أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-02-2015
2051
التاريخ: 11-10-2014
1782
التاريخ: 26-04-2015
4163
التاريخ: 13-11-2020
3286
|
قال تعالى : {هُوالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوالْأَلْبَابِ } [آل عمران : 7]
كان من الحري البحث عن معناهما وتشخيص مصداقهما من الآيات، وفيه أقوال ربما تجاوزت العشرة :
أحدها : أن المحكمات هوقوله تعالى : {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام : 151] إلى آخر الآيات الثلاث والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود
، وهي الحروف المقطعة النازلة في أوائل عدة من السور القرآنية مثل الم والر وحم، وذلك أن اليهود أولوها على حساب الجمل، فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة وعمرها فاشتبه عليهم الأمر نسب إلى ابن عباس من الصحابة.
وفيه أنه قول من غير دليل ولوسلم فلا دليل على انحصارهما فيهما، على أن لازمه وجود قسم ثالث ليس بمحكم ولا متشابه مع أن ظاهر الآية يدفعه.
لكن الحق أن النسبة في غير محلها، والذي نقل عن ابن عباس أنه قال : إن الآيات الثلاث من المحكمات لا أن المحكمات هي الآيات الثلاث، ففي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ابن مردويه عن عبد اللّه بن قيس سمعت ابن عباس يقول في قوله منه آيات محكمات، قال : الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات :
قل تعالوا، والآيتان بعدها. ويؤيد ذلك ما رواه عنه أيضا في قوله : {آياتٌ مُحْكَماتٌ}، قال : من هاهنا : قل تعالوا إلى آخر ثلاث آيات، ومن هاهنا :
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [الإسراء : 23]إلى آخر ثلاث آيات، فالروايتان تشهدان أنه إنما ذكر هذه الآيات مثالا لسائر المحكمات لا أنه قصرها فيها.
وثانيها : عكس الأول وهوأن المحكمات هي الحروف المقطعة في فواتح السور والمتشابهات غيرها
. نقل ذلك عن أبي فاختة حيث ذكر في قوله تعالى : {هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ} أنهن فواتح السور منها يستخرج القرآن {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة : 1، 2] منها استخرجت البقرة و{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوالْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة : 255]، منها استخرجت آل عمران. وعن سعيد بن جبير مثله في معنى قوله : {هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ}، قال : أصل الكتاب لأنهن مكتوبات في جميع الكتب، انتهى.
ويدل ذلك على أنهما يذهبان في معنى فواتح السور إلى أن المراد بها ألفاظ الحروف بمعنى أن الكتاب الذي نزل عليكم هوهذه الحروف المقطعة التي تتألف منها الكلمات والجمل، كما هوأحد المذاهب في معنى فواتح السور.
وفيه : مضافا إلى أنه مبني على ما لا دليل عليه أصلا أعني تفسير الحروف المقطعة في فواتح السور بما عرفت أنه لا ينطبق على نفس الآية فإن جميع القرآن غير فواتح السور يصير حينئذ من المتشابه، وقد ذمّ اللّه سبحانه اتباع المتشابه وعده من زيغ القلب مع أنه تعالى مدح اتباع القرآن بل عده من أوجب الواجبات كقوله تعالى : {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ } [الأعراف : 157]وغيره من الآيات.
وثالثها : أن المتشابه هوما يسمى مجملا والمحكم هوالمبين.
وفيه : أن ما بيّن من أوصاف المحكم والمتشابه في الآية لا ينطبق على المجمل والمبين. بيان ذلك : أن إجمال اللفظ هوكونه بحيث يختلط ويندمج بعض جهات معناه ببعض فلا تنفصل الجهة المرادة عن غيرها، ويوجب ذلك تحير المخاطب أوالسامع في تشخيص المراد وقد جرى دأب أهل اللسان في طرف التفاهم أن لا يتبعوا ما هذا شأنه من الألفاظ بل يستريحون إلى لفظ آخر مبين يبين هذا المجمل فيصير بذلك مبينا فيتبع فهذا حال المجمل مع مبينه، فلوكان المحكم والمتشابه هما المجمل والمبين بعينهما كان المتبع هوالمتشابه إذا رد إلى المحكم دون نفس المحكم، وكان هذا الاتباع مما لا يجوزه قريحة التكلم والتفاهم فلم يقدم على مثله أهل اللسان سواء في ذلك أهل الزيغ منهم والراسخون في العلم ولم يكن اتباع المتشابه أمرا يلحقه الذم ويوجب زيغ القلب.
