أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-7-2020
9793
التاريخ: 2-7-2020
11503
التاريخ: 28-6-2020
14020
التاريخ: 8-7-2020
4905
|
قال تعالى:{ وقَالَ الَّذِى اشترَاهُ مِن مِّصرَ لامْرَأَتِهِ أَكرِمِى مَثْوَاهُ عَسى أَن يَنفَعَنَا أَونَتَّخِذَهُ وَلَداً وكذَلِك مَكَّنَّا لِيُوسف فى الأَرْضِ ولِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ واللَّهُ غَالِبٌ عَلى أَمْرِهِ ولَكِنَّ أَكثرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(21) ولَمَّا بَلَغَ أَشدَّهُ ءَاتَيْنَهُ حُكْماً وعِلْماً وكَذَلِك نجْزِى الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 21 - 22]
أخبر سبحانه عن حال يوسف بعد أن بيع فقال { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ} أي: اشترى يوسف { من مصر} أي: من أهل مصر{ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أزوج نعل وثوبين أبيضين عن ابن عباس وقيل: أنه عرضه على البيع في سوق مصر فتزايدوا حتى بلغ ثمنه وزنه ورقا ومسكا وحريرا عن وهب فاشتراه العزيز بهذا الثمن وقال: لامرأته راعيل ولقبها زليخا { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} أي: عسى أن نبيعه فنربح على ثمنه .
{ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} فإنه لا ولد لنا وإنما قال ذلك لما رأى على يوسف من الجمال والعقل والهداية في الأمور وعلى هذا فالعزيز هو خازن الملك وخليفته والملك هوالريان بن الوليد: رجل من العماليق وقيل: أن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه ثم مات ويوسف بعده حي فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى أن يقبل وقال ابن عباس: العزيز ملك مصر وكذلك هوفي حديث علي بن الحسين (عليهماالسلام).
{ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} أي: كما أنعمنا على يوسف بالسلامة والخروج من الجب مكناه في الأرض بأن عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه حتى صار بذلك متمكنا من الأمر والنهي في الأرض التي كان يستولي عليها الملك وهي أرض مصر { وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} وقد مضى معناه في أول السورة { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أي: على أمر يوسف يحفظه ويرزقه حتى يبلغه ما قدر له من الملك والنبوة ولا يكله إلى غيره وقيل: معناه والله غالب على أمر نفسه لا يعجزه شيء من تدابيره وأفعاله فهوالفاعل لما يشاء كيف يشاء { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} إن الله غالب على أمر نفسه أوأمر يوسف وقيل: معناه لا يعلمون ما يصنع الله بيوسف وما يؤول إليه حاله { ولما بلغ } يوسف { أشده} أي: منتهى شبابه وقوته وكمال عقله وقيل: الأشد من ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة عن ابن عباس وقيل: أن أقصى الأشد أربعون سنة وقيل: ستون سنة وهو قول الأكثرين ويؤيده الحديث من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه وقيل: أن ابتداء الأشد من ثلاث وثلاثين سنة عن مجاهد وكثير من المفسرين وقيل: من عشرين سنة عن الضحاك.
{ آتَيْنَاهُ حُكْمًا} أي: أعطيناه القول الفصل الذي يدعوإلى الحكمة { وعلما }: وهو تبيين الشيء على ما هو به بما يحل في القلب عن علي بن عيسى وقيل: الحكم: النبوة والعلم الشريعة عن ابن عباس وقيل: الحكم: الدعاء إلى دين الله والعلم علم الشرع وقيل: أراد الحكم بين الناس والعلم بوجوه المصالح فإن الناس كانوا إذا تحاكموا على العزيز أمره بأن يحكم بينهم لما رأى من عقله وأصابته في الرأي وقيل: هو العلم والعمل به وهو الحكم { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي: مثل ما جزينا يوسف بصبره نجزي كل من أحسن أي: فعل الأفعال الحسنة من الطاعات وقيل: أن المحسنين الصابرون على النوائب عن الضحاك وقيل: هم المؤمنون عن ابن عباس وقيل: أراد محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي: كما فعلنا بيوسف وأعطيناه الملك بعد مقاساته البلاء والشدة كذلك نفعل بك يا محمد عن ابن جريج .
