أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-10-2014
1227
التاريخ: 30-11-2020
4082
التاريخ: 11-10-2014
1218
التاريخ: 2024-07-12
357
|
تحدّثنا عن الأبطال الثانويين في قصة يوسف وعن مختلف أدوارهم بدءً بيعقوب ، فإخوة يوسف ، فإمرأة العزيز ، فنسوة المدينة . . . وانتهاءً بالعزيز .
أمّا الآن فنتحدّث عن البطل الرئيس في هذه القصة ، وهو يوسف نفسه .
وممّا لا شك فيه ، أنّ دور هذا البطل ينطوي على أفكار أو عظات بالغة الخطورة ، إذا ضممناها إلى الأفكار التي استخلصناها من الأبطال الثانويين ، ثمّ إذا فرزنا الأفكار التي استقلّ بها البطل يوسف وميّزته بشخصيته المحدّدة .
إنّ الصبر على الشدائد يجسّد سمةً بارزة في سلوك يوسف .
كما أنّ يعقوب والد يوسف قد ميّزته سمة الصبر المذكورة أيضاً . بيد أنّ الشدائد على يعقوب كانت متميّزة عن الشدائد بالنسبة إلى ولده يوسف .
كانت الشدائد بالنسبة إلى يعقوب منحصرة في دافع (الاُبوّة) وما صاحب هذا الدافع من إحباط يتصل بالمشاعر التي يفجّرها الدافعُ المذكور .
أمّا الشدائد التي تعرّض لها يوسف فإنّها متصلةً بأكثر من دافع ، فضلا عن أنـّها تجاوزت نطاق المشاعر إلى دائرة الشدائد الخارجية .
إنّ هذه الشدائد بعضها داخليٌ صرف ، وبعضها خارجيٌ يسحب آثاره على المشاعر الداخلية .
ونحن سنتجاوز الحديث عن الصدمات الداخلية الصرف التي تعرّض لها يوسف ، وهي عادةً تتمثل في تحمّل مشاعر الحسد مِن قِبل إخوته مثلا ، وفي تحمّل صدمات الفراق ، فراق والده الذي كان يحيطه برعاية خاصة ، حُرِمَ منها أمداً طويلا من الزمن .
أقول : سنتجاوز الحديث عن أمثال هذه الشدائد مع أنـّها ذات ثقل كبير في ميزان الشخصية واستجابتها لهذه المواجهة . . . نتجاوزها لنتحدّث عن شدائد رافقت رحلته مع إخوته ، ومع واقعة البئر ، ومع حادثة بيعه إلى الآخرين ، ومع حادثة امرأة العزيز ، ومع حادثة السجن ، ومع وقائع السجن نفسه ، ثمّ ما صاحب ذلك من مواقف أفرزها نمط تعامله مع السماء ومع الآخرين وما استتبع ذلك من صراع ، سحبَ شدائده النفسية الكبيرة على شخصية يوسف .
* * *
لنُلاحِظ ـ على سبيل المثال ـ موقفه من أحد صاحبيه في السجن ، حينما فسّر له رؤياه ، وعلم أ نّه سيحظى بمقابلة الملك وغيرها ، قال لصاحبه : اذكرني عند الملك . ولكن صاحبه نسِي هذا الطلب ، فلبث يوسف بعدها في السجن بضع سنين .
إنّ هذه الواقعة لا تتجسّد شدّتها في أن يمكث يوسف في السجن لبضع سنين اُخرى ، بل إنّ شدّتها تتمثّل في نمط تعامله مع السماء ومع الآخرين ، بحيث تركت آثاراً عميقة لديه ، تهون عندها قضية السجن نفسه بما ترافقه من شدائد نفسيّة وجسميّة .
إنّ لنا أن نتصوّر مبلغ الشدّة في أعماق يوسف ، عندما يُدرك أ نّه قد استعان بالبشر بدلا من الاستعانة باللّه في تخليص نفسه من السجن ، أو في إثبات براءته من التُهمة الموجهة إليه ، بحيث كلّف صاحبه بأن يتوسّط لدى المَلِك .