رابعها : أن المتشابهات هي الآيات المنسوخة لأنها يؤمن بها ولا يعمل بها، والمحكمات هي الآيات الناسخة
لأنها يؤمن بها ويعمل بها، ونسب إلى ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة، ولذلك كان ابن عباس يحسب أنه يعلم تأويل القرآن.
وفيه : أنه على تقدير صحته لا دليل فيه على انحصار المتشابهات في الآيات المنسوخة فإن الذي ذكره تعالى من خواص اتباع المتشابه من ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل جار في كثير من الآيات غير المنسوخة كآيات الصفات والأفعال، على أن لازم هذا القول وجود الواسطة بين المحكم والمتشابه.
وفيما نقل عن ابن عباس ما يدل على أن مذهبه في المحكم والمتشابه أعم مما ينطبق على الناسخ والمنسوخ، وأنّه إنما ذكرهما من باب المثال ففي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال : المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به، انتهى.
خامسها : أن المحكمات ما كان دليله واضحا لائحا كدلائل الوحدانية والقدرة والحكمة، والمتشابهات ما يحتاج في معرفته إلى تأمل
وتدبر.
وفيه : أنه إن كان المراد من كون الدليل واضحا لائحا أومحتاجا إلى التأمل والتدبر كون مضمون الآية ذا دليل عقلي قريب من البداهة أوبديهي وعدم كونه كذلك كان لازمه كون آيات الأحكام والفرائض ونحوها من المتشابه لفقدانها الدليل العقلي اللائح الواضح، وحينئذ يكون اتباعها مذموما مع أنها واجبة الاتباع، وإن كان المراد به كونه ذا دليل واضح لائح من نفس الكتاب وعدم كونه كذلك فجميع الآيات من هذه الجهة على وتيرة واحدة، وكيف لا؟ وهوكتاب متشابه مثاني، ونور، ومبين، ولازمه كون الجميع محكما وارتفاع المتشابه المقابل له من الكتاب وهوخلاف الفرض وخلاف النص.
سادسها : أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أوخفي، والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به
كوقت قيام الساعة ونحوه.
وفيه : أن الإحكام والتشابه صفتان لآية الكتاب من حيث إنها آية أي دالة على معرفة من المعارف الإلهية، والذي تدل عليه آية من آيات الكتاب ليس بعادم للسبيل، ولا ممتنع الفهم إما بنفسه أوبضميمة غيره، وكيف يمكن أن يكون هناك أمر مراد من لفظ الآية ولا يمكن نيله من جهة اللفظ؟
مع أنه وصف كتابه بأنه هدى وأنه نور، وأنه مبين، وأنه في معرض فهم الكافرين فضلا عن المؤمنين حيث قال : {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [فصلت : 2 - 4]وقال تعالى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوكَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء : 82]، فما تعرضت له آية من آيات الكتاب ليس بممتنع الفهم، ولا الوقوف عليه مستحيل، وما لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت قيام الساعة وسائر ما في الغيب المكنون لم يتعرض لبيانه آية من الآيات بلفظها حتى تسمى متشابها.
على أن في هذا القول خلطا بين معنى المتشابه وتأويل الآية كما مرّ.
سابعها : أن المحكمات آيات الأحكام والمتشابهات غيرها
مما يصرف بعضها بعضا، نسب هذا القول إلى مجاهد وغيره.
وفيه : أن المراد بالصرف الذي ذكره إن كان مطلق ما يعين على تشخيص المراد باللفظ حتى يشمل مثل التخصيص بالمخصص، والتقييد بالمقيد وسائر القرائن المقامية كانت آيات الأحكام أيضا كغيرها متشابهات، وإن كان خصوص ما لا إبهام في دلالته على المراد ولا كثرة في محتملاته حتى يتعين المراد به بنفسه، ويتعين المراد بغيره بواسطته كان لازم كون ما سوى آيات الأحكام متشابهة أن لا يحصل العلم بشيء من معارف القرآن غير الأحكام لأن المفروض عدم وجود آية محكمة فيها ترجع إليها المتشابهات منها، ويتبيّن بذلك معانيها.