_____________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج5،ص380-382.
{ وقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَونَتَّخِذَهُ وَلَداً }.
عرض يوسف للبيع في أسواق مصر ، فاشتراه العزيز ، وهولقب لأكبر وزراء الملك وأمنائه ، والذي دلنا على أنه هوالمشتري قوله تعالى : « وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه » . . وقد توسم العزيز في يوسف الذكاء والنجابة ، فأوصى به خيرا ، وقال لامرأته : احسني معاملته ، واكرمي إقامته عندنا ، وعلل ذلك بأنه يرجوإذا بلغ يوسف أشده أن يقوم بتدبير شؤونهم ، أويتبنوه ، لأن العزيز كان عقيما ، لا ولد له ، كما قال أكثر المفسرين . والآية تومئ إلى ذلك { أَونَتَّخِذَهُ وَلَداً } .
{ وكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ ولِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحادِيثِ } . أنعم اللَّه على يوسف بالنجاة من كيد إخوته وإخراجه من البئر ، ثم بجعله في بيت العزيز ، بيت الجدة والرفاه ، وبتمكنه في قلب صاحب البيت ، ثم بتعليمه حقائق الأمور ، ومنها تعبير الرؤيا ، وهذه النعم وما إليها قد رفعت من شأن يوسف عند الناس ، وجعلته محلا لثقة الجميع واحترامهم ، ومهدت له أن يتولى خزائن الأرض في مصر ، وان يقول له ملكها : « انك اليوم لدينا مكين أمين » .
{ واللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ } . أراد إخوة يوسف له الشر ، وأراد اللَّه له الخير « إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون » . { ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } ان الأمر للَّه وحده ، وان من طغى وبغى مغترا بحوله وطوله أخذه اللَّه من مأمنه أخذ عزيز مقتدر .
{ ولَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وعِلْماً } . بلغ أشده أي اشتد واستكمل قوته جسما وعقلا ، وفي الغالب يبدأ هذا الاشتداد ببلوغ المرء سن الثلاثين ، ويستمر الاشتداد الجسمي حتى الأربعين ، وفي هذه المدة يتم الاستعداد للنبوة وتلقي الوحي ، والمراد بالحكم هنا الحكمة ، وهي وضع الشيء في موضعه ، ومنها وآتيناه الحكم صبيا ، والمعنى ان يوسف بعد أن استكمل الرشد منحه اللَّه العلم ، ووفقه إلى العمل به .
وقيل : المراد بالعلم هنا النبوة ، وليس هذا ببعيد لأن يوسف من الأنبياء { وكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } . لقد أحسن يوسف بصبره وطاعته للَّه ، فأحسن اللَّه إليه ، لأنه تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا .
_____________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، صفحه 297-298.
قوله تعالى:{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} السياق يدل على أن السيارة حملوا يوسف معهم إلى مصر وعرضوه هناك للبيع فاشتراه بعض أهل مصر وأدخله في بيته.
وقد أعجبت الآيات في ذكر هذا الذي اشتراه وتعريفه فذكر فيها أولا بمثل قوله تعالى:{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} فأنبأت أنه كان رجلا من أهل مصر، وثانيا بمثل قوله:{وألفيا سيدها لدى الباب} فعرفته بأنه كان سيدا مصمودا إليه، وثالثا بمثل قوله:{وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه} فأوضحت أنه كان عزيزا في مصر يسلم له أهل المدينة العزة والمناعة، ثم أشارت إلى أنه كان له سجن وهو من شئون مصدرية الأمور والرئاسة بين الناس، وعلم بذلك أن يوسف كان ابتيع أول يوم لعزيز مصر ودخل بيت العزة.
وبالجملة لم يعرف الرجل كل مرة في كلامه تعالى إلا بمقدار ما يحتاج إليه موقف الحديث من القصة، ولم يكن لأول مرة في تعريفه حاجة إلى أزيد من وصفه بأنه كان رجلا من أهل مصر وبها بيته فلذا اقتصر في تعريفه بقوله:{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ}.
