x
هدف البحث
بحث في العناوين
بحث في اسماء الكتب
بحث في اسماء المؤلفين
اختر القسم
موافق
الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
الرثاء عند البارودي
المؤلف: عمر الدسوقي
المصدر: في الأدب الحديث
الجزء والصفحة: ص:226-230ج1
15-12-2019
5031
ولم يرث البارودي إلّا صديقًا أو قريبًا، فلم يكن رثاؤه مفتعلًا أو من شعر المناسبات، وإنما كان منبعثًا عن عاطفةٍ صادقةٍ، وقد تمثَّل في رثائه كل ما يخطر ببال الراثي، من تفجع وشكوى من الزمن والحياة وسخط عليها, وإظهار لمحاسن المرثيّ، وبعض الحكم يتأسَّى بها الشاعر أو يعظ بها غيره، ويقدِّمُ العزاء أحيانًا لأهل البيت، وإن لم يحاول الوقوف على سر الحياة الأخرى، وأن يستشف ما بعد الموت كما كان يفعل شوقي, وقد يأتي البارودي ببعض المعاني القديمة في قصائد الرثاء؛ كأن يدعو الله أن ينزل الغيث على جدث الميت, وما شايع هذا من الصيغ التقليدية المعروفة، وهو يظهر الجزع والحزن الشديد دون مبالغة جارفة في النعوت التي يضفيها على الميت، وجزعه وحزنه لا يدلان على عاطفة مشبوبة وقلب وفيٍّ، ولا سيما وقد قال معظم مراثيه وهو في المنفى, فزاد في أساه لوعة النوى عن الوطن، وحرمانه التزود من الميت بنظرة أو حديث، ودعاه هذا إلى توجيه الخطاب للشامتين به في نكبته ومحنته, وأن يظهر لهم التجلد في أخريات قصائده، وأنه ما زال صلب العود ولا سيما إذا كان الميت من ذوي قرابته.
ومن أحسن مراثيه قوله في ولده عليِّ:
كيف طوتك المون ويا ولدي؟ ... وكيف أودعتك الثرى بيدي؟
وا كبدي، يا عليُّ بعدك لو ... كانت تبل الغليل وا كبدي!!
فقدك سَلَّ العظام مني ورَدَّ ... الصبر عني وفت في عضدي
كم ليلة فيك لا صباح لها ... سهرتها باكيًا بلا مدد
دمع وسهد، وأي ناظرة ... تبقى على المدمعين والسهد؟!
لهفي على لمحة النجابة لو ... دامت إلى أن تفوز بالسدد
ما كانت أدري إذ كنت أخشى عليك ... العين أن الحمام بالرصد
فاجأني الدهر فيك من حيث لا ... أعلم ختلًا والدهر كالأسد
لولا اتقاء الحياة لاعتضت بالحلم ... هيامًا يحيق بالجلد
(1/226)
لكن أبت نفسي الكريمة أن ... أثلم حد العزاء بالكمد
فلبيك قلبي عليك، فالعين لا ... تبلغ بالمدع رتبة الخلد(1)
إن يك أخنى الردى عليك، فقد ... أخنى أليم الضنى على جسدي
عليك مني السلام توديع لا ... قال، ولكن توديع مضطهد
ومن رثائه الذي يَنُمُّ عن عاطفةٍ صادقةٍ، ويظهر فيه الأسى واللوعة، وعظيم التفجع من غير مواربة أو تحفظ، رثاؤه لزوجته، وقد ورد إليه نعيها وهو بسرنديب، وعلى الرغم من أن رثاء الشعراء لزوجاتهم قليل في الأدب العربي، فإن قصيدة البارودي هذه تعد من عيون قصائد الرثاء، وهي تدل على الوفاء والمحبة, وعلى فرط حساسيته، ويقول في مطلعها:
أيد المنون قدحت أي زناد ... وأطرأت أية شعاعة بفؤادي
ومنها:
لا لوعتي تدع الفؤاد ولا يدي ... تقوى على رد الحبيب الغادي
يا دهر فيم فجعتني بحليلة ... كانت خلاصة عدتي وعتادي؟
إن كنت لم تحرم ضناي لبعدها ... أفلا رحمت من الأسى أولادي
أفردتهن فلم ينمن توجعًا ... قرحى العيون رواجف الأكباد
يبكين من وَلَه فراق حفية ... كانت لهن كثيرة الإسعاد
