أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-8-2020
4687
التاريخ: 28-8-2020
6290
التاريخ: 28-8-2020
44106
التاريخ: 27-8-2020
11511
|
قال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف: 47 - 49]
{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} قيل: إنه يتعلق بما قبله وتقديره والباقيات الصالحات خير ثوابا في هذا اليوم وقيل إنه ابتداء كلام وتقديره واذكر يوم نسير الجبال يعني يوم القيامة ، وتسيير الجبال قلعها عن أماكنها فإن الله سبحانه يقلعها ويجعلها هباء منثورا وقيل نسيرها على وجه الأرض كما نسير السحاب في السماء ثم يجعلها كثيبا مهيلا كما قال { يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} الآية ثم يصيرها كالعهن المنفوش ثم يصيرها هباء منبثا في الهواء كما قال وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا ثم يصيرها بمنزلة السراب كما قال وسيرت الجبال فكانت سرابا.
{ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} أي: ظاهرة ليس عليها شيء من جبل أوبناء أوشجر يسترها عن عيون الناظرين وقيل: إن معناه وترى باطن الأرض ظاهرا قد برز من كان في بطنها فصاروا على ظهرها عن عطا وتقديره وترى ما في الأرض بارزا فهومثل قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ترمي الأرض بأفلاذ كبدها { وَحَشَرْنَاهُمْ } أي: وبعثناهم من قبورهم وجمعناهم في الموقف { فلم نغادر منهم أحدا} أي: فلم نترك منهم أحدا إلا حشرناه { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ} يعني المحشورين يعرضون على الله تعالى يوم القيامة { صَفًّا} أي: مصفوفين كل زمرة وأمة صفا وقيل يعرضون صفا بعد صف كالصفوف في الصلاة وقيل يعرضون صفا واحدا لا يحجب بعضهم بعضا ويقال لهم { لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} معناه: لقد جئتمونا ضعفاء فقراء عاجزين في الموضع الذي لا يملك فيه الحكم غيرنا كما كنتم في ابتداء الخلق لا تملكون شيئا وقيل معناه ليس معكم شيء مما اكتسبتموه في الدنيا من الأموال والأولاد والخدم تنتفعون به كما كنتم في أول الخلق.
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال يحشر الناس من قبورهم يوم القيامة حفاة عراة غرلا فقالت عائشة يا رسول الله أ ما يستحي بعضهم من بعض فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا } أي: ويقال لهم أيضا بل زعمتم في دار الدنيا أن الله لم يجعل لكم موعدا للبعث والجزاء والحساب يوم القيامة { وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أي: ووضع الكتب فإن الكتاب اسم جنس والمعنى ووضعت صحائف بني آدم في أيديهم وقيل معناه ووضع الحساب فعبر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة عن الكلبي { فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} أي: خائفين مما فيه من الأعمال السيئة { وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} هذه لفظة يقولها الإنسان إذا وقع في شدة فيدعو على نفسه بالويل والثبور { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} أي: أي شيء لهذا الكتاب { لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } أي لا يترك صغيرة من الذنوب ولا كبيرة إلا عدها وأثبتها وحواها وقد مر تفسير الصغيرة والكبيرة في سورة النساء وأنث الصغيرة والكبيرة بمعنى الفعلة والخصلة { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } أي: مكتوبا في الكتاب مثبتا وقيل: معناه وجدوا جزاء ما عملوا حاضرا فجعل وجود الجزاء كوجود الأعمال توسعا { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} معناه: ولا ينقص ربك ثواب محسن ولا يزيد في عقاب مسيء وفي هذا دلالة على أنه سبحانه لا يعاقب الأطفال لأنه إذا كان لا يزيد في عقوبة المذنب فكيف يعاقب من ليس بمذنب .
_________________
1- تفسير مجمع البيان،الطبرسي،ج6،ص352-353.
{ ويَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وتَرَى الأَرْضَ بارِزَةً } . لهذه الأرض التي نعيش عليها يوم ، ذكره اللَّه سبحانه في العديد من الآيات منها هذه الآية ، وقد وصفه تعالى فيها بوصفين : الأول ان اللَّه يقتلع الجبال من أماكنها ، ويسيرها في الجوكما يسير السحاب . الوصف الثاني : ان جميع أطراف الأرض وأجزائها تكون ظاهرة بارزة لا يحجبها شيء ، وعندئذ يكون المحشر الذي أشار إليه بقوله :
{ وحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } يجمع اللَّه سبحانه في ذلك الأولين والآخرين لنقاش الحساب وجزاء الأعمال .
{عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا } . ذكرنا فيما سبق ان البعث والحساب والجزاء حق لا ريب فيه ، وأثبتنا ذلك بالأدلة القاطعة ، وبأساليب شتى عند تفسير الآيات التي تعرضت إلى اليوم الآخر ، ومنها الآية 4 من سورة يونس ، فقرة الحساب والجزاء حتم ج 4 ص 132 . وتقول الآية التي نحن بصددها : ان الخلائق يعرضون غدا على اللَّه صفا ، والمراد بالعرض الوقوف بين يدي اللَّه للحساب ، أما المراد بالصف فقد اختلف المفسرون فيه على أقوال ، فبعضهم أبقى الظاهر على دلالته ، وبعضهم تصرف وحمّل اللفظ ما لا يحتمل .
والذي نراه نحن ان الصف هنا كناية عن الترتيب والنظام ، وان الخلائق يعرضون على خالقهم بوضع محكم ودقيق .
{قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً} بهذا يبدأ اللَّه سبحانه محاكمة الذين ينكرون البعث : لقد أخرجناكم من بطون أمهاتكم عراة حفاة عزلا من كل شيء ، وكذلك أخرجناكم من قبوركم ، ولا فرق إلا في انكم خرجتم أولا غير مسؤولين عن شيء ، وثانية لتسألوا عما كنتم تعملون وتعتقدون وتقولون . . ومن ذلك قولكم : البعث خرافة وأساطير . . فما ترون الآن ؟ .
{ ووُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } . بعد أن قال اللَّه لمنكري البعث : { فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ ولكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أعطى كل واحد منهم صحيفة أعماله ، وقال له : { اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } – (14 الاسراء) . اقرأ صحيفة أعمالك ، وحاسب نفسك بنفسك . . فيقرأها ، وهو يرتجف من الخوف الذي لا رجاء معه ولا أمل بالنجاة ، ولو خاف عذاب الحريق من قبل ، وابتعد عن طريقه لكان اليوم في أمن وأمان ، ولكنه أمن هناك فخاف هنا .
{ ويَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها } .
ومن قبل هذا قالوا : لا كتاب ولا حساب ، ولم يستجيبوا لعقل ولا دين { ووَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً } من غير زيادة أونقصان ، كيف { ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } لا في ثواب ولا في عقاب بل يضاعف الثواب لمن أحسن ، وقد يعفوعمن أساء .
________________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 134-135.
الآيات متصلة بما قبلها تسير مسيرها في تعقيب بيان أن هذه الأسباب الظاهرية وزخارف الدنيا الغارة زينة الحياة سيسرع إليها الزوال ويتبين للإنسان أنها لا تملك له نفعا ولا ضرا وإنما يبقى للإنسان أوعليه عمله فيجازى به.
وقد ذكرت الآيات أولا قيام الساعة ومجيء الإنسان فردا ليس معه إلا عمله ثم تذكر إبليس وإباءه عن السجدة لآدم وفسقه عن أمر ربه وهم يتخذونه وذريته أولياء من دون الله وهم لهم عدوثم تذكر يوم القيامة وإحضارهم وشركاءهم وظهور انقطاع الرابطة بينهم وتعقب ذلك آيات أخر في الوعد والوعيد، والجميع بحسب الغرض متصل بما تقدم.
قوله تعالى:{ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} الظرف متعلق بمقدر والتقدير(واذكر يوم نسير) وتسيير الجبال بزوالها عن مستقرها وقد عبر سبحانه عنه بتعبيرات مختلفة كقوله:{ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا }: المزمل: 14، وقوله:{ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}: القارعة: 5 وقوله:{ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا}: الواقعة: 6، وقوله:{ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا}: النبأ: 20.
والمستفاد من السياق أن بروز الأرض مترتب على تسيير الجبال فإذا زالت الجبال والتلال ترى الأرض بارزة لا تغيب ناحية منها عن أخرى بحائل حاجز ولا يستتر صقع منها عن صقع بساتر، وربما احتمل أن تشير إلى ما في قوله:{ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا}: الزمر: 69.
وقوله:{ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} أي لم نترك منهم أحدا فالحشر عام للجميع.