وكيف كان، الآية تنبىء على إيجازها بأن السيارة حملوا يوسف معهم وأدخلوه مصر وشروه من بعض أهلها فأدخله بيته ووصاه امرأته قائلا:{ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}.
والعادة الجارية تقضي أن لا يهتم السادة والموالي بأمر أرقائهم دون أن يتفرسوا في وجه الرقيق آثار الأصالة والرشد، ويشاهد في سيماه الخير والسعادة، وعلى الخصوص الملوك والسلاطين والرؤساء الذين كان يدخل كل حين في بلاطاتهم عشرات ومئات من أحسن أفراد الغلمان والجواري فما كانوا ليتولعوا في كل من اقتنوه ولا ليتولهوا كل من ألفوه فكان لأمر العزيز بإكرام مثواه ورجاء الانتفاع به أواتخاذه ولدا معنى عميق وعلى الأخص من جهة أنه أمر بذلك امرأته وسيدة بيته وليس من المعهود أن تباشر الملكات والعزيزات جزئيات الأمور وسفاسفها ولا أن تتصدى السيدات المنيعة مكانا، أمور العبيد والغلمان.
نعم: إن يوسف (عليه السلام) كان ذا جمال بديع يبهر العقول ويوله الألباب، وكان قد أوتي مع جمال الخلق حسن الخلق صبورا وقورا لطيف الحركات مليح اللهجة حكيم المنطق كريم النفس نجيب الأصل، وهذه صفات لا تنموفي الإنسان إلا وأعراقها ناجمة فيه أيام صباوته وآثارها لائحة من سيماه من بادىء أمره.
فهذه هي التي جذبت نفس العزيز إلى يوسف – وهو طفل صغير - حتى تمنى أن ينشأ يوسف عنده في خاصة بيته فيكون من أخص الناس به ينتفع به في أموره الهامة ومقاصده العالية أويدخل في أرومته ويكون ولدا له ولامرأته بالتبني فيعود وارثا لبيته.
ومن هنا يمكن أن يستظهر أن العزيز كان عقيما لا ولد له من زوجته ولذلك ترجى أن يتبنى هو وزوجته يوسف.
فقوله:{وقال الذي اشتراه من مصر} أي العزيز{لامرأته} وهي العزيزة{أكرمي مثواه} أي تصدي بنفسك أمره واجعلي له مقاما كريما عندك{عسى أن ينفعنا} في مقاصدنا العالية وأمورنا الهامة{أونتخذه ولدا} بالتبني.
قوله تعالى:{ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} قال في المفردات، المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشيء قال ويقال: مكنته ومكنت له فتمكن، قال تعالى:{ولقد مكناكم في الأرض}{ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه}{أولم نمكن لهم}{ونمكن لهم في الأرض} قال: قال الخليل: المكان مفعل من الكون، ولكثرته في الكلام أجرى مجرى فعال فقيل: تمكن وتمسكن مثل تمنزل. انتهى.
فالمكان هو مقر الشيء من الأرض، والإمكان والتمكين الإقرار والتقرير في المحل، وربما يطلق المكان المكانة لمستقر الشيء من الأمور المعنوية كالمكانة في العلم وعند الناس ويقال: أمكنته من الشيء فتمكن منه أي أقدرته فقدر عليه وهو من قبيل الكناية.
ولعل المراد من تمكين يوسف في الأرض إقراره فيه بما يقدر معه على التمتع من مزايا الحياة والتوسع فيها بعد ما حرم عليه إخوته القرار على وجه الأرض فألقوه في غيابة الجب ثم شروه بثمن بخس ليسير به الركبان من أرض إلى أرض ويتغرب عن أرضه ومستقر أبيه.
