المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
زكاة الذهب والفضة
2024-11-05
ماشية اللحم في الولايات المتحدة الأمريكية
2024-11-05
أوجه الاستعانة بالخبير
2024-11-05
زكاة البقر
2024-11-05
الحالات التي لا يقبل فيها الإثبات بشهادة الشهود
2024-11-05
إجراءات المعاينة
2024-11-05



الصبغة الفلسفية  
  
1798   03:18 مساءاً   التاريخ: 24-03-2015
المؤلف : محمد الصالح السليمان
الكتاب أو المصدر : الرحلات الخيالية في الشعر العربي الحديث
الجزء والصفحة : ص109-116
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الحديث /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-03-2015 4536
التاريخ: 2-10-2019 1083
التاريخ: 1-10-2019 8714
التاريخ: 23-03-2015 2085

أمدت الفلسفة الشعراء بمادتها الفكرية وآرائها التي حملها الشعراء معهم في رحلاتهم وأرادوا التعبير عنها.

* التأثّر بالفلسفة العربية:

لقد كانت فلسفة أبي العلاء المعرّي، القائمة على التشاؤم ممّا في الحياة من شرور بالإضافة إلى الشكوك التي قضى حياته في غيهبها، أكثر هذه الفلسفات تأثّيراً في شعراء الرحلات الخياليّة.

ولعلّ جميل صدقي الزهاوي أبرز شعراء الرحلات الذين تأثّروا بفلسفة المعرّي الشكوكيّة في مطوّلته ((ثورة في الجحيم)) فهو يظهر شكّه بقدرة الدين على صنع الحياة الأمثل للإنسان، ويجاهر بريبته في أسس المعتقد الديني كالبعث والجنّ والملائكة والصراط والله، ولا يدين إلاّ بدين العقل كما هو حال المعرّي، فيقول الزهاوي:

غيرَ أنّي أرتَابُ في كلِّ ما قَدْ ... عَجَزَ العَقَلُ عنهُ والتّفكيرُ(1)

وهو يردّد هنا قول المعري:


كذبَ الظّنُّ لا إمامَ سِوى العقـ ... ـلِ مُشيراً في صُبحِهِ والمَساءِ(2)

وقد أراد الزهاوي أن يعلي شأن فلسفة أبي العلاء المعرّي فجعله في مقدّمة الشعراء الملقين في جحيمه، فيقول:

 

ثمَّ حيّانِي أحمدُ المُتنبّي ... والمعرّي الشّيخُ وهْو ضَريرُ

وكِلا الشّاعِرينِ بحرٌ خِضمٌّ ... وكِلا الشّاعِرينِ فحلٌ كبيرُ(3)

 

كما أنّ تقديم المعرّي كمحرّض على الثورة يؤكّد رؤية الزهاوي للدور الريادي الذي تقوم به الفلسفة في قيادة الثورة وصنع الحياة المثالية للإنسان، حيث لم يعد الدين-بنظره-قادراً على تحقيق الحياة الكريمة، لا سيما إذا تحوّل إلى وسيلة قمع وإرهاب وضغط.

وقد أغنت روح المعرّي الفلسفية مطوّلة ((على بساط الريح)) إذ تتقارب الرؤيتان اللتان ينبثق عنهما المعرّي والمعلوف في نظرتهما إلى الإنسان والحياة وهي رؤية قائمة على السوداوية والتشاؤم، فيقول فوزي معلوف:

قالَ رُوحٌ حَذارِ يا أَترابي

واطردُوهُ

عنِ السّماءْ

هُو في الأرْضِ حَفنةٌ من ترابٍ

فأبُوهُ

طينٌ وماء


هو مِن نفحةٍ كَفَتْ لتَجلّيـ ... ـهِ وتَكْفِي بذاتِها لاحتجاَبِهْ

وكَما كَانَ أَصلُه مِن تُراب الـ ... أرضِ يَغدُو مَصيرُهُ لتُرابِهْ

ليتَهُ عَادَ للثّرى مِثلما جَا ... ءَ نَقيّاً بنفسِهِ وإهابِهْ

هُو يحيَا للشّرِّ فالشّرُّ يَحيا ... أَبَداً حَيثُ حَلّ شُؤمُ رِكابِهْ(4)