ثامنها : أن المحكم من الآيات ما لا يحتمل من التأويل إلّا وجها واحدا والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها
كثيرة ونسب إلى الشافعي، وكأن المراد به أن المحكم ما لا ظهور له إلّا في معنى واحد كالنص والظاهر القوي في ظهوره والمتشابه خلافه.
وفيه : أنه لا يزيد على تبديل اللفظ شيئا، فقد بدّل لفظ المحكم بما ليس له إلّا معنى واحد، والمتشابه بما يحتمل معاني كثيرة، على أنه أخذ التأويل بمعنى التفسير أي المعنى المراد باللفظ وقد عرفت أنه خطأ، ولوكان التأويل هوالتفسير بعينه لم يكن لاختصاص علمه باللّه، أوباللّه وبالراسخين في العلم وجه فإن القرآن يفسر بعضه بعضا، والمؤمن والكافر والراسخين في العلم وأهل الزيغ في ذلك سواء.
تاسعها : أن المحكم ما أحكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع أممهم، والمتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم
بالتكرير في سور متعددة، ولازم هذا القول اختصاص التقسيم بآيات القصص.
وفيه : أنه لا دليل على هذا التخصيص أصلا، على أن الذي ذكره تعالى من خواص المحكم والمتشابه وهوابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل في اتباع المتشابه دون المحكم لا ينطبق عليه، فإن هذه الخاصة توجد في غير آيات القصص كما توجد فيها، وتوجد في القصة الواحدة كقصة جعل الخلافة في الأرض كما توجد في القصص المتكررة.
عاشرها : أن المتشابه ما يحتاج إلى بيان والمحكم خلافه
، وهذا الوجه منسوب إلى الإمام أحمد.
وفيه : أن آيات الأحكام محتاجة إلى بيان النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مع أنها من المحكمات قطعا لما تقدم بيانه مرارا، وكذا الآيات المنسوخة من المتشابه كما تقدم مع عدم احتياجها إلى بيان لكونها نظائر لسائر آيات الأحكام.
الحادي عشر : أن المحكم ما يؤمن به ويعمل به والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به
، ونسب إلى ابن تيمية، ولعل المراد به : أن الأخبار متشابهات والإنشاءات محكمات كما استظهره بعضهم وإلّا لم يكن قولا برأسه لصحة انطباقه على عدة من الأقوال المتقدمة.
وفيه : أن لازمه كون غير آيات الأحكام متشابهات، ولازمه أن لا يمكن حصول العلم بشيء من المعارف الإلهية في غير الأحكام إذ لا يتحقق فيها عمل مع عدم وجود محكم فيها يرجع إليه ما تشابه منها، ومن جهة أخرى : الآيات المنسوخة إنشاءات وليست بمحكمات قطعا.
والظاهر أن مراده من الإيمان والعمل بالمحكم والإيمان من غير عمل بالمتشابه ما يدل عليه لفظ الآية : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران : 7]، إلّا أن الأمرين أعني الإيمان والعمل معا في المحكم والإيمان فقط في المتشابه لما كانا وظيفتين لكل من آمن بالكتاب كان عليه أن يشخص المحكم والمتشابه قبلا حتى يؤدي وظيفته، وعلى هذا فلا يكفي معرفة المحكم والمتشابه بهما في تشخيص مصداقهما وهوظاهر.
الثاني عشر : أن المتشابهات هي آيات الصفات خاصة
أعم من صفات اللّه سبحانه كالعليم والقدير والحكيم والخبير، وصفات أنبيائه كقوله تعالى في عيسى بن مريم عليه السّلام : {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } [النساء : 171] وما يشبه ذلك، نسب إلى ابن تيمية.