وقد ذكر تعالى تمكينه ليوسف في الأرض في خلال قصته مرتين إحداهما بعد ذكر خروجه من غيابة الجب وتسيير السيارة إياه إلى مصر وبيعه من العزيز وهو قوله في هذه الآية{ولقد مكنا ليوسف في الأرض} وثانيتهما بعد ذكر خروجه من سجن العزيز وانتصابه على خزائن أرض مصر حيث قال تعالى:{وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء}: الآية 56 من السورة والعناية في الموضعين واحدة.
وقوله:{وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} الإشارة إلى ما ذكره من إخراجه من الجب وبيعه واستقراره في بيت العزيز فإن كان المراد من تمكينه في الأرض هذا المقدار من التمكين الذي حصل له من دخوله في بيت العزيز واستقراره فيه على أهنإ عيش بتوصية العزيز فالتشبيه من قبيل تشبيه الشيء بنفسه ليدل به على غزاره الأوصاف المذكورة له وليس من القسم المذموم من تشبيه الشيء بنفسه كقوله:
كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء.
بل المراد أن ما فعلنا به من التمكين في الأرض كان يماثل هذا الذي وصفناه وأخبرنا عنه فهويتضمن من الأوصاف الغزيرة ما يتضمنه ما حدثناه فهو تلطف في البيان بجعل الشيء مثل نفسه بالتشبيه دعوى ليلفت به ذهن السامع إلى غزاره أوصافه وأهميتها وتعلق النفس بها كما هو شأن التشبيه.
ومن هذا الباب قوله تعالى:{ليس كمثله شيء}: الشورى: 11 وقوله تعالى:{لمثل هذا فليعمل العاملون}: الصافات: 61 والمراد أن كل ما اتصف من الصفات بما اتصف به الله سبحانه لا يشبهه ولا يماثله شيء، وإن كل ما اشتمل من الصفات على ما اشتملت عليه الجنة وماثلها في صفاتها فليعمل العاملون لأجل الفوز به.
وإن كان المراد بالتمكين مطلق تمكينه في الأرض فتشبيهه بما ذكر من الوصف من قبيل تشبيه الكلي ببعض أفراده ليدل به على أن سائر الأفراد حالها حال هذا الفرد أوتشبيه الكل ببعض أجزائه للدلالة على أن الأجزاء الباقية حالها حال ذاك الجزء المذكور فيكون المعنى كان تمكيننا ليوسف في الأرض يجري على هذا النمط المذكور في قصة خروجه من الجب ودخوله مصر واستقراره في بيت العزيز على أحسن حال فإن إخوته حسدوه وحرموا عليه القرار على وجه الأرض عند أبيه فألقوه في غيابة الجب وسلبوه نعمة التمتع في وطنه في البادية وباعوه من السيارة ليغربوه من أهله فجعل الله سبحانه كيدهم هذا بعينه سببا يتوسل به إلى التمكن والاستقرار في بيت العزيز بمصر على أحسن حال ثم تعلقت به امرأة العزيز وراودته هي ونسوة مصر ليوردنه في الصبوة والفحشاء فصرف الله عنه كيدهن وجعل ذلك بعينه وسيلة لظهور إخلاصه وصدقه في إيمانه ثم بدا لهم أن يجعلوه في السجن ويسلبوا عنه حرية معاشرة الناس والمخالطة لهم فتسبب الله سبحانه بذلك بعينه إلى تمكينه في الأرض تمكينا يتبوأ من الأرض حيث يشاء لا يمنعه مانع ولا يدفعه دافع.
وبالجملة الآية على هذا التقدير من قبيل قوله تعالى:{ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}: غافر74 وقوله:{ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}: الرعد: 17 أي إن إضلاله تعالى للكافرين يجري دائما هذا المجرى، وضربه الأمثال أبدا على هذا النحومن المثل المضروب وهو أنموذج ينبغي أن يقاس إليه غيره.
وقوله:{ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} بيان لغاية التمكين المذكور واللام للغاية، وهو معطوف على مقدر والتقدير: مكنا له في الأرض لنفعل به كذا وكذا ولنعلمه من تأويل الأحاديث وإنما حذف المعطوف عليه للدلالة على أن هناك غايات أخر لا يسعها مقام التخاطب، ومن هذا القبيل قوله تعالى:{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}: الأنعام: 75 ونظائره.