إنّ الشخصيات الرفيعة التي تجسّد صفوة البشر ، ليؤلمها كلّ الألم أن تقع ذات يوم في مثل هذا السلوك ، إنّها تُدرك تماماً أنّ اللّه وحده هو المهيمن على الكون كلّه ، فما قيمة مخلوق مثل المَلِك حيال اللّه خالقِ المَلكِ وسواه ؟
تقول النصوص المفسّرة نقلا عن الإمام الصادق (عليه السلام) :
جاء جبرئيل (عليه السلام) فقال : يا يوسف مَن جعلك أحسن الناس ؟ قال : ربّي . قال :
فمن حبّبك إلى أبيك دون إخوانك؟ قال : ربّي . قال : فمن ساق إليك السيّارة ؟ قال :
ربّي . قال : فمن صرف عنك الحجارة ؟ قال : ربّي . قال : فمن أنقذك من الجبّ ؟ قال :
ربّي . قال : فمن صَرَف عنك كيدَ النسوة؟ قال : ربّي . قال : فإنّ ربّك يقول : ما دعاك إلى أن تُنزل حاجتك بمخلوق دوني ؟ إلبث في السجن بما قلت بضع سنين .
إنّ علينا أن نتصوّر مدى هذه الشدّة النفسيّة على يوسف وهو يتلقّى هذا التذكير من جبرئيل !!
لا شك أنّ هذه الشدّة تهون قبالها شدّة السجن وما يرافقها من الشدائد النفسيّة والجسديّة ، لأنـّها عملية تذكير بعلاقة العبد باللّه ، وكيفية نسيان مثل هذه العلاقة .
إنّها شدّةٌ نفسية بالغة المدى لا يمكن أن يتحسّسها إلاّ الصفوة التي محّضها اللّه حبّاً خالصاً حياله ، ولذلك كان وقعُ هذه الشدّة على يوسف كما يصفه النصُّ المفسّرُ على النحو الآتي : فبكى يوسفُ عند ذلك ، حتّى بكى لبكائه الحيطان ، فتأذّى ببكائه أهل السجن ، فصالحهم على أن يبكي يوماً ويسكت يوماً . فكان في اليوم الذي يسكُت أسوء حالا . . . .
إنّنا لو تأمّلنا هذا النص ، لأدركنا مبلغ الشدّة في أعماق يوسف ، فحتّى في اليوم الذي كان يسكت عن البكاء فيه ، إنّما كان حاله أشدّ ألماً من حاله وهو يبكي .
وهذا يعني أنّ اليوم الذي كان لا يبكي فيه ، إنّما يصرفه بالصراع وبالتوتّر وبالتمزّق وبالندم وبمعاودة التفكير . . . كلّ اُولئك أشدّ ألماً على النفس من البكاء الذي قد يختزل أو يُساهم في تفريج الألم .
* * *
هذه واحدةٌ من الشدائد النفسيّة التي كابد منها يوسف أشدّ المكابدة .
وعلينا أن نتصوّر سائر الشدائد التي صاحبت يوسف في رحلته .
والآن لنُتابع هذه الشدائد .
ولكن الأهمّ من ذلك أن نتابع الاستجابة على الشدائد ، أي الصبر على الشدائد وهو ما يستهدف النص من التشدّد عليه من هذه القصة .
تُرى ، ما هي هذه الشدائد ؟
وكيف استجاب لها بطلُنا يوسف ؟
أوّل شدّة يكابدها يوسف ، تتمثّل في شدّة بدنية ونفسية ، هي : اقتياده من قِبَلِ إخوته إلى الصحراء ، ثمّ إظهار مشاعرهم العدائية نحوه والبدء بممارسة الضرب حياله ، حتى أ نّه بدأ يستغيث بهم واحداً واحداً فلا يغيثه أحد ، بل إنّهم همّوا بقتله وهو يصرخ : يا أبتاه ! . لولا أن يتدّخل أحد الإخوة فيمنعهم من قتل يوسف .