وفيه : أنه مع تسليم كون آيات الصفات من المتشابهات لا دليل على انحصارها فيها. والذي يظهر من بعض كلامه المنقول على طوله : أنه يأخذ المحكم والمتشابه بمعناهما اللغوي وهوما أحكمت دلالته وما تشابهت احتمالاته والمعنيان نسبيان فربما اشتبهت دلالة آية على قوم كالعامة وعلمها آخرون بالبحث وهم العلماء، وهذا المعنى في آيات الصفات أظهر فإنها بحيث تشتبه مراداتها لغالب الناس لكون أفهامهم قاصرة عن الارتقاء إلى ما وراء الحس، فيحسبون ما أثبته اللّه تعالى لنفسه من العلم والقدرة والسمع والبصر والرضا والغضب واليد والعين وغير ذلك أمورا جسمانية أومعاني ليست بالحق، وتقوم بذلك الفتن، وتظهر البدع، وتنشأ المذاهب فهذا معنى المحكم والمتشابه، وكلاهما مما يمكن أن يحصل به العلم، والذي لا يمكن نيله والعلم به هوتأويل المتشابهات بمعنى حقيقة المعاني التي تدل عليها أمثال آيات الصفات، فهب أنّا علمنا معنى قوله {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، و{ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}ونحوذلك لكنا لا ندري حقيقة علمه وقدرته وسائر صفاته وكيفية أفعاله الخاصة به، فهذا هوتأويل المتشابهات التي لا يعلمها إلّا اللّه تعالى، انتهى ملخصا، وسيأتي ما يتعلق بكلامه من البحث عند ما نتكلم في التأويل إن شاء اللّه.
الثالث عشر : أن المحكم ما للعقل إليه سبيل والمتشابه بخلافه.
وفيه : أنه قول من غير دليل، والآيات القرآنية وإن انقسمت إلى ما للعقل إليه سبيل وما ليس للعقل إليه سبيل، لكن ذلك لا يوجب كون المراد بالمحكم والمتشابه في هذه الآية استيفاء هذا التقسيم، وشيء مما ذكر فيها من نعوت المحكم والمتشابه لا ينطبق عليه انطباقا صحيحا، على أنه منقوض بآيات الأحكام فإنها محكمة ولا سبيل للعقل إليها.
الرابع عشر : أن المحكم ما أريد به ظاهره والمتشابه ما أريد به خلاف ظاهره
، وهذا قول شائع عند المتأخرين من أرباب البحث، وعليه يبتني اصطلاحهم في التأويل : أنه المعنى المخالف لظاهر الكلام، وكأنّه أيضا مراد من قال : إن المحكم ما تأويله تنزيله، والمتشابه ما لا يدرك إلّا بالتأويل.
وفيه : أنه اصطلاح محض لا ينطبق عليه ما في الآية من وصف المحكم والمتشابه فإنّ المتشابه إنما هومتشابه من حيث تشابه مراده ومدلوله، وليس المراد بالتأويل المعنى المراد من المتشابه حتى يكون المتشابه متميزا عن المحكم بأن له تأويلا بل المراد بالتأويل في الآية أمر يعم جميع الآيات القرآنية من محكمها ومتشابهها كما مرّ بيانه.
على أنه ليس في القرآن آية أريد فيها ما يخالف ظاهرها، وما يوهم ذلك من الآيات إنما أريد بها معان تعطيها لها آيات أخر محكمة، والقرآن يفسر بعضه بعضا، ومن المعلوم أن المعنى الذي تعطيه القرائن- متصلة أومنفصلة- للفظ ليس بخارج عن ظهوره وبالخصوص في كلام نص متكلمه على أن ديدنه أن يتكلم بما يتصل بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض ويرتفع كل اختلاف وتناف متراء بالتدبر فيه، قال تعالى : {أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ولَوكانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً }.
الخامس عشر : ما عن الأصم : أن المحكم ما أجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه
وكأن المراد بالإجماع والاختلاف كون مدلول الآية بحيث تختلف فيه الأنظار أولا تختلف.
وفيه : أن ذلك مستلزم لكون جميع الكتاب متشابها وينافيه التقسيم الذي في الآية إذ ما من آية من آي الكتاب إلّا وفيه اختلاف ما : إما لفظا أومعنى أوفي كونها ذات ظهور أوغيرها، حتى ذهب بعضهم إلى أن القرآن كله متشابه مستدلا بقوله تعالى : {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر : 23]، غفلة عن أن هذا الاستدلال منه يبتني على كون ما استدل به آية محكمة وهويناقض قوله، وذهب آخرون إلى أن ظاهر الكتاب ليس بحجة أي أنه لا ظاهر له.