وقوله:{ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الظاهر أن المراد بالأمر الشأن وهو ما يفعله في الخلق مما يتركب منه نظام التدبير قال تعالى:{يدبر الأمر}: يونس: 3، وإنما أضيف إليه تعالى لأنه مالك كل أمر كما قال تعالى:{ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}: الأعراف: 54.
والمعنى أن كل شأن من شئون الصنع والإيجاد من أمره تعالى وهو تعالى غالب عليه وهو مغلوب له مقهور دونه يطيعه فيما شاء، ينقاد له فيما أراد، ليس له أن يستكبر أويتمرد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه تعالى ويفوته قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}: الطلاق: 3.
وبالجملة هو تعالى غالب على هذه الأسباب الفعالة بإذنه يحمل عليها ما يريده فليس لها إلا السمع والطاعة ولكن أكثر الناس لا يعلمون لحسبانهم أن الأسباب الظاهرة مستقلة في تأثيرها فعاله برءوسها فإذا ساقت الحوادث إلى جانب لم يحولها عن وجهتها شيء وقد أخطئوا.
تتضمن الآيات قصته (عليه السلام) أيام لبثه في بيت العزيز وقد ابتلي فيها بحب امرأة العزيز له ومراودتها إياه عن نفسه، ومني بتعلق نساء المدينة به ومراودتهن إياه عن نفسه، وكان ذلك بلوى، وقد ظهر خلال ذلك من عفة نفسه وطهارة ذيله أمر عجيب، ومن تولهه في محبة ربه ما هو أعجب.
قوله تعالى:{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} بلوغ الأشد أن يعمر الإنسان ما تشتد به قوى بدنه وتتقوى به أركانه بذهاب آثار الصباوة، ويأخذ ذلك من ثمانية عشر من عمره إلى سن الكهولة التي عندها يكمل العقل ويتم الرشد.
والظاهر أن المراد به الانتهاء إلى أول سن الشباب دون التوسط فيه أوالانتهاء إلى آخره كالأربعين، والدليل عليه قوله تعالى في موسى (عليه السلام):{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}: القصص: 14 حيث دل على التوسط فيه بقوله:{استوى}، وقوله:{حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك} الآية: الأحقاف: 15 فلوكان بلوغ الأشد هوبلوغ الأربعين لم تكن حاجة إلى تكرار قوله:{بلغ}.
فلا مجال لما ذكره بعضهم: أن المراد ببلوغ الأشد بلوغ الثلاثين أوالثلاث والثلاثين، وكذا ما قاله آخرون إن المراد به بلوغ الأربعين وهو سن الأربعين.
على أن من المضحك أن تصبر امرأة العزيز عن يوسف مدى عنفوان شبابه وريعان عمره حتى إذا بلغ الأربعين من عمره وأشرف على الشيخوخة تعلقت به وراودته عن نفسه.
وقوله:{آتيناه حكما} الحكم هو القول الفصل وإزالة الشك والريب من الأمور القابلة للاختلاف - على ما يتحصل من اللغة - ولازمه إصابة النظر في عامة المعارف الإنسانية الراجعة إلى المبدإ والمعاد والأخلاق النفسانية والشرائع والآداب المرتبطة بالمجتمع البشري.
وبالنظر إلى قوله (عليه السلام) لصاحبيه في السجن:{إن الحكم إلا لله}: الآية 40 من السورة، وقوله بعد:{قضي الأمر الذي فيه تستفتيان}: الآية 41 من السورة يعلم أن هذا الحكم الذي أوتيه كان هو حكم الله فكان حكمه حكم الله، وهذا هو الذي سأله إبراهيم (عليه السلام) من ربه إذ قال:{ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}: الشعراء: 83.
وقوله:{وعلما} وهذا العلم المذكور المنسوب إلى إيتائه تعالى كيفما كان وأي مقدار كان علم لا يخالطه جهل كما أن الحكم المذكور معه حكم لا يخالطه هوى نفساني ولا تسويل شيطاني كيف؟ والذي آتاهما هو الله سبحانه وقد قال تعالى:{والله غالب على أمره}: الآية 21 من السورة، وقال:{إن الله بالغ أمره}: الطلاق: 3 فما آتاه من الحكم لا يخالطه تزلزل الريب والشك، وما يؤتيه من العلم لا يكون جهلا البتة.