إنّ هذه الشدّة ليست بضئيلة البتّة ، بل إنّها ذات وقع كبير على يوسف دون أدنى شك . . .
ولنا أن نتصوّر أنّ أخاً صغيراً مثل يوسف وهو المدلّل لدى أبيه يُلاحظ فجأة أنّ إخوته الذين يمثّلون أقرب الأرحام يظهرون له العداء المنكر وهو وحيدٌ في الصحراء ثمّ ينهالون عليه بالضرب ، بل ويهمّون بقتله وهو يستغيث ولا يُغاث . . .
* * *
ثمّ يكبرُ حجمُ الشدائد ، حينما يصل الأمر إلى إلقائه في البئر . . .
ولنا أن نتصوّر أيضاً ، كم هو مرعبٌ ومأساويٌ مرأى أخ صغير يمسكه مجموعة من الإخوة قد انتُزعت الرحمةُ من أعماقهم ، ثمّ يدلونه في بئر . لا شك أنّه مرأىً مُرعبٌ ، رهيب ، مُدمّر .
وممّا زاد في رُعب هذا المنظر أو المرأى هو الطريقة التي استخدموها في عملية إلقائه في البئر ، فلقد جرّدوه من ثيابه وهو يستغيث : ردّوا عليّ القميص أتوارى به ، وكان جوابهم : ادعُ الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً يؤنسنك . حقّاً إنـّه لمرأىً مُرعب تزحمه مشاعر يوسف وهي في حالة الاستغاثة التي تفجّر الرحمة حتّى في الحجارة .
* * *
وتتوالى الشدائد على يوسف . . .
فها هُو يُنقَذ من البئر ، بيد أ نّه سرعان ما يشاهد إخوته يُهرعون نحو القافلة أو السيارة ، ليبيعوه بثمن بخس : دراهم معدودة . . .
وعملية البيع ذاتها تُعدّ شدّةً نفسيةً كبيرة ، كما هو واضح .
* * *
وتتوالى الشدائد من جديد على يوسف . . .
لكنها الآن تأخذ منعطفاً آخر . . .
فها هو يقع في صراع حادّ مع امرأة العزيز . . .
ثمّ يُشاهِد فجأة زوجها على الباب . . .
ثمّ يتطوّر الأمر إلى إدخاله في السجن وإلصاق التُهمة المنكرة به ، بالرغم من الأدلّة التي أثبتت براءته .
وعلينا ألاّ نمرّ عابراً على مثل هذه الوقائع وما تصاحبُها من الشدائد النفسية ، وبخاصة لدى صفوة نظيفة كلّ النظافة . . . كم تسحقُها مثلُ هذه الأنماط من الصراع ، وكم تُؤلمها مثل هذه التُهم . . .
* * *
وأخيراً تجيء شدائد السجن بنمطيها النفسي والجسمي ، ولا تعقيب لنا على مثل هذه الشدائد ، فالسجن وحده إيذاءٌ نفسي وجسدي يرشح بأكثر من مأساة . . .
لكنه مضافاً إلى ما تقدّم ، فقد واكبت حياته في السجن شدّةٌ نفسيةٌ كبيرةٌ هانت عندها شدائد السجن ، ألا وهي عتاب جبرئيل على النحو الذي تحدّثنا عنه مفصلا . . .
* * *
إنّ مكابدة يوسف لهذه الشدائد ينبغي ألاّ نتركها دون أن نلاحظ كيفية استجابته حيالها ، فالمهم ـ وهذا ما تستهدفه السماء من وراء قصّ مثل هذه الحكايات ـ أن تستجيب الشخصيةُ المؤمنة لهذه الشدائد بعملية الصبر ، وهي الاستجابة التي تصدر عنها عادة صفوة البشر .