قوله تعالى:{ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} إلخ السياق يشهد على أن ضمير الجمع في قوله:{ وَعُرِضُوا} وكذا ضميرا الجمع في الآية السابقة للمشركين وهم الذين اطمأنوا إلى أنفسهم والأسباب الظاهرية التي ترتبط بها حياتهم، وتعلقوا بزينة الحياة كالمتعلق بأمر دائم باق فكان ذلك انقطاعا منهم عن ربهم، وإنكارا للرجوع إليه، وعدم مبالاة بما يأتون به من الأعمال أرضى الله أم أسخطه.
وهذه حالهم ما دام أساس الامتحان الإلهي والزينة المعجلة بين أيديهم والأسباب الظاهرية حولهم ولما يقض الأمر أجله ثم إذا حان الحين وتقطعت الأسباب وطاحت الآمال وجعل الله ما عليها من زينة صعيدا جرزا لم يبق إذ ذاك لهم إلا ربهم وأنفسهم وصحيفة أعمالهم المحفوظة عليهم، وعرضوا على ربهم - وليسوا يرونه ربا لهم وإلا لعبدوه - صفا واحدا لا تفاضل بينهم بنسب أومال أوجاه دنيوي لفصل القضاء تبين لهم عند ذلك أن الله هوالحق المبين وأن ما يدعونه من دونه وتعلقت به قلوبهم من زينة الحياة واستقلال أنفسهم والأسباب المسخرة لهم ما كانت إلا أوهاما لا تغني عنهم من الله شيئا وقد أخطئوا إذ تعلقوا بها وأعرضوا عن سبيل ربهم ولم يجروا على ما أراده منهم بل كان ذلك منهم لأنهم توهموا أن لا موقف هناك يوقفون فيه فيحاسبون عليه.
وبهذا البيان يظهر أن هذا الجمل الأربع:{ وَعُرِضُوا} إلخ{ لَقَدْ جِئْتُمُونَا} إلخ{ بَلْ زَعَمْتُمْ} إلخ{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ} إلخ نكت أساسية مختارة من تفصيل ما يجري يومئذ بينهم وبين ربهم من حين يحشرون إلى أن يحاسبوا، واكتفي بها إيجازا في الكلام لحصول الغرض بها.
فقوله:{ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} إشارة أولا إلى أنهم ملجئون إلى الرجوع إلى ربهم ولقائه فيعرضون عليه عرضا من غير أن يختاروه لأنفسهم، وثانيا أن لا كرامة لهم في هذا اللقاء، ويشعر به قوله{ عَلَى رَبِّكَ} ولو أكرموا لقيل: ربهم كما قال:{ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ}: البينة: 8: وقال {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}: هود: 29، أوقيل: عرضوا علينا جريا على سياق التكلم السابق، وثالثا أن أنواع التفاضل والكرامات الدنيوية التي اختلقتها لهم الأوهام الدنيوية من نسب ومال وجاه قد طاحت عنهم فصفوا صفا واحدا لا تميز فيه لعال من دان ولا لغني من فقير ولا لمولى من عبد، وإنما الميز اليوم بالعمل وعند ذلك يتبين لهم أنهم أخطئوا الصواب في حياتهم الدنيا وضلوا السبيل فيخاطبون بمثل قوله:{ لَقَدْ جِئْتُمُونَا} إلخ.
وقوله{ لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} مقول القول والتقدير وقال لهم أوقلنا لهم: لقد جئتمونا إلخ، وفي هذا بيان خطإهم وضلالهم في الدنيا إذ تعلقوا بزينتها وزخرفها فشغلهم ذلك عن سلوك سبيل الله والأخذ بدينه.
وقوله{ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا } في معنى قوله:{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}: المؤمنون: 115 والجملة إن كانت إضرابا عن الجملة السابقة على ظاهر السياق فالتقدير ما في معنى قولنا: شغلتكم زينة الدنيا وتعلقكم بأنفسكم وبظاهر الأسباب عن عبادتنا وسلوك سبيلنا بل ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا تلقوننا فيه فتحاسبوا وبتعبير آخر: إن اشتغالكم بالدنيا وتعلقكم بزينتها وإن كان سببا في الإعراض عن ذكرنا واقتراف الخطيئات لكن كان هناك سبب هو أقدم منه وهو الأصل وهو أنكم ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا فنسيان المعاد هو الأصل في ترك الطريق وفساد العمل قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}: ص: 26.