ثم من المعلوم أن هذه المواهب الإلهية ليست بأعمال جزافية ولا لغوا أوعبثا منه تعالى فالنفوس التي تؤتى هذا الحكم والعلم لا تستوي هي والنفوس الخاطئة في حكمها المنغمرة في جهلها، وقد قال تعالى:{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}: الأعراف: 58 وإلى ذلك الإشارة بقوله:{وكذلك نجزي المحسنين} حيث يدل على أن هذا الحكم والعلم اللذين آتاهما الله إياه لم يكونا موهبتين ابتدائيتين لا مستدعي لهما أصلا بل هما من قبيل الجزاء جزاه الله بهما لكونه من المحسنين.
وليس من البعيد أن يستفاد من قوله:{وكذلك نجزي المحسنين} إن الله تعالى يجزي كل محسن - على اختلاف صفات الإحسان - شيئا من الحكم والعلم يناسب موقعه في الإحسان وقد قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ }: الحديد: 28 وقال تعالى:{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}: الأنعام: 122.
وهذا العلم المذكور في الآية يتضمن ما وعد الله سبحانه تعليمه ليوسف من تأويل الأحاديث فإنه واقع بين قوله تعالى في الآيات السابقة:{ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} وقوله حكاية عن يوسف في قوله لصاحبيه في السجن:{ذلكما مما علمني ربي} فافهم ذلك.
____________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج11،ص92-101.
في قصر عزيز مصر:
إنتهت حكاية يوسف مع إِخوته الذين ألقوه في غيابة الجبّ وبيّناها تفصيلا، بدأ فصل جديد من حياة هذا الغلام الحدث في مصر ... فقد جيء بيوسف الى مصر وعرض للبيع، ولما كان تحفة نفيسة فقد صار من نصيب «عزيز مصر» الذي كان وزيراً لفرعون أو رئيساً لوزرائه، لأنّه كان يستطيع أن يدفع قيمة أعلى لغلام ممتاز من جميع الجهات، والآن لنَر ما الذي حدث له في بيت عزيز مصر.
يقول القرآن الكريم في شأن يوسف: { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}(2) فلا ينبغي أن تنظري اليه كما ينظرالى العبيد.
يستفاد من سياق الآية أنّ عزيز مصر لم يرزق ولداً وكان في غاية الشوق للولد، وحين وقعت عيناه على هذا الصبيّ الجميل والسعيد تعلّق قلبه به ليكون مكان ولده.
ثمّ يضيف القرآن الكريم { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ}.
هذا «التمكين» في الأرض إِمّا أن يكون لمجيىء يوسف الى مصر، وخاصّة أن خطواته، في محيط مصر مقدّمة لما سيكون عليه من الإِقتدار والمكانة القصوى، وإِمّا أنّه لا قياس، بين هذه الحياة في مصر «العزيز» وبين تلك الحياة في غيابة الجبّ والوحدة والوحشة. فأين تلك الشدّة من هذه النعمة والرفاه!
ويضيف القرآن أيضاً { وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}.
المراد من «تأويل الأحاديث» ـ كما أشرنا سابقاً ـ هو علم تفسير الأحلام وتعبير الرؤيا حيث كان يوسف قادراً على أن يطلع على بعض أسرار المستقبل من خلاله، أو المراد منه الوحي لأنّ يوسف مع عبوره من المضائق الصعبة والشدائد القاسية ونجاحه في الإِختبارات الإِلهية في قصر عزيز مصر، نال الجدارة بحمل الرسالة والوحي. ولكن الإِحتمال الأوّل أقرب كما يبدو للنظر.
