أعطاه «صلى الله عليه وآله» : أما أحد ما وعد الله فقد أنجز لي ، ولا أدري الأخرى : (قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ)(18) هذا خير مما أخذ مني ، ولا أدري ما يصنع بالمغفرة (19).
مؤامرة على حياة النبي صلّى الله عليه وآله :
وكان قد أسر لعمير بن وهب ولد ، فاتفق عمير مع صفوان بن أمية سرا على أن يقدم عمير المدينة ، ويغتال النبي «صلى الله عليه وآله» في مقابل أن يقضي صفوان دين عمير.
وتكاتما على هذا الأمر ، وشحذ عمير سيفه وسمه ، وقدم المدينة ؛ فأذن له الرسول بالدخول ، فخاف منه عمر ؛ فأخذ بحمالة سيفه في عنقه ، ثم دخل به على الرسول.
فلما رآه «صلى الله عليه وآله» قال لعمر : أرسله يا عمر. فأرسله ، فاستدناه ، ثم سأله عما جاء به ؛ فقال : جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم ـ يعني وهبا ـ فأحسنوا فيه.
فقال «صلى الله عليه وآله» : فما بال السيف؟
قال : قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت شيئا؟!
فأخبره «صلى الله عليه وآله» بما جرى بينه وبين صفوان في الحجر ؛ فأسلم عمير.
فقال «صلى الله عليه وآله» : فقهوا أخاكم في دينه ، وأقرئوه القرآن ، وأطلقوا أسيره ، ففعلوا ذلك.
ثم لحق عمير بمكة يدعو إلى الله ، ويؤذي المشركين بإذن منه «صلى الله عليه وآله» ، وحلف صفوان ألا يكلمه ، ولا ينفعه بنافعة (20).
موقف النبي صلّى الله عليه وآله من قلائد زينب :
وبعثت زينب بنت الرسول «صلى الله عليه وآله» ـ بل ربيبته ـ بفداء زوجها أبي العاص بن الربيع ، وكان من جملة ما بعثت به قلائد كانت خديجة جهزتها بها.
فترحم الرسول «صلى الله عليه وآله» على خديجة ، ورق لزينب رقة شديدة ، وطلب من المسلمين أن يطلقوا لها أسيرها ؛ ففعلوا. وأطلقه «صلى الله عليه وآله» مقابل أن يرسل إليه زينب بسرعة. فوفى بما وعد وأرسلها (21) ، وجرى لها حين هجرتها ما سوف نشير إليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
سؤال يحتاج إلى جواب :
ويرد هنا سؤال : هل كان النبي «صلى الله عليه وآله» عاطفيا حقا إلى حد تدفعه رقته إلى إطلاق أسير كان يمكن للمسلمين أن يساوموا عليه ، ويحصلوا على ما يقويهم ضد عدوهم؟!
وهل مجرد تربيته لزينب تكفي لهذا الموقف المتميز له منها؟
وهل كان يرغب في مراعاة جانب من يمت إليه بصلة أكثر من الآخرين؟
وهل هذا ينسجم مع رسالته وسجاياه وأخلاقه؟!
الجواب : لا ، فإن ثمة مصلحة في هذا الموقف ، تعود على الإسلام والمسلمين بالنفع وبالخير العميم. وإلا لكان موقفه «صلى الله عليه وآله» من هؤلاء لا يختلف عن موقفه من غيرهم ، ممن على شاكلتهم. وموقفه من عمه أبي لهب لعنه الله ليس بعيدا عن أذهاننا. وكذا موقفه من عمه العباس.
ونرى : أن في موقف النبي «صلى الله عليه وآله» هنا تأكيدا على أن الإسلام يحترم ويقدر مواقف الآخرين وخدماتهم. وخديجة من هؤلاء الذين استحقوا منه هذا التقدير ، فكان منه «صلى الله عليه وآله» هذا الموقف ممن تحبهم خديجة.