والوجه في نسبة الظن بنفي المعاد إليهم أن انقطاعهم إلى الدنيا وتعلقهم بزينتها ومن يدعونه من دون الله فعل من ظن أنها دائمة باقية لهم وأنهم لا يرجعون إلى الله فهو ظن حالي عملي منهم ويمكن أن يكون كناية عن عدم اعتنائهم بأمر الله واستهانتهم بما أنذروا به نظير قوله تعالى:{ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ }: فصلت: 22.
ومن الجائز أن يكون قوله:{ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} إضرابا عن اعتذار لهم مقدر بالجهل ونحوه والله أعلم.
قوله تعالى:{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} إلى آخر الآية وضع الكتاب نصبه ليحكم عليه، ومشفقين من الشفقة وأصلها الرقة، قال الراغب في المفردات،: الإشفاق عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه قال تعالى:{ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال تعالى:{ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ}{ مُشْفِقُونَ مِنًها} انتهى.
والويل الهلاك، ونداؤه عند المصيبة - كما قيل - كناية عن كون المصيبة أشد من الهلاك فيستغاث بالهلاك لينجى من المصيبة كما ربما يتمنى الموت عند المصيبة قال تعالى:{ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا}: مريم: 23.
وقوله:{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ} ظاهر السياق أنه كتاب واحد يوضع لحساب أعمال الجميع ولا ينافي ذلك وضع كتاب خاص بكل إنسان والآيات القرآنية دالة على أن لكل إنسان كتابا ولكل أمة كتابا وللكل كتابا قال تعالى:{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا} الآية: إسراء: 13 وقد تقدم الكلام فيها، وقال:{كل أمة تدعى إلى كتابها}: الجاثية: 28 وقال:{ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}: الجاثية: 29 وسيجيء الكلام في الآيتين إن شاء الله تعالى.
وقيل: المراد بالكتاب كتب الأعمال واللام للاستغراق، والسياق لا يساعد عليه.
وقوله:{ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} تفريع الجملة على وضع الكتاب وذكر إشفاقهم مما فيه دليل على كونه كتاب الأعمال أوكتابا فيه الأعمال، وذكرهم بوصف الإجرام للإشارة إلى علة الحكم وأن إشفاقهم مما فيه لكونهم مجرمين فالحكم يعم كل مجرم وإن لم يكن مشركا.
وقوله:{ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} الصغيرة والكبيرة وصفان قامتا مقام موصوفهما وهو الخطيئة أوالمعصية أوالهنة ونحوها.
وقولهم هذا إظهار للدهشة والفزع من سلطة الكتاب في إحصائه للذنوب أولمطلق الحوادث ومنها الذنوب في صورة الاستفهام التعجيبي، ومنه يعلم وجه تقديم الصغيرة على الكبيرة في قوله:{ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} مع أن الظاهر أن يقال: لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها بناء على أن الكلام في معنى الإثبات وحق الترقي فيه أن يتدرج من الكبير إلى الصغير هذا، وذلك لأن المراد - والله أعلم - لا يغادر صغيرة لصغرها ودقتها ولا كبيرة لكبرها ووضوحها، والمقام مقام الاستفزاع في صورة التعجيب وإحصاء الصغيرة على صغرها ودقتها أقرب إليه من غيرها.
وقوله:{ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} ظاهر السياق كون الجملة تأسيسا لا عطف تفسير لقوله:{ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} إلخ وعليه فالحاضر عندهم نفس الأعمال بصورها المناسبة لها لا كتابتها كما هو ظاهر أمثال قوله:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: التحريم: 7، ويؤيده قوله بعده:{ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} فإن انتفاء الظلم بناء على تجسم الأعمال أوضح لأن ما يجزون به إنما هو عملهم يرد إليهم ويلحق بهم لا صنع في ذلك لأحد فافهم ذلك.
________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج13،ص259-263.
يا ويلتاه مِن هذا الكتاب!
تعقيباً لما كانت تتحدث به الآيات السابقة عن غرور الإِنسان وإِعجابه بنفسه، وما تؤدي إليه هذه الصفات مِن إنكار للبعث والمعاد، يَنصب المقطع الراهن مِن الآيات التي بين أيدينا على تبيان المراحل المُمَهِدَة للقيامة وفق الترتيب الآتي:
1 ـ مرحلة ما قبل بعث الإنسان.
2 ـ مرحلة البعث.
3 ـ قسم مِن مرحلة ما بعد البعث.