فخدودهن من الدموع ندية ... وقلوبهن من الهموم صوادي
أسليلة القمرين! أي فجيعة ... حلت لفقدك بين هذا النادي؟
أعزز عليَّ بأن أراكِ رهينةً ... في جوف أغبر قائم الأسداد
أو أن تبيني عن قرارة منزل ... كنت الضياء له بكل سواد
لو كان هذا الدهر يقبل فدية ... بالنفس عنك لكن أول فاد
(1/227)
ثم يذكر وفاءه لها، ولعله بذلك يسوغ رثاءه لها على الرغم من شهرته بالجلد والشجاعة, ولأنه لم تجر العادة بأن يرثي الشعراء زوجاتهم إلّا في النادر؛ ولعل ظرف البارودي، وبعده في المنفى عن أهله وأولاده، ورعاية هذه الزوجة لهؤلاء الأولاد هو الذي حَزَّ في نفسه، وتذكَّرَ أيامه الطيبة السعيدة في عش الزوجية بوطنه الحبيب، كما أنه كان يتخيل أن كل كارثةٍ تحلُّ بهم تشمت به الأعداء فيزيد ذلك من لوعته, قال:
جزع الفتى سمة الوفاء، وصبره ... غدر يدل به على الأحقاد
ومن البلية أن يسام أخو الأسى ... رعي التجلد وهو غير جماد
وإذا عددت مراثيه وجدته رثى أصدقاؤه الأدباء الذين كانت بينهم وبينه آصرة محبة ووداد، وتقدير وتفاهم، مثل: أحمد فارس الشدياق، وعبد الله فكري، وحسين المرصفي, ووجدته رثى أولاده، وزوجته، ورثى والده، وإن كان قد توفي وهو صبي كما عرفنا، ولذلك جاء رثاؤه لوالده خاليًا من العاطفة فيه كثير من الفخر، ليس فيه تفجع الحزين، ولا حسرات الفراق، وبه كثير من المبالغات غير المقبولة، وفيه يقول:
لا فارس اليوم يحمي السرح بالوادي ... طاح الردى بشهاب الحرب والنادي
مات الذي ترهب الأقران صولته ... ويتقي بأسه الضرغامة العادي
جف الندى، وانقضى عمر الجدى وسرى ... حكم الردى بين أرواح وأجساد
المدح:
واقتصر في مدحه على ولاة مصر: إسماعيل، وتوفيق، وعباس، وهو في مدحه لا ينسى مصر وموقف الوالي منها، وما قَدَّمَ لها, أو ما يرجى على يديه من خيرات لمواطنيه، فيمدح توفيقًا لعزمه على الأخذ بالشورى والعدل، ويستطرد إلى مدح النظام الشوري, وأنه من تعاليم الإسلام، والأمة التي لا تأخذ به مصيرها إلى
(1/228)
الانهيار، والملك الذي لا يتبعه ملك غير عادل، وملكه سرعان ما يدب إليه الضعف؛ وهو في مدحه لعباس يذكر عدله وأريحيته، وما يرجى على يديه من نفع، وقد مدح عباسًا لأنه عفا عنه وأعاده إلى وطنه، فكان لزامًا عليه حين يمدحه أن يذكر له هذه اليد الكريمة، أما إسماعيل: فقد مدحه حين وُلِّيَ على أريكة مصر، وقدم نفسه لإسماعيل وأطراها، وأظهر استعداه لخدمته، وخدمة وطنه، وهذا ولم يغفل أن يثني على كل ممدوحيه وينعتهم بكرم الأصل وحب الخير والعدل, وأنهم ذوو هيبةٍ وشمائل كريمة ... إلخ هذه الصفات المعروفة والمعاني المطروقة، وقد مرَّت بنا بعض أبيات من مدحه لتوفيق وعباس، وهاك بعض ما قاله في إسماعيل حين ولي أريكة مصر:
طَرِبَ الفؤاد وكان غير طروب ... والمرء رهن بشاشة وقطوب
ورد البشير، فقلت من سرف المنى ... أعد الحديث عليَّ فهو حسيبي
خبر جلا صدأ القلوب فلم يدع ... فيها مجال تحفز لوجيب
فلتهن مصر وأهلها بسلامة ... جاءت لها بالأمن بعد خطوب
بالماجد المنسوب، بل بالأروع الـ ... مشبوب، بل بالأبلج المعصوب(2)
رب العلا والمجد "إسماعيل" مَنْ ... وضحت به الأيام بعد شحوب