وكان «صلى الله عليه وآله» يهتم بإكرام صديقات خديجة ، فكان «صلى الله عليه وآله» يرسل لهن ما يهدى إليه باستمرار ، حتى إن عائشة أم المؤمنين أسمعته ما يكره في حقها رحمها الله (22) لأجل ذلك.
ولو أن هذه الخدمات كانت من غير خديجة ، لكان للنبي «صلى الله عليه وآله» نفس هذا الموقف ، أي إنه سوف يشجع كل ما يكون في هذا الاتجاه ، من أي كان ، وعلى أي مستوى كان.
أضف إلى ذلك : أن هذه مناسبة يستطيع فيها «صلى الله عليه وآله» إنقاذ نفس من مقاساة العناء والآلام وتخليصها من بين المشركين ، ألا وهي زينب رحمها الله ، فلم لا يفعل؟!
هذا كله عدا عن أنه لم يطلق أبا العاص من غير فداء ، فقد أرسلت زينب بالفداء ، فما هو المبرر لإمساكه؟
أستاذ المعتزلي وقضية زينب :
ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي عن رقته «صلى الله عليه وآله» في هذا الموقف : «قرأت على النقيب أبي جعفر يحيى بن أبي زيد البصري ـ (وقد قرظه المعتزلي في موضع آخر) ـ (23) رحمه الله هذا الخبر ؛ فقال : أترى أبا بكر وعمر لم يشهدا هذا المشهد؟
أما كان يقتضي الكرم والإحسان أن يطيب قلب فاطمة بفدك ، ويستوهب لها من المسلمين؟!
أتقصر منزلتها عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» عن منزلة زينب أختها ، وهي سيدة نساء العالمين؟!!
هذا إن لم يثبت لها حق ، لا بالنحلة ، ولا بالإرث» (24).
فداء الأسير تعليم الكتابة :
قال المقريزي : «وكان في الأسرى من يكتب ، ولم يكن في الأنصار من يحسن الكتابة ، وكان منهم من لا مال له ، فيقبل منهم أن يعلم عشرة من الغلمان ، ويخلي سبيله ؛ فيومئذ تعلم زيد بن ثابت الكتابة في جماعة من غلمان الأنصار.
أخرج الإمام أحمد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان ناس من الأسرى يوم بدر ، لم يكن لهم فداء ؛ فجعل رسول الله «صلى الله عليه وآله» فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة.
ثم ذكر المقريزي قصة من ضربه معلمه ، ثم قال : وقال عامر الشعبي : كان فداء الأسرى من أهل بدر أربعين أوقية ؛ فمن لم يكن عنده علم عشرة من المسلمين ؛ فكان زيد بن ثابت ممن علم» (25).
ونقول :
إن جعل فداء الأسرى هو تعليم عشرة من أطفال المسلمين ، ليعتبر أول دعوة في التاريخ لمحو الأمية ، سبق الإسلام بها جميع الأمم. وقد أتى الحكم بن سعيد بن العاص النبي ؛ فسأله عن اسمه ؛ فأخبره فغير «صلى الله عليه وآله» اسمه إلى عبد الله ، وأمره أن يعلم الكتاب بالمدينة (26).
وذلك يعبر عن مدى اهتمام الإسلام بالعلم في وقت كانت فيه أعظم الدول كدولة الأكاسرة تمنع بصورة قاطعة من تعليم القراءة والكتابة لأحد من غير الهيئة الحاكمة ، حتى إن أحد التجار قد عرض أن يقدم جميع الأموال اللازمة لحرب أنوشيروان مع قيصر الروم على أن يسمح له بتعليم ولده (27).
بل لقد كانت بعض الفئات العربية تعد المعرفة بالكتابة عيبا كما أشرنا إليه فيما سبق (28) في المدخل لدراسة السيرة فراجع.