السادس عشر : أن المتشابه ما أشكل تفسيره لمشابهته غيره
سواء كان الإشكال من جهة اللفظ أومن جهة المعنى، ذكره الراغب.
قال في مفردات القرآن : والمتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره، إما من حيث اللفظ، أومن حيث المعنى، فقال الفقهاء :
المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده، وحقيقة ذلك : أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب : محكم على الإطلاق، متشابه على الإطلاق، ومحكم من وجه ومتشابه من وجه.
فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب : متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من جهتهما.
والمتشابه من جهة اللفظ ضربان : أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، وذلك إما من جهة غرابته نحوالأب ويزفون، وإما من جهة مشاركة في اللفظ كاليد والعين، والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب : ضرب لاختصار الكلام نحو{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء : 3]وضرب لبسط الكلام نحولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لأنه لوقيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع، وضرب لنظم الكلام نحو{ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف : 1، 2]تقديره الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، وقوله : {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ..إلى قوله لَوتَزَيَّلُوا} [الفتح : 25].
والمتشابه من جهة المعنى أوصاف اللّه تعالى وأوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا، إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أولم يكن من جنس ما لم نحسه.
والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعا خمسة أضرب : الأول : من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة : 5]، والثاني : من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء : 3]، والثالث : من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران : 102]، والرابع : من جهة المكان أوالأمور التي نزلت فيها نحو{ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة : 189]وقوله : {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة : 37]ِ، فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية، والخامس : من جهة الشروط التي بها يصح الفعل أويفسد كشروط الصلاة والنكاح.
وهذه الجملة إذا تصورت علم : أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التفاسير نحوقول من قال المتشابه الم، وقول قتادة : المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ، وقول الأصم : المحكم ما أجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه.
ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب : ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج دابة الأرض وكيفية الدابة ونحوذلك. وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام المغلقة وضرب متردد بين الأمرين، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم، وهوالضرب المشار إليه بقوله عليه السّلام في علي رضي اللّه عنه : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، وقوله لابن عباس مثل ذلك، انتهى كلامه وهوأعم الأقوال في معنى المتشابه جمع فيها بين عدة من الأقوال المتقدمة.
وفيه : أولا : أن تعميمه المتشابه لموارد الشبهات اللفظية كغرابة اللفظ وإغلاق التركيب والعموم والخصوص ونحوها لا يساعد عليه ظاهر الآية فإن الآية جعلت المحكمات مرجعا يرجع إليه المتشابهات، ومن المعلوم أن غرابة اللفظ وأمثالها لا تنحل عقدتها من جهة دلالة المحكمات، بل لها مرجع آخر ترجع إليه وتتضح به.
وأيضا : الآية تصف المتشابهات بأنها من شأنها أن تتبع لابتغاء الفتنة، ومن المعلوم : أن اتباع العام من غير رجوع إلى مخصصه، والمطلق من غير رجوع إلى مقيده وأخذ اللفظ الغريب مع الإعراض عما يفسره في اللغة مخالف لطريقة أهل اللسان لا تجوزه قريحتهم فلا يكون بالطبع موجبا لإثارة الفتنة لعدم مساعدة اللسان عليه.
وثانيا : أن تقسيمه المتشابه بما يمكن فهمه لعامة الناس وما لا يمكن فهمه لأحد وما يمكن فهمه لبعض دون بعض ظاهر في أنه يرى اختصاص التأويل بالمتشابه وقد عرفت خلافه.
هذا هوالمعروف من أقوالهم في معنى المحكم والمتشابه وتمييز مواردهما وقد عرفت ما فيها، وعرفت أيضا أن الذي يظهر من الآية على ظهورها وسطوع نورها خلاف ذلك كله، وأن الذي تعطيه الآية في معنى المتشابه أن تكون الآية مع حفظ كونها آية دالة على معنى مريب مردد لا من جهة اللفظ بحيث تعالجه الطرق المألوفة عند أهل اللسان كإرجاع العام والمطلق إلى المخصص والمقيد ونحوذلك بل من جهة كون معناها غير ملائم لمعنى آية أخرى محكمة لا ريب فيه تبين حال المتشابهة.