وَرَدَ البلادَ وليلها متراكب ... فأضاءها كالكوكب المشبوب
برويَّةٍ تجلو الصواب وعزمة ... تمضي مضاء اللهذم المذروب(3)
ويقول فيها:
وأعاد مصر إلى جمال شبابها ... من بعد ما لبست خمار مشيب
فتنعمت من فيضه في غبطة ... وتمتعت من عدله بنصيب
(1/229)
ويقدم نفسه لإسماعيل بقوله:
فاسمع مقالة صادق لم ينتسب ... لسواك في أدب ولا تهذيب
أوليته خيرًا, فقام بشكره ... والشكر للإحسان خير ضريب
فاعطف عليه تجد سليل كرامة ... أهلًا لحسن الأهل والترحيب
ينبيك ظاهره بود ضميره ... والوجه وسمة مخلص ومريب
وإليك من حوك اللسان حبيرة ... بغنيك رونقها عن التشبيب
حضرية الأنساب إلّا أنها ... بدوية في الطبع والتركيب
ولم يكن البارودي شاعرًا مدَّاحًا مكتسبًا بشعره, كما درج على هذه العادة معظم الشعراء في الأدب العربي، ولكنه كان أميرًا فارسًا عفيفًا, يقول الشعر للتعبير عن خلجات فؤاده, وقد قال:
الشعر زينا المرء ما لم يكن ... وسيلة للمدح والذام
وهو إذا مدح لم يقصد بمدحه العطاء، وإنما للتعريف بمنزلته، أو الشكر على يدٍ أسديت إليه، أو حثٍّ على مكرمة، ومديحه خالٍ من المبالغات المذمومة والنعوت الموهومة، وهذا طبيعيٌّ ما دام لم يقصد بمدحه صلة أو عطية؛ لأن الشعراء إنما لجئوا إلى هذه المبالغات ظنًّا منهم أنها تزيد في عطائهم، وأن نفس الممدوح تسر لها فيغدق عليهم جزيل الهبات.
فخره:
وقد افتخر البارودي كما عرفت بنسبه وحسبه، وافتخر كذلك بشجاعته وفروسيته, وقد أكثر من القول في هذا المعنى, وله فيه مبالغات سخيفة؛ فمن ذلك قوله يفتخر ببأسه ونجدته, وأنه مَلَكَ أَزَّمةَ الفصاحة والبيان، وأن الزمان لو تقدَّم به لبذ الشعراء الفحول, ولسطر اسمه على جبين التاريخ بالفخر إلى آخر هذه المعاني المعروفة من مثل قوله:
(1/230)
ولي شيمة تأبى الدنايا وعزمة ... ترد لهام الجيش وهو يمور
إذا سرت فالأرض التي نحن فوقها ... مراد لمهردي المعاقل دور
فلا عجب إن لم يصرني منزل ... فليس لعقبان الهواء وكور
وأصبحت محسود الجلال كأنني ... على كل نفس في الزمان أمير
إذا صلت كف الدهر من غلوائه ... وإن قلت غصَّت بالقلوب صدور
ملكت مقاليد الكلام وحكمة ... لها كوكب فخم الضياء منير
فلو كنت في عصر الكلام الذي انقضى ... لباء بفضلي "جرول" و"جرير"
ولو كنت أدركت الواسي لم يقل ... "أجارة بيتينا أبوك غيور"
وما ضرني أني تأخرت عنهم ... وفضلي بين العالمين شهير
فيا ربما أخلى من السبق أول ... وبذ الجياد السابقات أخير
ويسود هذا النوع من الفخر شعر البارودي، ويبين أنه محسود المكانة، وأنه فريد عصره وواحد دهره, كما يقول:
فإن أكن عشت فردًا بين آصرتي ... فهأنا اليوم فرد بين أندادي
بلغت من فضل ربي ما غنيت به ... عن كل قارٍ من الأملاك أو باد
فما مددت يدي إلّا لمنح يد ... ولا سعت قدمي إلّا لإسعاد
__________
(1) الخلد: القلب، أي: أن العين مهما بكت لا يصل حزنها إلى منزلة حزن القلب.
)2) المنسوب ذو النسب، والأروع: من يعجبك بحسنة وجهارة منظره أو بشاعته, والمشبوب: الحسن الوجه والبلجة -بضم فسكون: الضوء, ونقاوة ما بين الحاجبين، ويقال للرجل الطلق الوجه أبلج، والمعصوب: المتوج.
(3) المذروب: المحدد المسنون.