إنّ يوسف لشخصية صابرةٌ متميّزةٌ في هذا الميدان . ويكفي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد ثمّن ظاهرة الصبر لدى يوسف ، حيث رُوي عنه (صلى الله عليه وآله) :
«لقد عجبتُ من يوسف وكرمه وصبره ، واللّه يغفر له حين سُئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنتُ مكانه لما أخبرتُهم حتّى اشترط أن يخرجوني من السجن . ولقد عجبتُ من يوسف وصبره وكرمه ، واللّه يغفر له حين أتاه الرسول ، فقال : ارجع إلى ربك ، ولو كنتُ مكانه ولبثتُ في السجن ما لبثت ، لأسرعت الإجابة وبادرتهم بالباب ، وما ابتغيت العذر، إنّه كان لحليماً ذا أناة» .
إنّ هذا التثمينَ من النبي (صلى الله عليه وآله) لموقف يوسف (عليه السلام) ، كاف في تسجيل خطورة ظاهرة الصبر لدى يوسف ، وأنـّها لشهادةٌ جديرة بالتسجيل .
إذن ، استخلاص عظة الصبر على الشدائد ، ينبغي أن نضعها في الاعتبار ونحن نتحدّث عن بطل القصة يوسف .
* * *
السماح بصفته واحداً من أنماط السلوك الذي تطالبنا السماءُ به يشكّل سمةً ملحوظة في شخصيّة يوسف . . . حيث تترافق مع سمة الصبر التي وقفنا عليها .
ولو لم يكن إلاّ عفو يوسف عن إخوته الذين أذاقوه أشدّ ألوان العذاب . . . لو لم يكن في القصة إلاّ هذا الموقف من يوسف حيال إخوته ، لكفى به سمةً عظيمةً في شخصيته .
* * *
الإرادة سمةٌ ثالثة من سمات الشخصية لدى يوسف .
ولا حاجة بنا إلى التعقيب على هذه السمة العظيمة التي تميّز أسوياء الناس عن
مرضاهم ، بل تُميّز درجة السويّة بين الأسوياء أيضاً .
ويكفي أنّ يوسف قد مارس إرادته في أشدّ الدوافع إلحاحاً ، وفي أشدّ المنبّهات إثارة ، حتّى أنّه هتف قائلا :
﴿السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾
إنّه (عليه السلام) اختار السجن الطويل من خلال ممارسته للإرادة ، وكابدَ ما كابد تحقيقاً
لمبادئ السماء التي جسّدتها ظاهرة الإرادة ، كما هو واضح .
* * *
أمّا السمات الاُخرى التي طبعت شخصية يوسف فتتمثّل في سمتين خطيرتين ، إحداهما : السمة العلمية ، والاُخرى : السمة الاجتماعية .
أمّا السمة العلمية ، فقد تحدّدت بوضوح في قدرته الفائقة على تفسير الأحلام ، بدءً بأحلام صاحبيه في السجن ، وانتهاءً برؤيا الملك . . .
وواضحٌ أنّ هذه السمة تظل جزءً من سمة مُعجزة منحتها السماء ليوسف عندما بلغ أشُدّه حيث صرّح النص القرآني الكريم بوضوح في هذا الصدد :
﴿وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واسْتَوى﴾
﴿آتَيْناهُ حُكْماً وعِلْماً وكَذلِكَ نَجْزِي الْـمُحْسِنِينَ﴾
وأمّا السمة الاجتماعية التي غلّفت شخصية يوسف (عليه السلام) ، تُعدّ تتويجاً للسمات
الأخلاقية والعلمية التي طبعت شخصيته .
لقد قال له المَلك :
﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾
وأجابه يوسف :
﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾
ثمّ عقبت السماء على ذلك :
﴿وَ كَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ﴾
﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ولا نُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ﴾
لقد أراد الملك أن يجعله مستشاراً خاصاً له :
﴿وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾
بيد أنّ المَلك عندما أعاد على يوسف قصّ رؤياه ، وفسّرها يوسف من جديد ، وكان ممّا اقترحه على الملك أن يجمع الطعام ، ويزرع زرعاً كثيراً في السنين المخصبة ، ويبني الخزائن للطعام بقصبه وسنبله علفاً للدواب ، وأن يرفع الناس من طعامهم الخمس ، حتّى يكفي الطعام لمصر ومَن حولها ، فيمتارون منه .