وهذا الإسلام قد جاء ليطلق أعدى أعدائه ، في أدق الظروف ، وأخطرها في مقابل تعليمهم لعشرة من غلمان المسلمين ، مع أنه ربما تكون الاستفادة من فداء هؤلاء الأسرى ، أو استخدامهم في مهمات المسلمين ، أو جعلهم وسيلة للضغط السياسي على قريش ، له أهمية كبيرة بالنسبة لهذا المجتمع الناشئ ، الذي يولد في مجتمع يرفضه ، ويحاول القضاء عليه ، وأمامه طريق طويل وشاق من النضال والكفاح من أجل الحياة والبقاء ، وإقامة الدولة الإسلامية ، ونشر تعاليم رسالة السماء.
معاملة الأسرى :
ويلاحظ : أن المسلمين الذين ذاقوا الأمرين على أيدي المشركين ، يظفرون الآن بعدوهم ، ويصير أولئك الذين عذبوهم بالأمس ، وأخرجوهم من ديارهم ، وسلبوهم أموالهم ، وقطعوا أرحامهم ـ يصيرون ـ أذلاء في أيديهم ، وتحت رحمتهم.
فماذا تراهم صانعين بهم؟
أو بأي نحو وكيفية سوف يأخذون بثاراتهم منهم؟
التوقعات كثيرة ، ولكن ما جرى كان مخالفا لكل التوقعات ؛ فهم لم يحاولوا أن يأخذوا بثاراتهم ، ولا اغتنموا الفرصة التي أتيحت لهم ؛ بل صدر الأمر لهم من القائد الأعظم بكلمة واحدة : استوصوا بالأسرى خيرا.
فأطاعوا الأمر ، وشاركوهم في أموالهم حتى كان أحدهم يؤثر أسيره بطعامه (29).
هذه من علاه إحدى المعالي
وعلى هذه فقس ما سواها
__________________
(١) راجع : تاريخ الطبري ج ٢ ص ١٤٣ ، وسيرة ابن هشام ج ٢ ص ٢٧١ ، ومغازي الواقدي ج ١ ص ٤٥ ، والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٢١ ، وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣١٤ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٧٥ ، وأي كتاب تاريخي شئت ، إذا كان يذكر بدرا ورجوع من رجع عنها قبل نشوب الحرب.
(2) مجمع الزوائد ج ٦ ص ٦٧ ، عن الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح ، وحياة الصحابة ج ١ ص ١٥٤.
(3) راجع : حقائق التأويل ج ٥ ص ١١١.
(4) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٩٠ ، وصفة الصفوة ج ١ ص ٥١٠. وعند عبد الرزاق في المصنف ج ٥ ص ٣٥٣ : أن أنصاريا قال له «صلى الله عليه وآله» : أفلا أذهب فأرخي عنه شيئا؟ قال : إن شئت فعلت ذلك من قبل نفسك ، فانطلق الأنصاري ، فأرخى عن وثاقه ، فسكن «صلى الله عليه وآله» ونام ودلائل النبوة للبيهقي ج ٢ ص ٤١٠.
(5) أسباب النزول للواحدي ص ١٣٨ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٩٨.
(6) المحلوفة : القسم.
(7) الآية ٧٠ في سورة الأنفال ، والرواية معتبرة السند في تفسير البرهان ج ٢ ص ٩٤ ، وراجع : تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣٨ ، وغير ذلك.
(8) البحار ج ١٩ ص ٢٥٨ ، وتفسير القمي ج ١ ص ٢٦٨.
(9) المصدران السابقان ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٩٠ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٩٨.
(10) راجع : البداية والنهاية ج ٣ ص ٣٠٨ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٨٨ و١٩٨ ، وطبقات ابن سعد ج ٤ ص ٢٠ قسم ١.
(11) الآية ١٧ من سورة التوبة. والحديث في : أسباب النزول للواحدي ص ١٣٩ ، وليراجع الدر المنثور ج ٣ ص ٢١٩ عن ابن جرير ، وأبي الشيخ عن الضحاك ، لكن الآية هي آية سقاية الحاج الآتية.