فهو يرى الإنسان ابن التراب شريراً تفرّ منه كلّ أشكال الخير والبراءة من طيور ونجوم وأرواح في حين يرى المعرّي الحياة شقاء وتعباً لا جدوى من الإصرار على البقاء فيها لأنّها إلى فناء، فلو بلغ الإنسان منها ما بلغ فإنّ ساعة الموت ستنسيه كلّ السرور والفرح، فيقول:

 

غيرُ مُجدٍ في مِلَتِي واعتقادي ... نوحُ باك ولا ترنُّمُ شَادِي

وشبيهٌ صوتُ النعيِّ إذا قيـ ... ـسَ بصوتِ البَشيرِ في كلِّ نادي

أبكَتْ تِلكُمُ الحمامَةُ أَمْ غَنَّـ ... م ... ـت على فَرِعِ غُصنِها الميَّادِ

تَعبٌ كلُّها الحياة فَما أعـ ... ـجَبُ إلاّ مِن راغبٍ في ازديادِ

 إنَّ حُزناً في ساعَةِ الموتِ أضعا ... فُ سرورٍ في ساعَةِ الميلادِ(5)

 

وتظلّ (على بساط الريح) (مجموعة قصائد عميقة المغزى مرتبطة بفكرة واحدة يغلب عليها التأمل والفلسفة، وهي نفثات شاعر يحسّ بأنّه مقيّد بجسمه إلى الأرض، لكنّ روحه تسرح في الفضاء الرحب بين الأرواح العلويّة الخالدة"(6).

وقد اعتمد أنيس المقدسي في قصيدته (المعرّي يبصر) فلسفة المعرّي الشكوكية التي تستفسر عن الكون والموت والحياة والمخلوقات، حتّى إنّ الشاعر ليصرح ببناء مطوّلته على الفلسفة من عناوين الأناشيد فيقول: "قصيدة فلسفية في ثلاثة أناشيد: حيَر وشكوك، ظلام التشاؤم، تجلّي النور"(7). ويصرّح بلقائه بالمعرّي الذي تحوّل من شاكّ إلى موقن يرشد الضالين بقوله:

أنَا الأَعَمى الذي قَدْ كُنتُ قَبلاً ... حَليفَ البُؤسِ مثلَكَ والعَذابِ

أهيمُ كَما تهيمُ شَقاً لأنّي ... ضَلَلْتُ عَن الطّريق المُستقيمِ

بذا الوادِي شقيتُ وكَمْ نفوسٍ ... بهِ ذَاقَتْ مراراتِ الحَياةِ

هجرْتُ المحبسينِ فصرْتُ حُرّاً ... أرى الدّنيا تَروقُ لناظِريّا(8).

 

ونسيب عريضة من شعراء الرحلات الخيالية الذين أفادوا من الفلسفة العربية الإسلامية لا سيما تلك المتعلقة بالروح والنفس، إذ اقتربت رؤيته لها من نظرة ابن سينا للنفس فالأخير يرى أنّ النفس كانت تعيش في مكان عال وسامٍ تنعم بطمأنينة وهناءة لا مثيل لها، فعوقبت بالهبوط من ذلك المكان، لذا هي في شوق دائم إلى ذلك العالم الذي أهبطت منه (وهي فكرة اعتنقها أكثر شعراء الرابطة القلمية) (9). لذا يقول الشاعر:

أحنُّ شَوقاً إلى ديارٍ ... رَأيتُ فيها سَنىَ الجَمالِ

أُهْبِطتُ منها إلى قَرارٍ ... أمْسَتْ بهِ الرُّوحُ في اعتقالِ(10)

 

وقد كان حظّ محمد عبد المعطي الهمشري من الثقافة الفلسفية جيداً، لا سيما فلسفة المصريين القدماء حول قضايا الموت والحياة والخلود والروح.. وغيرها. وقد بثّ الهمشري كثيراً من أفكارها الفلسفية، حتّى إنّ محمد غنيمي هلال سمّى مطوّلته بـ: "الملحمة الفلسفية"(11).