وعندها تجتمع من الكنوز ما لا يجتمع لأحد .
هنا أحسّ الملك بصعوبة تحقيق هذه الخطة الاقتصادية، قائلا : مَن لي بهذا ومن يجمعه ، أي : الطعام .
وعندها أجابه يوسف :
﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأَرْضِ﴾
ومنذ ذلك الحين تولّى يوسف هذه المهمّة .
ويقول الإمام الرضا (عليه السلام) : إنّ يوسف جمع خلال الأعوام المخصبة الطعام وكبسه في الخزائن ، ثمّ باعه في السنين المجدبة موزّعاً على سبع سنين ، كلّ سنة بقيمة تبادلية خاصة ، هي : النقد والجواهر والدواب والعبيد والعقار والمزارع والرقاب ، حتى اجتمعت لديه كلّ الأموال وفق هذه الخطة . وحتى قيل في حينه :
ما رأينا ولا سمعنا بمَلِك أعطاه اللّه من المُلك ما أعطى هذا المَلِكَ حكماً وعلماً وتدبيراً .
وقد ردّ يوسف بعد ذلك كلّ هذه الأموال إلى أصحابها بما في ذلك عتقه لمن تملّكهم ، وبما في ذلك خاتم المُلك وسريره وتاجُه ، مبيّناً للمَلِك أنّ إجراءاته الاقتصادية المذكورة لم تكن من أجل دافع التملّك أو السيطرة ، وإنّما من أجل إنقاذهم ، ولذلك فأنا أردّ إليهم كلّ الأموال وأردّ إليك سريرك ، ولكن شريطة أن تحذو حذوي في المنهج السياسي للبلد .
وعندها ثمّن المَلك هذا التوجيه السياسي وأعلن إيمانه باللّه .
* * *
إنّ ما يعنينا ممّا تقدّم ، أن نستخلص الدلالة الفكرية لهذه السمة التي طبعت شخصية يوسف من خلال اضطلاعه بتحمّل المسؤولية . . .
لقد عقّبت السماء على تولّي يوسف للمسؤولية ، بهذه الفقرات :
﴿وَ كَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ﴾
﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ولا نُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ﴾
فهذه الفقرات توضّح لنا أنّ منح يوسف هذه المسؤولية ، مسؤولية المُلك إنّما تشكّل عطاءً أو نعمةً في الدنيا ، فضلا عن العطاء الاُخروي :
﴿وَ لأَجْرُ الاْخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾
ومعطيات هذه النعم ليست لمجرّد أنـّها تحقيقٌ لدافع التملّك أو السيطرة ، فهذان الدافعان لا قيمة لهما عند الصفوة البشرية ، بل هما وسيلة لتحقيق مصالح الآخرين ، على النحو الذي حققه يوسف فعلا ، وحيث انتهى به الأمر إلى ردّ كلّ الأموال والتخلّي عن المُلك . . .
ولا يغب عن بالنا أيضاً ، كما تشير النصوص المفسّرة ، أنّ المَلِكَ نفسه قد أعلن إيمانه ، وأنّ الآخرين أيضاً أعلنوا إيمانهم نتيجة وقوفهم على السياسة الحكيمة التي انتهجها يوسف ، وهي سياسة مستوحاة من مبادئ السماء التي ألهمته إيّاه دون أدنى شك .
إذن الشخصية المؤمنة ، الصابرة ، الشخصيّة التي كابدت ألوان المهانة ، وفقدت التقدير الاجتماعي . . . قد كافأتها السماء بتقدير اجتماعي لا يدور ببال أحد قطّ إلى الدرجة التي سيطرت بها على مصائر الجمهور ، وهذا كلّه في حساب العطاء الدنيوي .
أما العطاء الاُخروي فهو خيرٌ من ذلك ، كما أشار النص القرآني الكريم .
هذا إلى أنّ ذلك كلّه إنّما يتمّ في نطاق الالتزام بمبادئ السماء .