(12) الآية ١٩ من سورة التوبة. والحديث في : أسباب النزول للواحدي ص ١٣٩ ، والدر المنثور ج ٣ ص ٢١٨ عن ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأبي الشيخ.
(13) البداية والنهاية ج ٣ ص ٢٩٨ عن الحاكم ، وابن مردويه ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٢٤٤ و٢٤٥ عن كنز العمال ج ٧ ص ٦٩ عن ابن عساكر.
(14) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٩٩.
(15) صحيح البخاري ج ١ ص ٥٥ و٥٦ ، وج ٢ ص ١٣٠ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٣٢٩ و٣٣٠ ، وتلخيصه للذهبي بهامشه ، وصححاه ، وطبقات ابن سعد ج ٤ قسم ١ ص ٩ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠٠ ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٢٢٥ ، والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٨٨ و٨٩.
(16) صحيح البخاري ج ١ ص ٥٥ و٥٦ ، وج ٢ ص ١٣٠ ، والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٨٩.
(17) طبقات ابن سعد ج ٤ قسم ١ ص ٢٠ ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٢٣٤ ، وتهذيب تاريخ دمشق ج ٧ ص ٢٥١.
(18) الآية ٧٠ من سورة الأنفال.
(19) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ٣٢٩ ، وتلخيصه للذهبي وصححاه ، وطبقات ابن سعد ج ٤ قسم ١ ص ٩ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٢٠ ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٢٢٥.
(20) السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٣١٧ و٣١٨.
(21) السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٣٠٨ ، وتاريخ الأمم والملوك ط الاستقامة ج ٢ ص ١٦٤ ، والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٣٤ ، والبحار ج ١٩ ص ٢٤١ ، ودلائل النبوة ط دار المكتبة العلمية ج ٣ ص ١٥٤ ، وتاريخ الإسلام للذهبي (قسم المغازي) ص ٤٦.
(22) تقدمت المصادر لذلك في فصل : بيعة العقبة حين الكلام حول غيرة عائشة.
(23) فقد وصفه في شرحه للنهج ج ١٢ ص ٩٠ بأنه : «لم يكن إمامي المذهب ، ولا كان يبرأ من السلف ، ولا يرتضي قول المسرفين من الشيعة» ووصفه في ج ٩ ص ٢٤٨ بأنه كان : «منصفا ، وافر العقل». ونقل في هامش البحار ج ١٩ عنه أنه وصفه بالوثاقة والأمانة ، والبعد عن الهوى والتعصب ، والإنصاف في الجدال ، مع غزارة العلم ، وسعة الفهم ، وكمال العقل.
(24) شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ١٩١.
(25) راجع : التراتيب الإدارية ج ١ ص ٤٨ و٤٩ عن المطالع النصرية في الأصول الخطية لأبي الوفاء نصر الدين الهوريني ، وعن السهيلي ومسند أحمد ج ١ ـ ص ٢٤٧ ، والإمتاع ص ١٠١ ، والروض الأنف ج ٣ ص ٨٤ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٩٥ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٩٣ ، وطبقات ابن سعد ج ٢ قسم ١ ص ١٤ ، ونظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (الحياة الدستورية) ص ٤٨.
(26) نسب قريش لمصعب الزبيري ص ١٧٤ ، والإصابة ج ١ ص ٣٤٤ عنه.
(27) خدمات متقابل إسلام وإيران ص ٢٨٣ و٢٨٤ و٣١٤ ، وراجع ص ٣١٠ عن شاهنامه فردوسي ج ٦ ص ٢٥٨ ـ ٢٦٠.
(28) الشعر والشعراء ص ٣٣٤ ، والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٢٤٨.
(29) راجع : الطبري ج ٢ ص ١٥٩ ، والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٣١ ، وسيرة ابن هشام ج ٢ ص ٢٩٩ و٣٠٠ ، ومغازي الواقدي ج ١ ص ١١٩ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٨٨.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|