كما طغت الأفكار الفلسفية بطابعها العقلي الجاف على مطوّلة العقّاد "ترجمة شيطان" الأمر الذي دفع محمد مندور إلى وصفها بقوله: "فمنذ البداية تطالعنا طبيعة العقّاد الشعرية في جفافها العقلي وصياغتها النثرية وروحها التعليمية"(12) وقد اضطّر العقّاد بسبب هذه السيطرة الفلسفية والعقلية إلى شرح الكثير من الأفكار في الحواشي. فمثلاً يقول:

عَلّمَ الأَقيالَ قِدماً سِرَّها ... فَأَقَامُوا ديِنَهُ في العَالمين(13)

 

ويشرحها في الحاشية بقوله: "يريد كلف الملوك ببناء المعابد لتعزيز قوتهم بقوّة العقائد"(14) ويقول في موقع آخر:

سنّةُ اللهِ وما أوسَعها ... رَحمةٌ مِنه بِجبَاري الأُمَمْ

ويحهُمْ لو لم يكنْ أبدعَها ... كيفَ يدرونَ بأسرارِ النّقمْ(15)

 

ويشرحها بقوله: "يقصد استجرار الملوك مخالفيهم للطعن بالدين وغيره ليقتلوهم به"(16).

ونلمح آثار التفكير الفلسفي عند محمد حسن فقّي في قصيدته "الله والشاعر" و"الكون والشاعر" إذ عرض فيهما الشاعر فلسفته في الصراع بين الخير والشرّ والعفو والنقمة والرفعة والضعة.. إلخ، فيقول:

وهلْ إذا الخيرُ أَتَاحَتْ لَهُ ... دُنيَاهُ مَا يكْفُلُ رجَحانَهْ

يحاسِبُ الشّرّ على ما جَنتْ ... يَداهُ أمْ يمنحُ غُفرانَهْ

كانَ مَديناً آدَهُ ديِنُه ... فما لَهُ يَرحمُ دَيّانَهْ

أجنّ أم أشفقَ مِن ضَربةٍ ... تحطّمُ الكُفرَ وأَوثَانَهْ

وكانَ يسْري خَائفاً في الدّجى ... يحاذرُ الشّرَّ ولُقيانَهْ

لكنَّهُ الخيرُ حَلِيماً، فما ... أضلّهُ الحِلمُ ولا شانَهْ(17)

 

* التأثّر بالفلسفة الغربية:

لقد قرأ الزهاوي عن التركية كثيراً من آراء فلاسفة الغرب وعلمائه نحو مؤلفات (الدكتور ورتبات) في الفسلجة والتشريح، ثمّ كتاب "الكوميديا الإلهية" لدانته وديواني فيكتور هوغو الفلسفيين (الله) و(نهاية الشيطان) ثمّ قرأ بإعجاب ما كتبه الفيلسوف التركي (رضا توفيق) عن أدب (عبد الحقّ حامد) الفيلسوف التركي الشهير والمقارنة بين فلسفته وفلسفة هوغو(18). وهذه الفلسفات من شأنها تمجيد العلم وتقديسه حتّى إنّها لا تدين بغير دين العقل، وقد ضمّن الزهاوي ثورته أسماء بعض هؤلاء الفلاسفة، حيث يقول:

ثمّ إنّي سمعْتُ سقراطَ يُلقي ... خُطبةً في الجحيمِ وهْي تفورُ

وإلى جنبهِ على النّار أفلا ... طونُ يُصغي كأنَّهُ مسرورُ

وأرسطاليسُ الكبيرُ وقدْ أغـ ... رقَ منه المشاعرَ التّفكيرُ

ثمّ كوبر نيكُ الذي كانَ قدْ أفـ ... همَنَا أنّ الأرضَ جُرم يَدورُ

تتبعُ الشّمسَ أينَما هيَ سارَتْ ... وعليها مِثلَ الفراشِ تطورُ(19)