ثمّ ما يترتّب على هذا الالتزام من تحقيق معطيات اُخرى ، هي إرشاد الآخرين وتوجيههم إلى مبادئ السماء أيضاً . وهو ما حصل فعلا من إيمان المَلك وإيمان الجمهور .
وهذا المُعطى الأخير له قيمته الخطيرة دون أدنى شك . . . وأعني بذلك أن يكون المُلك أو الاضطلاع بأيّة مسؤولية كبيرة كانت أو صغيرة ، وسيلةً للهداية لإرشاد الآخرين نحو الإيمان باللّه ومبادئه .
* * *
وبعد ، هناك أحداثٌ ومواقف لم نتحدّث عنها في قصة يوسف وبمقدور المتلقّي أن يستخلص منها دلالات متنوعة تظلّ حائمة على الأفكار التي لحظناها في القصة بكلّ شخصياتها الثانوية والرئيسية .
كما أنّنا لم نتحدّث عن البناء الفني للقصة إلاّ عابراً .
إنّ الحديث عن البناء الفنّي للقصة يتطلّب مساحة أكبر من المساحة التي حدّدت أفكار القصة ، فكلّ دور من الأدوار التي لحقت الشخصيات الثانوية :
يعقوب ، إخوة يوسف ، أحفاد يعقوب ، امرأة العزيز ، نسوة المدينة ، الأخ الأصغر ليوسف ، العزيز ، صاحبي السجن ، الشاهد . . . كلّ دور لهذه الشخصيات قد صيغ وفق حوار وسرد مليئين بالأسرار الفنّية ، من اختزال أو تفصيل ، ومن اقتصاد لغوي ، ومن عَرض مُدهش . . .
هذا فضلا عن عناصر المفاجأة والتشويق ، وفضلا عن حركة القصة وتموّجاتها وإيقاعها ، وفضلا عن بنائها الزمني ونموّ الأحداث من خلاله بنحو مُدهش ، نجدنا قاصرين عن التحدّث عنه ، إلاّ من خلال تخصيص مساحة كبيرة لها ، عسى أن نوفق لذلك في مجال آخر .
بيد أنّ هذا لا يحتجزنا من التذكير جديداً أو الإشارة إلى أنّ أهم معالم البناء القصصي أو المادّة القصصية وصياغتها يتمثّل ـ كما ألمحنا في المقدّمة ـ في ظاهرة الحلم الذي بدأت القصةُ به ، وانتهت به أيضاً ، أي حلم يوسف في الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر ، حيث شكّل «البداية» موقفيّاً أو لفظيّاً ، وحيث تنامى عضوياً لينتهي إلى تجسيده عملياً وهو : تحقيق الحلم إلى واقع بالنحو الذي انتهت القصة به .
سورة الكهف
وأجابه يوسف :
﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾
ثمّ عقبت السماء على ذلك :
﴿وَكَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ﴾
﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ولا نُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ﴾
لقد أراد الملك أن يجعله مستشاراً خاصاً له :
﴿وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾
بيد أنّ المَلك عندما أعاد على يوسف قصّ رؤياه ، وفسّرها يوسف من جديد ، وكان ممّا اقترحه على الملك أن يجمع الطعام ، ويزرع زرعاً كثيراً في السنين المخصبة ، ويبني الخزائن للطعام بقصبه وسنبله علفاً للدواب ، وأن يرفع الناس من طعامهم الخمس ، حتّى يكفي الطعام لمصر ومَن حولها ، فيمتارون منه .
وعندها تجتمع من الكنوز ما لا يجتمع لأحد .
هنا أحسّ الملك بصعوبة تحقيق هذه الخطة الاقتصادية، قائلا : مَن لي بهذا ومن يجمعه ، أي : الطعام .
وعندها أجابه يوسف :
﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأَرْضِ﴾
ومنذ ذلك الحين تولّى يوسف هذه المهمّة .