الآية الأُولى تذكّر الإِنسان بمقدمات البعث والقيامة فتقول: إِنَّ إِنهيار معالم الشكل الراهن للعالم هي أوّل مقدمات البعث، وسيتمّ هذا التغيير لشكل العالم مِن خلال مجموعة مظاهر، في الطليعة مِنها تسيير الجبال الرواسي وكل ما يُمسك الأرض ويبرز عليها، حتى تبدو الأرض خالية مِن أيّ مِن المظاهر السابقة: { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً}.
هذه الآية تشير إلى حوادث قبيل البعث، وهي حوادث كثيرة جدّاً. والملاحظ أنَّ السور القصار تتحدث عنها بشكل بارز في إِطار حديثها عمّا بات يُعرف اصطلاحاً بـ «أشراط الساعة».
إنَّ المستفاد مِن مجموعة تلك السور أنَّ وجه العالم الراهن يتغيِّر بشكل كُليّ حيثُ تتلاشي الجبال، وتنهار الأبنية والأشجار، ثمّ تضرب الأرض سلسلة مِن الزلازل، وتنطفيء الشمس، ويخمد نور القمر، وتظلم النجوم. وعلى حطام كل ذلك تظهر إِلى الوجود سماء جديدة، وأرض جديدة، ليبدأ الإِنسان حينئذ حياته الأُخرى في مرحلة البعث والحساب.
بعد ذلك تضيف الآية قوله تعالى: { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}.
«نغادر» مِن «غدر» بمعنى الترك. ولذلك يقال للذي يُخلف الوعد والميثاق ويتركه بأنَّهُ «غدر» ويقال لمياه الامطار المتجمعة في مكان واحد بـ «الغدير» لأنّها قد تركت هناك.
في كل الأحوال، تؤكّد الآية الآنفة الذكر على أنَّ المعاد هو حالة عامّة لا يستثنى مِنها أحد.
الآية التي بعدها تتحدَّث عن كيفية بعث الناس فتقول: { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا}. إِنَّ استخدام هذا التعبير قد يكون إِشارة إلى حشر كل مجموعة مِن الناس تتشابه في أعمالها في صف واحد; أو أنَّ الجميع سيكونون في صف واحد دون أية إِمتيازات أو تفاوت، وسوف يقال لهم: { لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
فليسَ ثمّة كلام عن الأموال والثروات، ولا الذهب والزينة، ولا إِلامتيازات والمناصب المادية، ولا الملابس المختلفة، وليسَ هُناكَ ناصر أو معين، ستعودون كمثل الحالة التي خلقناكم فيها أوَّل مرَّة، بالرغم مِن أنّكم كُنتم تتوهمون عدم امكان ذلك: { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا}.
وذلك في وقت سيطرت فيه حالة الغرور عليكم بما أوتيتم مِن إِمكانات مادية غفلتم معها عن الآخرة، وأصبحتم تفكرون في حياتكم الدنيا وخلودها، وغفلتم عن نداء الفطرة فيكم.
ثمّ تشير الآيات إلى مراحل أُخرى مِن يوم البعث والمعاد فتقول: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ}. هذا الكتاب الذي يحتوي على أحوال الناس بكل تفصيلاتها: { فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ}. وذلك عندما يطّلعون على محتواه فتتجلى آثار الخوف والوحشة على وجوههم.
في هذه الأثناء يصرخون ويقولون: { وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}.
الجميع مدعوون للحساب عن كل شيء مهما دنا وَصَغُر، إِنَّهُ موقف موحش.. لقد نسينا بعض أعمالنا وكأن لم نفعلها، حتى كُنّا نظن بأنّنا لم نقم بعمل مُخالف، لكن نرى اليوم أنَّ مسؤوليتنا أصبحت ثقيلة جدّاً ومصيرنا مظلم.
بالإِضافة إلى الكتاب المكتوب ثمة دليل آخر: { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا}. وجدوا الحسنات والسيئات; الظلم والعدل، السلبيات والخيانات، كل هذه وغيرها وجدوها مُتجسِّدة أمامهم.
في الواقع إِنّهم يُلاقون مصير أعمالهم: { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. الذي سيشملهم هُناك ، هو ـ لا مُحالة ـ ما قاموا به في هذه الحياة الدنيا، لذلك فلا يلومون أحداً سوى أنفسهم.
______________
1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج7،ص523-525.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|