ثمّ هِلكُ وبخترُ وجسندي ... ويليهمْ اسبنسرُ المشهورُ

ثمّ توماسُ ثمّ فِخْتُ ومنهمُ ... اسبنُوزا وهلبَكُ وجيورُ(20)

ونيوتونُ الحبرُ ثمّ رِنَانُ ... ثمّ روسو ومثلُهُ فولتيرُ

والحكيمُ الكندي ثمّ ابنُ سينا ... وابنُ رُشدٍ وهو الحفيُّ الجَسورُ(21)

وهكذا تبيّن بوضوح أثر الثّراء الفكري الفلسفي في إغناء الرحلات الخيالية ومدّها بالفكر والثقافة التي حملت في ثناياها هموم الأديب ورسمت موقفه من الحياة والفن والأدب كما أنّها قد تلوّنت بمشاعره العاطفية فكانت مرّة مشعّة بالتفاؤل والأمل وأخرى ملفّعة بالسوداوية والتشاؤم.

رابعاً: الثقافة العلمية:

وللثقافة بكلّ اتجاهاتها الفلكية والطبيعية والأدبية أثرها الواضح في الرحلات الخيالية فقد أمدّتها بمادتها الثقافية وأفكارها التي حملت روح التجربة الشعرية، فتحوّلت من مجرد أفكار عقلية تقريرية إلى رؤى تحمل المشاعر العاطفية وتتلوّن بالأحاسيس الإنسانية.

وتأتي العلوم الفلكية في مقدمة هذه العلوم، فقد بنى الفراتي رحلته الخيالية "الكوميديا السماوية" على أساس هذه العلوم، وكان مطلعاً فيها، فقد ألّف تفسيراً للآيات الكونية في القرآن الكريم يتّفق مع أحدث النظريات العلمية في هذا الميدان، وله مؤلفات أخرى كلّها مخطوطة كان يخاف من نشرها لأنّه كان "يخشى أن يثير عليه علماء السوء في بلده فيحدث له أمور لا يرضى أن تثار بعد أن بلغ من العمر عتياً"(22).

وبدا تأثّره في عناوين الأناشيد الفرعية، ومنها: حلم في المريخ، وما وراء الطبيعة، وكوكب العباقرة، وكوكب الزنادقة، وكوكب الشعراء، إضافة إلى أنّه يذكر أسماء ومقاييس ترتبط بهذه العلوم، فيقول:

هَبطْنَا إلى المريخِ ليلاً فعاقَنَا ... عنِ السيّرِ في سِيسا الظّلامُ المُخَيّمُ

و(سِيسا) بلحنِ القَومِ فيما عرفْتُهُ ... عُبابُ خِضمّ بالمخاطرِ مُفعَمُ(23)

 

وفي موضع آخر يقول على لسان الرجل المريخي "رفائيل":

عبدْنَا القُوى حيناً ومن جُملة الّذي ... عبدْنَا (سيا رابا) و(هيتا) و(مي سم) (24) و(سي رابا): معناها الأكبر أي ابن الشمس و(يريد به المشتري).

و(هيتا): معناها الملوّن و(يريد به زحل).

و(مي سم) معناها مي: الشديد، سم: البعد، أي شديد البعد

و(يعني به نبتون).

وفي استخدامه للقياسات الفلكية يقول عن تلسكوب صنع في كوكب هيدا:

ويقربُ طُولُهُ مِن ألفِ (كادِ) ... بقطرٍ زادَ عنْ مِئتي (جَريم)

وفي أنبوبهِ تَلقَى مِآتٍ ... من العَدساتِ كالدّر النّظم

فمنْ موشُورةٍ لمحدّباتٍ ... إلى أُخرى بِسطْحٍ مُستقيمِ(25)

 

الكاد: قياس يساوي متر ونصف المتر تقريباً.

الجريم: دسيّ متر أي: عشرة سنتمترات.