ويقول الإمام الرضا (عليه السلام) : إنّ يوسف جمع خلال الأعوام المخصبة الطعام وكبسه في الخزائن ، ثمّ باعه في السنين المجدبة موزّعاً على سبع سنين ، كلّ سنة بقيمة تبادلية خاصة ، هي : النقد والجواهر والدواب والعبيد والعقار والمزارع والرقاب ، حتى اجتمعت لديه كلّ الأموال وفق هذه الخطة . وحتى قيل في حينه :
ما رأينا ولا سمعنا بمَلِك أعطاه اللّه من المُلك ما أعطى هذا المَلِكَ حكماً وعلماً وتدبيراً .
وقد ردّ يوسف بعد ذلك كلّ هذه الأموال إلى أصحابها بما في ذلك عتقه لمن تملّكهم ، وبما في ذلك خاتم المُلك وسريره وتاجُه ، مبيّناً للمَلِك أنّ إجراءاته الاقتصادية المذكورة لم تكن من أجل دافع التملّك أو السيطرة ، وإنّما من أجل إنقاذهم ، ولذلك فأنا أردّ إليهم كلّ الأموال وأردّ إليك سريرك ، ولكن شريطة أن تحذو حذوي في المنهج السياسي للبلد .
وعندها ثمّن المَلك هذا التوجيه السياسي وأعلن إيمانه باللّه .
* * *
إنّ ما يعنينا ممّا تقدّم ، أن نستخلص الدلالة الفكرية لهذه السمة التي طبعت شخصية يوسف من خلال اضطلاعه بتحمّل المسؤولية . . .
لقد عقّبت السماء على تولّي يوسف للمسؤولية ، بهذه الفقرات :
﴿وَكَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ﴾
﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ولا نُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ﴾
فهذه الفقرات توضّح لنا أنّ منح يوسف هذه المسؤولية ، مسؤولية المُلك إنّما تشكّل عطاءً أو نعمةً في الدنيا ، فضلا عن العطاء الاُخروي :
﴿وَلأَجْرُ الاْخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾
ومعطيات هذه النعم ليست لمجرّد أنـّها تحقيقٌ لدافع التملّك أو السيطرة ، فهذان الدافعان لا قيمة لهما عند الصفوة البشرية ، بل هما وسيلة لتحقيق مصالح الآخرين ، على النحو الذي حققه يوسف فعلا ، وحيث انتهى به الأمر إلى ردّ كلّ الأموال والتخلّي عن المُلك . . .
ولا يغب عن بالنا أيضاً ، كما تشير النصوص المفسّرة ، أنّ المَلِكَ نفسه قد أعلن إيمانه ، وأنّ الآخرين أيضاً أعلنوا إيمانهم نتيجة وقوفهم على السياسة الحكيمة التي انتهجها يوسف ، وهي سياسة مستوحاة من مبادئ السماء التي ألهمته إيّاه دون أدنى شك .
إذن الشخصية المؤمنة ، الصابرة ، الشخصيّة التي كابدت ألوان المهانة ، وفقدت التقدير الاجتماعي . . . قد كافأتها السماء بتقدير اجتماعي لا يدور ببال أحد قطّ إلى الدرجة التي سيطرت بها على مصائر الجمهور ، وهذا كلّه في حساب العطاء الدنيوي .
أما العطاء الاُخروي فهو خيرٌ من ذلك ، كما أشار النص القرآني الكريم .
هذا إلى أنّ ذلك كلّه إنّما يتمّ في نطاق الالتزام بمبادئ السماء .
ثمّ ما يترتّب على هذا الالتزام من تحقيق معطيات اُخرى ، هي إرشاد الآخرين وتوجيههم إلى مبادئ السماء أيضاً . وهو ما حصل فعلا من إيمان المَلك وإيمان الجمهور .
وهذا المُعطى الأخير له قيمته الخطيرة دون أدنى شك . . . وأعني بذلك أن يكون المُلك أو الاضطلاع بأيّة مسؤولية كبيرة كانت أو صغيرة ، وسيلةً للهداية لإرشاد الآخرين نحو الإيمان باللّه ومبادئه .
* *
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|