ثمّ يختتم القرآن هذه الآية بالقول: { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
إِنّ واحدة من مظاهر قدرة الله العجيبة وهيمنته على الأُمور كلها أن يدع ـ في كثير من الموارد ـ أسباب موفقيه الإِنسان ونجاحه بيد أعدائه كما حدث في مسألة يوسف(عليه السلام)، فلو لا خطة إِخوته لم يصل الى الجبّ أبداً، ولو لم يصل الى الجبّ لما وصل الى مصر، ولو لم يصل الى مصر لما ذهب الى السجن ولما كان
هناك أثر من رؤيا فرعون التي أصبح يوسف بسببها عزيزَ مصر!
ففي الحقيقة إِن الله أجلس يوسف على عرش الإِقتدار بواسطة إِخوته الذين تصوروا أنّهم سيقضون عليه في تركهم إِيّاه في غيابة الجُبِّ.
لقد واجه يوسف في هذا المحيط الجديد، الذي يعدّ واحداً من المراكز السياسية المهمة في مصر مسائل مستحدثة ... فمن جهة كان يرى قصور الطغاة المدهشة وثرواتهم ومن جهة أُخرى كانت تتجسد في ذهنه صورة أسواق النخاسين وبيع المماليك والعبيد ... ومن خلال الموازنة بين هاتين الصورتين كان يفكر في كيفية القضاء على هموم المستضعفين من الناس لو أصبح مقتدراً على ذلك!
أجلْ، لقد تعلم الكثير من هذه الأشياء في هذا المحيط المفعم بالضوضاء، وكان قلبه يفيض همّاً لأنّ الظروف لم تتهيأ له بعدُ. فاشتغل بتهذيب نفسه وبنائها، يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «شدّ» وتعني فتل العقدة باستحكام ... وهي هنا إِشارة الى الإِستحكام الجسماني والروحاني.
قال بعضهم: إِنّ هذه الكلمة جمع لا مفرد لها ... ولكن البعض الآخر قال: إِنّها جمع (شدّ) على وزن (سدّ) ولكن معناها الجمعي غير قابل للإِنكار على كل حال!
المراد من «الحكم» و«العلم» الواردين في الآية المتقدمة التي تقول: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا...} إِمّا أن يكون مقام النبوّة كما ذهب الى ذلك بعض المفسّرين، وإِمّا أن يكون المراد من الحكم العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح الخالي من اتباع الهوى والإِشتباه. والمراد من العلم الإِطلاع الذي لا يقترن معه الجهل، ومهما كان فإنّ الحكم والعلم موهبتان نادرتان وهبهما الله ليوسف لتقواه وصبره وتوكله عليه، وجميع هذه الصفات مجتمعة في كلمة «المحسنين».
قال بعض المفسّرين: هناك ثلاثة احتمالات لمعنى كلمتي (الحكم والعلم) الواردتين في الآية، وهي:
1 ـ إِنّ الحكم إِشارة الى مقام النبوة (لأنّ النّبي حاكم على الحق) والعلم إِشارة الى علم الدين.
2 ـ إِن الحكم يعني ضبط النفس إِزاء الهوى والميول النفسيّة، وهو هنا إِشارة الى الحكمة العملية. والعلم إِشارة الى العلم النظري ... وتقديم الحكم على العلم هنا لأنّ الإِنسان إِذا لم يهذب نفسه ويبنيها بناءً صحيحاً لا يصل الى العلم الصحيح.
3 ـ إِنّ الحكم معناه أن يبلغ الإِنسان مقام «النفس المطمئنة» ويتسلّط على نفسه بحيث يستطيع أن يتملك زمام النفس الأمّارة ووسوستها ... والمراد من العلم هو الأنوار القدسيّة وأشعة الفيض الإِلهي الذي تنزل من عالم الملكوت على قلب الإِنسان الطاهر(3).
___________________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي،ج6،ص256-258.
2ـ «المثوى» من مادة (ثوى) ومعناه المقام، ولكن معناه هنا الموقعية والمنزلة والمقام كذلك.
3- راجع التّفسير الكبير للفخر الرازي، ج 18، ص 111.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
قسم الشؤون الفكرية والثقافية يجري اختبارات مسابقة حفظ دعاء أهل الثغور
|
|
|