وشاعر آخر بنى رحلته الخيالية على فكرة فلكية مفادها توقّع وجود حياة عاقلة على كوكب المريخ، وقد أراد الشاعر رشيد أيوب أن يتأمّل بعين روحه هذا الكوكب ويعرف مدى صحة ظنون العلماء. فارتحل على جناح الخيال وأفرد لروحه العنان فحلّقت تطوف أرجاء ذلك الكوكب عسى أن يلقى الإجابة عن تساؤلاتها فيقول:

يقُولونَ في المرّيخِ قَومٌ كشكلِنَا ... أناسٌ لَهُمْ عَقلٌ يُناجي كعقلِنَا

فهلْ أصلُهُمْ نوعُ التُّرابِ كأصلِنَا ... وهَلْ يَجهلُونَ الكائِنَاتِ كجهلِنَا(26)

 

ولكنّه في النهاية يؤكد وجود حياة روحية مثالية ليست كحياة الأرض، فيقول:

كأنّي شاهدْتُ الجِنانَ وآلها ... وهَيهاتَ أنسى عزّها وجَمالَها

هنالِكَ أشباحٌ تمنَيْتُ حالَها ... فسبحانَ مَن أهدى إليها جَمالَها

مُسربَلةٌ بالحسنِ واللّطفُ واسِعُ(27)

وثورة الزهاوي في الجحيم كانت ثورة للعلم والفلسفة ضد الميتافزيقيا الدينية. وقد تأثّر الزهاوي إجمالاً بمعطيات العلوم في عصره حتّى غلبت الروح العلمية على شعره(28). فتأثّر بمطالعاته لمجلّة المقتطف المصرية التي أخذت تصل بغداد تباعاً فيجد فيها ضالته من الأبحاث العلمية والفلسفية زد على ذلك كلّه مطالعاته لكتابات الدكتور ورتبات في الفسلجة والتشريح، ولا يخفى على أحد تأثّره الواضح بتلك العلوم في ثورته الجحيمية، وثورته على العقل الغيبي بقوله:

قلتُ لله في السَماوات والأَرْ ... ض وما بينهُنَّ خلقٌ كثيرُ

غيرَ أنّي أرتابُ في كلّ ما قدْ ... عَجزَ العقلُ عنهُ والتّفكِيرُ(29)

 

أو نحو قوله:

ما لكلِّ الأكوانِ إلاّ إلهٌ ... واحدٌ لا يزالُ وهْوَ الأثيرُ

ليسَ بينَ الأثيرِ واللهِ فرقٌ ... في سوى اللفظِ إنْ هداكَ الشّعورُ(30)

 

فالأثير: مصطلح علمي فيزيائي يطلق على الهواء الذي يحمل الموجات الصوتية، ولولا معرفة الزهاوي بمثل هذه المصطلحات العلمية لما أطلقها هنا في قصيدته.

ونلحظ في جحيمه معظم الشخصيات العلمية والفكرية والفلسفية في العالم على خلاف ما وضع دانته في جحيمه، إذا كان نزوع الأخير سياسياً دينياً، أمّا الزهاوي فنزوعه علمّي فلسفيّ. لذا وضع هذه النخبة من العلماء، فيقول:

ثمّ كوبرنيكُ الذي كانَ قدْ أفـ ... همَنا أنّ الأرضَ جُرْمُ يدورُ

تتبعُ الشّمسَ أينما هيَ سارتْ ... وعليها مِثْلُ الفِراشِ تطورُ

ثمّ دروينُ وهْوَ مَنْ قَالَ إنّا ... نسلُ قردٍ قضتْ عليهِ الدّهورُ(31)

أما الذي استفاد من العلوم والتقنية في تجربته الشعريّة فائدة تناسقت مع روحه الشاعرية، وحملت التجربة الشعورية بصدق انفعالاتها فهو عبد الفتاح روّاس القلعجي في ملحمته الشعرية القيامة. فالشّاعر يوجّه من اللحظة الأولى اتهامه إلى النزعة المادية التي دفعت بالعالم إلى نهايته الحتمية، لذا كثرت في ثنايا ملحمته المصطلحات العلمية والتقنية فيقول:

وتشقّقتِ الأرضُ، تصاعدَ منها نارٌ ودُخانٌ

ومصانعُ نوويهْ

تنفثُ في الأجواءِ سَحاب الموتِ(32).