ومن المعلوم أن معنى آية من الآيات لا يكون على هذا الوصف إلّا مع كون ما يتبع من المعنى مألوفا مأنوسا عند الأفهام العامية تسرع الأذهان الساذجة إلى تصديقه أويكون ما يرام من تأويل الآية أقرب إلى قبول هذه الأفهام الضعيفة الإدراك والتعقل.
وأنت إذا تتبعت البدع والأهواء والمذاهب الفاسدة التي انحرفت فيها الفرق الإسلامية عن الحق القويم بعد زمن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم سواء كان في المعارف أوفي الأحكام وجدت أكثر مواردها من اتباع المتشابه، والتأويل في الآيات بما لا يرتضيه اللّه سبحانه.
ففرقة تتسمك من القرآن بآيات للتجسيم، وأخرى للجبر وأخرى للتفويض وأخرى لعثرة الأنبياء، وأخرى للتنزيه المحض بنفي الصفات، وأخرى للتشبيه الخالص وزيادة الصفات، إلى غير ذلك، كل ذلك للأخذ بالمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم الحاكم فيه.
وطائفة ذكرت : أن الأحكام الدينية إنما شرّعت لتكون طريقا إلى الوصول فلوكان هناك طريق أقرب منها كان سلوكه متعينا لمن ركبه فإنما المطلوب هوالوصول بأي طريق اتفق وتيسر، وأخرى قالت : إن التكليف إنما هولبلوغ الكمال، ولا معنى لبقائه بعد الكمال بتحقق الوصول فلا تكليف لكامل.
وقد كانت الأحكام والفرائض والحدود وسائر السياسات الإسلامية قائمة ومقامة في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لا يشذ منها شاذ ثم لم تزل بعد ارتحاله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم تنقص وتسقط حكما فحكما، يوما فيوما بيد الحكومات الإسلامية، ولم يبطل حكم أوحد إلّا واعتذر المبطلون : أن الدين إنما شرع لصلاح الدنيا وإصلاح الناس، وما أحدثوه أصلح لحال الناس اليوم، حتى آل الأمر إلى ما يقال : إن الغرض الوحيد من شرائع الدين إصلاح الدنيا بإجرائها، والدنيا اليوم لا تقبل السياسة الدينية ولا تهضمها بل تستدعي وضع قوانين ترتضيها مدنية اليوم واجرائها، وإلى ما يقال : إن التلبس بالأعمال الدينية لتطهير القلوب وهدايتها إلى الفكرة والإرادة الصالحتين والقلوب المتدربة بالتربية الاجتماعية، والنفوس الموقوفة على خدمة الخلق في غنى عن التطهر بأمثال الوضوء والغسل والصلاة والصوم.
إذا تأملت في هذه وأمثالها- وهي لا تحصى كثرة- وتدبرت في قوله تعالى؛ { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران : 7] الآية، لم تشك في صحة ما ذكرناه، وقضيت بأن هذه الفتن والمحن التي غادرت الإسلام والمسلمين لم تستقر قرارها إلّا من طريق اتباع المتشابه، وابتغاء تأويل القرآن.
وهذا- واللّه أعلم- هوالسبب في تشديد القرآن الكريم في هذا الباب وإصراره البالغ على النهي عن اتباع المتشابه وابتغاء الفتنة والتأويل والإلحاد في آيات اللّه والقول فيها بغير علم واتباع خطوات الشيطان فإن من دأب القرآن أنه يبالغ في التشديد في موارد سينثلم من جهتها ركن من أركان الدين فتنهدم به بنيته كالتشديد الواقع في تولي الكفار، ومودة ذوي القربى، وقرار أزواج النبي عليه السّلام، ومعاملة الربا، واتحاد الكلمة في الدين وغير ذلك ولا يغسل رين الزيغ من القلوب ولا يسد طريق ابتغاء الفتنة اللذين منشأهما الركون إلى الدنيا والإخلاد إلى الأرض واتباع الهوى إلّا ذكر يوم الحساب كما قال تعالى : {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } [ص : 26]ولذلك ترى الراسخين في العلم المتأبين تأويل القرآن بما لا يرتضيه ربهم يشيرون إلى ذلك في خاتمة مقالهم حيث يقولون : { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران : 9].
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|