وفي محل آخر يقول:

... خُيّلَ للإنسانِ السّامريّ

أنْ قدْ عرفَ السّرَ الأسمَى في التركيب الذّري الخلوي

ومعادلةَ الروحِ

وفعلَ الخلق

وصبغيّات الخلدِ(33)

وليس أدلُّ على ذلك ممّا سيعرض في هذا المقطع الذي يوحي بمدى اتساع المادة العلمية التي أغنت ملحمة الشاعر، وأراد من خلالها أن يوّضح مدى قدرته على استيعابها وتحويرها بطريقة شعرية إلى رموز فعّالة يشير بها إلى الحياة المادية العمياء بالتهمة في إفساد سعادة الإنسان فيقول:

الشّيطانُ الآلةُ: إنّي الرّبُّ

اسجُدوا عند أقدامِي

فأَنَا الرّبُّ الفولاذيْ

الشّيطانُ الآلةُ: لي أعوانٌ

آلهةٌ أجزاءٌ منّي

الأرقامُ /النترونُ/ الإشعاعُ الذّرّيْ

السّرعةُ والكتلةُ والزّمنُ النّسبيّ

النبذُ /الجذبُ/ الحدثُ النّجميْ

... /.../ الكمُّ الكليْ

همُ آلهةُ العقلِ الإنسانِي الأعلى(34)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الزهاوي، جميل، الديوان، ص: 720.

(2) نقلاً عن، ضيف، شوقي، الفن ومذاهبه في الشعر العربي، دار المعارف، مصر، ط تاسعة، ص: 391.

(3) المصدر السابق، ص: 731.

(4) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص: 133.

(5) المعرّي، أبو العلاء، سقط الزند، تصحيح إبراهيم الزين، دار الفكر، بيروت، 1965، ص: 7.

(6) قبش، أحمد، تاريخ الشعر العربي الحديث، دار الجيل، (د. ت) ص: 341)

(7) المقدسي، أنيس، المورد الصافي، ص: 329

(8) المصدر نفسه، ص:332

(9) سراج، نادرة، شعراء الرابطة القلمية، دار المعارف، مصر، 1957، ص:144

(10) عريضة، نسيب، الأرواح الحائرة، ص:179.

(11) شرف، عبد العزيز، شاعرية الهمشري في ميزان النقد الأدبي، ط أولى. دار الجيل، بيروت، 1992، ص:115

(12) مندور، محمد، الشعر المصري بعد شوقي، ص:59-60

(13) العقاد، عباس، الديوان، ص:273

(14) المصدر نفسه، ص:273

(15) المصدر نفسه، ص273

(16) المصدر نفسه، ص273.

(17) ساسي، عبد السلام، شعراء الحجاز في العصر الحديث، ص50

(18) ينظر، الزهاوي، جميل صدقي، مقدمة الديوان، تقديم عبد الرزاق الهلالي، ص: ب ب.

(19) تطور: تحوم.

(20) جيور: هو جيوراندي

(21) المصدر السابق، ص:733

(22) الحريري، محمد علي، الفراتي في عالم النسيان، مجلة الفيصل، العدد 34، 1980.

(23) الفراتي، محمد، الكوميديا السماوية، مجلة الحديث، مج 31-ع3-4، ص: 144.

(24) المصدر السابق، ع 3-4، ص:153.

(25) المصدر نفسه، ع5، ص:263.

(26) أيوب، رشيد، الأيوبيات، ص:150.

(27) المصدر نفسه، ص:156.

(28) ينظر، ضيف، شوقي، دراسات في الشعر المعاصر، مقال عن الزهاوي بعنوان (العلم في شعر الزهاوي).

(29) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص 720.

(30) المصدر نفسه، ص:722.

(31) المصدر نفسه: ص:733

(32) القلعجي، عبد الفتاح رواس، ملحمة القيامة، ص:11

(33) المصدر نفسه ص:13.

(34) المصدر السابق، ص:17

 

 

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.